الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: أمور ليست من التنجيم، وقد يظن أنها منه
المبحث الأول: توقع حدوث الكسوف والخسوف
…
المبحث الأول: توقع حدوث الكسوف والخسوف
لمعرفة هذا المبحث أهمية كبيرة في التفريق بين ما يكون علماً قائماً على أصول مدروسة ثابتة، وبين ما يكون مجرد أوهام وظنون كاذبة. ولهذا التفريق أهمية في معرفة الحق من الباطل، وخصوصاً إذا علمنا أن فريقاً من المنجمين يموهون على الجهال بأمر الكسوف والخسوف، ويخبرونهم بوقته، فإذا رأوا صدقهم في هذا ظنوا أن قضاياهم وأحكامهم النجومية من السعد والنحس، والظفر والغلبة، وما شابه ذلك من جنس توقع الكسوف، فيصدقونهم بكل ما يخبرون به، ولم يعلم هؤلاء أن الإخبار عن هذا يختلف عن الإخبار عن الآخر، وأن الكسوف يعلم بحساب سير النيرين في منازلهما، فمن علم حساب ذلك علم وقت الكسوف ودوامه ومقداره وسببه، بخلاف الإخبار عن السعود والنحوس فكله حدس وتخمين1.
والكسوف مأخوذ من كسف الشمس والقمر، بفتح الكاف، وكسفا بضمها وانكسفا، وخسفا، وانخسفا بمعنى، وقيل: كسفت الشمس بالكاف، وخسف القمر بالخاء2.
وجمهور أهل العلم على أن الكسوف والخسوف يكون لذهاب ضوئهما كله، ويكون لذهاب بعضه3.
1 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/209) .
2 "شرح النووي على صحيح مسلم": (6/198)، و"لسان العرب":(9/298) .
3 "شرح النووي على صحيح مسلم": (6/198) .
ولهاتين الحادثتين سببان: سبب كوني، وسبب شرعي.
أما السبب الكوني لكسوف الشمس فهو توسط القمر بين جرم الشمس وبين أبصارنا، إذ إن القمر جسم كثيف مظلم يستمد ضوءه من الشمس فإذا وقع بين أبصارنا وبين ضوء الشمس حجب نور الشمس عنا، ويحدث ذلك عند تقاطع مدار القمر مع دائرة البروج، فتتولد عقدتان حينئذ، فإذا كان القمر باتجاه إحدى العقدتين أو قريباً من أحدهما، وكان محدباً لموضع الشمس من البرج والدرجة – ولا يكون ذلك إلا في آخر الشهر، لأنه الوقت الذي يكون القمر فيه محاذياً للشمس –وقع القمر بين الشمس والأرض، فحال بيننا وبين نور الشمس، فتكون الشمس منكسفة حينئذ1.
وأما سبب خسوف القمر الكوني فهو توسط الأرض بينه وبين الشمس حتى يصير القمر ممنوعاً من اكتساب النور من الشمس، ويبقى ظلام ظل الأرض في ممره2.
وللكسوف والخسوف أوقات معلومة مقدمة بالحساب، كما أن للهلال وقتاً مقدراً يظهر فيه، وكما أن لليل والنهار، والشتاء، والصيف، وسائر ما يتبع جريان الشمس والقمر وقتاً مقدراً كذلك3.
فالكسوف لا يكون إلا في آخر الشهر ليالي الإسرار، والخسوف
1 انظر: "رسائل إخوان الصفا": (1/121، 122)، و"مفتاح دار السعادة":(2/206-207)، و"علم الفلك" لمحمد رضا مندور: ص435-415.
2 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/207)، و"شرح اللمعة في حل الكواكب السبعة":(ق 64/أ) .
3 انظر: "مجموع الفتاوى المصرية": (1/330) .
لا يكون إلا في وسط الشهر ليالي الإبدار.
ووقت إبدار القمر في ليالي الأيام البيض ليلة الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، فالقمر لا يخسف إلى في هذه الليالي.
والهلال يستسر آخر الشهر إما ليلة أو ليلتين كما يستسر ليلة تسع وعشرين وثلاثين، والشمس لا تكسف إلى وقت استسراره1.
وحتى يمكن معرفة وقت الكسوفين بالتحديد لا بد من معرفة حساب المثلثات الذي يستخرج به مسائل علم الفلك الكروي، وبه يعرف كون القمر في إحدى تقاطع المدارين أو قريباً منها2، ومن الأدلة على أن جريان الشمس والقمر يدرك بالحساب قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 3، وقوله:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} 4، وقوله:{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 5.
والسبب الثاني ف بحادثتي الكسوف والخسوف هو السبب الشرعي، وهو أنهما سبب لنزول عذاب بالناس فيلتجئ الناس إلى ربهم بالصلاة
1 المصدر نفسه.
2 انظر: "تقويم الأوقات": ص18.
3 سورة الأنبياء، الآية:33.
4 سورة يونس، الآية:5.
5 سورة يس، الآيات: 37-40.
والدعاء لدفع موجب الكسوفين، ويدل على ذلك:
ما رواه البخاري عن أبي بكرة1 رضي الله عنه قالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، فإذا رأيتموهما فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم"2.
وما رواه البخاري أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموهما فصلوا"3.
وما رواه البخاري أيضاً عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله"4.
وما رواه البخاري أيضاً عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد، ولكن الله تعالى يخوف بهما عباده"5.
فالله سبحانه إنما يخوف عباده بما يخوفونه إذا عصوه، وإنما يخاف
1 هو نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو الثقفي البصري، وقيل: نفيع بن مسروح، مولى النبي صلى الله عليه وسلم، تدلى في حصار الطائف ببكرة، وفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم على يده وأعلمه أنه عبد فأعتقه، توفي سنة إحدى وخمسين.
انظر: "سير أعلام النبلاء": (3/5)، و"البداية والنهاية":(8/59)، و"الإصابة":(3/571) .
2 أخرجه البخاري: (2/87) ، كتاب الكسوف.
3 أخرجه البخاري: (2/87) ، كتاب الكسوف.
4 أخرجه البخاري: (2/87) ، كتاب الكسوف.
5 أخرجه البخاري: (2/90) ، كتاب الكسوف.
الناس مما يضرهم، فلولا إمكان صول الضرر بالناس عند الكسوفين ما كان ذلك تخويفاً1 كما قال تعالى:{وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} 2، لهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم عند حدوث أحد الكسوفين بالفزع إلى ذكر الله والصلاة والدعاء والصدقة وغيرها من الطاعات، لأن هذه الأشياء تدفع موجب الكسوف الذي جعله الله سبباً لما جعله، فلولا انعقاد سبب التخويف لما أمر بدفع موجبه بهذه العبادات3.
فمن هذا يتبين أن الكسوفين قد يكونان سبباً لحلول عذاب أو نزول بلاء بالناس، ويقتصر أثر الكسوف على هذا لدلالة النصوص عليه، ولا ينبغي أن يتعدى إلى غير هذا الأثر، إذ إن الحديث ورد في إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الحوادث الأرضية.
قال الخطابي رحمه الله: (كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير في الأرض من موت أو ضرر، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله، ليس لهما سلطان في غيرهما، ولا قدرة لهما على الدفع عن أنفسهما)4.
ولا تعارض من كون الكسوف والخسوف آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده، ويبين أن يكون لهما وقت محدد يعرف بالحساب، لأمرين:
الأمر الأول: أن الأحاديث الماضية ليس فيها إلا نفي تأثير الكسوف في الموت والحياة على أحد القولين، أو نفي تأثير النيرين بموت أحد أو
1 "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/322) .
2 سورة الإسراء، الآية:59.
3 "مفتاح دار السعادة": (2/209-210) .
4 "أعلام الحديث" للخطابي: (1/610) .
حياته على القول الآخر، وليس فيه تعرض لإبطال حساب الكسوف، ولا الإخبار بأنه الذي لا يعلمه إلا الله1.
الأمر الثاني: أن الكسوف إذا كان له أجل مسمى لم يناف ذلك أن يكون عند أجله يجعله الله سبباً لما يقتضيه من عذاب وغيره لمن يعذب الله في ذلك الوقت، كما أن تعذيب الله لمن عذبه بالريح الشديدة الباردة –كقوم عاد- كان في آخر الشتاء2.
وما رواه البخاري رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة3 في السماء أقبل وأدبر ودخل وخرج وتغير وجهه، فإذا أمطرت السماء سري عنه4 فعرفته عائشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وما أدري لعله كما قال قوم: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ
…
} الآية"5.
وكذلك الأوقات التي ينزل الله فيها الرحمة كالعشر الأواخر من رمضان والأولى من ذي الحجة، وكجوف الليل وغير ذلك، هي أوقات محددة لا تتقدم ولا تتأخر، وينزل فيها من الرحمة ما لا ينزل في غيرها6.
ولا يلزم ممن يخبر بالكسوف والخسوف أن يكون مصيباً في جميع
1 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/213) .
2 انظر: "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/329) .
3 المخيلة: موضع الخيل، والمراد هنا السحابة الخليقة بالمطر. انظر:"النهاية ": (2/93) .
4 أي: كشف عنه الخوف. المصدر نفسه: (2/364) .
5 أخرجه البخاري: (4/227) ، كتاب بدء الخوف.
والآية (24) من سورة الأحقاف.
6 "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/329) .
الأوقات، بل قد يخطئ في حسابه، ولا يلزم تصديقه على كل حال، كما قدمت الكلام عن هذا في فصل حكم تعلم علم الفلك.
فمن هذا نجد أن الكسوف والخسوف ليالي معتادة جرت بها سنة الله الكونية من عرف جريان النيرين عرفها كما أن من علم كم مضى من الشهر علم أن الهلال يطلع في الليلة الفلانية، لكن العلم بالعادة في الهلال علم مشترك عام بين جميع الناس، أما العلم بالعادة في الكسوف والخسوف فإنما يعرفه من يعرف حساب جريان النيرين، وليس خبر الحاسب بذلك من باب علم الغيب، ولا من باب ما يخبر به من الأحكام التي يكون كذب القائل لها أعظم من صدقه1 إلا أن بعض العلماء ذهب إلى تأديب من يخبر بذلك إذا كان إخباره يدخل الشك على العوام، ويشوش عقائدهم، ويزلزل قواعدهم في اليقين2.
1 انظر: "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/321) .
2 انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي: (2/839)، و"الفتاوى الحديثية":(282) .