الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[2/ 77]
المسألة الثانية عشرة
أما على القاتل بالمثقل قصاص
؟
في «تاريخ بغداد» (13/ 332) عن إبراهيم الحربي قال: «كان أبو حنيفة طلب النحو
…
فتركه، ووقع في الفقه فكان يقيس، ولم يكن له علم بالنحو، فسأله رجل بمكة، فقال له: رجلٌ شجَّ رجلًا بحجر؟ فقال: هذا خطأ ليس عليه شيء، لو أنه حتى يرميه بأبا قُبيس لم يكن عليه شيء».
قال الأستاذ (ص 23): «وأدلة أبي حنيفة في حكم القتل بالمثقل مبسوطة في كتب المذهب
…
وقد صحت أحاديث وآثار عند النسائي، وأبي داود، وابن ماجه، وابن حبان، وأحمد، وابن راهويه، وابن أبي شيبة، وغيرهم يؤيد ظاهرها هذا المذهب. وقد أعلَّ أبو حنيفة حديثَ الرضخ كما سيأتي».
وعلَّقَ على قوله: «وقد صحت أحاديث
…
» قوله
(1)
: منها: حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد، ما كان بالسوط والعصا مائةٌ من الإبل» . أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان بسند صحيح. ومنها: حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «شبه العمد قتيل الحجر والعصا فيه الدية مغلظة» . أخرجه ابن راهويه. ومنها: حديث ابن عباس في دية القاتلة بمسطح ــ وهو عود من أعواد الخباء ــ أخرجه عبد الرزاق. إلى غير ذلك من الأحاديث».
أقول: في هذه القضية آيات من كتاب الله عز وجل أعرض عنها الأستاذ!
(1)
كذا في المطبوع، ولعله «بقوله» . وسيأتي الكلام على الأحاديث فيما بعد.
الآية الأولى: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} إلى قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} الآية [النساء: 92 - 93].
من المعلوم في العربية أن عمد القتل وتعمُّده هو قصده، وأن وقوعه خطأً هو أن يقع بلا قصد. ولا ريب أنه إذا كان هناك قتل يوصف بأنه خطأ شبيه بالعمد فإنما هو أن يُتعمَّد سببُ القتل كالضرب مثلًا ولا يُقصَد القتل، وإنما يُقصَد الإيلام بلا قتل، فهذا القتل خطأ لأنه لم يُقصد، ولكنه شبيه بالعمد من جهة أن سببه متعمَّد. ولا يشك عاقل أن مَن عمَدَ إلى طفل أو [2/ 78] ضعيف فوضع رأسه على صخرة، وجاء بأخرى فضرب بها رأسه حتى فضخه؛ أو وضع حبلًا في عنقه، ثم شدَّ طرفه بشجرة، ثم جذب طرفه الآخر جذبًا شديدًا بطيئًا حتى مات؛ أو غمسه في ماء كثير، وحبسه فيه مدةً طويلة حتى مات؛ أو أخذ هراوةً، فضربه بها ضربًا شديدًا رأسه وعنقه وصدره وظهره حتى مات= فقد قتله عمدًا. وأنّ من زعم أن القتل في هذه الصور وما في معناها ليس عمدًا وإنما هو خطأ شبه العمد، فقد خرج عن لغة العرب.
الآية الثانية: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية [البقرة: 178].
نصَّت الآية على وجوب القصاص في كل قتيل يتأتى فيه، والقصاص يدل على المماثلة، والمقصود: المماثلة في المعاني التي يُعقل لها دَخْلٌ في الحكم، فلا تتناول القتيلَ بحقٍّ لأن قتل قاتله يكون بغير حق، ولا القتيلَ خطأً محضًا لأن قتل قاتله إنما يكون عمدًا، ولا القتيلَ الذي دلَّت شواهد الحال
على أنه إنما قُصِد إيلامه لا قتلُه كالمضروب ضرباتٍ يسيرةً بسوط أو عصا خفيفة؛ لأن قتل قاتله يكون مقصودًا. وتتناول الآية القتلى في الصور المتقدمة سابقًا، وهي فضخُ الرأس وما معه ونحوها إذا كان بغير حق؛ لأنه قُصِد فيها سببُ القتل وقُصِد فيها القتل، وقتلُ القاتل يقتضي مثل ذلك بدون زيادة فهو قصاص، فالآية تنص على وجوب القصاص في تلك الصور ونحوها حتمًا.
الآية الثالثة: قوله عز وجل: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33].
والإسراف هو تعدي المماثلة التي تقدَّم بيانها، أو قُلْ: تعدي القصاص، فمن قُتل بحق فلم يُقتَل مظلومًا، ولا يكون قتلُ قاتله إلا إسرافًا. وبقية الكلام كما في الآية السابقة. وقتلُ القاتل في تلك الصور التي منها فضخُ الرأس وما معه وما في معناها لا يتعدى المماثلة المعتبرة، فلا إسراف فيه، فقد جعل الله تعالى للولي سلطانًا عليه، وذلك شرع القصاص.
الآية الرابعة: قوله سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179].
ولا ريب أنه إذا لم يكن في القتل بالمثقّل قصاص لم يتَّقِه الناس، فيتحرَّون القتل بالمثقل [2/ 79] عدوانًا وانتقامًا، فيفوت المقصود من شرع القصاص.
الآية الخامسة قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126].
الآية السادسة: قوله سبحانه: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج: 60].
الآية السابعة: قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 194].
الآية الثامنة: قوله تبارك وتعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40].
وأما الأحاديث التي ذكرها الأستاذ، فحديث «ألا إن دية الخطأ شبه العمد
…
» مختلَفٌ في إسناده. فقيل عن القاسم بن ربيعة مرسلًا
(1)
، وقيل عنه عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا
(2)
، وقيل عنه عن عقبة بن أوس مرسلًا
(3)
، وقيل عنه عن عقبة عن رجل من الصحابة
(4)
، وقيل غير ذلك
(5)
.
(1)
أخرجه كذلك النسائي (8/ 40 - 41، 42).
(2)
أخرجه أحمد (6533، 6552) والنسائي (8/ 40) وابن ماجه (2627) والدارقطني (3/ 104) والبيهقي في «الكبرى» (8/ 44).
(3)
أخرجه النسائي (8/ 41).
(4)
أخرجه عبد الرزاق في «المصنّف» (3/ 172) وأحمد (15388، 23493) والنسائي (8/ 41 و 42) والطحاوي في «معاني الآثار» (3/ 185، 186) والدارقطني (3/ 103 - 104، 105) والبيهقي (8/ 45).
(5)
أخرجه من طريق القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: أبو داود (4547) والنسائي (8/ 41) وابن ماجه (2627) وابن حبان في «صحيحه» (6011) والبيهقي (8/ 45). وأخرجه من طريق علي بن زيد بن جدعان عن القاسم بن ربيعة عن عبد الله بن عمر بن الخطاب مرفوعًا: عبد الرزاق في «المصنّف» (17212) وأحمد (4583) وأبو داود (4549) والنسائي (8/ 42) وابن ماجه (2628) والدارقطني (3/ 105) والبيهقي (8/ 44).
وقد ساق النسائي
(1)
أكثرتلك الوجوه. وذلك الاختلاف والاضطراب قد يُتسامح فيه إذا لم يكن المتن منكَرًا. ومن قوَّاه من المحدثين لا يرى معناه ما يزعمه الحنفية مما يخالف الكتاب والسنة الصحيحة. ولو رأى أن ذلك معناه لأنكره، فردَّه بذلك وبذاك الاختلاف والاضطراب
(2)
.
مع ذلك فعقبة بن أوس المتفرِّد به غير مشهور، وإنما وثَّقه مَن مِن عادته [2/ 80] توثيقُ المجاهيل، وإن كانوا مقلِّين، إذا لم ير في حديثهم ما ينكره. وقد شرحتُ ذلك في الأمر الثامن من القاعدة السادسة من قسم القواعد.
(1)
(8/ 40 - 42).
(2)
قلت: بل الحديث صحيح السند كما قال الكوثري، والاضطراب الذي ذكره المصنف رحمه الله هو من الاضطراب الذي لا يؤثر في صحة الحديث، فقد ذكرت في «الإرواء» رقم (2259) أشهر وجوه الاضطراب فيه، ثم قابلت بينها على ما يقتضيه علم المصطلح والجرح والتعديل، فتبين لي أنها غير متماثلة في القوة وعدد رواة كل وجه، وأن أرجحها رواية من رواه عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو، وعلى ذلك حكمت عليه بالصحة، لأن رجاله كلهم ثقات، وعقبة بن أوس قد وثَّقه ابن سعد والعجلي وابن حبان، وهؤلاء وإن كانوا متساهلين في التوثيق كما أشار إليه المصنف، فاتفاقهم عليه، مع عدم توجه أي انتقاد عليه، بل قَبِله الحفاظ مِن بعدهم ولم يردوه، مثل الحافظ ابن حجر فقال في «التقريب»:«صدوق» .. زد على ذلك أن من جملة من خرج الحديث ابن الجارود في كتابه «المنتقى» رقم (773)، وذلك منه توثيق لرجاله كما لا يخفى. ولذلك فالاعتماد في الرد على الحنفية في استدلالهم بهذا الحديث على ما زعموا، إنما هو على المعنى الآخر الذي أوضحه المؤلف جزاه الله خيرًا. [ن].
ولو رأوا أن معنى هذا الحديث ما يزعمه الحنفية لَما أثنوا على عقبة، بل لعلهم يجرحونه بمقتضى قاعدتهم في جرح المتفرِّد بالمنكر، ولاسيَّما إذا كان مقلًّا غير مشهور. والحنفية يردون الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن في أسانيدها البتة بدعوى مخالفتها للقرآن حيث لا مخالفة، كما مرَّ في المسألة السابعة، وكما يأتي في المسألة الخامسة عشرة؛ فكيف يسوغ لهم أن يتشبثوا بهذا الحديث، مع ما في سنده من الاختلال، ومع وضوح مخالفة معناه الذي يعتمدونه للقرآن؟ !
فإن قيل: وهل يحتمل معنى آخر؟
قلت: نعم، وبيان ذلك أن من القتل ما يتبين فيه أن القاتل قصَدَ القتل، كالصور التي تقدَّم التمثيلُ بها من فضْخ الرأس وما معه ونحو ذلك وما يقرب منه. ومنه ما يُتردَّد فيه أقصَد أم لم يقصِد؟ كمن أغضبه رفيقُه، وكان بيده فأس أو عصا كبيرة، فضرب رأسه، فقتله. ومنه ما يتبين أنه لم يقصد، كمن ضرب رجلًا ضرباتٍ يسيرةً بسوط أو عصا خفيفةٍ فمات. فهذه ثلاثة أضرب.
وقوله في أول الحديث: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد» مُخْرِجٌ للضرب الأول حتمًا، لأنه عمْدٌ محض لا يُعقل أن يسمَّى خطأً شبه العمد، فبقي الأخيران، والظاهر أنه شامل لهما. أما الثالث فواضح، وأما الثاني فلأنه إذا لم يتبيَّن قصدُ القتل، فالأصل عدمُه. فقوله بعد ذلك:«ما كان بالسوط والعصا» حقُّه أن يكون تقييدًا لِيُخرج من الضرب الثاني ما كان بسلاح، لأن استعمال السلاح يدل على قصد القتل، وإن كانت قد تدافعه قرينة أخرى، فيقع التردد.
ومن الحكمة في ذلك زجرُ الناس عن استعمال السلاح حيث لا يحل لهم القتل. وفي «صحيح مسلم»
(1)
من حديث أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يشير أحدُكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان يَنْزِع في يده، فيقع في حفرة من النار» . وفيه
(2)
من حديثه أيضًا: «من أشار إلى أخيه بحديدةٍ فإن الملائكة تلعنُه، حتى وإن كان أخاه لأبيه وأُمه» . وفي «المستدرك» (ج 4 ص 290)
(3)
من حديث جابر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتعاطَى السيفُ مسلولًا» . ومن حديث أبي بكرة
(4)
وعلى ذاك المعنى، فكلمة «ما» من قوله:«ما كان بالسوط والعصا» إما موصولة بدلُ بعضٍ من «الخطأ شبه العمد» ، وإما مصدرية زمانية، أي: وقت كونه بالسوط
(5)
والعصا، كما قيل بكلٍّ من الوجهين فيما قصَّه الله تعالى عن شعيب:{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88].
(1)
رقم (2617).
(2)
«صحيح مسلم» (2616).
(3)
وأخرجه أيضًا أحمد (14201، 14981) وأبو داود (2588) والترمذي (2163) وابن حبّان في «صحيحه» (5946). وإسناده صحيح.
(4)
وأخرجه أيضًا أحمد (20429). وإسناده حسن.
(5)
في المطبوع: «بالسيف» خطأ.
ويؤيد ذلك أن في بعض الروايات عند النسائي
(1)
وغيره، منها روايةُ أيوب عن القاسم، وروايةُ هشيم عن خالد الحذاء عن القاسم: «
…
الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا
…
» ليس فيه «ما كان» ، والتقييد في هذا ظاهر. على أن الشارع وإن قضى بأنه إذا كان القتل بسلاح ونحوه عمد
(2)
حيث يتردد في القصد، فإنه يبالغ في حضِّ وليِّ الدم على أن لا يقتص.
أخرج أبو داود في «السنن»
(3)
من حديث أبي هريرة قال: «قَتَل رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فرُفِع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فدفعه إلى ولي المقتول. فقال القاتل: يا رسول الله، والله ما أردتُ قتله. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للولي: «أما إنه إن كان صادقًا ثم قتلتَه لَتدخلَنَّ النارَ» . قال: فخلَّى سبيله».
ثم أخرجه
(4)
من حديث وائل بن حجر، وفيه: «قال: كيف قتلتَه؟ قال: ضربتُ رأسه بالفأس ولم أُرِدْ قتلَه
…
قال للرجل: خذه. فخرج به ليقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمَا، إنه إنْ قَتَله كان مثلَه
…
».
وحديث وائل في «صحيح مسلم»
(5)
، وفيه: «كيف قتلتَه؟ قال: كنتُ أنا وهو نختبط من شجرة، فسبَّني، فأغضَبَني فضربتُه بالفأس على قرنه، فقتلته
…
».
(1)
(8/ 40، 41).
(2)
كذا في المطبوع مرفوعًا. والوجه النصب.
(3)
رقم (4498). وأخرجه أيضًا النسائي (8/ 13) والترمذي (1407) وابن ماجه (2690). وإسناده صحيح.
(4)
رقم (4501).
(5)
رقم (1680).
وفي رواية
(1)
: «فلما أدبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القاتل والمقتول في النار
…
».
وتأوله بعضهم على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان سأل الوليَّ أن يعفو، فأبى. وهذا ضعيف من وجهين:
الأول: أنه ليس في القصة من الأمر بالعفو إلا ما وقع من بيان الإثم أو ما بعده.
الثاني: أنه ليس من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمر أحدًا بترك حقِّه أمرًا جازمًا يأثم المأمور إن لم يمتثله. وقد رغَّب صلى الله عليه وآله وسلم إلى بَرِيرة لمَّا عتقت أن لا تفسخ نكاح زوجها، فقالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: «لا، وإنما أنا أشفع» . قالت: فلا حاجة لي فيه
(2)
. ولم يعتِبْ هو بأبي وأُمي ولا أحد من أصحابه على بريرة.
فالصواب ما دل عليه حديث أبي هريرة أنَّ إثمَ الولي إن قَتَل إنما هو مبني على قول القاتل: لم أُرِدْ قتلَه، مع قوة احتمال صدقه.
وقد ذكر [2/ 82] الطحاوي في «مشكل الآثار» (ج 1 ص 409)
(3)
الحديث، ثم قال: «فكان معنى ذلك ــ والله أعلم ــ أن البينة التي كانت شهدت عليه بقتله لأخي خصمه شهدَتْ بظاهر فعله الذي كان عندنا
(4)
أنه
(1)
رقم (1680/ 33).
(2)
أخرجه البخاري (5283) من حديث ابن عباس.
(3)
رقم (944).
(4)
كذا في المطبوع، وفي «مشكل الآثار»:«عندها» .
عمدٌ له لا شكَّ عندنا
(1)
فيه، وكان المدَّعَى عليه أعلمَ بنفسه وأيما
(2)
كان منه في ذلك، فادعى باطنًا كان منه في ذلك، لا بحجة معه
(3)
…
».
أقول: لم أر في شيء من الروايات إقامة بينة أي شهود، بل في بعض الروايات
(4)
أن الولي قال: «أمَا إنه لو لم يعترف لأقمتُ عليه البينة» . فإنما كان في الواقعة اعترافُ الرجل بالضرب وبتعمُّده وبآلته وصفته، وضربُ الرأس بالفأس يقتضي قصد القتل، إلا أن هناك ما عارضه وهو أنه لم يسبق بينهما عداوة، وكانت الفأس بيد الجاني يختبط بها، فثار غضبه بسبب السبِّ، فضرب بما كان في يده، وادَّعى أنه لم يُرد القتل، وأقسم على ذلك. فالحديث يدل أنه في مثل هذه الحال يُقْضَى بأن القتل عمدٌ تأكيدًا للزجر عن القتل والتنفير عنه، ولا يُمنَع الوليُّ من الاقتصاص، ولكنه يحرُم عليه.
فإن قيل: وكيف لا يُمنَع مما يحرُم عليه؟
قلت: لأنه لو مُنع منه حُكْمًا لفات المقصود من تأكيد الزجر عن القتل. ويُشبِه هذا ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يُعطي المُلْحِفَ في السؤال، وإن كان غير مستحق. وفي «مسند أحمد»
(5)
و «المستدرك»
(6)
(1)
في «المشكل» : «عندها» .
(2)
في «المشكل» : «وبما» .
(3)
في «المشكل» : «لا يجب عليه معه فيما كان منه فيه قَوَد» .
(4)
عند مسلم (1680).
(5)
رقم (11004). وأخرجه أيضًا البزار (925 ــ كشف الأستار) والطحاوي في «مشكل الآثار» (5936) وابن حبان (3412، 3414). وإسناده صحيح.
(6)
(1/ 46).
وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله سلم قال: «أمَا والله، إن أحدكم لَيخرُج بمسألته من عندي يتأ بَّطُها، وما هي إلا نار! » قال عمر: لِمَ تُعطِيها إياهم؟ قال: «ما أصنع؟ يأبَون إلا ذلك، ويأبى الله لي البخلَ» . وفي «صحيح مسلم»
(1)
من حديث عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إنهم خَيَّروني أن يسألوني بالفحش أو يبخِّلوني، فلست بباخل» .
فإذا حُمِلَ ذاك الحديث على المعنى الذي ذكرنا، لم يكن مخالفًا لكتاب الله عز وجل، ولا للسنة الصحيحة، ولا للنظر المعقول؛ فلا يكون منكرًا. وعلى هذا بنى من قوَّاه من المحدثين، ووثَّق راويه المتفرد به، مع ما فيه من الخلل. فإن أبى الحنفية إلا المعنى الذي يتشبَّثون به، [2/ 83] قلنا: فعلى ذلك يكون الحديث منكرًا، فيُرَدُّ ويُضَعَّف راويه اتفاقًا.
خُذَا
(2)
أنفَ هَرْشَى أو قَفاها فإنما
…
كِلا جانبَي هَرْشَى لهنَّ طريقُ
على أنَّه سيأتي في الحديث الثاني التقييد بأن يكون القتل في مناوشة بين عشيرتين بدون ضغينة ولا حمل سلاح، فيُقتَل رجلٌ لا يُدرَى مَن قاتله. وعلى هذا فلو صحَّ هذا الحديث وكان مطلقًا، لوجب حملُه على ذاك المقيَّد. ومقتضى الحديث أنه في تلك الصورة يُقضى بأن القتلَ شبهُ عمد، فينظر في العشيرتين المتناوشتين، فأيتهما كان المقتول منها كانت ديته مغلَّظة
(1)
رقم (1056).
(2)
في المطبوع: «خذ» خطأ. والبيت لعَقِيل بن عُلَّفة في «الأغاني» (12/ 261، 262) ومعجم البلدان (5/ 398).
على الأخرى؛ لأن الظاهر أن القاتل منها وأنها عاقلته. فأما إذا كان هناك ضغينة وحمل سلاح، فإنه يُقضى بأن القتل عمد، فيجعل قسامة. وأماإذا عُرف القاتل فله حكمُه. والله أعلم.
قول الأستاذ: «ومنها حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : «شبه العمد قتيلُ الحجر والعصا، فيه الدية مغلظة» . أخرجه ابن راهويه».
أقول: ذكره الزيلعي في «نصب الراية» (ج 4 ص 332) وذكر أن ابن راهويه رواه عن عيسى بن يونس، عن إسماعيل بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس؛ وأنه مختصر، وأحال لتمامه
(1)
على ما تقدَّم له يعني (ج 4 ص 327). ومتنُ الحديث هناك: «العمدُ قوَد إلا أن يعفو وليُّ المقتول، والخطأ عقل لا قوَد فيه، وشبه العمد قتيل العصا والحجر ورمي السهم، فيه الدية مغلظة من أسنان الإبل» . نسبه إلى ابن راهويه بالسند نفسه.
والحديث في «سنن الدارقطني» (ص 328)
(2)
وإسماعيل بن مسلم
(3)
ضعيف، وقد اضطرب كما رأيت، وجعل فيه في رواية ابن راهويه رميَ السهم، وهو عمد عند الحنفية.
(1)
في (ط): «بتمامه» . والتصويب من المخطوط.
(2)
(3/ 94).
(3)
في (ط): «أمية» خطأ. والتصويب من المخطوط. وهو المذكور في إسناد الحديث.
ورواه أبو داود
(1)
وغيره من طريق سليمان بن كثير، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس يرفعه:«من قُتِل في عِمِّيَّا أو رِمِّيَّا تكون بينهم بحجر أو سوط، فعقلُه عقلُ خطأ، ومن قتل عمدًا فقود يده» . سليمان متكلَّم فيه.
ورواه الدارقطني (ص 328)
(2)
من طريق الحسن بن عمارة، عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس مرفوعًا. والحسن بن عمارة ضعيف جدًّا.
ورواه الدارقطني [2/ 84](ص 327)
(3)
من طريق حماد بن زيد عن عمرو بن دينار بسنده.
والصحيح عن حماد أنه رواه مرسلًا. قال أبو داود
(4)
في باب «عفو النساء عن الدم» : «حدثنا محمد بن عبيد، نا حماد، ح ونا ابن السرح، نا سفيان ــ وهذا حديثه ــ، عن عمرو، عن طاوس قال: من قُتِل. وقال ابن عبيد: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قُتِل في عِمِّيَّا في رَمْيٍ يكون بينهم بحجارة أو بالسياط أو ضربٍ بعصا، فهو خطأ، وعقلُه عقلُ الخطأ. ومن قُتل عمدًا فهو قود. وقال ابن عبيد: «قَوَدُ يدٍ»
…
وحديث سفيان أتم».
ورواه ابن السرح عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن طاوس قوله، كما مرَّ عن أبي داود. ولكن رواه الشافعي كما في «سنن البيهقي»
(1)
رقم (4591). وأخرجه أيضًا النسائي (8/ 40).
(2)
(3/ 93).
(3)
(3/ 93).
(4)
رقم (4539).
(ج 8 ص 45)
(1)
عن سفيان، عن عمرو، عن طاوس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ورواه البيهقي
(2)
من طريق الوليد بن مسلم، عن ابن جريج، [عن عمرو بن دينار]
(3)
عن طاوس عن ابن عباس مرفوعًا. والوليد شديد التدليس، يدلِّس التسوية.
وقد رواه الدارقطني (ص 328)
(4)
من طريق: «عبد الرزاق، أنا ابن جريج، أخبر عمرو بن دينار أنه سمع طاوسًا يقول: الرجلُ يصاب في الرمي في القتال بالعصا، أو بالسياط، أو بالترامي بالحجارة= يُودَى ولا يُقتل به، من أجل أنه لا يُعلم مَنْ قاتلُه؟ . قال ابن جريج: وأقول: ألا ترى إلى قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهُذَليَّتين: ضربت إحداهما الأخرى بعمود فقتلتها، إذ
(5)
لم يقتلها بها، ووداها وجنينها. أخبرناه ابن طاوس عن أبيه، لم يجاوز طاوس».
أقول: قصة الهذليتين ستأتي.
وأخرج أيضًا
(6)
من طريق: «عبد الرزاق، أنا ابن جريج، أخبرني ابن طاوس، عن أبيه قال: عند أبي كتاب فيه ذِكرُ العقول جاء به الوحي إلى
(1)
أخرجه الشافعي في كتاب «الرد على محمد بن الحسن» ضمن «الأم» (9/ 159، 160). وانظر «مسند الشافعي» (ص 345).
(2)
في «السنن الكبرى» (8/ 45).
(3)
ساقط من (ط). والاستدراك من البيهقي.
(4)
(3/ 95).
(5)
كذا في (ط). وفي الدارقطني: «أنه» .
(6)
(3/ 95).
النبي صلى الله عليه وسلم
…
ففي ذلك الكتاب وهو عن النبي صلى الله عليه وسلم : قتلُ العِمِّيَّة ديتُه دية الخطأ، الحجر والعصا والسوط ما لم يحمل سلاحًا». ومن طريق
(1)
فالروايات الصحيحة تجعله عن طاوس من قوله أو عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وتُفسِّره
(2)
بما سمعت، وقد مرَّ توجيهُ ذلك في آخر الكلام على الحديث السابق، فلا متشبَّثَ فيه للحنفية.
[2/ 85] و «العِمِّيَّا» فسَّرها أهلُ الغريب ــ كما في «النهاية»
(3)
ــ بقولهم: «أن يوجد بينهم قتيلٌ يَعْمَى أمرُه، ولا يتبيَّن قاتلُه» .
وأخرجه الدارقطني
(4)
من طريق إدريس بن يحيى الخولاني: «حدثني بكر بن مضر، حدثني حمزة النصيبي، عن عمرو بن دينار، حدثني طاوس، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قُتِل في عِمِّيَّا رميًا تكون بينهم
…
». ثم أخرجه
(5)
من طريق عثمان بن صالح: «أنا بكر بن مضر، عن عمرو بن دينار
…
»، ومن وجه آخر
(6)
عن عثمان بن صالح: «نا بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن عمرو بن دينار» .
(1)
(3/ 95).
(2)
(ط): «وتفسيره» . والمثبت يقتضيه السياق.
(3)
(3/ 304).
(4)
(3/ 93).
(5)
(3/ 94).
(6)
(3/ 94).
حمزة النصيبى هالك، وعثمانُ بن صالح صالحٌ في نفسه، لكنه من الذين ابتلُوا بخالد بن نجيح، كانوا يسمعون معه، فيملي عليهم ويخلِّط. وخالد هالك.
قول الأستاذ: «ومنها حديث ابن عباس في دية القاتلة بمِسْطَح ــ وهو عود من أعواد الخِباء ــ أخرجه عبد الرزاق» .
أقول: جاءت القصة من رواية جماعة من الصحابة:
الأول: زوج المرأتين حَمَل بن مالك بن النابغة، ومنه سمعه ابن عباس. ففي «مسند أحمد» (ج 4 ص 80)
(1)
ورواه أبو داود
(2)
عن أبي عاصم عن ابن جريج بمعناه إلى قوله: «أن تقتل» . وبعده: «قال أبو داود: قال النضر بن شميل: المِسْطَح وهو الصَّوبَج. [و] قال أبو عبيد: المِسْطَح: عود من أعواد الخباء» .
ورواه البيهقي (ج 8 ص 43) من طريق عبد الرزاق بنحوه، وفيه من قول ابن جريج: «فقلت لعمرو: أخبرني ابن طاوس عن أبيه أنه قضى بديتها وبغُرَّة
(1)
رقم (16729)، وهو أيضًا فيه برقم (3439).
(2)
رقم (4572).
عن جنينها. قال: لقد شكَّكتني».
ورواه النسائي
(1)
من طريق عكرمة عن ابن عباس، وفيه:«فرمَتْ إحداهما [2/ 86] الأخرى بحجر» .
وروى الطبراني
(2)
من طريق أبي المَلِيح ابن أسامة الهذلي عن حَمَل بن مالك: أنه كان له امرأتان لِحْيانيَّة ومُعاويَّةٌ
…
فرفعت المُعاويَّة حجرًا فرمتْ به اللحيانيةَ وهي حُبْلى، فألقت جنينًا، فقال حَمَل لعمران بن عويمر (أخي القاتلة): أدِّ إليّ عقلَ امرأتي، فأبى. فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«العقل على العصبة» . وذكره ابن حجر في ترجمة عمران من «الإصابة»
(3)
.
الثاني: أخو المقتولة عُوَيم، ويقال: عويمر الهذلي. في ترجمته من «الإصابة»
(4)
: «أخرج ابن أبي خيثمة والهيثم بن كليب والطبراني
(5)
وغيرهم من طريق محمد بن سليمان بن سموأل
(6)
ــ أحد الضعفاء ــ عن عمرو بن تميم بن عُوَيم الهذلي، عن أبيه، عن جده قال: كانت أختي مُليكة وامرأةٌ منَّا يقال لها: أم عُفَيف
…
تحت رجل منا يقال له: حَمَل بن مالك
…
فضربتْ أمُّ عفيف أختي بمِسْطَحِ بيتها
…
».
(1)
(8/ 51، 52).
(2)
في «المعجم الكبير» (3484).
(3)
(7/ 501، 502).
(4)
(7/ 567، 568).
(5)
في «الكبير» (17/ 141).
(6)
كذا في الطبعة القديمة من «الإصابة» . والصواب «مسمول» كما في الطبراني و «ميزان الاعتدال» (3/ 569) والطبعة المحققة من «الإصابة» .
الثالث: أسامة بن عمير الهذلي. روى الطبراني
(1)
من طريق أبي المليح بن أسامة الهذلي عن أبيه قال: «أُتِي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بامرأتين كانتا عند رجل من هذيل يقال له: حَمَل بن مالك، فضربت إحداهما الأخرى بعَمود خباء، فألقت جنينها ميتًا. فأتى مع الضاربة أخ لها يقال له: عمران بن عويم
…
فقال عمران: يا نبيَّ الله إن لها ابنين هما سادة الحي، وهم أحقُّ أن يعقلوا عن أمِّهم. قال: «أنتَ أحقُّ أن تعقل عن أختك
…
». ذكره ابن حجر في ترجمة عمران من «الإصابة»
(2)
. وذكر في «الفتح»
(3)
أن الحارث بن أبي أسامة أخرجه من طريق أبي المليح، وفيه:«فخذفت إحداهما الأخرى بحجر» .
الرابع: المغيرة بن شعبة. وحديثه في «صحيح مسلم»
(4)
وغيره من طرق عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيد بن نَضْلة، عن المغيرة. وفيه:«بعمود فُسطاط» . وفي رواية للترمذي
(5)
: «بحجر أو عَمُود
(6)
فسطاط
…
». وروى النسائي
(7)
من طريق الأعمش عن إبراهيم قال: «ضربت امرأةٌ ضرَّتَها بحجر وهي حُبلى، فقتلتها بحجر
…
».
(1)
في «الكبير» (514).
(2)
(7/ 500، 501).
(3)
(12/ 248). والحديث في «بغية الباحث» (584)، وفيه: «فقذفت
…
».
(4)
رقم (1682). وأخرجه أحمد في «المسند» (18138)، وانظر تخريج المحققين.
(5)
رقم (1411).
(6)
في (ط): «عود» . والتصويب من الترمذي.
(7)
(8/ 51).
الخامس: أبو هريرة. وحديثه في «الصحيحين»
(1)
وغيرهما من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة «أن امرأتين من هذيل رَمتْ إحداهما الأخرى، فطرحَتْ جنينَها [2/ 87]
…
». وفي رواية أخرى في «الصحيحين»
(2)
من طريق يونس، عن ابن شهاب بسنده، وفيه: «فرمَتْ إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها
(3)
، وما في بطنها
…
». وفي «صحيح البخاري»
(4)
في باب الكهانة من كتاب الطب من طريق عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب: «
…
فرمتْ إحداهما الأخرى بحجر، فأصاب بطنها وهي حامل، فقتلَتْ ولدَها الذي في بطنها
…
». وفيه
(5)
: «ثنا قتيبة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن امرأتين رمَتْ إحداهما الأخرى بحجر، فطرحَتْ جنينَها
…
».
السادس: بُريدة الأسلمي. أخرج أبو داود
(6)
والنسائي
(7)
من طريق عبد الله بن بريدة عن أبيه أن امرأة حَذَفَتْ (أو خَذَفَتْ) امرأة، فأسقطَتْ
…
ونهى يومئذٍ عن الخذف».
هذا ما تيسَّر الإشارة إليه من طرق القصة. وقد رأيتَ الاختلاف في
(1)
البخاري (6904) ومسلم (1681).
(2)
البخاري (6910) ومسلم (1681/ 36).
(3)
في الأصل: «فقتلها» والتصويب من الصحيحين.
(4)
رقم (5758).
(5)
رقم (5759).
(6)
رقم (4578).
(7)
(8/ 47).
الفعل: أضربٌ هو، أم رميٌ، أم حَذْفٌ أم خَذْفٌ؟ وفي الآلة: مِسْطح ــ حجر ــ عمود فسطاط؟ والطريق العلمية في مثل هذا أن يُجمَع، فإن لم يمكن فالترجيح.
فقد يقال: أما الفعل فحَذْفٌ، لأن الحذف هو الرمي عن جانب، فكلُّ حذفٍ رَمْيٌ، ولا عكس. وإنما كان ذلك سببًا للنهي عن الخذف، لأن كلًّا منهما رميٌ بحجر، ولتقاربهما لفظًا. وقد يُطلق على الرمي ضربٌ كما مرَّ في بعض الروايات:«ضربت امرأة ضرَّتَها بحجر» .
وأما الآلة، فقد يقال: إنها حجرٌ كان صَوْبَجًا، وذلك أن في رواية زوج المرأة:«بمسطح» ، وفي رواية عنه:«بحجر» ، وفي رواية أخي المقتولة:«بمسطح» . و «المسطح» : كلمة مشتركة يطلق على الصَّوبج، وهو ما يرقَّق به العجين ويُخبَز، وقد يكون عند أهل البادية حجرًا. ويطلق على عمود الخباء والفسطاط. فجاء في رواية منصور، عن إبراهيم، عن عبيد، عن المغيرة:«بعمود فسطاط» . وفي رواية: «بحجر أو عمود فسطاط» . وفي رواية الأعمش عن إبراهيم: «بحجر» . فكأنه كان في أصل الرواية: «بمسطح» ، فحمله بعضُهم على أحد معنيَيه، وبعضهم على الآخر، وشك بعضهم. وفي رواية أبي المليح عن أبيه:«بعمود خباء» ، وفي الأخرى منه:«بحجر» ، فكأنه كان في الأصل «بمسطح». وفي رواية أبي هريرة في «الصحيحين»:«بحجر» ، ولم يُختلَف عليه. فإن اتجه ذاك التوجيه، وإلا فما اتفق عليه الشيخان أرجح.
إذا تقرَّر هذا فنقول: إن حذف المرأةِ صاحبتَها بحجر ليس مما يتبيَّن به مطلقًا قصدُ القتل.
[2/ 88] فإن قيل: عدم استفصال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدل على أن القتل بمثل ذلك شبهُ عمدٍ على كل حال.
قلت: لم يُذكر في شيء من الروايات اختلافٌ من الخصمين في القتل أعمد أم شبه العمد؟ ولا في موجبه، بل تقدم في رواية أبي المليح عن حَمَل:«فقال حَمَل لعمران بن عويمر (أخي القاتلة) أدِّ إليَّ عقلَ امرأتي، فأبى، فترافعا» . وفي روايته عن أبيه: «فقال عمران: يا نبي الله إنَّ لها ابنين هما سادة الحي، وهم أحقُّ أن يَعقِلوا عن أمهم» . فقد اتفق الخصمان قبل الترافع وبعده على أن في القتل ديةً على العاقلة، وإنما اختلفا في العاقلة التي تلزمها الدية في الواقعة: الأخ أم الابنان؟ ومعنى ذلك اتفاقهما على أن القتل شبه عمد.
وافرض أن خصمين ترافعا إلى قاض، فقال أحدهما: إن أختَ هذا قتلَتْ أختي شبه عمد، وهو عاقلتها، فأطالبه بالدية. فقال الآخر: قد صدق، ولكنْ للقاتلة بنون وهم أحقُّ أن يعقلوا عن أمهم. ألا ترى أنه لا حاجة بالقاضي إلى السؤال عن صفة القتل، لتصادُق الخصمين على أنه شبه عمد، وإنما اختلفا في غيره؟
قول الأستاذ: «وقد أعلّ أبو حنيفة حديثَ الرضْخ، كما سيأتي» .
أقول: في «تاريخ بغداد» (13/ 387 [403]) من طريق «بشر بن مفضَّل قال: قلت لأبي حنيفة
…
قتادة عن أنس أن يهوديًّا رضخ رأسَ جاريةٍ بين حجرين، فرضخ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين. قال: هذيان». فهل هذا إعلال؟!
قال الأستاذ (ص 80): وأما حديثُ الرضخ، فمروي عن أنس بطريق هشام بن
زيد وأبي قلابة عنعنة، وفيه القتل بقول المقتول من غير بيِّنة، وهذا غير معروف في الشرع، وفي رواية قتادة عن أنس إقرارُ القاتل، لكن عنعنة قتادة متكلَّم فيها». ثم راح يتكلم في أنس رضي الله عنه.
أقول: أما هشام، فهو هشام بن زيد بن أنس بن مالك، وحديثه هذا عن جدِّه في «الصحيحين»
(1)
وغيرهما. وهشام غير مدلس، وسماعُه من جدِّه أنس ثابت، ومع ذلك فالراوي عنه شعبة، ومن عادته التحفظ من رواية ما يُخشى فيه التدليس. وحديثه هذا في «الصحيحين» ، [2/ 89] ومن عادتهما التحرز عما يُخشى فيه التدليس. فسماعُ هشام لهذا الحديث من جدِّه أنس بن مالك ثابت على كل حال.
وأما أبو قلابة، فهو عبد الله بن زيد الجَرْمي، وقد قال فيه أبو حاتم:«لا يُعرف له تدليس» . وذكر ابن حجر في ترجمته من «التهذيب» ما يُعلم منه أن معنى ذلك أن أبا قلابة لا يروي عمن قد سمع منه إلا ما سمعه منه. وقد ثبت سماعه من أنس، كما في قصة العُرَنيين وغيرها، وحديثه في «الصحيح»
(2)
أيضا. فالحكم في حديثه هذا أنه سمعه من أنس.
أما قتادة فمدلِّس، لكنه قد صرَّح بالسماع. قال البخاري في «الصحيح»
(3)
في «باب إذا أقرَّ بالقتل مرة قُتِل به» : «حدَّثني إسحاق، أخبرنا حَبَّان، حدثنا همّام، حدثنا قتادة، حدثنا أنس بن مالك أن يهوديًّا رضَّ رأسَ جارية بين حجرين
…
فجيء باليهودي، فاعترف، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، فرُضَّ
(1)
البخاري (5295) ومسلم (1672).
(2)
البخاري (4193، 4610) ومسلم (1671).
(3)
رقم (6884).
رأسه بالحجارة. وقد قال همّام: بحجرين». وفي «مسند أحمد» (ج 3 ص 269)
(1)
: «ثنا عفان، قال: ثنا همام، قال: أنا قتادة أن أنسًا أخبره
…
فأُخِذ اليهوديُّ، فجيء به، فاعترف». وتمام الكلام في «الطليعة» (ص 101 - 103) وترجمةِ أنس من قسم التراجم، وفي مقدمة «التنكيل» أوائلَ الفصل الثالث وفي أثناء الفصل الخامس.
قال الأستاذ: «ومن رأيه (يعني أبا حنيفة) أيضًا أن القوَد بالسيف فقط تحقيقًا لعدم الخروج عن المماثلة المنصوص عليها في الكتاب» .
أقول: الخروج عن المماثلة كما يكون بالعدوان، فكذلك يكون بالنقصان. وكما أن العدل يقتضي منع الولي من الاعتداء، فكذلك يقتضي تمكينه من الاستيفاء. ومن قتل إنسانًا ظلمًا برضْخِ رأسه بالحجارة فالقصاص أن يُقتَل مثل تلك القِتلة.
فإن قيل: ربما يقع في هذا زيادةٌ ما في الإيلام؟
قلنا: وربما يقع نقصٌ ما، فهذا بذاك؛ على أنها إن وقعت زيادة، فخفيفة غير مقصودة ولا محقَّقة ولا مانعة من أن يقال: إنه قتل مثل قِتلته. وفي تمكين الوليِّ من ذلك شفاءٌ لغيظه، وتطييبٌ لنفسه، وزجرٌ للناس، وردعٌ عن الجمع بين القتل ظلمًا وإساءة القتلة. وقد شرع الله تبارك وتعالى رجمَ الزاني المحصَن إبلاغًا في الزجر، والقتل ظلمًا أشدُّ من الزنا. نعم، قال الله تبارك وتعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]. وكما أن العفو قد يكون بترك المجازاة البتة، فقد يكون
(1)
رقم (13840).
بتخفيفها، فغاية الأمر أن يكون الاقتصاص بضرب العنق أولى، وعلى هذا يُحمل ما ورد في ذلك على ضعفه ومعارضة غيره له. والله الموفق.