الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: دور أعداء الإسلام في نشر التنجيم
المبحث الأول: دور أهل الكتاب وغيرهم من المشركين في نشر التنجيم بين المسلمين
…
دور أهل الكتاب وغيرهم من المشركين في نشر التنجيم بين المسلمين:
كانت الشعوب والقبائل التي أدخلها المسلمون تحت حكم الإسلام خليطاً من أصحاب عقائد شتى، وأديان متنوعة، وثقافات مختلفة.
فالفرس كانوا على الديانة المجوسية التي بنيت على تعظيم الأنوار، وعلى جعل مبدأ موجودات العالم من اختلاط النور بالظلمة، وعلى الاتجاه إلى الشمس عند السجود ونحو ذلك1. كما كانت الصابئة في حران وفي غيرها من نواحي العراق تعبد الكواكب، وتزعم أن لها تأثيراً في العالم السفلي، وتدعي أن لها أرواحاً، وأنها تتجلى في الكواكب ونحو ذلك2.
كما كانت المدارس الفلسفية التي تحمل ثقافة اليونان والتي تضم أدياناً مختلفة من يهود ونصارى وصابئة ومجوس وغيرهم منتشرة بين هذه الشعوب كمدرسة الرها، ومدرسة نصيبين، ومدرسة حران، ومدرسة جنديسابور، ومدرسة الإسكندرية3.
1 انظر: "الملل والنحل": (1/236-238)، و"إغاثة اللهفان":(2/242، وما بعدها) .
2 انظر: "الآثار الباقية": ص204-207، و"إغاثة اللهفان":(2/245، وما بعدها) .
3 انظر: "تاريخ الفلسفة العربية": ص19-20.
ومدرسة الرها: الرها مدينة تابعة لتركيا اليوم، وبالأمس لشمال العراق، أنشأ هذا المدرسة الفرس، واستقدموا أساتذة من خريجي الإسكندرية السريان.
ومدرسة نصيبين: كانت لغة التعليم فيها اللغة الرسانية وتأثرت العلوم اليونانية فيها بتيارات فارسية وهندية.
ومدرسة حران: أنشئت في مدينة حران الواقعة في العراق بين دجلة والفرات، وكان معقلاً للديانات البابلية والصابئية، وللفلسفة الأفلاطونية.
ومدرسة جنديسابور: تسربت في هذه المدرسة الثقافة الهندية، وحصل تفاعل بين الثقافات اليونانية والسريانية والفارسية والهندية.
ومدرسة الإسكندرية: أنشأها أساتذة مدرسة أثينا الفلسفية، وتعتبر هذه المدرسة الأم بالنسبة للمدارس الأخرى، ومنها مدرسة إنطاكية نقل السريان ثقافة اليونان إلى بقية المدارس. انظر:"تاريخ الفلسفة العربية": (2/6-12)، و"دراسات في تاريخ الفلسفة العربية والإسلامية": ص149-153.
وكانت الفلسفة في نظر أصحاب هذه المدارس هي خلاصة العلوم فالفيلسوف يعرف الطب والحساب والهندسة والموسيقا والنجوم، وتغلب عليه إحدى الصفات لتفوقه في علم من هذه العلوم1.
ويغلب على مدرسة الإسكندرية هذه التوفيق بين الدين والفلسفة، وتعتبر أكبر المدارس ضرراً على عقائد المسلمين2.
وهذه الأديان والاتجاهات المختلفة أثرت تأثيراً كبيراً في ثقافة شعوبها، مما جعل التنجيم جزءاً من ثقافة هذه الشعوب، وبالتالي جعل نقل هذه الثقافة إلى المسلمين وسيلة لنشر التنجيم بينهم.
وذلك لما فتحت الدولة العباسية أبواب ترجمة كتب اليونان، واستقطبت من الروم كتباً كثيرة في الفلسفة والفلك والطب والتنجيم ونحو ذلك.
1 انظر: "دراسات في تاريخ الفلسفة العربية والإسلامية": ص143.
2 انظر: "الإسلام في مواجهة الحركات الفكرية": ص170-108.
وكانت بداية ذلك في عهد أبي جعفر المنصور –حيث دخل الدولة الإسلامية كثير من اليهود والنصارى والمجوس والصابئة من المنجمين والفلاسفة الذين تأثروا بتلك المدارس الفلسفية، ومن غيرهم، فوجدها أعداء الإسلام هؤلاء ثغرة يستطيعون بث سمومهم منها بنشر الفلسفة والتنجيم بين أبناء المسلمين، إذ لم يكن دخول هؤلاء بين المسلمين وترجمة كتب الفلاسفة، لهدف مادي أو لهدف نشر العلم على حسب مفهومهم لمعنى العلم- ولكن كان الهدف هو الدعوة إلى نحلتهم، ونصرة مذهبهم، وصرف المسلمين عن دينهم، كما صرح بذلك كثير من كتابهم1.
فنجد نوبخت الفارسي من أوائل من وفد على المنصور وحظي عنده بمنزلة رفيعة2، وتوارث أبناؤه هذه الصناعة بعده3.
كما أن يحيى بن أبي منصور المنجم الفارسي المجوسي كان في بلاد المأمون، ورغبة المأمون في الإسلام فأسلم، واستمرت صناعة التنجيم في سلالته4، كما أن من آثاره، تأديب أبناء موسى بن شاكر5، وتعليمهم أصناف الفلسفة، مما جعل لهم دوراً كبيراً في نشر الفلسفة فيما بعد، إذ
1 انظر: "الإسلام والفلسفات القديمة": ص58-59.
2 انظر: "البداية والنهاية": (10/125) .
3 انظر: "تاريخ الحكماء": ص409.
4 انظر: "الفهرست" لابن النديم: ص205، و"تاريخ الحكماء": ص357، و"الأعلام":(8/173) .
5 كان موسى بن شاكر من منجمي المأمون، وكان متقدماً هو وبنوه –فيما بعد- محمد وأحمد والحسن في علم الهندسة، وهيئة الأفلاك، وحركات النجوم، وقد توفي وهم صغارً، ولم يكن أهل العلم والأدب، بل كان لصًّا يقطع الطريق. انظر:"تاريخ الحكماء": ص315، 441، و"الأعلام":(7/323) .
إنهم تناهوا في طلب العلوم القديمة، وبذلوا فيها الرغائب، وأتعبوا أنفسهم فيها، وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها لهم، فأحضروا النقلة من الأصقاع والأماكن المختلفة بالبذل السخي1.
كما أن وجود ما شاء الله المنجم اليهودي، واسمه ميشا بن أبري في زمن المنصور، وبقاؤه إلى عصر المأمون يوضح دوره في هذا الشأن، وخصوصاً إذا علمنا أن الرجل قام بتصنيف كتب في التنجيم مثل كتاب المواليد الكبير، وكتاب القرانات والأديان والملل، والكتاب المسمى بالسابع والعشرين2.
وكذلك سند بن علي اليهودي كان في زمن المأمون، وكان منجماً، وكان خبيراً بتسيير النجوم، وعمل آلات الرصد والإصطرلاب3، ولسند هذا زيج4 مشهور استمر عمل المنجمين به فترة من الزمن، وله تصانيف كثيرة في هذه الصناعة5.
وكذلك سهل بن بشر بن هاني اليهودي المنجم، كان في خدمة الحسن
1 انظر: "تاريخ الحكماء": ص441، 315-316.
2 انظر: "الفهرست" لابن النديم: ص382، و"تاريخ الحكماء": ص327.
3 انظر: "الفهرست" لابن النديم: ص383.
والإصطرلاب بالسين والصاد كلمة يونانية، معناها مقياس النجوم، ويقصد بها الآلة المستعملة في استخراج حساب النجوم. انظر:"مفتاح العلوم" للخوارزمي: ص253، و"دائرة المعارف الإسلامية":(2/114، 115) .
4 هو جدول يعرف منه مواضع الكواكب في أفلاكها، ويعمل على طريقة حسابية عن طريق معرفة سير الكواكب، وهي كلمة فارسية. انظر:"مقدمة ابن خلدون": ص488-489.
5 انظر: "تاريخ الحكماء": ص206-207.
ابن سهل1 وزير المأمون، وله في التنجيم كتب كثيرة، منها: كتاب المواليد الكبير، وكتاب تحويل سني العالم، وكتاب المدخل الصغير، وكتاب المدخل الكبير، وغيرها2.
ومن النصارى الذين كان لهم دور في نشر التنجيم عبد الله بن علي النصراني، ويعرف بالدنداني يكنى أبا علي، وكان منجماً قديم العهد، مشهوراً في زمانه بهذه الصناعة، وصنف فيها3، كما كان ثيوفل بن توما النصراني المنجم الرهاوي رئيس منجمي المهدي4.
وأما دور الصابئة فسأكتفي بذكر أشهرهم، وهو ثابت بن قرة بن مروان بن ثابت بن كريا، أو الحسن الحراني الصابىء، من أهل حران، وكان صيرفيًّا بها، ثم لنتقل إلى بغداد، واشتغل بعلوم الأوائل، ومهر فيها، وكان جيد النقل إلى اللغة العربية، حسن العبارة، قوي المعرفة باللغة السريانية، وغيرها من اللغات.
وكان يؤنس المعتضد لما سجنه أبوه، وكان يدخل عليه الحبس ثلاث
1 هو الحسن بن سهل بن عبد الله السرخي، أبو محمد وزير المأمون، وأحد كبار القادة والولاة في عصره، ووالد زوجة المأمون (بوران) ، كان منجماً من أهل بيت الرياسة في المجوس، وأسلم، توفي سنة ست وثلاثين ومائتين. انظر:"تاريخ بغداد": (7/319)، و"البداية والنهاية":(10/322-329)، و"وفيات الأعيان":(2/120) .
2 انظر: "الفهرست" لابن النديم: ص383، و"تاريخ الحكماء": ص196.
3 انظر: "تاريخ الحكماء": ص221.
4 انظر: المصدر السابق نفسه: ص109.
والمهدي هو الخليفة العباسي أبو عبد الله محمد بن المنصور أبي جعفر الهاشمي العباسي، توفي سنة تسع وستين ومائتين. انظر:"تاريخ بغداد": (5/391-401)، "سير أعلام النبلاء":(7/400) .
مرات يحادثة ويعرفه أحوال الفلاسفة، وأمر الهندسة والنجوم، وغير ذلك، حتى شغف به المعتضد، وأعجب به كثيراً، ولما تولى الخلافة أقطعه ضياعاً، وقربه إليه، وأدخله في جملة من المنجمين1، وكانت تغلب عليه الفلسفة، وألف كتباً كثيرة في فنون من العلم كالمنطق والحساب، والهندسة، والتنجيم، والهيئة، وهو الذي أدخل رئاسة الصابئة إلى العراق، فثبتت أحوالهم، وعلت مراتبهم، وبرعوا، وبلغ ثابت بن قرة هذا مع المعتضد2 أجل المراتب وأعلى المنازل، حتى كان يجلس بحضرته في كل وقت، ويحادثه طويلاً، ويضاحكه، ويقبل عليه دون وزرائه وخاصته، وله كتاب في طبائع الكواكب، وتأثيراتها، وتوفي سنة ثمان وثمانين ومائتين3.
1 انظر: "عيون الأنباء": ص295.
وذكر ابن النديم وابن أبي أصيبعة في موضع آخر وابن القفطي: (أن محمد بن موسى ابن شاكر استصحبه لما انصرف من بلد الروم، وهو الذي وصله بالمعتضد، وأدخله في جملة المنجمين) . انظر: "الفهرست" لابن النديم: ص380، و"عيون الأنباء": ص295، و"تاريخ الحكماء": ص116.
قلت: وهذا خطأ إذ أن محمد بن موسى توفي سنة تسع وخمسين ومائة كما ذكره ابن النديم: ص379، و"المعتضد" لم يتول الخلافة إلا في سنة تسع وسبعين ومائتين. والله أعلم.
2 هو أحمد بن محمد الموفق، الملقب بناصر الدين، أحد الخلفاء العباسيين، كان شجاعاً فاضلاً، حازماً، جريئاً، أقام شعار الخلافة بعد ضعفها، ورفع منارها. توفي سنة تسع وثمانين ومائتين. انظر:"سير أعلام النبلاء": ص380، و"البداية والنهاية":(11/92) .
3 انظر: "الفهرست" لابن النديم: ص380، و"تاريخ الحكماء": ص116.
وما ذكرناه آنفاً ما هو إلا نماذج لعمل أعداء الإسلام في نشر التنجيم بين المسلمين واستغلالهم تشجيع الخلفاء بهم وغفلة المسلمين عن خطرهم، فدخلوا على المسلمين من هذه الثغرة.
وبعد أن ترجمت كثير من كتب الفلاسفة انتشرت هذه الكتب، وتصفحها بعض المسلمين، فصاروا يعتقدون كما يعتقد الفلاسفة1، فاعتقدوا أن الأفلاك نفوساً وعقولاً، وجعلوا الحوادث الكون والفساد مدبرة من قبل النفوس الفلكية العاقلة2.
وأراد الفلاسفة أن يصبغوا عقيدتهم الباطلة شرعية –مستمدين هذه الطريقة من فلاسفة مدرسة الإسكندرية- ليمتصوا بذلك نقمة المسلمين منهم، ولتكون عقيدتهم أدعى لقبول المسلمين إياها، فسموا الأفلاك ملائكة، وسموا ما ادعوه من تدبير الأفلاك للكون بخلافة الملائكة في تدبير خلائقه3.
ومن عرف مراد الأنبياء ومراد الفلاسفة علم بالاضطرار أن هذا ليس هو ذاك، فقد علم بالاضطرار من دين الأنبياء أنه ليس من الملائكة عندهم من هو رب، ولا من هو قديم أمزلى أبدي لم يزل ولا يزال4.
واتخذ كثير من هؤلاء الفلاسفة التشيع ستاراً هم كيعقوب بن
1 انظر: "مقدمة ابن خلدون": ص515.
2 انظر: "الملل والنحل": (2/188-189، 214)، و"السر المكتوم" للرازي:(ق185-188) .
3 انظر: "رسائل إخوان الصفا": (1/145) .
4 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (1/243-244) .
إسحاق الكندي1، وابن سينا2، وإخوان الصفا، وغيرهم، وذلك لعلمهم بأن الشيعة من أجهل الطوائف، وأضعفها عقلاً وعلماً، وأبعدها عن دين الإسلام علماً وعملاً3.
1 انظر: "فرج المهموم": ص125، و"مقدمة ابن خلدون": ص338.
والكندي هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي، وهو أحد أبناء ملوك كندة، وهو متبحر في فنون الحكمة اليونانية والفارسية والهندية، متخصص في أحكام النجوم، نشأ في البصرة، ثم انتقل إلى بغداد، هلك سنة ستين ومائتين. انظر:"الفهرست" لابن نديم: ص357، و"تاريخ الحكماء": ص366، و"الأعلام":(8/195)، و"الذريعة":(24/78) .
2 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (35/134-136)، و"إغاثة اللهفان":(2/262، 263) .
وان سينا هو الحسين بن عبد الله بن سينا، إمام الملحدين فلسفي النحلة، صاحب التصانيف في الطب والمنطق والطبيعيات والإلهيات، أصله من بلخ من خراسان، هلك سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. انظر:"وفيات الأعيان": (2/157)، و"لسان الميزان":(1/539)، و"إغاثة اللهفان":(2/262، 263)، و"هدية العارفين":(1/308) .
3 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (35/134-136) .