الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: تنزيه الأنبياء أن يكونوا منجمين
الفصل الثاني: تنزيه الأنبياء أن يكونوا منجمين
…
الفصل الثاني: تنزيه الأنبياء أن يكونوا منجمين
إن هؤلاء المنجمين لم يعرفوا الأنبياء، ولا آمنوا بهم، وإنما هم عندهم بمنزلة أصحاب الرياضيات الذين خصوا بقوة الإدراك، وزكاة النفوس، وزكاة الأخلاق، ونصبوا أنفسهم لإصلاح الناس، وضبط أمورهم، ولا ريب أن هؤلاء أبعد الخلق عن الأنبياء وأتباعهم ومعرفتهم، ومعرفة مرسلهم، وما أرسلهم به، وهؤلاء في شأن والرسل في شأن آخر، بل هم ضدهم في علومهم وأعمالهم وهديهم وإرادتهم وطرائقهم وفي شأنهم كله، وكذلك نجد أتباع هؤلاء ضد أتباع الرسل في جميع أمورهم.
وما التنجيم والطلسمات والسحر إلا من صانع المشركين وأعمالهم. وما بعث الرسل إلا بالإنكار على هؤلاء ومحقهم ومحق علومهم وأعمالهم من الأرض1. ثم يأتي من هذا حاله ليؤيد الفاسد وعقيدته الشركية بقصص وحكايات ينسبها إلى أنبياء الله تعالى وصفوته من خلقه فيجعلهم من جملة من أرسلوا إليهم لنبذ عقائدهم فقد جعل هؤلاء علم أحكام النجوم المزعوم من علوم الأنبياء مستدلين2 بما أورده الخطيب البغدادي3 رحمه الله تعالى
1 "مفتاح دار السعادة": (2/196-197) .
2 استدل بأثر علي بن أبي طالب رضي الله عنه هذا ابن طاووس في "فرج المهموم": ص22-23.
3 هو الإمام المفتي الحافظ المحدث أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي، نشأته ووفاته ببغداد، توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة. انظر:"تبيين كذب المفتري": ص268-271، و"الكامل" لابن الأثير:(10/68)، "سير أعلام النبلاء":(18/270) .
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قيل له: هل لعلم النجوم أصل؟ قال: نعم.
كان نبي الأنبياء يقال له يوشع بن نون قال له قومه: أنا لا نؤمن لك حتى تعلمنا بدء الخلق وآجاله. فأوحى الله تعالى إلى غمامة فأمطرتهم واستنقع على الجبل ماء صاف، ثم أوحى الله تعالى إلى الشمس والقمر والنجوم أن تجري في ذلك الماء، ثم أوحى إلى يوشع بن نون أن يرتقي هو وقومه على الجبل، فارتقوا الجبل، فقاموا على الماء حتى عرفوا بدء الخلق وآجاله بمجاري الشمس والقمر والنجوم وساعات الليل والنهار، فكان أحدهم يعلم متى يموت، ومتى يمرض، ومن ذا الذي يولد له، ومن ذا الذي لا يولد له. قال: فبقوا كذلك برهة من الدهر، ثم إن داود عليه الصلاة والسلام قاتلهم على الكفر، فأخرجوا إلى داود في القتال من لم يحضر أجله، ومن حضر أجله خلفوه في بيوتهم، فكان يقتل من أصحاب داود ولا يقتل من هؤلاء أحد، فقال داود: يا رب أقاتل على طاعتك، ويقاتل هؤلاء على معصيتك، فيقتل أصحابي، ولا يقتل من هؤلاء أحد. فأوحى الله إليه أني كنت علمتهم بدء الخلق وآجاله، وإنما أخرجوا إليك من لم يحضر أجله، ومن حصر أجله خلفوه في بيوتهم، فمن ثم يقتل من أصحابك ولا يقتل منهم أحد، قال داود: يا رب على ماذا علمتهم؟ قال: مجاري الشمس والقمر والنجوم وساعات الليل والنهار. قال: فدعا الله فحبست الشمس، فزاد في النهار. فاختلطت الزيادة بالليل فلم يعرفوا قدر الزيادة، فاختلط عليهم حسابهم. قال علي: فمن ثم ذكره النظر في النجوم) 1.
1 أخرجه الخطيب في "حكم علم النجوم": (ق 12 ب) ، (ق 13 أ) .
والاستدلال بهذه الرواية باطل من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أنها باطلة لأن إسنادها ضعيف جداً1، إذ أن فيع غير واحد مجهول2، بالإضافة إلى ما تحويه من الكفر والشرك.
الوجه الثاني: أن المعتمد أن الشمس لم تحبس على أحد إلا على يوشع بن نون عليه السلام3 لما روى الإمام أحمد رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس لم تحبس على بشر إلا يوشع ليالي سار إلى بيت المقدس"4.
الوجه الثالث: إن ما ذكره من علم القوم بأوقات آجالهم وغير ذلك من غالب أحوالهم غير مقبول5 لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 6. وأخبار الله لا تبدل ولا تنسخ على مر العصور.
واستدلوا أيضاً بما روي عن ميمون بن مهران7 رحمه الله أنه قال:
1 ذكر ذلك ابن حجر في "فتح الباري": (6/221) .
2 ذكر ذلك الخطيب في "حكم علم النجوم": (ق 13/أ) .
3 انظر: "منهاج السنة": (6/169)، و"فتح الباري":(6/221) .
4 أخرجه الإمام أحمد في "مسنده": (2/325) . وصححه ابن كثير فقال: (انفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط البخاري) . "البداية والنهاية": (1/301) . كما صححه ابن حجر فقال: (رجال إسناده محتج بهم في الصحيح". "فتح الباري": (6/221) .
كما صححه د. عبد المجيد الحسيني. "تخريج أحاديث المسند": (16/8298) .
5 "حكم علم النجوم" للخطيب: (ق 13 أ) .
6 سورة لقمان، الآية:34.
7 هو الإمام ميمون بن مهران، أبو أيوب الجزري الرقي، ومن التابعين، نشأ بالكوفة ثم سكن الرقة، توفي سنة سبع عشرة ومائة، وقيل: ست. انظر: "حلية الأولياء": (4/82)، و"تاريخ الإسلام":(5/8)، و"البداية والنهاية":(9/326) .
(إياكم والتكذيب بالنجوم فإنه علم من علم النبوة)1.
وبما روي أيضاً عنه أنه قال: (ثلاث ارفضوهن: لا تنازعوا أهل القدر ولا تذكروا أصحاب نبيكم إلا بخير، وإياكم والتكذيب بالنجوم فإنه من علم النبوة)2. وهذا استدلال باطل من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن نسبة مثل هذا إلى نبي من الأنبياء المتقدمين لا يثبت إلا بخير من الله تعالى أو بحديث صحيح، وبغير هذا لا يثبت3.
الوجه الثاني: أن الناظر في حال ميمون بن مهران يعلم عدم صحة نسبة هذا القول إليه، فقد أثر عنه الزهد والورع وبغض الكذابين والمحتالين، والعداء للمنجمين والتحذير منهم، ولو كان هذا العلم مأثوراً عن الأنبياء، والنبي صلى الله عليه وسلم يحض على تعليمه لكان من أوائل من يعض عليه بالنواجذ، ولكننا نجد من سيرته انه على العكس من ذلك، فقد كان يحذر الناس من اقتفاء أثر هؤلاء بقوله:"لا تجالسوا أهل القدر ولا تسبوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تعلموا النجوم"4. وبقوله: (أربع لا يكلم فيهن: علي وعثمان والقدر والنجوم) 5، فكيف يكون من هذا حاله وقوله مشجعاً للعمل بأحكام النجوم؟
1 ذكرها الرازي، نقلاً عن "مفتاح دار السعادة":(2/188) .
2 المرجع نفسه.
3 انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية": (12/57) .
4 "تهذيب الكمال": (3/1398)، و"سير أعلام النبلاء":(5/73) .
5 "حلية الأولياء": (4/92) .
الوجه الثالث: على فرض ثبوت هذا القول يحمل على أنه أراد علم التسيير، إذ قد يكون ما عرف من هذا العلم مأثوراً عن أحد الأنبياء، إذ لا مانع من ذلك، ويحمل قوله الآخر على التنكير والتحذير من علم أحكام النجوم.
وجعل هؤلاء أول المنجمين آدم عليه السلام تارة وإدريس عليه السلام تارة أخرى، فما نسب إلى آدم عليه السلام ما ذكره علي بن طاووس:(أن الله تبارك وتعالى أهبط آدم من الجنة وعرفه علم كل شيء فكان مما عرفه النجوم والطب) 1، وذكر الرازي:(أن أول من أعطي هذا العلم آدم، وذلك أنه عاش حتى أدرك من ذريته أربعين ألفاً، وتفرقوا عنه في الأرض وكان يغتم لخفاء خبرهم عليه فأكرمه الله تعالى بهذا العلم وكان إذا أراد أن يعرف حال أحدهم حسب له بهذا الحساب، فيقف على حالته) 2، وبيان بطلان هذا القول واضح لمن عنده أدنى علم بأحوال الأنبياء وما يجوز في حقهم وما يمتنع، وأبين هذا من أربعة أوجه:
الوجه الأول: أن هذا من بهت المنجمين وافترائهم على آدم وقد عملوا بالمثل السائر: إذا كذبت فأبعد شاهدك3، إذ أن من نسب إلى آدم عليه السلام علم أحكام النجوم المزعوم ليس عنده إلا مجرد القول الخالي من الدليل، والكذب على الأنبياء، ومثل هذه الأخبار لا تثبت إلا بنص من القرآن والسنة، وهم مجردون من ذلك4.
1 "فرج المهموم": ص22.
2 "مفتاح دار السعادة": (2/188) .
3 المصدر نفسه: (2/219) .
4 انظر: "مجموع الفتاوى المصرية": (1/330) .
الوجه الثاني: أن أئمتكم يعترفون أن آدم وأولاده برآء من ذلك، إذ أنهم ينسبون هذا العلم إلى إدريس عليه السلام، ويزعمون أنه أول من علم هذا العلم، وكان ذلك بعد آدم بزمن طويل، هذا لو ثبت عن إدريس، فكيف وهو كذب عليه1؟
الوجه الثالث: أن الأنبياء معصومون من الكفر بالإجماع2، وادعاء علم الغيب كفر، لأنه ادعاء شيء استأثر الله به، والتنجيم من هذا القبيل، لذلك فنسبة الأنبياء إلى التنجيم كنسبتهم إلى الكفر.
الوجه الرابع: أن الله نزه الأنبياء أن يكونوا سحرة، وذم من يصفهم بهذا الوصف، وكذبهم قال تعالى {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} 3، والأدلة كثيرة في هذا المعنى.
والتنجيم شعبة من السحر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما اقتبس رجل علماً من النجوم إلا اقتبس بها شعبة من السحر ما زاد زاد" 4، فنسبة الأنبياء إلى علم النجوم كنسبتهم إلى السحر، وقد نزههم5 الله عن ذلك.
وقد نسب التنجيم أيضاً إلى إدريس عليه السلام، وزعموا أنه أول من علم وعلّم أحكام النجوم.
1 "مفتاح دار السعادة": (2/226) .
2 انظر: "لوامع الأنوار البهية": ص303.
3 سورة الذاريات، الآية:52.
4 أخرجه أبو داود: (3905)، وابن ماجه:(3771)، وأحمد:(1/227، 311) بألفاظ متقاربة. وصححه النووي في "رياض الصالحين": ص637، والمناوي في "التيسير":(2/403)، والألباني في "السلسلة الصحيحة":(793)، وفي "صحيح الجامع الصغير":(5950)، وأحمد شاكر في تحقيقه لمسند الإمام أحمد:(2000، 2841) .
5 مستفاد من "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/332) .
فمن ذلك ما أورده إخوان الصفا في رسائلهم قالوا: (ويحكى عن هرمس المثلث بالحكمة، وهو إدريس النبي صلى الله عليه وسلم أنه صعد إلى فلك زحل، ودار معه ثلاثين سنة، حتى شاهد جميع أحوال الفلك، ثم نزل إلى الأرض فخير الناس بعلم النجوم، قال تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} 1)2. وما ذكره علي بن موسى بن طاووس عن إدريس: (أنه أول من خط بالقلم، وأول من حسب حساب النجوم) ، ثم قال: (هذا لفظه فيما حكي من التوراة) 3، وذكر أيضاً: (وكان إدريس أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وأول من نظر في علم النجوم والحساب) 4.
وبيان بطلان هذه الادعاءات من خمسة أوجه:
الوجه الأول: أنه قول بلا علم، فإن مثل هذا لا يعلم إلا بالنقل الصحيح، ولا سبي للقائل إلى ذلك5.
الوجه الثاني: أن هؤلاء يزعمون أن هذا العلم مأخوذ من إدريس عليه السلام، بينما نجدهم في كتبهم يصرحون أنهم عرفوه بالتجربة والقياس، فمن ذلك قول ابن أبي الشكر6: (وذلك مما جربه الحكماء المتقدمون،
1 سورة مريم، الآية:57.
2 "رسائل إخوان الصفا": (1/138) ، لم يقل أحد من المفسرين بهذا التفسير للآية.
3 "فرج المهموم": ص22.
4 المصدر نفسه: ص21.
5 "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/331) .
6 هو يحيى بن محمد بن أبي الشكر، أبو الفتح، ويعرف بالحكيم المغربي، منجم عالم بالفلك، أندلسي من أهل قرطبة، توفي سنة ثمانين وستمائة. "كشف الظنون": ص1596، و"هدية العارفين":(2/516)، و"الأعلام":(8/166)، و"الذريعة":(1/408) .
والفضلاء المتأخرون) 1.
بل والرازي نفسه ذكر هذا عند عرضه للأدلة فقال: (وليست الكواكب موكلة بالفساد والصلاح، ولكن فيها دليل بعض الحوادث عرف ذلك بالتجربة) 2، بل وبعض كبرائهم يصرح أن صناعتهم قائمة على الخرص والتخمين كقول إمامهم أبي نصر الفارابي3:(إنك لو قلبت أوضاع المنجمين فجعلت مكان السعد نحساً، ومكان النحس سعداً، أو مكان الحار بارداً، ومكان البارد حاراً، أو مكان الذكر مؤنثاً، ومكان المؤنث ذكراً، وحكمت لكان حكمك من جنس أحكامهم تصيب تارة وتخطيء تارة وتخطيء أخرى) .
وما كان بهذه المثابة من الكذب والتخمين ينزهون عنه معلميهم كبقراط4 وأفلاطون5 وغيرهم من الفلاسفة، الذين يوجد في كلامهم
1 "رسالة في الأحكام على تحاويل سني العالم" لابن أبي الشكر: (ق 1 أ) .
2 "مفتاح دار السعادة": (2/188) .
3 هو محمد بن محمد بن طرخان أبو نصر الفارابي، ويعرف بالمعلم الثاني لشرحه لمؤلفات أرسطو (المعلم الأول) ، أصله تركي كان يحسن اليونانية وأكثر اللغات الشرقية، توفي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. انظر:"الفهرست" لابن النديم: ص368، و"تاريخ حكماء الإسلام": ص 30.
4 هو أحد الفلاسفة المشهورين، وسيد الطبيعيين في عصره، وكان قبل الإسكندر بنحو مائة سنة، نشأ في بلاد الشام، وكان يتوجه إلى دمشق للرياضة والتعليم والتعلم في أحد بساتينها. انظر:"طبقات الأطباء والحكماء": ص16، "تاريخ الحكماء": ص90-ص95.
5 هو أفلاطون بن أرسطو أحد سلاطين الحكمة الخمسة من اليونانيين، كان يعلم الطلاب الفلسفة وهو ماش فسميت فرقته بالمشائين، ووضع لأهل زمانه سنناً وحدوداً في الفلسفة. انظر:"طبقات الأطباء والحكماء": ص23، و"عيون الأنباء": ص79، و"تاريخ الحكماء": ص17.
من الكذب والباطل ما لا يوجد في كلام اليهود ولا النصارى، فإن كانوا ينزهون هؤلاء عنه، فكيف يجوز نسبة ذلك إلى نبي كريم1؟
وبذلك يظهر تناقض أقوالهم مما يدل دلالة واضحة على كذبهم2.
الوجه الثالث: إن كان بعض هذا العلم مأخوذاً من نبي –كما تزعمون-، فمن المعلوم قطعاً أن فيه من الكذب والباطل أضعاف ما هو مأخوذ عن ذلك النبي، ومعلوم قطعاً أن الكذب والباطل الذي في ذلك أضعاف الكذب والباطل الذي عند اليهود والنصارى فيما يخبرون به عن الأنبياء، مع أن أصل دين اليهود والنصارى مأخوذ عن المرسلين قطعاً، ومع ذلك فقد حرفوا وبدلوا كذبهم وكتموا، وعهدهم أقرب إلينا عهداً من إدريس، ونقلة دينهم أعظم من نقلة علم أحكام النجوم، وأبعد عن تعمد الكذب والكفر بالله من هؤلاء، فما ظنك بما نقل عن إدريس3؟
الوجه الرابع: أن هذا العلم متضمن للسحر والتقرب إلى الكواكب فما كان من هذه الأحكام من جنس السحر فمن الممتنع أن يكون نبي من الأنبياء ساحراً، وهم يذكرون أنواعاً من السحر، ويقولون: هذا يصلح لعمل الشرائع والسنن، ومنها ما هو دعاء للكواكب، وعبادة لها، وغير ذلك من أنواع الشرك التي يعلم كل من آمن بالله ورسوله بالاضطرار أن نبياًّ من الأنبياء محال أن يأمر بشيء من ذلك ولا علمه، وإضافة ذلك إلى نبي من الأنبياء كإضافة من أضاف السحر إلى سليمان عليه السلام لما سخّر
1 انظر: "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/332) .
2 انظر: المصدر نفسه: (1/331) .
3 انظر المصدر نفسه.
الله له الجن، فرد الله هذا القول بقوله:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} 1.
الوجه الخامس: من المعلوم من حال هذه الأمة ما نسب إلى جعفر الصادق رحمه الله من جنس هذه الأمور مما يعلمه كل عالم بحال جعفر أنه مكذوب عليه، وافترى عليه الرافضة افتراءات كثيرة، لا يشك أحد في كذبها عليه، كما أنهم افتروا على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكذبوا عليه، حتى إن بعض الشيعة نسبة إلى الألوهية، وأضاف كثير من طوائف الباطنية مذهبها إليه، فهذه الافتراءات على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأهل بيته في الزمن القريب، فكيف الظن بما ينسب إلى إدريس عليه السلام مع تباعد الزمان، وتنوع الحدثان، واختلاف الملل والأديان2.
وما اقتصر أذى هؤلاء على الأنبياء السابقين، بل تسابقوا ليؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكاذيبهم وأباطيلهم فادعوا أالنبي صلى الله عليه وسلم من المنجمين، وأنه كان يحض على تعلمه، بل ويعلمه أصحابه، واستدلوا بأمرين:
الأمر الأول: قال ابن طاووس في معرض استدلاله على جواز التنجيم: (إن الروايات الواردة في صفات النبي صلى الله عليه وسلم يفيد كثير منها أنه لم يكن كاهناً ولا ساحراً، وما وجدنا إلى الآن فيها وما كان عالماً بالنجوم، فلو كان المنجم كالكاهن والساحر ما كان يبعد أن تتضمنه بعض الروايات في ذكر الصفات)3.
1 المصدر نفسه: (1/332) .
والآية رقم 102 من سورة البقرة.
2 انظر: "مجموعة الفتاوى المصرية": (1/332-334) .
3 انظر: "فرج المهموم": ص59.
الأمر الثاني: الأحاديث الواردة في تعظيم الكواكب، والتشاؤم من بعضها مما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيد لعلم النجوم، من ذلك1:
1-
ما روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا"2.
2-
من الناس من يروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسافروا والقمر في العقرب"3.
1 ذكره الرازي، نقلاً عن "مفتاح دار السعادة":(2/188) .
2 أخرجه الطبراني في "الكبير": (1427)، وابن عدي في "الكامل":(7/2490) .
وقال الهيثمي: (رواه الطبراني عن ثوبان وفيه: يزيد بن ربيعة، وهو ضعيف. ورواه الطبراني أيضاً عن عبد الله بن مسعود، وفيه مسهر بن عبد الملك وثقه ابن حبان وغيره، وفيه خلاف، وبقية رجاله رجال الصحيح)"المجمع": (7/202) إلا الفسوي ليس من رجال الصحيح. "السلسلة الصحيحة": (1/43) .
وحسنه العراقي. انظر: " التخريج على الإحياء": (1/29) .
وقال ابن رجب: روي من وجوه في أسانيدها كلها مقال، ورمز السيوطي لتحسينه. "فيض القدير":(1/348) .
وصححه الألباني وقال: (وقد وجدت للحديث شاهداً مرسلاً أخرجه عبد الرزاق في الأمالي، وسنده صحيح لولا إرساله، ولكنه مع ذلك شاهد قوي لما قبله من الشواهد والطرق وخاصة الطريق الأول، فيقوى الحديث..) . "السلسلة الصحيحة": (34)، "صحيح الجامع":(559) .
قلت: يقصد بالطريق الأول رواية مسهر بن عبد الملك، والذي يظهر من أقوال العلماء أن الحديث حسن بمجموع طرقه.
3 ذكر الصاغاني في "الموضوعات": ص53.
وحكم ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله عليه بالوضع، بل قال ابن تيمية عنه أنه:(كذب مختلق باتفاق أهل الحديث) .
انظر: "مجموع الفتاوى المصرية": (1/330)، و"مفتاح دار السعادة":(2/214) .
3-
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عند قضاء الحاجة عن استقبال الشمس والقمر واستدبارهما1.
4-
أنه لما مات ولده إبراهيم انكسفت الشمس، ثم إن الناس قالوا: إنما انكسفت لموت إبراهيم. فقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة"2.
5-
حديث أبي ذر رضي الله عنه3 قال: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركنا ولا طائر يطير بجناحيه إلا وقد ذكر لنا منه علماً"4.
وبيان بطلان استدلالهم نذكره فيما يلي:
فأما الأمر الأول وهو استدلال ابن طاووس فهو استدلال باطل
1 لا أصل له –كما سيأتي في الرد عليه في المتن إن شاء الله-.
2 أخرجه البخاري: (2/96) ، كتاب الكسوف، ومسلم:(3/35)، كتاب الكسوف. ولفظه عن المغيرة بن شعبة قال: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي".
3 هو أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، أحد السابقين الأولين إلى الإسلام، من نجباء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، مات سنة اثنتين وثلاثين. انظر:"الاستيعاب": (1/252)، و"أسد الغابة":(6/199)، و"سير أعلام النبلاء":(2/46)، و"الإصابة":(4/62) .
4 أخرجه أحمد في "مسنده": (5/153، 162) . قال الهيثمي في "المجمع": (رجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقريء وهو ثقة، وفي إسناده أحمد من لم يسم) . وقال في رواية أبي الدرداء: (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح) . "المجمع": (8/264) .
وقال ابن حجر: (رجاله ثقات إلا أنه منقطع) . "المطالب العالية": (3872) .
لا يصح، وذلك أن انتفاء السحر عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات كما ذكر دال على انتفاء التنجيم عنه، وذلك لأن علم أحكام النجوم شعبة من شعب السحر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما اقتبس رجل علماً من النجوم إلا اقتبس بها شعبة من السحر زاد ما زاد"1.
وانتفاء السحر عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على انتفاء أجزائه وشعبه، كما أن التنجيم داخل في الكهانة أيضاً وهو فرع عنه، وانتفاء الكهانة عن النبي صلى الله عليه وسلم ينفي أن يكون منجماً.
أما الأمر الثاني: وهو استدلالهم بحديث ابن مسعود المتقدم فهو مردود أيضاً لأن معنى الحديث أمسكوا عن الخوض في علم النجوم والعمل به وتصديق قائله2، وعلى هذا لا دلالة لهم فيه، بل هذا الحديث حجة عليهم لا لهم، إذ لو كان علم أحكام النجوم حقًّا لا باطلاً لم ينه عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أمر بالإمساك عنه، فإنه لا ينهى عن الكلام في الحق بل يدل الحديث على أن الخائض في هذا العلم خائض فيما لا علم له به، فأين ما يدل على صحة علم أحكام النجوم في هذا الحديث3؟
واستدلالهم بنا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن السفر والقمر في العقرب باطل أيضاً، إن أن هذا المروي كذب مختلق باتفاق أهل الحديث4.
1 صحيح تقدم تخريجه قريباً: ص97.
2 "فتاوى الإمام النووي": ص287.
3 "مفتاح دار السعادة": (2/214) .
4 انظر: "موضوعات الصاغاني": ص53، و"مجموعة الفتاوى المصرية":(1/330)، و"مفتاح دار السعادة":(2/214) .
واستدلالهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عند قضاء الحاجة من استقبال الشمس والقمر واستدبارهما يرد عليه من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه ذلك في كلمة واحدة، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مرسل ولا متصل ولا منقطع، وليس لهذه المسألة أصل في الشرع يتعلق به ذنب أو أجر، وكأن هؤلاء –والله أعلم- لما رأوا بعض الفقهاء قالوا في كتبهم في آداب التخلي:(ولا تستقبل الشمس والقمر) ظن أنهم إنما قالوا ذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه فاحتجوا به1.
الوجه الثاني: ما لهذا ولأحكام النجوم، فإن كان هذا دالاًّ على دعواهم من تأثير الكواكب في العالم السفلي فدلالة النهي عن استقبال القبلة على هذا التأثير أول وأقوى، مما يقتضي أن يكون عدم استقبال القبلة له تأثير في العالم السفلي2.
الوجه الثالث: أن في حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه المتفق عليه دلالة على جواز استقبال الشمس والقمر وردًّا على قول هؤلاء وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره شرقوا أو غربوا"3. فالحديث صريح فيه جواز استقبال القمرين واستدبارهما إذ لا بد أن يكونا في الشرق أو الغرب غالباً4.
1 "مفتاح دار السعادة": (2/205-206) .
2 المصدر نفسه.
3 أخرجه البخاري: (1/80) ، كتاب الوضوء، ومسلم:(1/154) ، كتاب الطهارة.
4 "سبل السلام": (1/126) .
واستدلالهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم موت ولده إبراهيم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله
…
" يرد عليه أن هذا الحديث صحيح، وهو من أعظم الحجج على بطلان قولهم، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنهما آيتان من آيات الله، وآيات الله لا يحصيها إلا الله كالمطر والنبات والحيوان والليل والنهار
…
، وآيات الله دالة عليه فهما آيتان لا ربان، ولا إلهان، وليس لهما تصرف في ذواتهما البتة فضلاً عن إعطائهما كل ما في العالم من خير وشر وصلاح وفساد1. وإن كانوا يستدلون بكونها آية من آيات الله لها تأثير في العالم وجب أن يجعلوا كل آية من آيات الله لها تأثيراً في العالم، فإن منعوا هذا بطل استدلالهم. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم نفى أن يكون للكواكب تأثير في هذا العالم بقوله: "لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته"، فأين هذا المعنى من دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد لهذا العلم.
واستدلالهم بحديث أبي ذر يرد عليه من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن هذا الحديث من أعظم الأدلة على بطلان قولهم وتكذيبهم فيما يدعونه من علم أحكام النجوم، فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر لهم كل شيء حتى الخراءة، وذلك فيما رواه مسلم رحمه الله عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال:"قيل له: نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم"2، وقد ذكر لهم من علم كل طائر، وكل حيوان، وكل ما في العالم، ولم يكر لهم من علم أحكام النجوم شيئاً البتة، وهو
1 "مفتاح دار السعادة": (2/206) .
2 أخرجه مسلم: (1/154) ، كتاب الطهارة.
صلى الله عليه وسلم أجل من هذا وأعظم، قد صانه الله تعالى عن ذلك، وإنما الذي ذكر لهم هذه الأحكام المشركون عباد الأصنام والكواكب. أفلا يستحيي رجل أن يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المقام1؟
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لأمته من تكذيبهم وكفرهم والبراءة منهم والإخبار بأنهم وما يعبدون من دون الله حصب جهنم2.
الوجه الثالث: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أحد من أهل بيته، أو أحد من صحابته مثبتاً لأحكام النجوم، عاملاً بها في حركاته وسكناته وأسفاره كما هو المعروف عن المشركين وأتباعهم حتى يكون هذا العلم مأثوراً عنهم.
من هذا تبين أن نسبة علم أحكام النجوم إلى الأنبياء، والقول بأنه من علوم النبوة كذب وهراء، لا يجوز لأحد أن يعتقده، إذ أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما بعثوا لمحق الشرك وقطع أسبابه، واعتقاد أن هذه الكواكب مدبرة لهذا العالم، أو لها تصريفاً في العالم السفلي، أو أنها علامات على الحوادث السفلية من الشرك الذي بعث الأنبياء لمحقه.
1 انظر: "مفتاح دار السعادة": (2/218) .
2 المصدر نفسه.