الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[2/ 210]
فصل
وأما المأخذ الخَلَفي الأول، وهو النظر المتعمَّق فيه، أعنى الكلامي والفلسفي، فقد تقدَّم بعض ما فيه.
وقد يقال: إن من شأنه أن يشهد للمأخذ السلفي الأول فيما أصاب فيه، ويكشف عن خطائه فيما أخطأ فيه، ويتغلغل إلى ما قَصَر عنه، وأن يبيِّن المراد من المأخذ السلفي الثاني؛ فعلى هذا لا معنى لنفور أهل الدين الحق عنه.
فأقول: أما من جهة النظر الإسلامي، فما يُخشَى من خطأ المأخذ السلفي الأول قد تكفَّل الشرعُ بكشف الحال فيه، كما أبطل نسبةَ الولد إلى الله عز وجل، واستبعادَ الحشر، واستحقاقَ غير الله عز وجل للعبادة، وغيرَ ذلك.
وما يقصُر عنه المأخذُ السلفيُّ الأول في العقائد قد تكفَّل الشرعُ ببيانه، فإن بقي شيء فالخوض فيه بدعة. وما يُخْشَى من الخطأ في فهم النصوص، لابد أن يكون في المأخذَين السلفيَّين ما يكشف الحق فيه ضرورةَ أنهما كافيان مُغنيان بشهادة العقل والشرع القاطعة، كما تقدَّم.
فبقي النظر المتعمَّق فيه لا حاجة إليه في معرفة العقائد في الإسلام، وهو مثار للشُّبُهات والتشكيكات كما يأتي، لا جَرَمَ وجب التنفير عنه والتحذير منه، وقد تقدم من الحجة على ذلك ما فيه غنًى لطالب الحقّ. فأما النظر فيه لكشف شبهات أهله، فسيأتي ما فيه إن شاء الله تعالى.
ولنذفِّفْ على هذا المأخذ بسلاح أهله، لينكشفَ عُوارُه، وتنهتكَ
(1)
(1)
(ط): "وتنتهك" خطأ.
أستارُه، وتندفعَ شبهةُ المغترِّين به والمرعوبين منه:
علماء المعقول يقسّمون العلم إلى ضروري ونظري، ويقولون: إن النظر إنما يحصل به العلم إذا كانت المقدّمة من الضروريات أو لازمة لها لزومًا تُعْلم صحته بالضرورة. ثم قسّموا [2/ 211] الضروريات إلى أنواع ردَّها بعضهم إلى ثلاثة: الوجدانيات، والحسّيات، والبديهيات. قالوا: والوجدانيات قليلة الفائدة في إقامة الحجة على المخالف، لأنه قد ينكر أن يكون يجد من نفسه ما يزعم المدَّعي أنه يجده. قالوا: فالعمدة في العلم هي الحسيات والبديهيات.
ثم ذكروا أن جماعةً من الفلاسفة ــ منهم على ما حكاه الفخر الرازي إماما الفلسفة أفلاطون وأرسطو ــ قدحوا في الحِسّيات، وأن آخرين قدحوا في البديهيات، وآخرين في الجميع؛ وأن قومًا قدحوا في إفادة النظر للعلم مطلقًا، وآخرين قدحوا في إفادته العلم في الإلهيات.
فأما القادحون في الحِسّيات، فاحتجوا بأن الحواس كثيرًا ما تغلط، وذكروا من ذلك أمثلةً تراها في "المواقف"
(1)
وغيرها، ومن تدبّر وجد كثيرًا من أمثالها. ثم قالوا: فهذه المواضع تنبَّهنا لغلط الحواسِّ فيها لوجود أدلة نبَّهتْنا على ذلك، فيحتمل في كثير من المواضع التي نرى الحواس فيها مُصيبةً أن تكون غَلَطًا في نفس الأمر، ولكن لم يتفق أن نطلع على دليل ينبِّهنا على ذلك. ومن الأصول المقررة أن عدم وجدان الدليل لا يستلزم عدمَ المدلول.
(1)
انظر "شرح المواقف"(1/ 127 وما بعدها).
أجاب العَضُد
(1)
وغيره بأن المدار على جزم العقل، وهو لا يجزم بمجرّد الإحساس بل مع أمور تنضمُّ إليه، لا يُدْرَى ما هي؟ ولا كيف حصلت؟ ولا من أين جاءت؟
أشار بعضهم إلى القدح في هذا الجواب بأن الجزم مقدوح فيه كما يأتي، أي أن العقل قد يجزم ثم يتبين خطاؤه، وبأننا إذا تأملنا أمثلة الغلط وجدنا منها ما كانت عقولنا تجزم فيها بالصحة قبل أن تشعر بالدليل الدال على الغلط.
أُجِيب بأن ذاك الجزم ظن قوي، ليس هو بالجزم اليقيني المشروط، وهذا الجواب لا يُجدي لاشتباه الجزمين. غاية الأمر أنكم سمَّيتم ما تبيَّن غلطُه: ظنًّا، وما لم يتبين غلطه: يقينًا. ولو فُرِض أنه تبيَّن الغلط في بعض ما تسمُّون الجزم فيه يقينًا لعُدْتُم فسمَّيتموه ظنًّا.
[2/ 212] ومما يقوِّي ذلك القدح أنه لو تواطأ جماعةٌ على تشكيك إنسان في بعض ما يحسُّ به ويجزم، ولم يشعر بتواطئهم، لأمكنهم تشكيكه. بل ربما يكفي لتشكيكه واحد، بل يتشكّك بنفسه إذا كان يرى أن هناك ما يحتمل التغليط كالسحر.
هذا، وقد ردّ علماء الطبيعة المتأخرون عدة نظريات ذهب إليها الفلاسفة مسندين لها إلى الحسّ. ومن ذلك ما كانوا جازمين به، ويبنون عليه مقالات أخرى حتى في الإلهيات. فثبت بهذا أن عقول الفلاسفة قد تجزم ببعض ما تغلَط فيه الحواسّ، ثم تبني عليه في الإلهيّات، وتَعدُّ ذلك
(1)
المصدر السابق (1/ 144، 145).
من اليقينيات التي يوجب أسلافُ الكوثري ردَّ ما يخالفها من كلام الله تعالى وكلام رسوله.
فإن قيل: فماذا يقول السلفيون؟
قلت: من تدبَّر أمثلة الغلط وجدها على ضربين: ضرب يُخْشى أن يكون سببًا قريبًا لمضار ومفاسد، وضرب لا يُخْشى فيه ذلك، لكن يُخشى أن يَغْلَط فيه المتعمّقون فيبنُوا عليه نظريات تعظم مفاسدها. ووَجَد الضربَ الأول جميعَه مما ينكشف فيه الحال عن قرب. فمنه أن الإنسان إذا تحاوَلَ
(1)
رأى الشيء اثنين، ولو كان هذا مما يتكرر للإنسان بغير شعوره لأوجب ضررًا ومفاسد، فاقتضت عناية الله عز وجل أن لا يكون ذلك، بل اقتضت أن يرى الأحولُ الشيء واحدًا كغيره، مع أنه كان يجب أن يرى الشيء اثنين كالمتحاول. وهذا كما اقتضت العناية أن يكون لكل إنسان صورة يمتاز بها عن جميع الناس، فلا يلتبس بصاحبك الذي عرفتَه معرفةً محقَّقةً أحدٌ من أهل الأرض. وهكذا ترى العناية شاملة. والله عز وجل إنما خلق الناس لعبادته، فإذا كانت عنايته بهم في معاشهم على ما تقدَّم، وهو وسيلة فقط، فأولى من ذلك عنايته بهم في المقصد الذي لأجله خلقهم. وهذا يقتضي حفظ المأخذ السلفي الأول عن أن يستمر فيه غلطٌ حِسِّيٌّ يؤدي إلى ضلال في الاعتقاد. على أنه لو كان شيء من ذلك لكشفه المأخذ السلفي الثاني، وهو الشرع.
(1)
أي: صرف إحدى عينيه عن الأخرى حتى ترى كلُّ واحدة منهما غير ما تراه الأخرى. [م ع].
فأما المتعمِّقون، فإنهم هم الذين يجلبون الضرر على أنفسهم، فلا بِدْعَ أن يكِلَهم اللهُ عز وجل إلى أنفسهم، بل ويزيدهم ضلالًا إلى ضلالهم. ونظير ذلك: أن الله تبارك وتعالى إنما هيّأ [2/ 213] للناس ابتداءً من الأسلحة ما لا يصيب به الإنسان في مرة واحدة إلا شخصًا واحدًا، وبذلك يحصل التكافؤ بين الناس، ويخفُّ ضرر الفتن. ولا تكاد تصيب من لم يتعرض لها
(1)
من الصبيان والنساء والعَجَزة والبهائم. ولكن الإنسان أخذ يدقِّق في اصطناع الأسلحة حتى اصطنع القنابل التي تُهلِك الواحدة منها ناحيةً بما فيها، ويفكِّر في اصطناع ما هو أشدُّ من ذلك.
وأما القادحون في البديهيات فاعتلّوا بأمور:
الأول: أن أجلى البديهيات قولنا: الشيء إما أن يكون، وإما أن لا يكون. قالوا: وإنه غير يقيني، وأوردوا للقدح في يقينيَّته عدة شبهات ذكرها وأجاب عنها صاحب "المواقف". فراجعه مع شرحه وحواشيه
(2)
، لتعلم ما يتضمنه النظر المتعمَّق فيه من التشكيك في أوضح الأشياء وأجلاها، تشكيكًا يشتمل على شبهات يصعب على الماهر حلُّها، وعلى من دونه فهمُ الحلِّ. ولو أُورِد بعض تلك الشبهات على أمرٍ خفيّ جاء به الشرع لجزم المتعمّقون بأنها براهين قاطعة.
الأمر الثاني: أننا نجزم بالعادِيّات
(3)
كجزمنا بالأوليات. فنجزم أن هذا الشيخ لم يتولد دفعةً بلا أب ولا أم، بل تولد منهما ونشأ بالتدريج
…
، وأن
(1)
(ط): "لهما" خطأ.
(2)
(1/ 151 وما بعدها).
(3)
من العادة.
أواني البيت لم تنقلب بعد خروجي أناسًا فضلاء، ولا أحجاره جواهر، ولا البحر دهنًا وعسلًا، مع أنه من الجائز خلاف هذا. أما عند المتكلمين، فلاستناد الأشياء جميعها إلى القادر المختار، فلعلَّه أوجبَ شيئًا من ذلك. وأما عند الحكماء، فلاستناد الحوادث الأرضية إلى الأوضاع الفلكية، فلعلَّه حدثَ شكل غريب فلكي لم يقع مثله، أو وقع ولكنه لم يتكرر مثله إلا في ألوف من السنين.
أجاب العَضُد بأنّ الإمكان لا ينافي الجزم كما في بعض المحسوسات. قال السيد في "شرحه"
(1)
: "فإنا نجزم بأن هذا الجسم شاغل لهذا الحَيّز في هذا الآن جزمًا لا يتطرق إليه شبهة، مع أن نقيضه ممكن في ذاته، فقد ظهر أن الجزم في العاديّات واقعٌ موقعَه".
كذا [2/ 214] قال الشارح. وفيه أن القادحين لم يستندوا إلى الإمكان الذاتي المشترك بين أمثلتهم ومثال الشارح، وإنما استندوا إلى احتمال الوقوع في نفس الأمر. فإن أحجار البيت كما يمكن بالإمكان الذاتي انقلابها جواهر، فإنه يحتمل وقوع الانقلاب بعد خروجك. وليس مثال الشارح هكذا، فإنه مفروض في الحاضر المشاهَد.
وقد قال تبارك وتعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} إلى أن قال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ
(1)
"شرح المواقف"(1/ 173).
تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [طه: 9 - 21].
فلما كان موسى عليه السلام مع أهله كانوا يشاهدون عصاه، فيجزمون بأنها عصا لم تنقلب حية؛ فهذا جزم كالجزم في مثال الشارح. ثم لما فارقهم، وأُمر بإلقاء عصاه، وانقلبت حيةً؛ إذا كان أهله ــ وهو غائب عنهم ــ يجزمون في الوقت الذي انقلبت فيه حيةً، يجزمون بمقتضى العادة أنها لم تنقلب حية= فهذا جزمٌ كالجزم في أمثلة القادحين. ولا يخفى الفرق بين الجزمين، وأنه لا يلزم من صحة الأول صحة الثاني، ولا من القدح في الثاني القدح في الأول، وأن الثاني في قصة أهل موسى مخالف للواقع، وفي أمثلة القادحين محتمل لذلك= فكيف يقال: إنه جزم واقع موقعه؟
دعْ عنك خرقَ العادة، ويغني عنه النقض العادي الذي لم يُعْهَد، كالرجل يُمسي بالمغرب، ثم يُصبح في المشرق. فإن هذا كان من المحال العادي عند الناس، فانتقض بالطيارات، فلو بقي الآن أهلُ جهة لم يسمعوا بخبر الطيارات لكانوا يجزمون بامتناع ما هو واقع بدون خرق عادة.
وربما يقال: لا يمتنع أن يكون مراد الشارح أن الاحتمال البعيد جدًّا لا ينافي الجزم، ففي مثاله يحتمل نقيض ما جزم به لاحتمال خطأ الحسّ، فكذلك احتمال خرق العادة.
والظاهر أن مراد المتن والشرح: أنه كما أن الحسَّ يحتمل الغلط ومع ذلك يسلِّم القادحون [2/ 215] في البديهيات أن ذلك لا يقتضي القدح في الحسيات مطلقًا، فهكذا يلزمهم في العاديات أن لا يقتضي احتمالُ الخرق القدحَ فيها مطلقًا.
وكأن العَضُد يقول في الجزم بالعادة مثل ما قاله في الجزم بالحس: إن المدار على جزم العقل، وهو إنما يجزم بأمور تنضم إلى الحس أو إلى العادة، لا يُدرى ما هي؟ ولا كيف حصلت؟ ولا من أين جاءت؟ فإذا كان هذا مراده، فقد تقدم في الكلام على الحسِّيات ما علمت.
والحق الذي لا ريب فيه: أن العقل قد يجزم في الحسيات بمجرد الإحساس، وفي العاديات بمجرد العادة، وإنما يقف إذا عرض له ما يشكِّكه. فالذي يجوِّز السحر إذا قال له من يثق به: إن هنا ساحرًا، فأدخله عليه، فناوله تفاحةً، فإنه لا يجزم بأنها تفاحة أثمرتها شجرة، بل يجوِّز أن تكون روثةً ــ مثلًا ــ وأن حسَّه أخطأ لأجل السحر، أو أن تكون روثة انقلبت تفاحة بعمل السحر، فلا يجزم هنا بإحساس ولا عادة. ومع هذا فإن هذا الذي يجوِّز السحر تجده حيث لا مظنة للسحر يجزم بالإحساس والعادة كما يجزم غيره. وقد يجزم، ثم تشكِّكه، فيرجع عن جزمه.
فالحق أن النفس قد لا تعرف وجه الاحتمال فتجزم، وقد تعرفه ولكنها تجحده فتجزم، وقد تعرفه وتعترف به وتستحضره، ولكنها تستبعده جدًّا، فتجزم
(1)
ولا تبالي به. فاحتمال الجزم للخطأ لا محيصَ عنه. وسيأتي اعترافهم بذلك.
فإن قيل: فماذا يقول السلفيون؟
قلت: قد مرَّ في الكلام على الحسيات ما فيه كفاية، ويُعْلَم منه الجواب عنهم في شأن البديهيات، ويأتي إن شاء الله تعالى لذلك مزيد.
(1)
(ط): "فيجزم" خطأ.
وأما العاديَّات، فهم يعترفون بجواز خرق العادة، وإنما يحتجُّون بها في مواطن:
الأول: حيث تكون من المأخذ السلفي الأول، بأن يعلم أن من شأنها أن تحمل الأميين على اعتقاد شيء في الدين، ولم يأتِ الشرعُ بما يخالفها. ووجهُ الاحتجاج هنا هو تقرير الشرع، مع القطع بأنها لو كانت مختلّة لكشف الشرعُ عن حالها.
الثاني: حيث تكون من المأخذ السلفي الثاني، كأن يتواتر أثر عن النبي صلى الله عليه [2/ 216] وآله وسلم في الدين. ووجهُ الاحتجاج هنا أن الخرق إنما يكون بفعل الله عز وجل، ومن الممتنع أن يقع الخرق هنا بأن يتواتر ما هو كذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدين. فإن هذا تضليل يتنزَّه الله عز وجل عن مثله.
فإن قيل: فقد رُوي أنه يظهر على يد الدجال بعض الخوارق.
قلت: قد كشف الشرعُ حالها بالدلالات القاطعة من المأخذين السلفيين على كذب الدجال. ولم يكتف بذلك، بل نصَّ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم على خروج الدجال وكذبه وظهور ما يظهر على يده، وأن ذلك ابتلاء محض.
الثالث: حيث لو فُرِضَ خرقُها لكان الخرقُ حجةً أخرى تقوم مقام العادة، كما تقول: إن من الحجة على إعجاز القرآن أن العرب لم يأتوا بسورةٍ مِن مِثله مع تحدِّيه لهم وتوفُّر الدواعي أن يفعلوا لو أمكنهم. ففي هذا القول إن فُرِض الخرقُ بأن يقال: لعلهم كانوا قادرين، ولكن صرفهم الله عز وجل، فهذا الصرف حجة أخرى على الإعجاز.
الرابع: حيث يكون مع العادة حُجَج أخرى لو فُرِض أن بعضها كالعادة لا يفيد إلا الظن لم يضرَّ ذلك؛ لأن القطع حاصل بالمجموع.
الخامس: حيث يكفي الظن. والله الموفق.
الأمر الثالث: أن للأمزجة والعادات تأثيرًا في الاعتقادات. فقويُّ القلب يستحسن الإيلام، وضعيف القلب يستقبحه، ومن مارس مذهبًا من المذاهب بُرْهةً من الزمان ونشأ عليه فإنه يجزم بصحته وبطلان ما يخالفه ....
قال العضد
(1)
: "والجواب: أنه لا يدل على كون الكل كذلك".
أقول: هذا حق، ولكن فيه اعتراف بأن ذلك واقع في كثير، وهذا كافٍ في القدح في جزم العقل في الجملة؛ لأنه إذا ثبت أن جزمه قد يكون خطأً لسبب لم يُؤمَن أن يكون خطأ في موضع آخر لذلك السبب أو لسبب آخر.
نعم، قد تتضح القضية جدًّا، فلا يُخْشى فيها ذلك، كقولنا: الثلاثة أقل من الستة. والقضايا التي يختصّ بها المتعمّقون ليست من هذا القبيل ولا قريبًا منه، ولا سيما قضاياهم التي [2/ 217] يناقضون بها المأخذين السلفيين، وكفى بمناقضتهما لها حجةً على اختلالها. فأما قضايا السلفيَّين فما لم يكن منها من ذاك القبيل فهو قريب منه، وقد أُمِنَ اختلالها بإقرار الشرع لها. فأما ما لم يقتصر الشرع على إقرارها، بل جاء على وَفْقها، فتلك الغاية.
الأمر الرابع: مزاولة العلوم العقلية دلّت على أنه يتعارض دليلان قاطعان بحسب الظاهر بحيث نعجز عن القدح فيهما، وما هو إلا للجزم بمقدماتهما مع أن أحدهما خطأ قطعًا.
(1)
"المواقف"(ص 19).
أجاب العضد
(1)
: بأن البديهي ما يُجْزَم فيه بتصوُّر الطرفين، فيتوقف على تجريدهما، فلعل فيه خللًا.
أقول: هذا اعتراف بأن الجزم قد يكون خطأ، فقد يكون هناك خلل يخفى على الناظر الماهر، فيجزم بأنه لا خلل. غاية الأمر أنه عند تعارض الدليلين العقليين يتنبه، فيعرف أن هناك خللًا، فكيف بما يلوح للمتعمّق من الدلائل العقلية بدون أن يلوح له ما يعارضه؟ فأما النصوص الشرعية، فإنهم لا يعتدُّون بها، على أن المتعمّقين ربما يرجّحون الدليل الخفيّ المعقَّد الذي هو مَظِنّة الخلل على البديهي الواضح، ميلًا مع الهوى ورعبًا ممن يرونه أمهرَ في التعمق منهم، ولأنه يصعب عليهم معرفة الخلل في الخفي المعقّد، ويسهل عليهم أن يدفعوا البديهي الواضح، بأن يقولوا: هذه قضية وهمية.
الأمر الخامس: أنا نجزم بصحة دليل آونةً، وبما يلزمه من النتيجة، ثم يظهر خطاؤه؛ فجاز مثله في الكل.
أجاب الشارح
(2)
بقوله: "لا نسلِّم أن مقدّمات الدليل الذي نجزم بصحته آونةً بديهيةٌ، ولئن سُلِّم ذلك فالبديهي قد يتطرّق إليه الاشتباه لخلل في تجريد طرفيه وتعقُّلهما على الوجه الذي هو مناط الحكم بينهما، وذلك لا يعم البديهيات".
أقول: هذا اعتراف بأن الناظر الماهر قد يجزم بأن المقدمة بديهية، والواقع أنها غير بديهية، وقد يجزم بعد تدبره وإنعام نظره أنه لا خلل. وتمام
(1)
المصدر نفسه (ص 19).
(2)
"شرح المواقف"(1/ 183).
الكلام كما مرَّ في "الأمر الرابع".
الأمر السادس: "أن في كل مذهب قضايا يدَّعي صاحبه فيها البداهة، ومخالفوه ينكرونها. وهو يوجب الاشتباه ورفع الأمان، فلنعدَّ عِدَّةً منها
…
". فذكروا إحدى عشرة قضية، ثم [2/ 218] قالوا
(1)
: "وقد أُجيب عنها بأن الجازم بها بديهة الوهم، وهي كاذبة، إذ تحكم بما ينتج نقائضها. قلنا: فيتوقَّف الجزم بها على هذا الدليل فيدور، وأيضًا فلا يحصل الجزم بما لا يتيقن
(2)
أنه لا ينتج نقيضه، ولا يتيقن، بل غايته عدم الوجدان".
لم يجب العضد عن هذا الأمر السادس ولا السيد، غير أنه قال
(3)
في الجواب عن تلك الأمور كلها: "وأُجيب عن ذلك بأنا لا نشتغل بالجواب عنها، لأن الأوليات مستغنية عن أن يُذَبّ عنها، وليس يتطرق إلينا شك فيها بتلك الشبه التي نعلم أنها فاسدة قطعًا، وإن لم يتيقن عندنا وجهُ فسادها".
أقول: لا ريبَ أن القدح في البديهيات بما يشمل الأوليات لا سبيل إليه، لأن هناك قضايا واضحة متفق عليها، وهؤلاء القادحون لم يدَّعوا ما يناقضها، وإنما حاولوا التشكيك فيها بما لا يُعتدّ به. وذلك كقولنا:"الثلاثة أقلُّ من الستة" و"الشيء أعظم من جزئه"، و"الشيء لا يكون موجودًا معدومًا معًا"، و"الجسم الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد بأن يكون كله في أحدهما وكله في الآخر". لكن الوثوق ببعض البديهيات لا يستلزم الوثوق بجميعها، وقد اعترف بذلك المحتجون بها، فبقي الكلامُ معهم في هذا.
(1)
"المواقف"(ص 19، 20).
(2)
كذا في (ط). وفي المواقف: "الجزم ما لم يتيقن
…
"، وهو المناسب للسياق.
(3)
"شرح المواقف"(1/ 186).
فيقال لهم: تلك القضايا المعدَّدة في الأمر السادس وهي إحدى عشرة، وما يشبهها اعترفتم جميعًا بأنها بديهية، ثم اختلفتم في الأخذ بها. وكلُّ فرقة منكم تزعم أن ما أخذت به من تلك القضايا بديهي عقلي يقيني، وأن ما ردّته منها بديهي وهمي. فإن كان مردُّ ذلك إلى التحكُّم، مَنْ هَوِيَ قضيةً قال: إنها بديهية عقلية تفيد اليقين، ومن خالفت هواه قال: بديهية وهمية= فهذا ليس من العلم في شيء.
وإن كان المردُّ إلى الجزم، فمن أحسَّ بأنه جازم بالقضية قال: عقلية يقينية، ومن أحسّ بأنه مرتاب فيها قال: وهمية= فهذا قريب من سابقه، إذ قد ثبت أن الجزم يخطئ ويغلط؛ وقد تقدَّم أدلةٌ على ذلك، وكفى بالاختلاف في هذه القضايا دليلًا.
وإن كان المردُّ إلى قوة المعارض، فمن لم يقوَ عنده معارض القضية سمَّاها: عقلية، وقطع بها. ومن قَوِي عنده المعارض سمَّاها وهمية، فردَّها= فهذا كسابقيه، إذ غايته الجزم بالقضية أو الجزم بمعارضها، وقد ثبت أن الجزم يخطئ ويغلط.
[2/ 219] وإن كان هناك معيار صحيح، فما هو؟ قالوا: المعيار أن تُعرض القضية البديهية المنظور فيها على البديهيات الأخرى، فإن وُجد فيها ما يُنتج نقيضَ هذه القضية علمنا أن هذه وهمية.
قلت: هَبُوا أني تمسّكتُ بقضية بديهية، وقلت: إنها عقلية يقينية، فخالفني مخالف وذكر بديهيةً أخرى زعم أنها عقلية يقينية، وأنها تُنتج نقيضَ قضيتي، فقد لا أُسَلّم أن القضية التي ذكرها عقلية يقينية، بل أحتجّ على أنها وهمية بإنتاجها نقيض قضيتي، وما أنتجَ نقيض الحق فهو باطل. وإن سلّمتُ
أن قضيته عقلية، فقد لا تكون من القضايا المتفق عليها بين العقلاء، وإذا لم تكن منها لم يُؤمَن أن تكون في نفس الأمر وهميةً وتابعتُ صاحبي على الخطأ. وإن كانت من القضايا المتفق عليها بين العقلاء أو بيني وبين صاحبي فقد لا أسلِّم صحة استنتاجه، إذ غايته أن تكون صحته بديهية، فلعلّ بداهته وهمية، بدليل مناقضته لقضيتي، وما ناقض الحقَّ فهو باطل. فالمعيار الذي ذكرتم لا يفيد إلا حيث تكون القضية المعتبر بها من القضايا المتفقِ عليها بين العقلاء، وتكون صحة إنتاجها كذلك، وهذه فائدة ضئيلة لا تتأتى في شيء من القضايا التي اختلفتم فيها.
فإن قيل: فماذا يقول السلفيون؟
قلت: يقولون: القضية المحتاج إلى التثبُّت فيها
(1)
إما غير ماسَّة بالدين البتةَ، وإما ماسَّة به.
فالأولى لا شأن لهم بها، بل يدَعُونها لعلماء الطبيعة.
وأما الثانية، فإما أن لا تكون من المأخذ السَّلفي الأول، وإما أن تكون منه.
فالأولى لا يعتدُّون بها، إلا أن بعضهم قد يتعرّض لها إذا وافقت المأخذين السلفيَّين.
وأما الثانية، فيحكِّمون فيها الشرع، فإن وجدوه جاء بما يخالفها علموا أنها باطلة، وإن وجدوه أقرَّ الناسَ على اعتقادهم الديني بحسبها علموا أنها حق؛ لأن الشرع لا يُقرّ على مثل هذا إلا وهو حق. فأما إذا زاد الشرع فجاء على وَفْقها، فتلك الغاية.
(1)
احتراس من القضايا الواضحة، ومنها ما لا يثبت أصل الشرع إلا به. [المؤلف].
فهذا المعيار هو الذي ارتضاه الله عز وجل لعباده، وكره لهم ما عداه. فهو الصراط المستقيم، [2/ 220] وسبيل الله، وسبيل المؤمنين. وله مزايا لا تُحْصى.
منها: أنه أتمُّ وأعمُّ من معيار المتعمّقين الضئيل الفائدة.
ومنها: أنه لا يؤدِّي إلى ما وقعوا فيه من الخروج عن الشرع والعقل بنسبتهم الكذب إلى الله تعالى ورسله، كما يأتي شرحه.
ومنها: أنه لا يؤدي إلى الاختلاف في الدين وتفريقه، بدليل أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يختلفوا. فإن أدَّى إلى اختلافٍ مَّا فلا يكاد يكون إلا من قبيل الاختلاف في فروع الفقه، لا يلزم المخطئَ فيه كفر ولا ضلال. على أنه إن خيف اختلاف في الدين كان الواجب على الأكثر في زمن غَلَبة الخير عدم التدقيق، وعلى الأقل كتمان قولهم، كما جرى عليه السلف في مسألة القَدَر.
ومنها: أن المخطئ إذا لم يقصّر تقصيرًا بيِّنًا يرجى له العفو، لأنه لم ينشأ خطاؤه عن اتباع غير سبيل المؤمنين، والتماس الهدي من غير الصراط المستقيم.
ومنها: تيسُّر المعرفة بدون خروج عن الصراط المستقيم ولا اتباع السبل المفرقة عن سبيل الله عز وجل. إذ يكفي للمعرفة العلمُ بكتاب الله تعالى وسنة رسوله، بدون حاجة إلى التعمّق والمنطق والفلسفة.
ومنها: أن العامة لا يحتاجون معه إلى التقليد المريب المُوقِع للمسلمين في الاختلاف والتفرُّق والتنابذ والتنابز والفتن، لأن القضية إما أن يتفق عليها
علماء الدين فتكون إجماعًا، وإما أن لا يظهر فيها مخالفة إلا ممن يشذّ، فيكون اتباع الجمهور المعلوم أنهم إنما يتبعون كتاب الله تعالى وسنة رسوله أخذًا بالراجح الواضح.
وهذا إنما يحتاج إليه في فروع العقائد التي لا يضرُّ عدم استيقانها. هذا مع أنه يسهل على العلماء أن يذكروا للعامة الحجة النقلية، فيفهمها العامة فيكونون متبعين للشرع، وبذلك تطمئن قلوبهم، ويزيد إيمانهم، ويعظم ثوابهم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وأما القادحون في الجميع، فهم السوفسطائية. وهم ثلاث فرق، أمثلها وأفضلها كما في "المواقف" و"شرحها"
(1)
اللاأدرية، يشكُّون في كل شيء.
الثانية: العنادية، يزعمون أن لا موجود أصلًا.
الثالثة: العندية، يقولون: حقائق الأشياء تابعة للاعتقاد، فمذهب كل طائفة حق بالنظر إليهم، وليس في نفس الأمر شيء بحق.
[2/ 221] قال السيد في "شرح المواقف"
(2)
: "إنما نشأ هذا من الإشكالات المتعارضة
…
وبالجملة ما من قضية بديهية أو نظرية إلا ولها معارضة مثلها في القوة تقاومها".
أقول: فيعلم بهذا أن طريق المتعمّقين مشتبهة مُوقِعةٌ في كثرة الخطأ والغلط والاختلاف والارتياب والجنون، وحُقَّ لمن رغب عن سبيل الله عز وجل وابتغى الهدى في غيرها أن يقع في مثل هذا التيه.
(1)
"المواقف"(ص 21) و"شرحها"(1/ 186).
(2)
(1/ 187).
وأما القادحون في إفادة النظرِ العلمَ مطلقًا فهم السُّمَنِيَّة، وتمسكوا بوجوه سأحاول حكاية بعضها، وما أجيب به عنها
(1)
بالمعنى تقريبًا للفهم.
الوجه الأول: إفادة النظر الصحيح للعلم لا تُعْلَم، إذ لو عُلِمتْ فإما بضرورة أو نظر، وكلاهما باطل. أما الضرورة فلاختلاف الناس في ذلك وللجزم بأنه دون قولنا:"الواحد نصف الاثنين" في القوة، وليس ذلك إلا لاحتمال النقيض ولو على أبعد وجه. وأما النظر فلاستلزامه إثبات الشيء بنفسه.
أجاب بعضهم باختيار الضرورة، وأن الضروريّ قد لا يكون تصوُّرُ طرفَيْه جليًّا، ولا تجريدهما سهلًا، ولا يكثر وروده على الذهن فيؤلَفَ ويُسْتأنسَ به؛ فمثلُ هذا قد يخالف فيه قليل من الناس، ويُدرِكُ أنه دون قولنا:"الواحد نصف الاثنين"؛ وذلك لا يُخرِجه عن كونه ضروريًّا. واختار بعضهم النظر، وأجابوا بما فيه طول وتعقيد، فراجعه في "المواقف" و"شرحها"
(2)
، لما قدّمناه في أول الكلام مع منكري البديهيات.
الوجه
(3)
الثاني: الاعتقاد الجازم عقب النظر لا يُعلَم أنه عِلْم، لأنه لا يُعْلَم إلا بضرورة أو نظر، وكلاهما باطل. أما الضرورة فلأنه "قد يظهر للناظر بعد مدة بطلانُ ما اعتقده وأنه لم يكن علمًا وحقًّا، وكذلك نقل المذاهب ودلائلها لما مرَّ من أنه قد يظهر صحة ما اعتقد بطلانه وبالعكس". كذا في
(1)
انظر "المواقف"(ص 24 - 26) و"شرحها"(1/ 219 وما بعدها).
(2)
(1/ 220، 221).
(3)
الأصل: "الأمر" وكذا ما سيأتي، وقد سبق أنه يذكر الوجوه، ثم قال:"الوجه الأول"، فغيرناها لتتوافق.
"المواقف" و"شرحها"
(1)
.
وأما النظر فلاحتياجه إلى نظر آخر، ويتسلسل.
[2/ 222] أجاب العضد
(2)
بقوله: "الذي يظهر خطاؤه لا يكون نظرًا صحيحًا والنزاع إنما وقع فيه".
الوجه الثالث: النظر لا يفيد العلم إلا إذا عُلِم عدمُ المعارض، إذ معه يحصل التوقف، "وعدمه ليس ضروريًّا وإلا لم يقع المعارض، أي لم ينكشف وجوده
(3)
بعد النظر، وكثيرًا ما ينكشف، فهو نظري ويحتاج إلى نظر آخر، وهو أيضًا محتمل لقيام المعارض، ويتسلسل". كذا في "المواقف" و"شرحها"
(4)
.
أجاب العضد
(5)
بقوله: "النظر الصحيح
(6)
في المقدّمات القطعية كما يفيد العلم بحقية النتيجة يفيد العلم بعدم المعارض، فعدم المعارض في نفس الأمر ضروري".
الوجه الرابع: "الاعتقاد الجازم قد يكون علمًا لكونه مطابقًا مستندًا لموجب، وقد يكون جهلًا لكونه غير مطابق مستندًا إلى شُبهة أو تقليد، فلا يمكن التمييز بينهما. فإذًا ماذا يُؤمِننا أن يكون الحاصل عقيب النظر جهلًا؟ ".
(1)
(1/ 220).
(2)
"المواقف"(ص 24).
(3)
(ط): "وجود".
(4)
(1/ 224).
(5)
"المواقف"(ص 24).
(6)
(ط): "صحيح" خطأ.
لخّصت هذه العبارة من "المواقف" و"شرحها"
(1)
.
قال العضد
(2)
: "هذا إنما يلزم المعتزلةَ القائلين بمماثلة الجهل للعلم".
قال الشارح
(3)
: "أما نحن (أي الأشعرية) فنقول: إذا حصل للناظر العلم بالمقدمات الصادقة القطعية وبترتيبها المُفْضي إلى المطلوب، فإنه يعلم بالبديهة أن اللازم عنه علم لا جهل".
أقول: إذا كان القادحون يسلّمون إمكان علم الناظر بأن نظره صحيح علمًا يقينيًّا باتًّا، فلا ريب في سقوط شبهاتهم هذه والسبع الباقية المذكورة في "المواقف"
(4)
. وإن كانوا يمنعون ذلك ويقولون: غايته أن يجزم، وهذا الجزم لا يوثق به، فكلامهم قويّ بالنسبة إلى النظر المتعمّق فيه في الإلهيات ونحوها. وليس فيما أُجيب به عن ذلك ما يُجدِي، إذ غايته أنه إذا عُلِمَت صحة النظر علمًا يقينيًّا باتًّا حصل العلم بالنتيجة قطعًا، وحصل العلم بأن ذلك علم، وحصل العلم بعدم المعارض، وحصل الأمن من أن يكون الاعتقاد جهلًا. وهذا إنما يفيد إذا ثبت إمكان العلم اليقيني الباتّ بصحة النظر، فيبقى البحث في هذا الإمكان. ولا ريب أنه ليس عند الناظر في النظر المتعمّق فيه في الإلهيات ونحوها إلا جزمه بالصحة إن صَدَق في دعوى الجزم، وهذا الجزم قد ثبت بالتجارب الكثيرة والدلائل الواضحة أن مثله كثيرًا ما يكون [2/ 223] خطأ وغلطًا، واعترف المتعمّقون بذلك كما مرّ
(1)
(1/ 234).
(2)
"المواقف"(ص 26).
(3)
(1/ 234).
(4)
(ص 24 - 25).
مرارًا. وإذا احتمل ــ ولو على غاية البعد ــ أن يكون الجزم خطأ لم يكن الجزم بصحة النظر علمًا بصحته، ولا الجزم بإفادته العلم علمًا بذلك، ولا الجزم بأن ما أفاده عِلْمٌ عِلْمًا بذلك، ولا الجزم بعدم المعارض علمًا بعدمه، ولا يحصل الأمن من أن يكون كل ذلك جهلًا.
فإن قيل: إننا نقطع مع هذه الشبهات كلِّها بأن من الأنظار ما هو صحيح.
قلت: إن كان المراد الصحة في الجملة أي أنه يمتنع أن تكون الأنظار كلها فاسدة، فهذا لا يُجدي في الأنظار الجزئية واحدًا واحدًا، وإنما يفيد في كل منها الاحتمال. فكلُّ نظر يُجزم بصحته، فإنه يحتمل أن يكون فاسدًا في نفس الأمر، ولا ينافي ذلك امتناع أن يعمَّ الفسادُ جميعَ الأنظار.
وإن كان المراد القطع في بعض الأنظار بعينها، فهذا لا يسلَّم بالنسبة إلى النظر المتعمَّق فيه في الإلهيات ونحوها. وإنما غاية ما يحصل لكم في ذلك الجزم، وقد علمتم ما فيه. وإنما يسلّم في القضايا السهلة الواضحة التي تؤول إلى البديهيات المتفق عليها عن قُرْب.
نعم قد يحصل القطع بالأمر لدليل آخر غير النظر الدقيق، كاجتماع أدلة يحصل اليقين بمجموعها، وكأن تكون القضية بديهية قوية، وهي في الدين ويُقِرُّها الشرع؛ وكأن يصرِّح بها الشرع تصريحًا لا يمكن تأويله إلا بحمله على الكذب أو التلبيس. وسيأتي شرح هذا إن شاء الله تعالى. لكن اليقين بهذه القضايا لا يستلزم صحةَ نظرٍ دقيقٍ يوافقها بنتيجته، إذ قد تصحّ النتيجة مع فساد النظر، كما لو أشرتَ إلى جسم أبيض وقلتَ: هذا جسم وكل جسم أبيض، فإن النتيجة "هذا أبيض" وهي صادقة، والنظر فاسد، كما لا يخفى.
وأما القادحون في النظر في الإلهيات فقالوا: إن النظر إنما قد يفيد العلم في الهندسيات والحسابيات، دون الإلهيات، فإنها بعيدة عن الأذهان جدًّا، والغاية القصوى فيها الظن والأخذ بالأحرى والأخلق. واحتجوا بوجهين:
الأول: الحقائق الإلهية من ذاته تعالى وصفاته لا تُتَصوَّر، والتصديق بها فرع التصور.
الثاني: أقرب الأشياء إلى الإنسان هُويَّتُه التي يشير إليها بقوله: "أنا" وإنها غير معلومة، لا من حيثُ وجودُها فإنه لا خلاف فيه، بل من حيث تصوُّرُها بكنهها، ومن [2/ 224] حيث التصديقُ بأحوالها من كونها
(1)
عَرَضًا أو جوهرًا، مجردًا أو جسمانيًّا، منقسمًا أو غير منقسم. وقد كَثُر الخلاف فيها كثرةً لا يمكن معها الجزم بشيء من الأقوال المختلفة. وإذا كان أقربُ الأشياء إلى الإنسان هذا حاله، فما الظنُّ بأبعدها؟
ذُكِر هذا كلُّه في "المواقف"
(2)
، ثم ذكر أنه أُجيب عن الوجه الأول بأنه يكفي التصوُّر بعارض يكون هو مناط الحكم. وعن الثاني بقوله:"لا نسلّم أن هوية الإنسان غير معلومة له، وكثرة الخلاف فيها لا تدل إلا على العسر". قال السيد في "شرحه"
(3)
: "فلم يثبت بما ذكرتم أن هناك نظرًا صحيحًا لا يفيد علمًا، بل ثبت أن تميُّز النظر الصحيح عن غيره [في شأن الهوية] مشكل جدًّا، فيكون ذلك في الإلهيات أشكل، ولا نزاع فيه".
(1)
(ط): "لونها" خطأ.
(2)
(ص 26).
(3)
(1/ 238).
أقول: الذي يظهر من كلام القادحين وما استدلوا به أنهم لم يزعموا أن النظر الصحيح في الإلهيات لا يترتب عليه نتيجة صادقة، ولا أنه لا يمكن فيها نظر صحيح في نفس الأمر. وإنما زعموا أنه لا يمتاز فيها النظر الصحيح من غيره لشدة البعد والغموض والاشتباه والإشكال، فلذلك لا تُعْلَم صحةُ النظر علمًا يوثَقُ به، فلا تُعْلَم صحة النتيجة، فلا يفيد علمًا. وعلى هذا، فلهم أن يقولوا: التصوُّر بعارض يكون هو مناطَ الحكم محلُّ غموضٍ واشتباه شديد، لاحتمال مخالفة الإلهيات لغيرها في العوارض وما يترتب عليها. والعُسْرُ وشدةُ إشكال تمييز النظر الصحيح من غيره في شأن الهوية، وكونُه في الإلهيات أشدَّ وأشدَّ= كافٍ في القدح، إذ غاية ما قد يحصل للناظر أن يجزم، وقد تقدم مرارًا أن الجزم كثيرًا ما يكون خطأً وغلطًا. إذا كان قد يقع ذلك في الحِسّيات ونحوها، فما الظن بما هو من البُعْد والإشكال بالدرجة القصوى؟
هذا، ويردُّ على القادحين أن من أحوال الإلهيات ما هو على خلاف ما ذكروا، كالعلم بوجود الخالق عز وجل، وبأنه حيٌّ عليم قدير حكيم. لكن لهم أن يقولوا: أما ما كان من هذا القبيل، فهو من الضروريات، كعلم الإنسان بوجود هويَّته وبعض صفاتها، أو أوضح من ذلك. وإنما دخل التشكك من جهة النظر المتعمَّق فيه، وتجاهل وهنِه، حتى جرَّ أصحابه إلى إنكار الضروريات، كما وقع للسوفسطائيين وغيرهم.
[2/ 225] أقول: فعلى هذا يختص القدح بالنظر المتعمَّق فيه. فأما السلفيون فإنما يعتمدون المأخذ السلفي الأول لإثبات جلائل الأمور التي أعدَّه الخالق عز وجل لإدراكها. وبذلك يثبت الشرع يقينًا، فيسلِّمون أنفسهم لخبر من يمتنع عليه الجهل والخطأ والكذب والتلبيس والتقصير في البيان.
فقد اتضح بحمد الله عز وجل أن النظر العقلي المتعمَّق فيه كثيرًا ما يُوقِع في الغلط، إما بأن يبنيَ على إحساس غلط لم يتنبه لغلطه، وإما بأن يبنيَ على قضية وهمية يزعمها بديهية عقلية، وإما بأن يبنيَ على شُبهة ضعيفة فيردَّ بها البديهية العقلية زاعمًا أنها وهمية، وإما بأن يبنيَ على لزوم باطل يراه حقًّا. وقد تبيَّن بالفلسفة الحديثة المبنية على الحسّ والتجربة وتحقيق الاختبار بالطرق والآلات المخترعة غَلَطُ كثير من نظريات الفلسفة القديمة في الطبيعيات. وكثير من تلك النظريات كانت عند القوم قطعية يبنُون عليها ما لا يُحْصَى من المقالات حتى في الإلهيات، فما ظنك بغلطهم في الإلهيات؟ وهم إنما يعتمدون فيها على قياس الغائب على الشاهد، فقد يقع الغلط في اعتقاد مشاركة الغائب للشاهد في بعض الأمور، أو في اعتقاد مخالفته له، أو في اعتقاد اللزوم في الشاهد لبنائه على استقراءٍ ناقص أو غيره من الأدلة التي لا يؤمَن الغلط فيها، أو في اعتقاد أنه غير محقَّق إذا لزم في الشاهد لزم في الغائب، أو في تركيب القياس، أو غير ذلك مما يشتبه ويلتبس، كما يتضح لمن طالع كتب الكلام والفلسفة المطوَّلة، ولاسيما إذا طالع كتب الفريقين المختلفين كالأشاعرة والمعتزلة. فالنظر العقلي المتعمَّق فيه مع أنه لا حاجة إليه في معرفة الحق ــ كما تقدم ــ فهو مظنة أن يشكِّك في الحقائق، ويُوقع في اللبس والاشتباه والضلال والحيرة.
وتجد في كلام الغزالي وغيره ما يصرِّح بأن النظر العقلي المتعمَّق فيه لا يكاد ينتهي إلى يقين، وإنما هي شُبهات تتقارع، وقياسات تتنازع. فإما أن ينتهي الناظر إلى الحَيْرة، وإما أن يعجز فيرضى بما وقف عنده ولاسيما إذا كان موافقًا لهواه، وإما أن لا يزال يتطوَّح بين تلك المتناقضات حتى يفاجئه الموت.
وقد قال الغزالي في "المستصفى"(1/ 43): "أما اليقين فشرحه أن النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا، وسكنت إليها، فلها ثلاثة أحوال:
[2/ 226] أحدها: أن تتيقن وتقطع به. وينضاف إليه قطعٌ ثانٍ، وهو أن تقطع بأن قطعها به صحيح، وتتيقن بأن يقينها فيه لا يمكن أن يكون به سهو ولا غلط ولا التباس. فلا تجوِّز الغلط في يقينها الأول ولا في يقينها الثاني، ويكون صحة يقينها الثاني كصحة يقينها الأول، بل تكون مطمئنة آمنة من الخطأ، بل حيث لو حُكِي لها عن نبيّ من الأنبياء أنه أقام معجزة وادعى ما يناقضها، فلا تتوقف في تكذيب الناقل، بل تقطع بأنه كاذب، أو تقطع بأن القائل ليس بنبيّ وأن ما ظُنّ أنه معجزة فهي مَخْرَقة. فلا يؤثّر هذا في تشكيكها، بل تضحك من قائله وناقله. وإن خَطَر ببالها إمكانُ أن يكون الله قد أطْلَع نبيًّا على سرٍّ به انكشف له نقيضُ اعتقادها، فليس اعتقادها يقينًا. مثاله قولنا: الثلاثة أقل من الستة، وشخص واحد لا يكون في مكانين، والشخص الواحد لا يكون قديمًا حادثًا، موجودًا معدومًا، ساكنا متحرِّكًا، في حالٍ واحدة.
الحال الثانية: أن تصدِّق بها تصديقًا جزمًا، ولا تشعر بنقيضها البتة. ولو أُشعِرتْ بنقيضها تعسَّر إذعانُها للإصغاء إليه. ولكنها لو ثبتت، وأصغَتْ، وحُكي لها نقيضُ معتقدها عمن هو أعلى
(1)
الناس عندها كنبيّ أو صدِّيق [أو جمعٍ من الفلاسفة وكبار المتكلمين أو المتصوفة]
(2)
= أورث ذلك فيها
(1)
كذا في (ط). وفي المستصفى: "أعلم".
(2)
ما بين المعكوفين زيادة من المؤلف أو من الشيخ عبد الرزاق حمزة على كلام الغزالي.
توقفًا. ولنسمِّ هذا الجنس اعتقادًا جزمًا، وهو أكثر اعتقادات عوام المسلمين واليهود والنصارى في معتقداتهم وأديانهم، بل اعتقاد أكثر المتكلمين في نصرة مذاهبهم. فإنهم قَبِلوا المذهب والدليل بحسن الظنّ في الصِّبا، فوقع عليه نَشْؤهم. فإن المستقلّ بالنظر الذي يستوي ميلُه في نظره إلى الكفر والإسلام عزيز.
الحال الثالثة: أن يكون لها سكون إلى الشيء والتصديق به. وهي تُشعر بنقيضه أو لا تُشعر، ولكن لو أُشْعِرت لم ينفِر طبعُها عن قبوله. وهذا يسمى ظنًّا، وله درجات
…
".
أقول: إذا قُرِن هذا بما تقدم في حال النظر المتعمَّق فيه في الإلهيات تبيَّن بيانًا واضحًا أن غالب أقيسته أو عامتها خصوصًا ما يخالف المأخذين السلفيين لا تفيد اليقين، بل تَقْصُر عند النُّظَّار العارفين عن إفادة الاعتقاد الجازم.
[2/ 227] فإن قيل: فكذلك أو قريب منه أدلة المأخذين السلفيين، لأنها تقبل التشكيك ولو بصعوبة.
قلت: أما جلائل الأدلة من المأخذ السلفي الأول، وهي التي يتوقَّف عليها ثبوتُ أصل الشرع، فإنها تقبل التشكيك عند من ابتُلِي بالنظر المتعمَّق فيه. وهذا لا يضرُّنا، فإن من هؤلاء من شكَّ في البديهيات كلها، ومنهم من يشكّ في كل شيء، ومنهم من يجحد كلّ شيءٍ فيقول: ليس في نفس الأمر شيء بحقٍّ، كما تقدم. على أننا إن سلّمنا قبول التشكيك مطلقًا، فإننا نقول: إن ذلك إنما يكون في حقِّ من لم يقبل الشرع الحق ويمتثل أوامره. ووجوب قبول الشرع يكفي فيه العلم بأنه أولى بالحق والصدق والنجاة والسعادة،
وهذا يحصل قطعًا لكل مكلَّف أصغى للحجة. فإذا قَبِل الإنسانُ الشرع وامتثل أوامره مع صدق رغبةٍ في الحق هيَّأ الله تعالى له اليقين بما شاء، إن لم يكن بدليل واحد فبمجموع أدلة كثيرة، وفوق ذلك العناية. قال تعالى:{أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22].
وقال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14].
كلمة "لمَّا" تؤذِن بأن المنفيّ بها هو بصدد أن يثبت قريبًا، فهذا وعد من الله عز وجل بأن يُدْخِل الإيمان في قلوبهم جزاء لقبولهم الإسلام.
وقوله: {وَإِنْ تُطِيعُوا
…
} قال بعض أهل العلم: المعنى إنكم إن أطعتم، رزقكم الله تعالى الإيمانَ، فتستحقون ثواب الأعمال.
وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17].
وقال تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر: 36 - 37].
وقد ذكر الغزاليّ نفسُه أنه كان في أول أمره يشكّ في كل شيء حتى البديهيات [2/ 228] الضرورية الأولية. قال
(1)
: "حتى شفى الله تعالى عني ذاك المرض والإعلال، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية موثوقًا بها على أمن ويقين. ولم يكن ذلك بنظم دليل
(1)
في "المنقذ من الضلال"(ص 86) ط. دار الأندلس.
وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدور، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف". نقله عنه شارح "العقيدة الأصفهانية" (ص 94 - 95)
(1)
، ونقل عنه (ص 98)
(2)
: "وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستُها والمسالك التي سلكتُها في تفتيشي عن صنفَي العلوم الشرعية والعقلية إيمانٌ يقيني بالله تعالى، وبالنبوة، واليوم الآخر. وهذه الأصول الثلاثة كانت رسخت في نفسي بلا دليل محرّر، بل بأسباب وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها".
أقول: وذاك النور الذي يقذفه الله تعالى في الصدور ليس لكل أحد، فإنه لم يحصل لمنكري البديهيات، وقد ذكر الغزالي أنه بقي نحو شهرين على الشكّ. بلى قد يقال: إنه في الأصل بالنسبة إلى الضروريات عامٌّ، ولكن من خاض في النظر المتعمَّق فيه وحاول اكتساب اليقين من جهة النظر احتجب عنه ذلك النور. فإن استمرَّ على ذلك استمرّ على الشك كالسوفسطائية، وإن رجع إلى القناعة بالفطرة عاد له ذلك النور كما وقع للغزالي. وكذلك ليس قذفُ النور محصورًا في الضروريات العقلية التي يعنيها
(3)
الغزالي، بل يتناول جميع القضايا العقلية التي لا يثبت الشرع بدونها، ولكن حصوله فيها كلِّها موقوف على صدق الرغبة في الحق والخضوع لما ظهر منه، وإيثاره على كلّ هوى.
والأسباب والقرائن والتجارب التي تُحصِّل الإيمانَ اليقيني بالله تعالى
(1)
(ص 581) ط. دار المنهاج.
(2)
(ص 591). وهو في "المنقذ من الضلال"(ص 134).
(3)
(ط): "يعينها" خطأ.
وبالنبوة واليوم الآخر ليست مقصورةً على النوع الذي ذكر الغزالي أنه اتفق له بممارسته للعلوم، بل ييسِّر الله تعالى لمن شاء ما هو أقرب منها وأقوى: بالنظر العادي في آيات الآفاق والأنفس، وتدبُّرِ الكتاب والسنة. وإنما الشأن في التعرُّض لفضل الله عز وجل، فمن اكتفى أوَّلًا برجحان صحة الشرع، فآثره على هواه، وأسلم له نفسَه، وخضع لما جاء به، ووقف عند حدوده، فقد تعرَّض لنيل ذلك النور وذلك اليقين على وجه هو أصفى مما قد يحصل بممارسته العلوم، وأضوأ وأبهى وأهنأ؛ لأن ممارسة المعقولات في شأن الإلهيات تعترض فيها الشبهات والتشكيكات. بل الأمرُ أشدُّ من ذلك، فإن الخوض في النظر المتعمَّق فيه طلبًا للهدى من جهته عدولٌ عن الصراط المستقيم، [2/ 229] وخروجٌ عن سبيل المؤمنين، فهو تعرُّضٌ للحرمان والخذلان والإضلال. لكن قد يعذر الله تعالى بعض عباده، فلا يَحرِمه فضلَه، إلا أن الشبهات تنغِّصه عليه، بل لا تزال تغالبه. وقد تكون العاقبة لها، والعياذ بالله.
هذا، ومن حصل له اليقينُ بصحّة الشرع جملةً فقد حصل له اليقين بصدق جميع ما جاء به الشرع، وأنه لا يتطرق إليه اختلالٌ البتة، إذ يستحيل هاهنا الجهل، والخطأ، والكذب، والتلبيس، والتقصير في البيان. وهذا هو حال المأخذَين السلفيَّين.
غاية الأمر أنه قد تعرِضُ لمن حصل له ذلك شبهةٌ يتعسَّر عليه حلُّها، فإذا رجع إلى إيمانه وتصديقه لربه لم يُبالِ بتلك الشبهة. وقد تقدّم عن النُّظَّار فيما أجابوا به عن الأمور التي أوردها القادحون في البديهيات قولهم: "لا نشتغل بالجواب عنها، لأن الأوليات مستغنية عن أن يُذَبَّ عنها، وليس
يتطرّق إلينا شكٌّ فيها بتلك الشبه التي نعلم أنها فاسدة قطعًا، وإن لم يتيقن عندنا وجهُ فسادها". فهكذا يقول السلفي في دفع الشبهات المناقضة لِما أيقن به من صدق الشرع. والخائب الخاسر من نسي إيمانه ويقينه، واغتَّر بالشبهات، فهلك.
أما قول الغزالي
(1)
: "فإن المستقلّ بالنظر الذي يستوي ميلُه في نظره إلى الكفر والإسلام عزيز"، فقد يُنكَر هذا عليه، ويقال: كيف يُمدَح من يستوي ميلُه في نظره إلى الباطل والحق؟! ويُجاب عن هذا بأن مقصوده أن أكثر المتكلّمين يميلون إلى الإسلام بدون استيقانٍ منهم أنه الحق، بل لأنهم نشأوا عليه، فألِفوه واعتادوه. ولذلك يُرى من نشأ على اليهودية أو النصرانية أو غيرهما يميلون إلى ما نشأوا عليه مع أنه باطل في نفس الأمر.
لكني أقول: أما أئمة السنة الذين وَفَوا بشرط الله عز وجل من التسليم والخضوع [2/ 230] والطاعة له، فلا شأن لهم في هذا؛ لأنهم قد تعرّضوا لأن يكتب الله في قلوبهم الإيمان، ويؤيدهم بروح منه، ويزيدهم هدًى، ويرزقهم
(1)
في "المستصفى"(1/ 44). وقد سبق نقله فيما مضى.
النور واليقين. فقنعوا بالمأخذَين السلفيَّين، واهتدوا بهما
(1)
عن بصيرة ويقين. ومن اختار ما علم أنه الحق، وثبت عليه، وأعرض عن الشبهات، لا يقال: إنه غير مستقلٍّ بالنظر كما أن النظَّار المستقلّين قطعوا بالبديهيات، وأجابوا عن الأمور التي أوردها القادحون بما تقدّم. وكما أن الغزاليّ وهو يرى أنه مستقل بالنظر، قال: إنه أيقن بالضروريات بدون دليل، بل بنور قُذِفَ في صدره، وأنه حصل له الإيمان بالله تعالى وبالنبوة واليوم الآخر بدون دليل محرَّر، بل بأسباب وقرائن وتجارب لا تُحْصَى. ولا ريب أنه لا يمكنه أن يشرح ما حصل له للخصم شرحًا وافيًا يُحصِّل للخصم اليقينَ.
بل أقول: إن عامة المسلمين المحبِّين للحق، الخاضعين له، الذين يغلب عليهم التقوى والطاعة= هم ممن تعرَّض لذاك النور، وذلك التأييد، وتلك الهداية. وكثير منهم لهم من اليقين الحقيقي الناشئ عن الفطرة، والنظر العادي، واجتماع أمور كثيرة يفيد مجموعُها اليقين، مع عناية الله عز وجل وتأييده= ما ليس لأكابر النظار
(2)
، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
(1)
(ط): "بها".
(2)
ثم رأيتُ نقلًا عن "فيصل التفرقة" للغزالي عبارة طويلة تراها في "روح المعاني"(ج 8 ص 119) فيها: "لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلة المتكلمين أحد أسباب الإيمان في حق بعض الناس، ولكن ذلك ليس بمقصور عليه، وهو نادر أيضًا
…
فالإيمان المستفاد من الدلائل الكلامية ضعيف جدًّا، مشرِفٌ على التزلزل بكل شبهة، بل الإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصِّبا بتواتر السماع، والحاصل بعد البلوغ بقرائن لا يمكن العبارة عنها". [المؤلف].
وانظر "فيصل التفرقة"(ص 94) ط. دار الكتب العلمية، و"روح المعاني"(26/ 64) ط. المنيرية.
فأما المتكلمون فلا يبعد أن يكون أكثرهم كما قال الغزالي
(1)
، وذلك أنهم لم يتعرّضوا لذلك النور والتأييد والهداية، بل تعرَّضوا للحرمان والإضلال بعُدولهم عن الصراط المستقيم وسلوكهم غير سبيل المؤمنين، فإذا حصل لأحدهم شيء من الاعتقاد حَمِد نفسه قبل ربه! وقال:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} . اقرأْ من سورة القصص [78]، ومن سورة الزمر [49].
وإذا قيل لهم: صدِّقوا بما جاءت به الرسل، قالوا: لا نُصدِّق فيما يتعلق بالمعقولات [2/ 231] إلا بما أدركته عقولُنا أو كشفُنا، واستهزأوا بمن يأخذ دينه من النصوص، وسمَّوهم: الحشوية، والغُثاء، والغُثْر، وغير ذلك. قال الله تعالى:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83]. وقال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85].
وإذا قيل لهم: آمنوا بالنصوص كما آمن بها السلف الصالح، قالوا: أولئك أعراب أُمِّيون جُفاة لا يدرون ما المعقول. قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13]. وآل بهم الزيغ إلى نِسْبة الكذب إلى الله تعالى ورسله، كما يجيء في الباب الآتي، فأنَّى يهديهم الله تعالى؟ قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 104 - 105].
(1)
في "فيصل التفرقة"(ص 93): "من أشد الناس غلوًّا وانحرافًا طائفة من المتكلمين
…
".
فالقوم خالفوا كثيرًا من العقائد الإسلامية، ويوشك أن يكون حالهم فيما لم يصرِّحوا بمخالفته على نحو ما قال الغزالي، أي أنهم لم يحافظوا على تلك البقية عن إيمان ويقين، ولكن نشأوا على الإسلام، واعتزُّوا بالانتساب إليه، فكرهوا أن يقطعوا التعلُّق به البتة. والعلم عند الله عز وجل.
والتحقيق أن الاستقلال بالنظر محمود، ولكن الشأن في النظر. فالنظرُ بحسب المأخذين السلفيين ــ مع الوقوفِ عند الحدّ الذي حدَّه الشرع، وامتثالِ ما أرشد إليه وعمل به الصحابة وتابعوهم بإحسان من اتقاءِ الشبهات وتجنُّبِ الاختلاف في الدين وتفريقه ــ محمود. فالاستقلال فيه محمود، والنظر المتعمّق فيه مذموم؛ لأنه لا يكاد يُثمِر إلا التشكيكَ في الحقائق، والاختلافَ في الدين وتفريقَه. ويوشك أن يكون الحرص على الاستقلال بالنظر فيه من أمضى أسلحة الشيطان، فإنه قد يحصل للإنسان الإيمان واليقين بالقضايا الفِطرية والواضحة من المأخذ السلفي الأول، وبما ذكر الغزالي من اجتماع قضايا كثيرة ظنية يحصل اليقين بمجموعها، ومِن قَذْفِ الله عز وجل في القلب؛ ثم يعرض له في النظر المتعمَّق فيه شبهة أو أكثر تُخالف ذاك اليقين وذاك الإيمان، فيتعذَّر عليه حلُّها، فيدعوه حبُّ الاستقلال بالنظر إلى اتباعها [2/ 232] وتركِ ذاك اليقين وذاك الإيمان، متّهمًا نفسَه بأنّ ثقتها ببطلان تلك الشبهة إنما هو لهواها في الإسلام. فمثله مثل القاضي يتباعد عن هواه، فيظلم أخاه، كما مرَّ في المقدمة.
بل أقول: إن الاستقلال بالنظر على الحقيقة هو تركُ النظر المتعمَّق فيه رأسًا فيما يتعلق بالإلهيات، أو على الأقل تركُ الاعتداد بما خالف المأخذين السلفيَّين منه، كما يتضح لمن تدبَّر ما تقدَّم وما يأتي.
وقد أبلغ الله تبارك وتعالى في إقامة الحجة على اختلال النظر المتعمَّق فيه في الإلهيات، بأن يسَّر لبعض أكابر النُّظَّار المشهورين بالاستقلال أن يرجعوا قُبيل موتهم إلى تمنِّي الحال التي عليها عامةُ المسلمين. فمنهم الشيخ أبو الحسن الأشعري، وأبو المعالي ابن الجُويني الملقَّب إمام الحرمين، وتلميذه الغزالي، والفخر الرازي.
أما الأشعري فكان أولًا معتزليًّا، ثم فارق المعتزلة وخالفهم في مسائل وبقي على التعمُّق، ثم رجع أخيرًا كما يظهر من كتابه "الإبانة" إلى مذهب أصحاب الحديث. وكتابه "الإبانة" مشهور، وقد طبع مرارًا، والأشعرية لا يكادون يلتفتون إليه.
وأما ابن الجويني فصحَّ عنه أنه قال في مرض موته: "لقد قرأتُ خمسين ألفًا في خمسين ألفًا، ثم خلَّيتُ أهلَ الإسلام بإسلامهم فيها، وعلومه الظاهرة، وركبتُ البحر الخِضَمَّ، وغُصْتُ في الذي نهى أهلُ الإسلام عنها= كلُّ ذلك في طلب الحق. وكنت أهربُ في سالف الدهر من التقليد، والآن قد رجعتُ عن الكل إلى كلمة الحق: "عليكم بدين العجائز". فإن لم يُدرِكْني الحقُّ بلطف برِّه فأموتَ على دين العجائز، وتُختمَ عاقبةُ أمري عند الرحيل على نزهة أهل الحق، وكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويلُ لابن الجويني! ". وقال: "اشهدوا عليَّ أني رجعتُ عن كل مقالة يُخالف فيها السلف، وأني أموت على ما يموت عجائز [2/ 233] نيسابور". إلى غير ذلك مما جاء عنه، وتجده في ترجمته من "النبلاء"
(1)
للذهبي، و"طبقات الشافعية"
(2)
لابن السبكي وغيرها.
(1)
"سير أعلام النبلاء"(18/ 471، 474).
(2)
(5/ 185، 191). وانظر "المنتظم"(9/ 19).
فتدبَّرْ كلامَ هذا الرجل الذي طبَّقت شهرته الأرضَ يتضِحْ لك منه أمور:
الأول: حُسْن ثقته بصحة اعتقاد العجائز وبأنه مقتضٍ للنجاة.
الثاني: سقوط ثقته بما يخالف ذلك من قضايا النظر المتعمَّق فيه وجزمُه بأن اعتقاد تلك القضايا مقتضٍ للويل والهلاك.
الثالث: أنه مع ذلك يرى أن حاله دون حال العجائز، لأنهن بَقِينَ على الفطرة وسَلِمن من الشك والارتياب، ولزمن الصراط، وثبتن على السبيل، فرجا لهنّ أن يكتب الله تعالى في قلوبهن الإيمان، ويؤيدهن بروح منه، فلهذا يتمنى أن يعود إلى مثل حالهن، وإذا كانت هذه حال العجائز، فما عسى أن يكون حال العلماء السلفيين؟ !
وأما الغزالي، فكان يغلب عليه غريزتان:
الأولى: التوَقانُ إلى تحصيل المعارف.
الثاني: شدة الحرص على حَمْل الناس على ما يراه نافعًا، لكنه نشأ في عصر وقطر كان يسود فيهما ــ ولاسيّما على علماء مذهبه وفرقته وخصوصًا أساتذته ــ أمور:
الأول: اعتقاد أن المذاهب والمقالات قد تأسست، فما بقي على طالب العلم إلا أن يعرف مذهبه، ومقالة فرقته، ويتقن الأصول، والجدل، والكلام، ثم يتجرد للدفاع عن مذهبه، ومقالة فرقته.
الأمر الثاني: اعتقاد أن النصوص الشرعية قد فُرِغَ منها، فما كان منها يتعلق بالفقه قد أحاط به المجتهدون، وقد زعم الغزالي أن الاجتهاد قد انقطع. وما كان متعلقًا بالعقائد قد لخَّصه وهذَّبه أئمة الكلام، مع ما اشتهر أن
مدار العقائد على العقل، وإذا خالفته النصوص وجب تأويلها. وقد كثر فيها ذلك حتى استقرَّ عندهم أنه لا سلطان لها على العقائد، ولهذا كان هو وأستاذه إمام الحرمين من أبعد الناس عن معرفة السنة، كما ترى التنبيه عليه في مواضع من"تلخيص الحبير"
(1)
، وفي الكلام على قول الله عز وجل:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}
(2)
[التوبة: 80]، [2/ 234] وفي ترجمة محمد بن مُحَيريز من "لسان الميزان"
(3)
و" تخريج أحاديث الإحياء"
(4)
، وغيرها.
وبذلك يتبين أن هذين الإمامين كانا قليلَي الاعتداد بالنصوص، فإن احتاجا إلى ذكرها تعسَّفَا بدون مبالاة، لا يكاد يهمُّهما أن يحتجَّا بحديث لا يدريان لعله موضوع، ولا أن ينكرا وجود حديث في "الصحاح"، وهو فيها كلِّها!
الأمر الثالث: اشتهار أن المذهب والمقالة اللذَين نشأ عليهما الغزالي هما أقوم المذاهب والمقالات. فاشتهر أن مذهب الشافعي هو المستوفي لجهتي الأثر والنظر، وأن ما عداه مخلّ بأحدهما؛ وأن مقالة الأشعرية هي المستوفية للنقل والعقل، وأن ما عداها مخلٌّ بأحدهما كمقالة المعتزلة ومقالة أصحاب الحديث.
(1)
(1/ 293 - 294، 2/ 20، 53).
(2)
انظر "فتح الباري"(8/ 338).
(3)
(7/ 495). وانظر "سير أعلام النبلاء"(18/ 471). وقول الغزالي: "بضاعتي في الحديث مُزجاة" في رسالته "قانون التأويل"(ص 30) تحقيق محمود بيجو.
(4)
لم أجد التنصيص عليه فيه، ولكن تخريج أحاديثه وبيان أن كثيرًا منها لا أصل لها يدلّ على ذلك.
الأمر الرابع: اعتقاد أن مقالات الفلاسفة متينة جدًّا لبنائها على التحقيق البالغ في المعقول، مع البراءة من التقليد والتعصُّب.
الأمر الخامس: توهم أن عند الباطنية علمًا غريبًا لمعرفتهم بالفلسفة، ودعواهم معرفة أسرار الدين، ونشاط دعاتهم في ذاك العصر.
الأمر السادس: توهُّم أن عند الصوفية جليةَ الأمر، لدعواهم أنهم بتهذيبهم أنفسهم انكشفت لهم حقائق الأمور كما هي، مع ما يظهر منهم من شرح بعض الحقائق بأدقَّ مما يشرحها الفلاسفة والباطنية، وما يظهر لشيوخهم من الكشف عن الخواطر والإخبار عن بعض المُغَيَّبات والأحوال الغريبة، مع شهادة الفِرَق كلِّها أن لرياضة النفس وتهذيبها أثرًا بالغًا في ترقية مداركها.
الأمر السابع: زعمُ أن متكلمي الأشاعرة قد فَرَغوا من الردّ على أصحاب الحديث وعلى المعتزلة وغيرهم من المتكلمين، وبقي مقالة الفلاسفة والباطنية والصوفية.
وهذا الأمر السابع هو كالنتيجة للأمور التي قبله، فكان هو المستولي على ذهن الغزالي، كما يتضح من شرح حاله في كتابه الذي سماه "المنقذ من الضلال"، وترى ملخَّص ذلك في "شرح العقيدة الأصفهانية"(ص 94)
(1)
فما بعدها.
[2/ 235] ومما ذكره: أنه كان أولًا يشكُّ في صحة الحِسّيات والبديهيات، ثم زال ذلك. قال
(2)
: "ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام،
(1)
(ص 580 وما بعدها) ط. دار المنهاج.
(2)
"المنقذ من الضلال"(ص 86 وما بعدها).
بل بنورٍ قذفَه الله تعالى في الصدور
…
ولما كفاني الله تعالى هذا المرضَ انحصرتْ أصنافُ الطالبين عندي في أربع فرق: المتكلمون
…
والباطنية
…
والفلاسفة
…
والصوفية
…
فقلت في نفسي: الحق لا يعدو هذه الأصناف الأربعة، فهؤلاء السالكون سبيل طلب الحق، فإن شذَّ الحق عنهم فلا يبقى في دَرْك الحق مطمع
…
فابتدأت
(1)
لسلوك هذه الطرق واستقصاء ما عند هؤلاء الفرق". ثم ذكر أنه ابتدأ بتحصيل الكلام، فحصَّله، وعقَلَه، وصنَّف فيه. قال
(2)
: "فلم يكن الكلام في حقي كافيًا، ولا لدائي الذي أشكوه شافيًا
…
فلم يحصل فيه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة". ثم ذكر تحصيله الفلسفة والتبحر فيها ثم قال
(3)
: "علمت أن ذلك أيضًا غير وافٍ بكمال الغرض، فإن العقل ليس مستقلًّا بالإحاطة بجميع المطالب، ولا كاشفًا للغطاء عن جميع المعضلات". ثم ذكر الباطنية إلى أن قال
(4)
: "فهؤلاء أيضًا جرَّبناهم وسَبَرنا باطنهم وظاهرهم". وذكر أنه لم يجد مطلوبه عندهم، قال
(5)
: "ثم إني لما فرغت من هذه أقبلتُ على طريق الصوفية
…
" فذكرها وأطال في إطرائها، على عادته في إطراء ما يحصل له، كما أطرى الفلاسفة أولًا فقال: إن من لا يعرف المنطق لا ثقة له بعلمه
(6)
، ولأنه كان يرى أن
(1)
كذا في (ط) و"شرح الأصفهانية" ونسخة من "المنقذ". وفي مطبوعة "المنقذ": "فابتدرتُ". وهو أولى.
(2)
"المنقذ"(ص 92).
(3)
المصدر السابق (ص 117، 118).
(4)
المصدر السابق (ص 129).
(5)
المصدر السابق (ص 130).
(6)
قاله في "المستصفى"(1/ 10).
التصوف آخر ما يمكنه، فلم يكن له بدٌّ من محاولة إقناع نفسه به.
ثم صار كلامه في كتبه ترددًا بين هذه الطرق، وكثيرًا ما يختلف كلامه في القضية الواحدة، يوافق هذه الفرقة في موضع، ويخالفها في آخر، حتى ضرب له ابن رشد
(1)
مثلًا قول عِمْران بن حِطَّان:
يومًا يمانٍ إذا لاقيتُ ذا يمنٍ
…
وإن لقيتُ مَعَدِّيًّا فعدناني
وذلك يدل أن إحاطته بتلك الطرق لم تحصِّل مقصوده من الخروج عن الحَيْرة، بل أوقعته في التذبذب. وكأنّ ذلك مما بعثه على الرجوع في آخر عمره إلى ما كان أولًا يرغب عنه، ويرى أنه لا شيء فيه، فأقبل على حفظ القرآن، وسماع "الصحيحين"، فيقال: إنه مات و"صحيح البخاري" على صدره، لكن لم يُمَتَّع بعمره حتى يظهر أثر ذلك في تصنيفه. والله أعلم.
[2/ 236] وأما الفخر الرازي، ففي ترجمته من "لسان الميزان"(4/ 429)
(2)
: "أوصى بوصية تدلّ على أنه حسُنَ اعتقاده". وهذه الوصية في ترجمته من كتاب "عيون الأنباء"(2/ 26 - 28)
(3)
قال مؤلف الكتاب: "أملى في شدّة مرضه وصيةً على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر بن علي الأصفهاني
…
وهذه نسخة الوصية: بسم الله الرحمن الرحيم، يقول العبد الراجي رحمةَ ربه الواثقُ بكرم مولاه محمد بن عمر بن الحسين
(1)
في "فصل المقال"(ص 30). والبيت في "الأغاني"(18/ 112) و"التذكرة الحمدونية"(8/ 243).
(2)
العبارة في "اللسان"(6/ 321 ط. أبي غدة) في الهامش نقلًا عن حاشية نسخة (ص).
(3)
(3/ 40 - 42) ط. دار الثقافة.
الرازي، وهو في آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، وهو الوقت الذي يلين فيه كلُّ قاسٍ، ويتوجَّه إلى مولاه كلُّ آبق
…
إن الناس يقولون: الإنسان إذا مات انقطع تعلُّقه عن الخلق، وهذا العام مخصوص من وجهين:
الأول: أنه إن بقي منه عملٌ صالح صار ذلك سببًا للدعاء، والدعاء له أثر عند الله.
والثاني: ما يتعلق بمصالح الأطفال
…
.
أما الأول، فاعلموا أني كنت رجلًا محبًّا للعلم.
(أ) فكنتُ أكتب في كل شيء شيئًا، لا أقف على كمية وكيفية، سواء كان حقًّا أو باطلًا، غثًّا أو سمينًا!
(ب) إلا أن الذي نظَّرته (نصرته! ) في الكتب المعتبرة لي: أن هذا العالم المحسوس تحت تدبير مدبِّرٍ منزَّهٍ عن مماثلة المتحيِّزات والأعراض، وموصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة.
(ج) ولقد اختبرتُ الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم؛ لأنه يسعى في تسليم العَظَمة والجلال بالكلية لله تعالى، ويمنع عن التعمُّق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا العلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحلُّ في تلك المضايق العميقة والمناهج الخفية.
(د) فلهذا أقول: كلُّ ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده، ووحدته، وبراءته عن الشركاء في القدم والأزلية، والتدبير والفعالية، فذاك هو الذي أقول به وألقى الله تعالى به. وأمَّا ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة
والغموض، فكلُّ ما ورد في القرآن والأخبار الصحيحة المتفق عليها بين الأئمة المتبعين للمعنى الواحد فهو كما هو، والذي لم يكن كذلك أقول: يا إله العالمين
…
وأقول: ديني متابعة محمد سيد المرسلين، وكتابي هو القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما
…
".
[2/ 237] فبيَّن في وصيته هذه أنه تدرَّج إلى أربع درجات:
الأولى: الجري مع خاطره حقًّا كان أو باطلًا.
الثانية: ما نصره في كتبه المعتبرة.
الثالثة: ارتيابه في المأخذ الخَلَفي وهو النظر الكلامي والفلسفي.
الرابعة: ما استقرَّ وثوقه به ورجع إليه، وهو ما أثبته المأخذ السلفي الأول وأكَّده الشرع.
ثم قسم الباقي إلى قسمين:
الأول: ما بيَّنه الكتاب والسنة، فهو كما بيَّناه.
الثاني: ما عدا ذلك، فبيَّن عدم وثوقه فيه بما سبق أن قاله في كتبه واعتذر عن ذلك بحُسْن النية.
فرجوع هؤلاء الأكابر وقضاؤهم على النظر المتعمَّق فيه بما سمعتَ، بعد أن أفنَوا فيه أعمارهم من أوضح الحُجَج على من دونهم.
هذا، والمشهورُ بعد الاعتراف بكفاية المأخذَين السلفيَّين والنهي عن الخوض في علم الكلام والفلسفة: الاعتذارُ عن الخائضين من المنتسبين إلى السنة بأنهم اضطُرُّوا إلى ذلك لدفع شبهات الكفار والزنادقة والملحدين
والمبتدعة الذين يخوضون في دقائق المعقول، ثم يطعنون في الإسلام والسنة. قال المعتذرون: ولم يكن ذلك في عهد الصحابة والتابعين، وإنما حدث أخيرًا بعد ضعف الإيمان وتشوُّف الناس إلى دقائق المعقول وإعجابهم بأهله، فالخوضُ محدَث، لكن لحدوثِ داعٍ إليه وباعثٍ عليه ومقتضٍ له.
وأقول: أما من خاض وحافظ على العقائد الإسلامية كما تُعرَف من المأخذين السلفيين وكما كان عليه السلف، فعسى أن ينفعه ذاك العذر، وإن كنا نعلم أن في حجج الحق من المأخذين السلفيين ما يغني من يؤمن {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].
وأما من خاض، فغيَّر وبدَّل، فهؤلاء هم المبتدعة وأتباعهم. فهَبْ أن منهم من يُعْذَر في خوضه، فما عذرُه في تغييره وتبديله؟ ولاسيّما من بلغ به التغيير والتبديل إلى القول بأن النصوص الشرعية لا تصلح حجةً في العقائد! حتى صرَّح بعضهم بزَعْم أن الله تبارك وتعالى أقرَّ الأممَ التي بعث [2/ 238] فيها أنبياءه على العقائد الباطلة، وقرَّرها في كتبه وعلى ألسنة رسله، وثبَّتها وأكَّدها وزادهم عليها أضعافها مما هو ــ في زعم هؤلاء ــ باطل!
فهل هذا هو الذبُّ عن الإسلام وعقائده الذي يمتنُّ به عليه أولئك الخائضون؟ !
* * * *