المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ وجه تسمية تلك الآيات متشابهات - التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١١

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌المسألة الأولىإذا بلغ الماءُ قُلَّتَين لم ينجَسْ

- ‌المسألة الثانيةرفع اليدين

- ‌ المسألة الثالثةأفطر الحاجم والمحجوم

- ‌ المسألة الرابعةإشعار الهدي

- ‌ المسألة الخامسةالمحرم لا يجد إزارًا أو نعلين يلبس السراويل والخفَّولا فديةَ عليه

- ‌ المسألة السادسةدرهم وجوزة بدرهمين

- ‌ المسألة السابعةخيار المجلس

- ‌ المسألة التاسعةالطلاق قبل النكاح

- ‌ المسألة العاشرةالعقيقة مشروعة

- ‌ المسألة الحادية عشرةللراجل سهم من الغنيمة، وللفارس ثلاثة:سهم له وسهمان لفرسه

- ‌ المسألة الثانية عشرةأما على القاتل بالمثقل قصاص

- ‌ المسألة الثالثة عشرةلا تعقل العاقلة عبدًا

- ‌إذا قتل حرٌّ حرًّا خطأ [2/ 91] محضًا أو شبهَ عمد

- ‌المسألة الرابعة عشرةتقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا

- ‌ المسألة الخامسة عشرةالقضاء بشاهد ويمين في الأموال

- ‌المسألة السادسة عشرةنكاح الشاهد امرأة شهد زورًا بطلاقها

- ‌ المسألة السابعة عشرةالقرعة المشروعة

- ‌ مقدمة

- ‌ 177] 1 - فصل

- ‌2 - فصل

- ‌3 - فصل

- ‌4 - فصل

- ‌5 - فصل

- ‌3 - يفكِّر في حاله بالنظر إلى أعماله من الطاعة والمعصية

- ‌4 - يفكر في حاله مع الهوى

- ‌9 - يأخذ نفسَه بالاحتياط في ما يخالف ما نشأ عليه

- ‌10 - يسعى في التمييز بين معدن الحجج ومعدن الشبهات

- ‌ الباب الأولفي الفرق بين معدن الحق ومعدن الشبهاتوبيان مآخذ العقائد الإسلامية ومراتبها

- ‌ علم الكلام والفلسفة ليسا من سراط المُنْعَم عليهم

- ‌ فصل

- ‌فصل

- ‌ الكَشْف ليس مما يصلح الاستناد إليه في الدين

- ‌ فصل

- ‌ الباب الثانيفي تنزيه الله ورسله عن الكذب

- ‌تنزيه الله تبارك وتعالى عن الكذب

- ‌ تنزيه الأنبياء عن الكذب

- ‌ الباب الثالثفي الاحتجاج بالنصوص الشرعية في العقائد

- ‌ قول الفخر الرازي في الاحتجاج بالنصوص الشرعية

- ‌قول العضد وغيره

- ‌المحكم والمتشابه

- ‌ وجه تسمية تلك الآيات متشابهات

- ‌ الباب الرابعفي عقيدة السلف وعدة مسائل

- ‌الأينية، أو الفوقية، أو كما يقولون: الجهة

- ‌القرآن كلام الله غير مخلوق

- ‌الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

- ‌معيارُ الإيمان القلبي: العمل

- ‌قول: أنا مؤمن إن شاء الله

- ‌ الخاتمةفيما جاء في ذم التفرق وأنه لا تزال طائفة قائمة على الحقوما يجب على أهل العلم في هذا العصر

- ‌الأول: العقائد

- ‌ الثاني: البدع العملية

- ‌ الثالث: الفقهيات

الفصل: ‌ وجه تسمية تلك الآيات متشابهات

معهما في الدنيا بالإيمان والطاعة والاتباع، فيحبُّه الله، فيُنيله المعيةَ في الآخرة بالنجاة والدرجات. قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. وتفاوتُ المعية في الدنيا دليل تفاوت المحبة، وقضية ذلك تفاوت المعية في الآخرة، ويزيد الله تعالى من شاء من فضله.

ويدخل في المتشابه على القول الثاني الآيات المتعلقة بذات الله تعالى وصفاته وغيبه، كقوله تعالى فيما قصَّه من خطابه لإبليس:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75].

فالآيات سيقت لِحضِّ بني آدم على مخالفة الشيطان وتحذيرهم من طاعته أو فعل مثل فعله، وبيان عداوته لهم، وبيان إقامة الله عز وجل الحجة عليه، وبيان أن الله تعالى شرَّف أباهم بأن خلقه بيديه سبحانه، وبيان أن له سبحانه يدين كما يليق بعظمته. وهذه المعاني ظاهرة لا لبس [2/ 336] فيها، لكن النفس قد تتخطاها إلى الخوض في كُنْهِ اليدين وكيفيتهما.

فعلى كلا القولين تكون تلك الآيات محكمةً، أي متقنةً على ما اقتضته الحكمة. وفي بقاء المنسوخ بعيدًا عن ناسخه، والإتيان بالمجمل بنوعيه ابتلاءٌ من الله لعباده، فيكون عليهم مشقة وعناء في استنباط الأحكام؛ لاحتياج ذلك إلى الإحاطة بنصوص الكتاب والسنة واستحضارها. وفي ذكر ما لا سبيل للعباد إلى معرفة كنهه وكيفيته، مع ما يتعلق بذلك من المعاني الظاهرة، ابتلاءٌ لهم ليمتاز الزائغ عن الراسخ. وقد تقدمت حكمة الابتلاء في أوائل الرسالة.

ويبقى النظر في‌

‌ وجه تسمية تلك الآيات متشابهات

. والذي يظهر أنه

ص: 517

ليس المراد أنها يشبه بعضها بعضًا، بل المراد ــ والله أعلم ــ أن كل آية منها متشابهة، أي يمكن أنْ تُحمَل على معان متشابهة في أنه لا يترجح بعضها على بعض رجحانًا بيِّنًا.

وفي حديث «الصحيحين»

(1)

: «الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشبَّهات

». وفي «فتح الباري»

(2)

: «في رواية الأصيلي: «مشتبهات»

وهي رواية ابن ماجه

(3)

، وهو لفظ ابن عون

ورواه الدارمي

(4)

عن أبي نعيم شيخ البخاري بلفظ: «وبينهما متشابهات»

».

واشتبهوا وتشابهوا يأتيان بمعنى واحد، شأنَ افتعل وتفاعل في كثير من الكلام. فالأمر الذي بين الحلال والحرام متشابه الحل والحرمة في الاحتمال، يحتمل كلًّا منهما كما يحتمل الآخر، لا يترجَّح فيه ذا ولا ذاك. فهكذا ــ والله أعلم ــ تكون الآية المتشابهة يتشابه فيها معنيان فأكثر. وانطباقُ هذا على المجمل الذي لا ظاهرَ له واضح، فأما الذي له ظاهر فإنما يقع حيث تكون هناك قرينة تُقاوِم ظهوره، كما أوضحته في رسالتي في «أحكام الكذب» . وبذلك يصير في حكم الأول، هذا بالنسبة إلى الصحابة.

فأما مَن بعدهم، فقد علم المسلمون أن في النصوص ما هو منسوخ نسخه نصٌ آخر بعيد عنه، وما هو عامٌّ خصَّصه نصٌّ آخر، وما هو مطلَق قيَّده

(1)

البخاري (52، 2051) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير.

(2)

(1/ 127).

(3)

رقم (3984).

(4)

رقم (2524).

ص: 518

نصٌّ آخر، وهكذا. فمن لم يستقرئ النصوص ويتدبرها، فإنه عندما يقف على ما هو في نفس الأمر منسوخ ولم يعلم ذلك، يكون [2/ 337] محتملًا في حقه أن يكون حكمه باقيًا، وأن يكون منسوخًا. وقِسْ على هذا حال الباقي، فثبت التشابه.

وأما ما لا سبيل إلى علم تأويله، أو قل: كُنهه وكيفيته، كاليدين في قوله تعالى:{خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فإنه لا يبقى إلا التخرُّص، ولا حدَّ له، فقد يتخرص الإنسان وجهين أو أكثر، ومعلوم أنه لا يتبين واحد من ذلك بيانًا واضحًا، فثبت التشابه.

وكلا القولين يمكن تطبيقه على السياق.

أما القول الأول فأهل الزيغ يتبعون المنسوخ والمجمل، فتارةً يعيبون القرآن بالتناقض ــ زعموا ــ وبعدم البيان. وتارةً يتشبثون بذلك لتقوية أهوائهم كما فعل النصارى، إذ تشبثوا بما في القرآن من إطلاق الكلمة والروح على عيسى، وكما فعل المشركون عندما سمعوا قوله تعالى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]. وتارةً يبتغون تأويله مع عدم تأهلهم لذلك وعدم رجوعهم إلى الراسخين، كما فعل الخوارج في قوله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] وقوله: {لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60]، ونحو ذلك.

وأما القول الثاني فأهل الزيغ يتبعون تلك النصوص، تارةً ابتغاءَ الفتنة، بأن يعيبوا القرآن والإسلام بزعم أنه جاء بالباطل، فيزعمون أن لفظ {بِيَدَيَّ} معناه أن لله سبحانه يدين مماثلتين ليدي الإنسان يجوز عليهما ما يجوز على

ص: 519

يدي الإنسان، ثم يقولون: وهذا باطل، ثم يوجِّه كلٌّ منهم ذلك إلى هواه. فمنهم من يستدل بذلك على أن القرآن ليس من عند الله، وأن محمدًا ليس بنبي، ومنهم من يستدل بذلك على أن القرآن جاء بالباطل مجاراةً لعقول الجمهور، إلى غير ذلك. وتارةً ابتغاءَ تأويله، فمنهم من يذهب يتخرَّصُ تخرُّصَ هشام بن الحكم وأصحابه وغيرهم من المشبِّهة الضالة، ومنهم من يحرِّف تلك النصوص بحملها على معاني بعيدة، كقول بعضهم: إن اليدين هما القدرة والإرادة وغير ذلك.

وقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ينطبق على كلٍّ من القولين، إلا أنه على القول الأول يكون قوله:{وَالرَّاسِخُونَ} عطفًا، والمعنى أن الراسخين يعلمون تأويله أيضًا. وعلى القول الثاني يكون قوله:{وَالرَّاسِخُونَ} استئنافًا، [2/ 338] فهم لا يعلمون تأويله، وإنما امتازوا بأنهم لا يتبعونه اتباعَ الزائغين، بل يقولون:{آمَنَّا بِهِ} الآية.

ويدل على تصحيح كلا القولين أن من الناس من وقف على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} ، ومنهم من لم يقف، وأنه صح عن ابن عباس أنه ذكر الآية، ثم قال:«أنا ممن يعلم تأويله»

(1)

. وصح عنه أنه قرأ: «ويقول الراسخون»

(2)

.

والتأويل على القول الأول بمعنى التفسير، وعلى الثاني بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها اللفظ. ففي قوله تعالى:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} تأويل اليدين:

(1)

أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 220) وابن المنذر في «تفسيره» (258).

(2)

كما في «تفسير الطبري» (5/ 218) و «تفسير عبد الرزاق» (1/ 116) و «المستدرك» (2/ 289).

ص: 520

حقيقتهما وكنههما على ماهما عليه.

واعلم أن التأويل يكون للفعل، كخرق صاحب موسى سفينة المساكين، وقتله الغلام، وإقامته الجدار؛ ويكون للرؤيا، ويكون للكلام. فتأويل الفعل إما مآله أي ما يؤول إليه، وهو المقصود من فعله، كسلامة السفينة من غصب الملك، وسلامة أبوَيِ الغلام من إرهاقه، وسلامة كنز اليتيمين؛ وإما بيان أن الفعل يؤول إلى ذلك المآل. قال الله تعالى فيما قصَّه عن صاحب موسى:{سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 78]، ثم أخبره بأن القصد من تلك الأفعال أن تؤول ذاك المآل، ثم قال:{ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82]. وقال تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59، الإسراء: 35].

وتأويل الرؤيا: إما مآلها، وهو الواقع في نفس الأمر الذي هي تمثيل له، كسجود إخوة يوسف وأبويه له، فقال يوسف فيما قصَّه الله تعالى عنه:{هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ} [يوسف: 100]، وإما بيان ما تؤول إليه، وذلك تعبيرها. ومنه ما قصَّه الله تعالى من قول يعقوب [2/ 339] ليوسف:{وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 6]، ثم قال تعالى:{وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 21]، ثم قول يوسف:{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 101].

ويحتمل المعنيين ما قصَّه الله تعالى من قول صاحبي السجن ليوسف: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36]، وقوله لهما:{إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 37]،

ص: 521

وقول الناجي منهما للملك ومن معه: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 45] بعد قول أصحاب الملك: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44].

وتأويل الكلام: إما مآله الخارجي، وهو الواقع في نفس الأمر إذا كان الكلام خبرًا، والفعل المأمور به إذا كان أمرًا، وقِسْ على ذلك. قصَّ الله عز وجل في سورة (الأعراف) حالَ القيامة والجنة والنار، ثم قال:{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 52 - 53].

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى أن قال: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 37 - 39].

وفي «صحيح مسلم»

(1)

من حديث عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحان الله وبحمده اللهم اغفر لي، يتأول القرآن» . تريد ــ والله أعلم ــ: يأتي بتأويل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3].

وإما مآله المعنوي كأن يقال: تأويل «رأيت أسدًا يَرْمي» : رأيت رجلًا شجاعًا. وإما بيان أحدهما، وهذا هو المسمى بالتفسير.

ويحتمل هذا والذي قبله قولُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في

(1)

رقم (484)، ولفظه:«سبحانك اللهم ربَّنا وبحمدك، اللهم اغفر لي» . وهو في «صحيح البخاري» (817، 4968).

ص: 522

ابن عباس: «اللهم فقِّهْه في الدين وعلِّمه التأويل»

(1)

. فعلى الأول يكون المعنى: علِّمه المعاني التي تؤول إليها النصوص، وعلى الثاني يكون المعنى: علِّمه أن يؤوِّل النصوص، أي يبيِّن معانيها التي تؤول إليها.

إذا تقرر هذا، فعلى القول الأول في المتشابه يكون المراد بتأويله: معانيه، وعلى القول الثاني يكون المراد: ما يؤول إليه من الحقائق. فكما أن تأويل الأخبار بالبعث هو البعث نفسه، [2/ 340] فكذلك تأويل الأخبار بأن لله يدين هو اليدان. والعلم الذي ينفرد الله تعالى به في شأن اليدين هو العلم بالكُنْه والكيفية، فأما العلم الإجمالي الذي يتوقف عليه الإيمان بأن لله تعالى يدين على الحقيقة، فهذا يحصل للمؤمنين، وبه يكونون مصدِّقين لخبر الله عز وجل. وبذلك يخلصون من تكذيبه، ويمتازون عن الزائغين المتبعين له ابتغاءَ الفتنة. وبقناعتهم به يمتازون عن الزائغين المتبعين له ابتغاءَ تأويله.

فإن قيل: فإنَّ للمتعمقين أن يقولوا: الصواب عندنا من القولين المذكورين في المتشابه القول الأول، والنصوص التي تتعلق بالمعقولات كلُّها من المجمل الذي له ظاهر، ولا يمكن الوثوق بأن ذلك الظاهر هو المراد، إلا أن يقوم الدليل العقلي على وجوب ذاك الظاهر أو جوازه. ثم نقول: إن كلَّ نص من تلك النصوص يحتاج إلى بيانين:

الأول: بيان صحة ذاك الظاهر أو بطلانه.

الثاني: بيان المعنى المراد.

(1)

أخرجه أحمد (3032، 3102) وابن حبان (7055) وغيرهما من حديث ابن عباس. وإسناده صحيح. وأصله في «الصحيحين» بغير هذا اللفظ.

ص: 523

فأما البيان الأول فيحصل بالعقل، ويحصل بقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} السورة، فقد بيَّن العقلُ وهاتان الآيتان وغيرهما بطلانَ ظواهر تلك النصوص التي نتأولها، فوجب أن يكون المرادَ بها معانٍ أخرى صحيحة. فأما الزائغون فاتبعوا تلك الظواهر، وهم فريقان:

الأول: الملحدون القائلون: هذه الأمور باطلة قطعًا، فالشرع الذي جاء بها باطل.

الفريق الثاني: الذين يجهلون أو يتجاهلون بطلانَها، فيدينون بإثباتها.

والسلف وأئمتنا أبرياء من الفريقين، غير أن السلف كانوا مع العلم ببطلان تلك الظواهر يمتنعون من الخوض في البيان الثاني، وأئمتنا اصطدموا بالزائغين الزاعمين أن تلك الظواهر هي المعاني المرادة من تلك النصوص، ويبالغون فيدَّعون أن تلك النصوص صريحة في تلك المعاني لا تحتمل التأويل. فاحتاج أئمتنا إلى بيان الاحتمال، فمن لم يجزم منهم بمعنى معيَّن فلم يأتِ

(1)

بما يُنكَر عليه. ومن جزم بذلك فقد ينكر عليه من يذهب إلى أن الراسخين لا يعلمون ذلك، أي أنهم وإن علموا بطلان الظاهر، وأن المراد غيره، فلا يعلمون التأويل وهو المعنى المراد؛ لاحتمال النص عدةَ معان. لكن قد يقال: إذا كان المعنى الذي جزم به ذلك الجازمُ صحيحًا في نفسه فالخطب يسهل

(2)

، [2/ 341] وذلك كالقائل: إن المراد باليدين في قوله

(1)

كذا في (ط): «فلم يأت» بإثبات الفاء، والأولى حذفها.

(2)

(ط): «تسهل» .

ص: 524

تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] القدرة والإرادة، فإن هذا معنى صحيح في نفسه، للعلم بأن لله تعالى قدرةً وإرادة، وأن لهما تعلقًا بخلق آدم. فإن فُرِضَ أن المراد باليدين في الآية معنى آخر، فليس في الجزم المذكور كبيرُ حرج.

فالجواب عن هذا كُلِّه يُعلَم مما تقدَّم في هذه الرسالة، وألخصه هنا بعون الله عز وجل:

قولكم: «فلا يمكن الوثوق بأن ذلك الظاهر هو المراد، إلا أن يقوم الدليل العقلي على وجوب ذاك الظاهر أو جوازه» قول باطل مردود عليكم. بل الحق أنه إن دلَّ العقل الصريح ــ الذي يصح أن يكون قرينةً بأن يكون من شأنه أن لا يخفى على المخاطب إذا تدبَّر ــ على امتناع ذاك الظاهر لم يبقَ ظاهرًا، ضرورةَ أن القرينة ركن من الكلام، وإلا كان النص برهانًا على الوقوع فضلًا عن الجواز، ضرورةَ أنه إن لم يكن كذلك كان كاذبًا، وقد قامت البراهين على استحالة أن يقع الكذب من الله تعالى ولا

(1)

من رسوله.

فإن قيل: لا يلزم من فرض البطلان التكذيب، لجواز تأخير بيان المجمل الذي له ظاهر.

قلت: من أهل العلم مَن يمنع تأخير البيان البتة، فعلى هذا تسقط شبهتكم من أصلها. ومن أجاز التأخير فمحلُّه في مجمل لا ظاهر له، أو له ظاهر بحسب اللفظ لكن تكون هناك قرينة صحيحة تدافع

(2)

ذاك الظهور، فيبقى النص في حكم المجمل الذي لا ظاهر له. فعلى هذا إذا كان للنص ظاهر، ولا

(1)

كذا في (ط): «ولا» . والمعنى مفهوم من السياق، والأولى حذف «لا» .

(2)

(ط): «كدافع» تحريف.

ص: 525

قرينة تدافعه وجب الجزم بأن ذاك الظاهر هو المراد.

وهناك نصوص في الأحكام يمثِّلون بها لما ادَّعوه من جواز أن يكون للنص ظاهر غير مراد، ويتأخر بيانه. ونحن نجيب عنها إجمالًا فنقول:

ما ثبت فيه الظهور، وثبت أنه لم تكن قرينة صحيحة تدافعه، وثبت أنه ورد بعده ما يخالفه؛ فإننا نصحِّح ذلك الظاهر ونقول: إنه هو المراد، وإن ما ورد بعده مخالفًا فهو ناسخ له. فإن ثبت أن المتأخر ورد قبل العمل بالمتقدم اخترنا جواز النسخ قبل العمل، ويكون المقصود من الحكم السابق إنما هو ابتلاء المكلفين ليتبين من يتقبل الحكم بالرضا والعزم على العمل به والاستعداد له.

وعلى ذلك، فهذا إنما يتأتى في النصوص المتعلقة بالأحكام، دون النصوص المتعلقة بالعقائد. [2/ 342] والفرقُ بين النصوص التي قيل إنها كانت من المجمل الذي له ظاهر غير مراد، وهي متعلقة بالأحكام، وبين النصوص المتعلقة بالعقائد التي ينفرد المتعمِّقون بإنكار ظواهرها= من وجوه:

الأول: أن الأولى يُعقَل فيها تأخُّرُ الحاجة، كآية تنزل في شوال، وتتعلَّق بحكمٍ لصيام رمضان. فأما الثانية، فالحكم المقصود منها يتعلق بالاعتقاد، وهو يحصل عقب السماع، فوقتُ الحاجة فيها هو وقتُ الخطاب.

الوجه الثاني: أن الأولى يُعقَل فيها قيامُ قرينةٍ تُدافِع الظهور. وأما الثانية فبعيدة عن ذلك؛ لأن كثيرًا منها أو أكثرها كانت موافقة لعقول المخاطبين، فدلالةُ العقل تَدفع ما قد يحتمل من قرينة، وتُصيِّر النصَّ صريحًا في ظاهره.

ص: 526

الوجه الثالث: أن الأولى لا تخلو عن فائدة، فقد ذهب جمعٌ من أهل العلم إلى أن من احتاج إلى عمل، ووجد نصًّا يتعلَّق به إلا أنه يحتمل أن يكون له ناسخ أو مخصِّص أو مقيِّد، ولم يمكنه البحث حالًا= كان عليه العملُ بذلك النص، ثم يبحث. ويشهد لهذا أن استقبال بيت المقدس، نزل نسخُه، وأناسٌ من المسلمين غائبون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبقي الحكمُ في حقِّهم استقبالُ بيت المقدس حتى بلغهم النسخ. وكذلك تحريمُ الخمر نزل، وأناس من المسلمين غائبون، فبقي الحكم في حقِّهم حِلُّها حتى بلغهم التحريم. هذا مع أن من أولئك الغائبين من غاب بعد أن علِمَ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوقع نسخ القبلة وتحريم الخمر.

وعلى هذا فإذا جاز أن تنزل في شوال آيةٌ تتعلَّق بحكم صيام رمضان، وتكون مجملةً لها ظاهرٌ غيرُ مراد، وتكون هناك قرينة تدافع ذاك الظهور، فسمعها بعضُ المسلمين ثم غاب، وطالت غيبته حتى دخل رمضان= كان عليه العملُ بتلك الآية، وإن كان محتملًا عنده أنه نزل بعد غيبته ما يبيِّن أنها على خلاف الظاهر.

فهذا ونحوه إنما يُعقل في الأحكام التي يعقل فيها الاختلاف، فيكون الحكم حقًّا في وقت أو حال، وباطلًا في غيره. فأما الاعتقاديات، فإنما تكون على حال واحدة.

الوجه الرابع: أن الظهور في الأولى ضعيف واحتمال خلافه قوي. وذلك كالعموم، وقد قيل: ما من عامٍّ إلَّا وقد خُصَّ؛ وكالإطلاق وهو قريب من ذلك. والثانية كثير منها [2/ 343] أو أكثرها صريحة في المعاني التي ينكرها المتعمِّقون، وما كان كذلك فلا مجال لتجويز أن يكون ذلك المعنى غير مراد؛

ص: 527

لأن ذلك يكون تكذيبًا له.

الوجه الخامس: أن الأولى قليلة حتى أنكر جمعٌ كثيرٌ من أهل العلم وقوعَ تأخير البيان، بل أنكروا جوازه. والثانية كثير جدًّا.

الوجه السادس: أن الأولى توجد النصوص المبينة لها صريحةً واضحةً في البيان. والثانية لا يوجد نصٌّ واحدٌ بيِّن في خلافها. وقد مرَّ النظر في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وما معها.

الوجه السابع: أن الأولى لا يكاد يُنقَل من أقوال الصحابة والتابعين ما يتعلَّق بها إلا مع بيانها. والثانية لا يصحُّ عن أحدٍ منهم قولٌ يخالف معانيها التي ينكرها المتعمقون، بل جاء عنهم مما يوافقها ويقرِّر معانيها وما يشبهها الكثير الطيب. وزعمُكم أن السلف كانوا يعتقدون بطلان تلك المعاني، من العجب العجاب. ودونكم الحقيقة.

ص: 528