الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث: فيما يلحق بالتنجيم وما قد يظن أنه منه، وهو ليس منه
الفصل الأول: ما يلحق بالتنجيم
المبحث الأول: حروف أبي جاد، والاستدلال بها على
…
المبحث الأول: حروف أبي جاد، والاستدلال بها على المغيبات
أرباب هذه الطريقة يزعمون أن لهذه الحروف علاقة ورابطة قوية بحياة الإنسان ومستقبله1 وبالكون وما يحدث فيه من الحوادث، ويزعمون أنهم يعرفون حوادث هذا العالم من هذه الحروف. وطريقتهم في ذلك أنهم يكتبون حروف أبي جاد، ويجعلون لكل حرف منها قدراً من العدد معلوماً عندهم، ويجرون على ذلك أسماء الآدميين والأزمنة والأمكنة وغيرها، ثم يجرون على هذه الأعداد عملية حسابية من جمع وطرح بطريقة ما وينسب العدد الباقي من هذه العملية إلى الأبراج الاثنى عشر، ثم يقضون بالسعود والنحوس، وبأوقات الحوادث والملاحم، ويمدد الملك وأعمار الناس، إلى آخر ذلك من أمور الغيب، على وفق ما أصله لهم أسلافهم، وأملاه عليهم شيطانهم2 ومن ذلك ما فعله يعقوب بن إسحاق الكندي، الذي عمل تسييراً لهذه الأمة، وزعم أنها تقتضي عام ثلاث وتسعين وسبعمائة، وزعم بعض أتباعه أنه استخرج ذلك من حساب الجمل الذي للحروف التي في أوائل السور3.
ويدخل ضمن هذه الصناعة ما يسميه الرافضة بعلم أسرار الحروف، وأهم مؤلف فيه عندهم كتاب الجفر، المنسوب كذباً وبهتاناً إلى جعفر
1 انظر: "دليل الحيران": ص4-5.
2 انظر: "معارج القبول": (1/426) .
3 انظر: "مجموع الفتاوى المصرية": (1/336) .
الصادق رضي الله عنه، ونسبته إليه كذب عليه باتفاق أهل العلم به1، إذ أن واضع هذا الكتاب هو هارون بن سعيد العجلي2، وهو رأس الزيدية وكان له كتاب يزعم أنه يرويه عن جعفر الصادق، وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم، ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص، وقع ذلك لجعفر الصادق ونظائره عن طريق الكشف والكرامة كما يزعمون، ويزعمون أنه كان مكتوباً عند جعفر في جلد جفر صغير، فرواه عنه هارون العجلي وكتبه، وسماه الجفر باسم الجلد الذي كتب فيه، وصار هذا الاسم علماً على هذا الكتاب عندهم، وهذا الكتاب لم تتصل روايته، ولا عرف عينه وإنما تظهر منه شواذ من الكلمات لا يصحبها دليل3 ويزعمون أن هذا الكتاب مشتمل على حوادث الأزمان على مر العصور، عرفت عن طريق علم الحروف المتعلق بآثار النجوم4.
ومما يتشبثون به لتعضيد هذا المعتقد عندهم ما رواه الكليني عن أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال: (وإن عندنا الجفر، وما يدريهم ما الجفر؟ فقيل له: ما الجفر؟ قال: وعاء من أدم فيه علم النبيين والوصيين، وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل)5.
1 المصدر نفسه: (1/333) .
2 هو هارون بن سعد العجلي، ويقال: الجعفي، الكوفي الأعور كان من غلاة الرافضة، توفي سنة خمس وأربعين ومائة.
انظر: "الجرح والتعديل": (9/90)، و"ميزان الاعتدال":(4/284)، و"تهذيب التهذيب":(11/6) .
3 انظر: "مقدمة ابن خلدون": ص334.
4 انظر: المصدر السابق.
5 "الأصول من الكافي": (1/186) .
??
وما رواه أيضاً أن أبا عبد الله سئل عن الجفر، فقال:(هو جلد ثور1 مملوء علماً) 2، وتارة يذكرون أن هذا العلم مأثور عن آدم عليه السلام، فقد نقل اليزدي الحائري عن كتاب الينابيع:(أما آدم عليه السلام فهو نبي مرسل خلقه الله تعالى بيده ونفخ فيه من روحه فأنزل عليه عشر صحائف، وهو أول من تكلم في علم الحروف، وله كتاب سفر الخفايا، وهو أول كتاب في الدنيا في علم الحروف –ثم ذكر أن آدم عليه السلام ورثه لأبنائه من بعده، وأبناؤه ورثوه لمن بعدهم وهكذا إلى أو قال: ثم ورث هذا العلم عن أبيه جعفر الصادق وهو الذي حل معاقد رموزه، وفك طلاسم كنوزه) . ثم ذكر أن له كتاب الجفر الأكبر، والجفر الأصغر، وأن الجفر الأكبر إشارة إلى المصادر الوفقية التي هي من أ، ب، ت، ث
…
إلى آخرها، وأنها ألف وفق، وأن الجفر الأصغر إشارة إلى المصادر الوفقية التي هي مركبة من أبجد إلى قرشت، وهي سبعمائة وفق3.
وهذا كله من أكاذيب الرافضة على آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الكتاب كما ذكرت آنفاً نسب كذباً إلى جعفر الصادق رحمه الله، وليس لهم برهان على إثباته سوى القول المجرد عن الدليل، بل قد نفى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يكون هو وذريته مخصوصين بشيء من الوحي دون الناس، وذلك فيما رواه البخاري رحمه الله: (أنه قيل لعلي رضي الله عنه:
1 هذا مخالف لأصل التسمية، إذ أن الجفر ولد الماعز، لا الثور.
انظر: "الصحاح": (2/615) .
2 "الأصول من الكافي": (1/187) .
3 انظر: "إلزام الناصب": (1/232-235) .
هل عندكم شيء من الوحي، إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا. والذي فلق الحبة وبراً1 النسمة ما أعلمه، إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل2، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر) 3.
أما نسبة هذا العلم إلى آدم عليه السلام فليست صحيحة، إذ أن كل ما روي في ذلك عن آدم عليه السلام من أنه كان عالماً بحروف أبي جاد وأن الله أنزلها عليه فقد نقلت عن أخبار إسرائيلية، لا يوثق بها، وقد أجمع المسلمون على أن ما روي عن بني إسرائيل في الأنبياء المتقدمين لا يجعل عنده في ديننا، ولا يجوز التصديق بصحتها إلا بحجة صحيحة واضحة4 كما قال النبي صلى الله عليه وسلم –في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة-: "لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا
…
" الآية5. وما رواه البخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب، وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله؟ 6 تقرؤونه ولم يشب7 وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله، وغيروا بأيديهم الكتاب، فقالوا: هو
1 أي: خلق. انظر: "الصحاح": (1/36) .
2 العقل: الدية. "النهاية في غريب الحديث": (3/278) .
3 أخرجه البخاري: (1604) ، كتاب الجهاد والسير.
4 انظر: "مجموع الرسائل والمسائل": (1/383) .
5 أخرجه البخاري: (9/280) ، كتاب التوحيد. والآية (136) من سورة البقرة.
6 أي: أقربها نزولاً إليكم من عند الله عز وجل. "الفتح": (5/292) .
7 أي: لم يخلط. انظر: "الصحاح": (1/158)، و"الفتح":(5/292) .
من عند الله، ليشتروا به ثمناً قليلاً، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسائلتهم؟ ولا والله ما رأينا منهم رجلاً قط قد يسألكم عن الذي أنزل عليكم"1.
وبهذا يتبين أن ما ذكر عن آدم عليه السلام من ذلك لا يجوز تصديقه، وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على تعلم أبي جاد، وتعلم تفسيرها لا يصح أيضاً، وذلك لأن هذا الحديث روي من طريقين كلاهما لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أولهما:
ما ذكره ابن تيمية عليه السلام أن أبا بكر النقاش2 رواه في تفسيره وغيره من المفسرين، كما ذكره ابن جرير الطبري في آخر تفسيره ورد عليه3 فذكر أن أبا بكر النقاش روى بسنده من طريق محمد بن زياد الجزري4
1 أخرجه البخاري: (4/15) ، كتاب الشهادات.
2 هو محمد بن الحسين بن محمد بن زياد بن هارون، أبو بكر النقاش، عالم بالقرآن وتفسيره، توفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، قال الخطيب البغدادي: في أحاديثه مناكير بأسانيد مشهورة، وقال أبو القاسم اللالكائي: تفسير النقاش إشقاء الصدور، وليس بشفاء الصدور.
وقال البرقاني: كل حديث النقاش منكر، وقال الذهبي: فيه ضعف.
انظر: "تاريخ بغداد": (2/201)، و"ميزان الاعتدال":(3/520)، و"لسان الميزان":(5/132) .
3 لقد بحثت عن موضع إيراد ابن جرير الطبري الذي في مظان وجوده ولم أجده، وتصفحت الجزء التاسع والعشرين والثلاثين كلاماً ولم أجد ذلك.
4 أظنه محمد بن زياد اليشكري الجمزري الطحان، الذي يعرف بالميموني، ولعل الميم سقطت من الجمزري فيما نقله ابن تيمية.
قال في أكثر الناس: إنه يضع الحديث.
قال ابن حجر في "التقريب": كذبوه.
انظر: "كتاب الضعفاء الصغير": (رقم 317)، و"الضعفاء" لأبي زرعة:(2/447)، و"تهذيب التهذيب":(9/170)، و"التقريب":(5890) .
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تعلموا أبا جاد وتفسيرها، ويل لعالم جهل تفسير أبي جاد. ..) .
وذكر ابن تيمية رحمه الله أن ابن جرير الطبري رحمه الله قال بعد إيراد هذا الحديث: (لو كانت الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك صحاح الأسانيد لم يعدل عن القول بها إلى غيرها، ولكنها وهبة الأسانيد غير جائز الاحتجاج بمثلها، وذلك أن محمد بن زياد الجزري غير موثوق بنقله) .
وقال ابن تيمية رحمه الله بعد ذلك: (الحديث فيه فرات بن السائب وهو ضعيف لا يحتج به، وهو فرات بن أبي الفرات1 ومحمد بن زياد الجزري ضعيف أيضاً)2.
أما الطريق الثاني فقد رواه الصدوق القمي الرافضي بسنده عن الأصبغ ابن نباتة3 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعلموا تفسير أبجد، فإن فيه
1 الذي ذكره ابن حجر والذهبي: أنهما رجلان، وفرات بن أبي فرات بصري، قال ابن معين فيه: ليس بشيء، وقال ابن عدي: الضعف يتبين على رواياته، وذكره ابن شاهين في "الضعفاء"، وقال أبو حاتم: صدوق، ووثقه ابن حبان.
انظر: "الجرح والتعديل": (7/80)، و"ميزان الاعتدال":(3/343)، و"لسان الميزان":(4/432) .
2 انظر: "مجموعة الرسائل والمسائل": (1/384-386) .
3 هو الأصبغ بن نباتة الحنظلي المجاعشي الكوفي، قال النسائي: متروك الحديث.
وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال عنه أيضاً: ليس بثقة، وقال ابن حمدان: متروك وقال أبو بكر بن عياش: كذاب، وقال ابن عدي: بين الضعف، وقال ابن سعد: كان شيعياً، وكان يضعف في روايته.
انظر: "الضعفاء والمتروكين" للنسائي: ص156، و"الجرح والتعديل":(2/319)، و"ميزان الاعتدال":(1/271)، و"تهذيب التهذيب":(1/362) .
الأعاجيب كلها، ويل لعالم جهل تفسيره
…
) 1.
والأصبغ بن نباته لا يحتج بروايته.
وقد ورد أن هذه الصناعة مأثورة عن فلاسفة اليونان، الصابئة الذي يعبدون الأوثان، فقد جعل أرسطو في آخر كتاب (السياسة) فصلاً في حساب الجمل وادعى أنه يعرف بها الغالب من المغلوب ونحو ذلك من أمور الغيب2.
والذي ينبغي أن يعلم في هذا الموضع أن هذه الحروف ليست أسماء المسميات، ولا علاقة لها بمستقبل الإنسان ولا بحياته، وإنما ألفت ليعرف تأليف الأسماء من حروف المعجم بعد معرفة حروف المعجم، ثم إن كثيراً من أهل الحساب صاروا يجعلونها علامات على مراتب العدد، فيجعلون الألف واحد، والباء اثنين، والجيم ثلاثة
…
وهكذا، ثم أخذ هؤلاء هذا الاصطلاح، ولفقوا عليه الأباطيل، وادعوا أنه علم، وأن به تعرف الأمور الغيبية، وربطوه بالتنجيم، لخفاء بطلان التمجيم على كثير من الناس، والعلم لا يؤخذ عن مثل هذه الظريات الفاسدة، ولا من هذه العقليات الجاهلية الباطلة، بل لابد فيه من عقد مصدق، ونقل محقق3، وهذا الذي يزعمونه ما هو إلا ادعاء علم استأثر الله به، وهذا
1 "التوحيد" لابن بابوية القمي: ص237.
2 انظر: "مقدمة ابن خلدون": ص114.
3 انظر: "مجموعة المسائل": (1/386-387) .
بلا شك من أعظم الشرك في الربوبية، ومن صدقه به واعتقد فيه كفر –والعياذ بالله-1، كما قدمت ذلك في فصل حكم التنجيم، وكما قال ابن عباس منكراً على الذين يتخذون هذه الصناعة:(إن قوماً يحسبون أبا جاد، وينظرون في النجوم، ولا أرى لمن فعل ذلك من خلاق)2.
1 انظر: "معارج القبول": (1/326) .
2 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف": (11/26)، وابن عبد البر في "الجامع":(2/39) .
وقال محمد العجمي: إسناده صحيح.
انظر: "فضل علم السلف على علم الخلف": ص 133.