الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[2/ 144]
المسألة الخامسة عشرة
القضاء بشاهد ويمين في الأموال
قال الأستاذ (ص 185): «وأما القضاء بشاهد ويمين، فلم يرد فيه ما هو غير معلَّل عند أهل النقد. وحديث مسلم فيه انقطاعان مع عدم ظهور دلالته على المتنازع
(1)
فيه، كما فُصِّل في محلِّه. والليث بن سعد ردَّ على مالك ردًّا ناهضًا في رسالته إليه
…
حتى إن يحيى الليثي راوية «الموطأ» وغيرهم من كبار المالكية خالفوا مالكًا في المسألة. وكم بين الشافعية من خالف الشافعيَّ في المسألة! فسَلْ قضاةَ العصر ماذا كانت تكون النتيجة في الحقوق لو حكموا للناس بما يطالبون به بدون تكامل نصاب الشهادة؟ فضلًا عن الضعف الظاهر فيما يحتجُّون به في الأخذ بشاهد ويمين».
أقول: حديث مسلم هو قوله في «صحيحه»
(2)
فأما الانقطاعان المزعومان، فأحدهما بين عمرو وابن عباس، والآخر بين قيس وعمرو.
أما الأول، فقال ابن التركماني
(3)
: «في «علل الترمذي» : سألت محمدًا
(1)
في (ط): «التنازع» . والتصويب من (خ).
(2)
رقم (1712).
(3)
«الجوهر النقي» (10/ 1679).
(البخاري) عنه ــ أي هذا الحديث ــ فقال: عمرو بن دينار لم يسمع عندي هذا الحديث من ابن عباس».
أقول: ليس لهذه العندية ما يُسنِدها سوى أمرين:
الأول: أن محمد بن مسلم بن سَوْسَن الطائفي روى هذا الحديث عن عمرو بن دينار، فقال بعض الرواة عنه: عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس. وبعضهم قال: عن عمرو، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس.
الثاني: استبعاد صحة الحديث، لعدم اشتهاره عن ابن عباس ومخالفته لظاهر القرآن.
فأما الأول، فقد أجاب عنه البيهقي
(1)
بأنه إنما جاء ذلك عن بعض الضعفاء. فأما [2/ 145] الثقات، فرووه عن الطائفي، عن عمرو، عن ابن عباس، كما يأتي. ورواية الثقات لا تُعلَّل برواية الضعفاء.
أقول: ومع ذلك فلو صحَّ الوجهان المذكوران أو أحدهما لصحَّ الحديث أيضًا، كما صحَّح الشيخان
(2)
حديث حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي، عن جابر في لحوم الخيل؛ مع رواية ابن عيينة وغيره له عن عمرو عن جابر
(3)
. ولهذا نظائر.
وأما الثاني، فالجواب عنه من وجهين:
الأول: أن ذاك الاستبعاد إن كان له وجه، فلا يُزيله إلا دعوى أن بين
(1)
في «السنن الكبرى» (10/ 168).
(2)
البخاري (5520) ومسلم (1941).
(3)
انظر «فتح الباري» (9/ 649، 650).
عمرو وابن عباس واسطة ضعيفة، إذ لو كان بينه وبينه ثقة لصح الحديث أيضًا كما مرَّ. وليس لأحد أن يفرض الواسطة الضعيفة هنا، فإن عمرًا لا يدلِّس مثل هذا التدليس، وإنما قد يُرسل ما سمعه من ثقة متفق عليه، كما أرسل عن جابر ما سمعه من محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عنه، ومحمد إمام حجة.
وقد تتبعت ما قيل إن عمرًا أرسله مثل هذا الإرسال غير الحديث السابق، فلم أجد إلا حديثًا حالُه كحال الحديث السابق. وذلك أن في «مسند أحمد» (ج 3 ص 368)
(1)
: «ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عمرو بن دينار، عن جابر
…
، قلت لعمرو: أنت سمعته من جابر؟ قال: لا». والحديث في «صحيح البخاري»
(2)
من طريق ابن عيينة «قال عمرو: أخبرني عطاء أنه سمع جابرًا
…
». فبيْنَ عمرو وجابر في هذا عطاء بن أبي رباح، وهو إمام حجة.
ووجدت حديثين آخرين لم يتضح لي الإرسال فيهما، فإن صحَّ فالواسطة في أحدهما عكرمة وطاوس أو أحدهما، وفي الثاني: ابن أبي مليكة، وهؤلاء كلهم ثقات أثبات. فإن ساغ أن يقال في حديث رواه عمرو عن ابن عباس: لعله لم يسمعه منه، فإنما يسوغ أن يُفرَض أن عمرًا سمعه من ثقة حجة سمعه من ابن عباس.
وفي ترجمة عمرو من «تهذيب التهذيب»
(3)
: «قال الترمذي: قال
(1)
رقم (14957).
(2)
رقم (5208).
(3)
(8/ 30).
البخاري: لم يسمع عمرو بن دينار من ابن عباس حديثَه عن عمر في البكاء على الميت. قال ابن حجر: قلت: ومقتضى ذلك أن يكون مدلِّسًا».
[2/ 146] أقول: لم أظفر برواية عمرو ذاك الحديثَ عن ابن عباس، والقصة ــ وفيها الحديث ــ ثابتة في «صحيح مسلم»
(1)
، و «مسند الحميدي»
(2)
من رواية عمرو، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس. فإن كان بعضهم روى الحديث عن عمرو عن ابن عباس، فلا ندري مَن الراوي؟ فإن كان ثقةً، فالحال في هذا الحديث كما تقدَّم، حدَّث به عمرو مرارًا عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس حتى عرف أن الناس قد عرفوا أنه لم يسمعه من ابن عباس، ثم قال مرةً على سبيل الفتيا أو المذاكرة:«قال ابن عباس» ، وليس هذا بالتدليس. على أنه لا مانع من أن يسمع من ابن أبي مليكة عن ابن عباس القصة وفيها الحديث، ويسمع من ابن عباس نفسه الحديث. ولا مانع من أن يسمع الرجل الحديث من رجل عن شيخ، ثم يسمعه من ذلك الشيخ نفسه، ثم يرويه تارة هكذا، وتارةً هكذا. وهذا النوع يسمى «المزيد في متصل الأسانيد» . وقد عد بعضهم منه حديث عمرو في لحوم الخيل.
وقد ذكر مسلم في مقدمة «صحيحه»
(3)
أمثلةً مما قد يقع من غير المدلس من إرسال ما لم يسمعه، وذكر منها حديث عمرو بن دينار في لحوم الخيل، وقد مرَّ. وهذا حكمٌ من مسلم بأن عمرًا غير مدلس، وأن ما قد يقع عن
(4)
مثل
(1)
(2/ 642).
(2)
رقم (220).
(3)
(1/ 31، 32).
(4)
كذا في (ط)، ولعل الصواب:«من» .
ذاك الإرسال ليس بتدليس. واحتج الشيخان بكثير من أحاديث عمرو التي لم يُصرِّح فيها بالسماع. واحتج مسلم
(1)
بحديث في المخابرة رواه ابن عيينة عن عمرو عن جابر، مع أنه قد ثبت عن ابن عيينة أن عمرًا لم يصرِّح فيه بالسماع من جابر. وهذا الترمذي
(2)
حاكي الحكايتين عن البخاري صحَّح في حديث لحوم الخيل روايةَ ابن عيينة التي فيها: «عمرو عن جابر» ، وخطَّأ حماد بن زيد في قوله:«عمرو، عن محمد بن علي، عن جابر» مع جلالة حماد وإتقانه، فلو كان عند الترمذي أن عمرًا يدلِّس لَما كان عنده بين الروايتين منافاة. والصحيح أنه لا منافاة ولا تدليس، كما مرَّ.
فأما ما في «معرفة الحديث» للحاكم (ص 111) في صدد كلامه في التدليس: «فليعلم صاحب الحديث أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة
…
وأن عامة حديث عمرو بن دينار عن الصحابة غير مسموعة»، فإنما قال ذلك في صدد من روى عمن لم يره قطُّ ولا سمع منه شيئًا. فإن تلك العبارة هي في صدد قوله (ص 109): «الجنس السادس من التدليس: قوم رووا عن شيوخ لم يروهم قطُّ
…
». وحاصل ذلك أن عمرًا يرسل عمن لم يره من الصحابة. وهذا ــ على قلة ما قد يوجد [2/ 147] عن عمرو فيه ــ ليس بتدليس، وإنما يسمِّيه جماعة تدليسًا إذا كان على وجه الإيهام. فأما أن يرسل المحدِّث عمن قد عرف الناس أنه لم يدركه أو لم يلقه، فلا إيهام فيه، فلا تدليس.
وعادة أئمة الحديث إذا كان الرجل ممن يكثر منه هذا الإرسال أن
(1)
رقم (1536/ 93).
(2)
رقم (1793).
ينصُّوا على أسماء الذين روى عنهم ولم يسمع منهم، كما تراه في تراجم مكحول، والحسن البصري، وأبي قلابة عبد الله بن زيد، وغيرهم. ولم نجد في ترجمة عمرو إلا قول ابن معين:«لم يسمع من البراء بن عازب» . ولعله لم يرسل عن البراء إلا خبرًا واحدًا
(1)
. وسماع عمرو من ابن عباس ثابت.
والحكم عندهم فيمن ليس بمدلِّس، ولكنه قد يرسل لا على سبيل الإيهام أن عنعنته محمولة على السماع، إلا أن يتبين أنه لم يسمع، كالحديث الذي رواه شعبة عن عمرو عن جابر، وقد تقدم. ووجه ذلك أنه لم يثبت عليه إلا أنه قد يُرسل لا على وجه الإيهام، ومعنى ذلك أنه لا يرسل إلا حيث يكون هناك دليل واضح على أنه لم يسمعه، فحيث وجدنا دليلًا واضحًا على عدم السماع فذاك، وحيث لم نجد كان الحكم هو السماع.
ألا ترى أن الثقة قد يخطئ، ومع ذلك فروايته محمولة على الصواب ما لم يقم دليل واضح على الخطأ، فأولى من ذلك أن يُحكَم بالاتصال في حديث من لم يُعرف عنه إلا الإرسالُ حيث لا إيهام؛ لأن المخطئ قد يخطئ حيث لا دليل على خطائه، بخلاف المرسل.
والحكم عندهم فيمن عُرف بالتدليس وكثُر منه، إلا أنه لا يدلِّس إلا فيما سمعه من ثقة لا شك فيه، أن عنعنته مقبولة، كما قالوه في ابن عيينة، فما بالك بما نحن فيه؟
(1)
وهو عن البراء مرفوعًا: «يا معشر التجار، إنكم تكثرون الحلف، فاخلطوا بيعكم هذا بالصدقة» . أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (7/ 21، 22) والطحاوي في «مشكل الآثار» (2082) والبيهقي في «شعب الإيمان» (4848).
وأما عدم اشتهار الحديث عن ابن عباس، فلا يضرُّه بعد أن رواه عنه ثقة جليل فقيه، وهو عمرو بن دينار. وكم من حديث صحَّحه الشيخان وغيرهما مع احتمال أن يقال فيه مثلُ هذا أو أشدُّ منه. هذا حديث «إنما الأعمال بالنيات» عظيم الأهمية عند أهل العلم حتى قالوا: إنه نصف العلم، وهذا مما يقتضي اشتهاره. وفي روايته ما يشير إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب به على المنبر
(1)
، وهذا مما يقتضي اشتهاره. وذُكِر فيه أن عمر بن الخطاب رواه وهو يخطب على المنبر، وهذا مما يقتضي اشتهاره. ومع ذلك لم يروه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير عمر بن الخطاب، ولا رواه عن عمر غير علقمة بن وقاص، ولا رواه عن علقمة غير محمد بن إبراهيم [2/ 148] التيمي، ولا رواه عن محمد غير يحيى بن سعيد الأنصاري. ومع ذلك صحَّحه الشيخان وغيرهما، وجعلوه أصلًا من أصول العلم، بل جعلوه نصف العلم، كما مرَّ.
فإن قيل: لكن له شواهد.
قلت: وحديث القضاء بالشاهد واليمين كذلك، فقد جاء من رواية جماعة من الصحابة بأسانيد جيدة قد صححوا نظائرها. وجاء من رواية آخرين بأسانيد تصلح للاستشهاد. وجاء من مرسل عدةٍ من التابعين، وكان عليه عمل أهل الحجاز لا يُعرف عندهم خلافُه.
فإن قيل: فقد قلتَ في حديث ابن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس في قطع يد السارق في ثمن المِجنّ، ما قلتَ.
(1)
كما في «صحيح البخاري» (6953).
قلت: ذاك خبر اضطرب فيه ابن إسحاق أشدَّ اضطراب، وابن إسحاق في حفظه شيء، وجاءت أدلة تقضي بأنه من قول عطاء، لا من روايته عن ابن عباس، كما تقدم تفصيلُه في المسألة السابقة. وليس الأمر هاهنا كذلك، ولا قريبًا من ذلك. وقد تجتمع عدة أمور يقدح مجموعها في صحة الحديث، ومنها ما لو انفرد لم يَضُرَّ.
وأما مخالفته لظاهر القرآن ــ كما قد يشير إليه صنيع البخاري في «صحيحه»
(1)
ــ فكم من حديث صححه هو وغيره، وهو مخالف لظاهر القرآن، كحديث المنع من الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها
(2)
، وحديث النهي عن أكل كل ذي ناب أو مخلب
(3)
، وحديث النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية
(4)
، وغير ذلك. وكم من دلالة ظاهرة من القرآن خالفها الحنفية أنفسهم، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك في المسألة الثانية عشرة. وذكر ابن حجر في «الفتح»
(5)
أمثلة من ذلك، وبسط الشافعي الكلام في «الأم» (ج 7 ص 6 - 31)
(6)
. ومع ذلك فمخالفةُ حديث القضاء بشاهد ويمين لظاهر القرآن مدفوعةٌ، كما ستراه.
(1)
(5/ 280 مع «الفتح»).
(2)
أخرجه البخاري (5109) ومسلم (1408) من حديث أبي هريرة.
(3)
أخرجه البخاري (5530) ومسلم (1932) من حديث أبي ثعلبة الخشني. وأخرجه مسلم (1934) من حديث ابن عباس.
(4)
أخرجه البخاري (5521) ومسلم عقب (1936) من حديث ابن عمر. وفي الباب أحاديث أخرى في الصحيحين وغيرهما.
(5)
(5/ 281، 282).
(6)
(8/ 36 - 83).
قال الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى أن قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} إلى أن قال: {ذَلِكُمْ [2/ 149] أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} إلى أن قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 282 - 283].
إن قيل: أمر الله تعالى أن يُستشهد عند المداينة رجلان، فإن لم يكونا فرجل وامرأتان؛ فدل ذلك على أنه لا يثبت الحق عند التداعي عند الحاكم إلا بذلك.
فالجواب: إن أردتم أنه لا يثبت مطلقًا إلا بذلك، فهذا باطل؛ إذ قد يثبت الحق بالاعتراف، وبالنكول فقط عند الحنفية، ومع يمين المدعي عندنا. وإن أردتم أنه لا يثبت بشهادة إلا كذلك، فهذا لا يفيدكم؛ فإن الحديث إنما أثبته بالشاهد واليمين، لا بالشاهد وحده.
فإن قيل: لو كان يثبت بشاهد ويمين لما كان بالأمر برجلين أو رجل وامرأتين فائدة.
قلنا: بلى، له فوائد عظيمة:
الأولى: ما نصت عليه الآية: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282]، وهذا كما يحصل بالكتابة مع أن الحق لا يثبت بالكتاب وحده، فكذلك يحصل بالشهادة التامة. فإن القضاء بشهادة تامة
أظهر في القسط والعدل من القضاء بشاهد ويمين، وأقوم للشهادة لأن كلًّا من الشاهدين يبالغ في التحفظ لئلا تخالف شهادته شهادة الآخر، وأبعد عن الريبة كما لايخفى. وقد دل الإتيان بصيغة التفضيل على أن أصل القسط، وقيام الشهادة، والبعد عن الريبة= قد يحصل بما هو دون ما ذُكر، فما هو؟ ليس إلا الشاهد واليمين، كما دل عليه الحديث. فالآية تدل على صحة الحديث، لأنه لو لم يكن صحيحًا لما كان هناك ما يحصل به ما اقتضته الآية.
الفائدة الثانية: أن ذلك أحوط للحق، إذ لو استُشهِد رجلٌ واحد فقط، فقد يموت قبل أداء الشهادة، أو يعرض له ما تفوت به شهادته، كالجنون أو النسيان أو الفسق أو الغَيبة، فإذا كانا اثنين فالغالب أنه لا يعرض لهما ذلك معًا. وهذه أدنى درجات الاحتياط نبهتْ عليها الآية، ولم تمنع مما فوقها، بل في هذا إشارة إلى أنه إذا اقتضت الحال ينبغي مظاهرة الاحتياط، وذلك كأن تكون مدة الدَّين طويلة كخمس عشرة سنة، ووجد شاهدان شيخين كبيرين، فينبغي الزيادة في عدد الشهود بحيث يغلب أنهم لا يموتون جميعًا قبل حلول الدين، أو يعرض لهم جميعًا ما تفوت به شهادتهم.
[2/ 150] الفائدة الثالثة: أن الشاهد الواحد لا يثبت به الحق، بل لا بد معه من اليمين، وقد يكبر على المدعي أن يحلف خشية أن يتهمه بعض الناس، أو لأنه قد نسي القضية أو صفتها، أو لأنه لم يحضرها وإنما حضرها مورثه الذي قد مات. وقد يُجَنُّ الدائن أو يموت ويكون وارثه صبيًّا أو مجنونًا، فتتعذر اليمين وقت المطالبة، فيتأخر القضاء بالحق إلى أن يكمل صاحبه أو يموت.
فإن قيل: ذكر البخاري في «الصحيح»
(1)
عن ابن شبرمة أنه احتج على أبي الزناد بالآية، وذكر قوله تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]. قال: «قلت: إذا كان يُكتفَى بشهادة شاهد ويمين المدعي، فما يحتاج أن تُذكِّر إحداهما الأخرى؟ ما كان يصنع بذكر هذه الأخرى؟ » .
قلت: قد تقدم ما يُعلم منه الجواب. ولا بأس بإيضاحه، فأقول: يصنع بذكر الأخرى أنه إذا كان الرجل باقيًا حاضرًا جائز الشهادة أن تتم الشهادة، فيكون ذلك أقسط عند الله، وأقوم للشهادة، وأبعد عن الارتياب. ولا يتوقف ثبوتُ الحق على يمين المدعي، وقد تكبر عليه، أو تتعذر منه، فيضيع الحق أو يتأخر، كما تقدم. وإن كان الرجل قد مات أو عرض له ما فوَّت شهادته، شهدت المرأتان، وحلف المدعي معهما، وثبت الحق كما هو مذهب مالك. والظاهر أنه كان مذهب أبي الزناد، وهو مذهب قوي؛ فإن الآية أقامت المرأتين مقام رجل. وفي «الصحيحين»
(2)
من حديث أبي سعيد الخدري في قصة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم العيد ومروره على النساء وموعظته لهن: «قال: «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ » قلن: بلى». وهذا قاضٍ بأن شهادة المرأتين في ما تُقبل فيه شهادتهن مثل شهادة رجل. فأما اشتراط الآية لاستشهاد المرأتين أن لا يكون رجل، فإنما هو ــ والله أعلم ــ لأن المطلوب في حق النساء الستر والصيانة، والشهادة تستدعي البروزَ، وحضورَ مجالس الحكام، والتعرضَ لطعن المشهود عليه.
(1)
(5/ 280 مع «الفتح»).
(2)
البخاري (304). وأخرجه مسلم (889) وليس فيه لفظ الموعظة.
فقد اتضح بحمد الله تبارك وتعالى أنه ليس في الآية ما يتجه معه أن يقال: إن الحديث مخالف لظاهر القرآن، بل ثبت أن فيها ما يشهد له بالصحة.
وأما المخالفة لبعض الأحاديث الصحيحة، فذكروا هاهنا ما جاء في قصة الأشعث بن قيس [2/ 151] أنه ادعى على رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«شاهداك أو يمينه»
(1)
. وحديث «الصحيحين»
(2)
عن ابن عباس مرفوعًا: «لو يُعطى الناسُ بدعواهم لادعى ناسٌ دماءَ رجال وأموالَهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» لفظ مسلم.
والجواب عن الحديث الأول: أنه في «الصحيحين» وغيرهما من طريق أبي وائل شقيق بن سلمة عن الأشعث بن قيس، واختلفت ألفاظ الرواة في ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ففي رواية
(3)
: «شاهداك أو يمينه» ، وفي أخرى
(4)
: «بيِّنتك أو يمينه» ، وفي ثالثة أنه بدأ فقال للأشعث:«ألك بينة؟» . قال الأشعث: قلت: لا. قال: «فليحلف» . هكذا في «صحيح البخاري»
(5)
في كتاب الأحكام في باب الحكم في البئر من طريق سفيان الثوري عن منصور والأعمش عن أبي وائل. وهكذا رواه أبو معاوية عن الأعمش إلا أنه قال: «فقال لليهودي: احلفْ» . أخرجه البخاري
(6)
في كتاب
(1)
أخرجه البخاري (6677) ومسلم (138) من حديث الأشعث.
(2)
البخاري (4552) ومسلم (1711).
(3)
عند البخاري (2516، 2670) ومسلم (138/ 221).
(4)
عند البخاري (4550، 6677).
(5)
رقم (7183).
(6)
رقم (2667) وأيضًا (2417).
الشهادات من «صحيحه» ، باب سؤال الحاكم المدعي: ألك بينة؟ ونحوه في «صحيح مسلم»
(1)
و «مسند أحمد» (ج 5 ص 211)
(2)
من طريق أبي معاوية ووكيع عن الأعمش ــ إلى غير ذلك.
فلا ندري ما هو اللفظ الذي نطقَ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكنْ أجلُّ مَن روى الحديث عن أبي وائل منصورٌ والأعمش، وأجلُّ مَن رواه عنهما سفيان الثوري، وهو إمام في الإتقان والفقه، وروايته هي الأشبه بآداب القضاء: أن يبدأ القاضي فيسأل المدعي: أله بيِّنة؟ فإن لم يكن له بينة وجَّه اليمينَ على المدعى عليه. والبينة كلُّ ما بيَّن الحق، فتصدق على البينة التامة، وهي ما لا يحتاج معها إلى يمين، وبالبينة
(3)
الناقصة وهي ما يحتاج معها إلى يمين.
على أنه لو ثبت أن لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «شاهداك أو يمينه» فدلالةُ هذا على نفي القضاء بشاهد ويمين ليست بالقوية، ودلالة أحاديث القضاء بالشاهد واليمين واضحة.
فإن قيل: يقوِّي هذه أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
قلت: فإن ظاهرها يقتضي أن لا تقبل شهادة رجل وامرأتين.
فإن قيل: يجوز أن يكون الأشعث قد علم قبولَ رجل وامرأتين.
قلت: ويجوز أن يكون قد علم قبول شاهد ويمين. والحق أنه يجوز أن لا يكون قد [2/ 152] علِمَ ذا ولا ذاك، وليس هناك محذور؛ لأن من شأن
(1)
رقم (138/ 220).
(2)
رقم (21837).
(3)
كذا في الأصل، والأوفق للسياق:«على البينة» .
المدعي أن يكون حريصًا على إظهار كلِّ ما يؤمِّل أن ينفعه، فلو كان له شاهد وامرأتان، أو شاهد فقط، أو امرأة واحدة، وقيل له:«شاهداك أو يمينه» = لقال: لا أجد شاهدين، ولكني أجد كذا. وقد نازع في تحليف المدعى عليه كما في بقية القصة، فإن فيها «قلت: يا رسول الله ما لي بيمينه؟ وإن تجعلها بيمينه تذهب بئري، إن خصمي امرؤ فاجر». أفتراه ينازع في هذا، ويأخذ بما يُشعِر به قولُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن كان ما قاله «شاهداك» ، فلا يقول: لي شاهد واحد، إن كان له؟
وأما الحديث الثاني، فأوله يبيِّن آخره، ويدل على أن محلّ قوله:«اليمين على المدعى عليه» حيث لا يكون للمدعي إلا دعواه فقط. وكما أنه لا يتناول من له شاهدان، لأنه لم يُعطَ بمجرد دعواه، وإنما أُعطِي بدعواه مع شهادة الشاهدين، فكذلك لا يتناول من له شاهد، لأنه إن أُعطِي فلم يُعطَ بمجرد دعواه.
وأما ما يقال: إن اختصاص المدعى عليه باليمين أصل من الأصول، فحديثُ القضاء بشاهد ويمين المدعي مخالفٌ للأصول= فتهويل. ويمكن دفعه بأن المدعي لما أقام شاهدًا عدلًا صار الظاهر بيده، فإذا أصرَّ المدعى عليه على الإنكار فهو مدّعٍ لبطلان ذاك الظهور، فقد صار المدعي في معنى المدعى عليه، وصار المدعى عليه في معنى المدعي. ويمكن معارضته بأصل آخر، وهو: أنه لا يحلَّف المدعى عليه مع وجود بينة للمدعي.
فإن قيل: ذاك إذا كانت بينة تامة.
قلت: لنا أن نمنع هذا. ويتحصل من ذلك أن المتفق عليه أنه لا يمين للمدعي حيث لا شاهد له، ولا يمين للمدعى عليه مع وجود بينة تامة. ويبقى ما إذا كان للمدعي شاهد واحد مترددا بين هذين الأصلين، فيؤخذ فيه بالدليل
الخاص به، وقد ثبت الحديث بتحليف المدعي، فإن حلف صارت البينة في معنى التامة، وإن أبى صار في معنى من لا شاهدَ له أصلا. والله الموفق.
وأما الانقطاع الثاني
(1)
وهو بين قيس وعمرو، فلا وجه له، ولم يقله من يُعتَدُّ به. وقد تقدم أن البخاري كأنه استبعد صحة الحديث، ثم لم يكن عنده إلا أنه حدس أن عمرًا لم يسمعه [2/ 153] من ابن عباس، وقد تقدم الكلام معه في ذلك. وهو الذي يشدِّد في اشتراط العلم باللقاء، فلو كان هناك مجال للشك في سماع قيس من عمرو لما تركه البخاري والتجأ إلى ذاك الحدس الضعيف الذي لا يُجدِي. وقيس وُلِدَ بعد عمرو، ومات قبله. وكان معه بمكة، وسمع كلٌّ منهما من عطاء وطاوس وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم. وكان عمرو لا يدع الخروج إلى المسجد الحرام والقعود فيه إلى أن مات، كما تراه في ترجمته من «طبقات ابن سعد»
(2)
. وكان قيس قد خلف عطاء في مجلسه كما ذكره ابن سعد أيضًا
(3)
. وسمع عمرو من ابن عباس وجابر وابن عمر وغيرهم، ولم يدركهم قيس. فهل يُظَن بقيس أنه لم يلقَ عمرًا، وهو معه بمكة منذ ولد قيس إلى أن مات؟ أو لم يكونا يصلّيان معًا في المسجد الحرام الجمعة والجماعة؟ أو لم يكونا يجتمعان في حلقة عطاء وغيره في المسجد؟ ثم كان لكل منهما حلقة في المسجد قد لا تبعد إحدى الحلقتين عن الأخرى إلا بضعة أذرع. أوَ يُظنُّ بقيس أنه استنكف عن
(4)
(1)
تقدَّم الانقطاع الأول (ص 239).
(2)
(5/ 479).
(3)
المصدر السابق (5/ 483).
(4)
(ط): «من» . والمثبت من (خ).
السماع من عمرو لأنه قد شاركه في صغار مشايخه، ثم يرسل عنه إرسالًا؟ وقد قاتل الأستاذ أشدَّ القتال لمحاولة دفع قولهم: إن أبا حنيفة الذي ولد سنة ثمانين بالكوفة ونشأ بها مُعرضًا عن سماع الحديث لم يسمع من أنس الذي عاش بالبصرة وتوفي بها سنة إحدى وتسعين، وقيل: بعدها بسنة أو سنتين. وليس بيده إلا أنه قد قيل: إن أبا حنيفة رأى أنسًا! وقد تعرضت لذلك في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت من قسم التراجم. ثم ترى الأستاذ هنا يجاري أصحابه في توهمهم الباطل مع وضوح الحال.
وسبب الوهم في هذا أن الطحاوي ذكر هذا الحديث فقال
(1)
: «وأما حديث ابن عباس فمنكر، لأن قيس بن سعد لا نعلمه يحدِّث عن عمرو بن دينار بشيء» . فتوهم جماعة ــ من آخرهم الأستاذ الكوثري ــ أن الطحاوي قصد بهذا أن قيسًا عن عمرو منقطع، لعدم ثبوت اللقاء، بناءً على القول باشتراط العلم به، القول الذي ردَّه مسلم في مقدمة «صحيحه» ، ونقل إجماع أهل العلم على خلافه.
وعبارة الطحاوي لا تعطي ما توهَّموه، فإنه ادعى أن الحديث منكر، ثم وجَّه ذلك بقوله:«لأن قيس بن سعد لا نعلمه يحدِّث عن عمرو بن دينار بشيء» ، ولم يتعرَّض لسماعه منه ولقائه له [2/ 154] بنفي ولا إثبات. ولا ملازمة بين عدم التحديث وعدم اللقاء أو السماع، فإن كثيرًا من الرواة لقوا جماعة من المشايخ وسمعوا منهم، ثم لم يحدِّثوا عنهم بشيء.
فإن قيل: إنما ذاك لاعتقادهم ضعف أولئك المشايخ، وعمرو لم يستضعفه أحد.
(1)
«معاني الآثار» (4/ 145).
قلت: بل قد يكون لسبب آخر، كما امتنع ابن وهب من الرواية عن المفضَّل بن فَضالة القِتْباني لأنه قضى عليه بقضية، وامتنع مسلم من الرواية عن محمد بن يحيى الذهلي لما جرى له معه في شأن اختلافه مع البخاري. فكأن الطحاوي رأى أن قيسًا لو كان يروي عن عمرو لجاء من روايته عنه عدة أحاديث، لأن عمرًا كان أقدم وأكبر وأجلّ، وقد سمع من الصحابة، وحديثه كثير مرغوب فيه، وكان قيس معه بمكة منذ ولد. فحدَسَ الطحاوي أن قيسًا كان ممتنعًا من الرواية عن عمرو، فلما جاء هذا الحديث استنكره، كما قد نستنكر أن نرى حديثًا من رواية ابن وهب عن المفضل، أو من رواية مسلم عن محمد بن يحيى.
فإن قيل: فقد يكون لاستنكاره خشي انقطاعه.
قلت: كيف يُبنَى على ظنِّ امتناع قيسٍ من الرواية عن عمرو نفسه أن يُحمَل هذا الحديث على أنه أرسله عنه؟ بل المعقول أنه إذا امتنع من الرواية عنه نفسِه كان أشد امتناعًا من أن يروي عن رجل عنه، فضلًا عن أن يُرسِل عنه، أو بعبارة أخرى يدلِّس، وقيس غير مدلّس.
فإن قيل: فعلى ماذا يُحمل؟
قلت: أما الطحاوي، فكأنه خشي أن يكون سيف ــ وهو راوي الحديث عن قيس ــ أخطأ في روايته عن قيس عن عمرو.
فإن قيل: فهل تقبلون هذا من الطحاوي؟
قلت: لا، فإن أئمة الحديث لم يُعرِّجوا عليه. هذا البخاري مع استبعاده لصحة الحديث ــ فيما يظهر ــ إنما حدسَ أن عمرًا لم يسمعه من ابن عباس،
وذلك يقضي أن الحديث عنده ثابت عن عمرو. وهذا مسلم أخرج الحديث في «صحيحه»
(1)
، وثبَّته النسائي
(2)
وغيره. وليس هناك مظنة للخطأ. وسيف ثقة ثبت، لو جاء عن مثله عن ابن وهب عن المفضل بن فضالة، أو عن مسلم [2/ 155] عن محمد بن يحيى، لوجب قبوله؛ لأن المحدِّث قد يمتنع عن الرواية عن شيخ، ثم يُضطرُّ إلى بعض حديثه. هذا على فرض ثبوت الامتناع، فكيف وهو غير ثابت هنا؟
بل قد جاء عن قيس عن عمرو حديث آخر، روى وهب بن جرير عن أبيه قال: «سمعت قيس بن سعد يحدِّث عن عمرو بن دينار
…
» ووهب وأبوه من الثقات الأثبات. ذكر البيهقي ذلك في «الخلافيات» ، ثم قال:«ولا يبعد أن يكون له عن عمرو غير هذا» . نقله ابن التركماني في «الجوهر النقي»
(3)
، ثم راح يناقش البيهقي بناءً على ما توهموه أن مقصود الطحاوي الانقطاع، ودعوى أنه لم يثبت لقيس لقاء عمرو، وقد مرَّ إبطال هذا الوهم. والطحاوي أعرف من أن يدّعي ذلك، لظهور بطلانه، مع ما يلزمه من اتهام قيس بالتدليس الشديد الموهِم للقاء والسماع، على فرض أن هناك مجالًا للشك في اللقاء.
وقد بيَّنا أن الطحاوي إنما حام حول الامتناع، والحق أنه لا امتناع،
(1)
رقم (1712).
(2)
في «السنن الكبرى» (5967). قال: هذا إسناد جيد، وسيف ثقة، وقيس ثقة، وقال يحيى بن سعيد القطان: سيف ثقة.
(3)
(10/ 168). والحديث قد أخرجه الدارقطني (2/ 296) والخطيب في «تاريخ بغداد» (14/ 214) بالإسناد المذكور.
ولكن قيسًا عاجله الموت. ولما كان يحدِّث في حلقته في المسجد الحرام كان عمرو حيًّا في المسجد نفسه، ولعل حلقته كانت بالقرب من حلقة عمرو، فكان قيس يرى أن الناس في غنى عن السماع منه عن عمرو، لأن عمرًا معهم بالمسجد. فكان قيس يحدِّث بما سمعه من أكابر شيوخه، فإن احتاج إلى شيء من حديث عمرو في فتوى أو مذاكرة فذكره، قام السامعون أو بعضهم فسألوا عمرًا عن ذاك الحديث، فحدَّثهم به، فرووه عنه، ولم يحتاجوا إلى ذكر قيس. واستغنى سيف في هذا الحديث، وجرير في الحديث الآخر بالسماع من قيس، لأنه ثقة ثبت؛ ولعله عرض لهما عائق عن سؤال عمرو.
هذا، وقد تابع قيسًا على رواية هذا الحديث عن عمرو بن دينار محمدُ بن مسلم بن سَوسَن الطائفي. ذكر أبو داود في «السنن»
(1)
حديث سيف، ثم قال:«حدثنا محمد بن يحيى وسلمة بن شبيب، قالا: ثنا عبد الرزاق، نا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار ــ بإسناده ومعناه. قال سلمة في حديثه: قال عمرو: في الحقوق» . وأخرجه البيهقي في «السنن» (ج 10 ص 168) من طريق عبد الرزاق ومن طريق أبي حذيفة، كلاهما عن الطائفي.
والطائفي استشهد به صاحبا «الصحيح» ، ووثقه ابن معين وأبو داود والعجلي ويعقوب بن سفيان وغيرهم. وقال [2/ 156] ابن معين مرة:«ثقة لا بأس به، وابن عيينة أثبت منه. وكان إذا حدَّث من حفظه يخطئ، وإذا حدَّث من كتابه فليس به بأس. وابن عيينة أوثق منه في عمرو بن دينار، ومحمد بن مسلم أحب إليَّ من داود العطار في عمرو» . وداود العطار هذا هو داود بن
(1)
رقم (3609).
عبد الرحمن، ثقة متفق عليه، وثَّقه ابن معين وغيره.
وقال عبد الرزاق: «ما كان أعجب محمد بن مسلم إلى الثوري» . وقال البخاري عن ابن مهدي: «كتبه صحاح» . وقال ابن عدي: «لم أر له حديثًا منكرًا» . وضعَّفه أحمد، ولم يبيِّن وجه ذلك، فهو محمول على أنه يخطئ فيما يحدِّث به من حفظه.
فأما قول الميموني: «ضعَّفه أحمد على كل حال، من كتاب وغير كتاب» ، فهذا ظن الميموني، سمع أحمد يطلق التضعيف، فحمل ذلك على ظاهره. وقد دل كلام غيره من الأئمة على التفصيل، ولا يظهر في هذا الحديث مظنة للخطأ، وقد اندفع احتماله بمتابعة سيف
(1)
.
هذا، وللحديث شواهد. منها حديث ربيعة الرأي، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة
(2)
: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد» . كان سهيل أصيب بما أنساه بعضَ حديثه، ومن ذلك هذا الحديث، فكان سهيل بعد ذلك يرويه عن ربيعة ويقول:«أخبرني ربيعة ــ وهو عندي ثقة ــ أني حدَّثته إياه، ولا أحفظه» . والنسيان علة غير قادحة. وقد رواه يعقوب بن حميد
(3)
عن محمد بن عبد الله العامري «أنه سمع سهيل بن أبي صالح يحدِّث عن أبيه، فذكره» .
(1)
كذا في الأصل. وهو سبق قلم من المؤلف، والصواب:«قيس» ، فهو المتابع للطائفي، كما هو ظاهر. [ن].
(2)
أخرجه أبو داود (3610) والترمذي (1343) وابن حبان (5073) والبيهقي في «الكبرى» (10/ 168).
(3)
أخرجه من طريقه البيهقي (10/ 169).
وذكر ابن التركماني
(1)
أنه اختُلِف على سهيل. رواه عثمان بن الحكم، عن زهير بن محمد، عن سهيل، عن أبيه، عن زيد بن ثابت.
قلت: إن كان هذا مخالفًا لذاك، فذاك أثبت
(2)
. عثمان مصري، قال فيه أبو حاتم:«ليس بالمتين» ، وزهير أنكروا [عليه] الأحاديث التي يرويها عنه غير العراقيين.
وروى [2/ 157] المغيرة بن عبد الرحمن الحِزامي
(3)
عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد» . قال ابن التركماني
(4)
: «مغيرة قال فيه ابن معين: ليس بشيء» .
أقول: هذا حكاه عباس عن ابن معين. وقد قال الآجري: «قلت لأبي داود: إن عباسًا حكى عن ابن معين أنه ضعَّف مغيرة بن عبد الرحمن الحزامي، ووثَّق (مغيرة بن عبد الرحمن) المخزومي. فقال: غلط عباس» . والحزامي احتج به الشيخان وبقية الستة. وقال أبو زرعة: «هو أحبُّ إلي من [ابن] أبي الزناد وشعيب» ، يعني في حديث أبي الزناد، كما في «التهذيب»
(5)
. وشعيب هو ابن أبي حمزة ثقة متفق عليه. قال أبو زرعة:
(1)
في «الجوهر النقي» (10/ 169).
(2)
قلت: قد صحح الطريقين عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة، وعن سهيل عن أبيه عن زيد بن ثابت الإمامان: أبو حاتم وأبو زرعة الرازي، كما بينته في «الإرواء» ، فإشارة ابن التركماني إلى إعلاله انتصارًا لمذهبه لا قيمة له. [ن].
(3)
أخرجه من طريقه البيهقي (10/ 169).
(4)
«الجوهر النقي» (10/ 169).
(5)
(10/ 266).
«شعيب أشبَهُ حديثًا وأصحُّ من ابن أبي الزناد» . وابن أبي الزناد تقدم ذكره في المسألة الثانية. وقد حكى الساجي عن ابن معين أنه قال: «عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة حجة» . وحكى البيهقي
(1)
عن الإمام أحمد أنه قال: «ليس في هذا الباب حديث أصح من هذا» .
قال ابن التركماني
(2)
: «قال صاحب «التمهيد» : أصحُّ إسنادٍ لهذا الحديث حديث ابن عباس. وهذا بخلاف ما قال ابن حنبل».
أقول: كلاهما صحيح، ولا يفيد الحنفيةَ الاختلافُ في أيهما أصح.
وذكر ابن عدي أن ابن عجلان وغيره رووا عن أبي الزناد عن ابن أبي صفية عن شريح قوله
(3)
. وهذا لا يوهن رواية المغيرة، إذ لا يمتنع أن يكون الحديث عن أبي الزناد من الوجهين، وإنما كان يكثر من ذكر المروي عن شريح لأن شريحًا عراقي، والخلاف في المسألة مع العراقيين، ومن عادتهم أنهم يخضعون للمقاطيع عن أهل بلدهم، ويردون الأحاديث المرفوعة من حديث الحجازيين.
ولذلك جاء عن محمد بن علي بن الحسين أنهم سألوه: أقضى النبي صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد؟ قال: «نعم، وقضى به علي رضي الله عنه بين أظهركم» . ذكره البيهقي (ج 10 ص 173).
(1)
(10/ 169).
(2)
(10/ 169). وانظر «التمهيد» (2/ 138).
(3)
قلت: عزو هذا لابن عدي فيه نظر، فإنه ليس عنده في ترجمة المغيرة من «الكامل» (ق 386/ 1 - 2)، والمصنف أخذه من «التهذيب» ، ولكن هذا لم يصرح بعزوه إلى ابن عدي وإنما هو من قول الذهبي في «الميزان» مصرحًا به أنه من قوله. [ن].
وذكر البخاري عن زكريا بن عدي أن ابن المبارك ناظر [2/ 158] الكوفيين في النبيذ، «فجعل ابن المبارك يحتج بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار من أهل المدينة. قالوا: لا، ولكن من حديثنا! قال ابن المبارك
…
عن إبراهيم قال: كانوا يقولون: إذا سكر من شراب، لا يحل له أن يعود فيه أبدًا. فنكَّسوا رؤوسهم. فقال ابن المبارك للذي يليه: رأيتَ أعجبَ من هؤلاء؟ أُحدِّثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه والتابعين فلم يعبؤوا به، وأذكر عن إبراهيم فنكَّسوا رؤوسهم! » حكاه البيهقي في «السنن» (ج 8 ص 298).
وروى عبد الوهاب الثقفي
(1)
ــ وهو ثقة ــ عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد» . أعلَّه جماعة بأن جماعة رووه عن جعفر عن أبيه مرسلًا. ونازع في ذلك الدارقطني
(2)
ثم البيهقي
(3)
(4)
.
وفي الباب أحاديث أخرى ومراسيل ومقاطيع عند الدارقطني والبيهقي
(5)
وغيرهما. والحديث أشهر من كثير من الأحاديث التي يدّعي
(1)
أخرجه الترمذي (1344) وابن ماجه (2369) والدارقطني (4/ 212) من طريقه.
(2)
في «العلل» (3/ 96 - 98).
(3)
في «السنن الكبرى» (10/ 169، 170).
(4)
قلت: وهَبْ أن الراجح أنه مرسل. فهو مرسل صحيح الإسناد، وهو حجة عند الحنفية، لاسيَّما وله شواهد موصولة كما تقدم، فالحديث صحيح حجة عند الجميع لولا العصبية المذهبية عافانا الله منها. وقد خرجت كثيرًا من الشواهد لهذا الحديث عن جماعة من الصحابة في «إرواء الغليل» . [ن].
(5)
انظر «سنن» الدارقطني (4/ 212 وما بعدها) والبيهقي (10/ 170 وما بعدها).
لها الحنفية الشهرة، ويحتجون بها على خلاف القرآن والسنن المتواترة.
وأما قول الأستاذ: «مع عدم ظهور دلالته على المتنازع فيه» ، فيشير به إلى تأويلات أصحابه. فمنها زعمُ بعضهم في حديث مسلم:«قضى بيمين وشاهد» أن المعنى قضى بيمين حيث لا شاهدين، وقضى بشاهد حيث وجد الشهود، والمراد بـ (شاهد) الجنس. وهذا التأويل كما ترى!
أولًا: لأنه خلاف الظاهر.
ثانيًا: لأنه يجعل الكلام لا فائدة له، فإنه لا يخفى على أحد أنه يُقضى باليمين حيث لا بينة، ويقضى بالشاهدين حيث وُجدا.
ثالثًا: حَمْلُ «شاهد» على الجنس، ثم إخراج الواحد منه لا يخفى حاله.
[2/ 159] رابعًا: هذا اللفظ رواية زيد بن الحباب عن سيف. وقد رواه عبد الله بن الحارث بن عبد الملك المخزومي عن سيف، فقال:«قضى باليمين مع الشاهد» . رواه الإمامان الشافعي وأحمد عن عبد الله بن الحارث، كما في «الأم» (ج 6 ص 273)
(1)
و «مسند أحمد» (ج 1 ص 323)
(2)
. وزاد في رواية الشافعي: «قال عمرو: في الأموال» . وفي رواية أحمد: «قال عمرو: إنما ذاك في الأموال» .
وعبد الله بن الحارث كأنه أثبت من زيد بن الحباب، فإن زيدًا قد وُصِف بأنه يخطئ، ولم يُوصَف بذلك عبد الله، وكلاهما ثقتان من رجال
(1)
(7/ 624، 625) ط. دار الوفاء.
(2)
رقم (2968). وأخرجه أيضًا النسائي في «الكبرى» (5967) وابن ماجه (2370) بهذا الإسناد واللفظ.
مسلم. وهكذا رواه محمد بن مسلم الطائفي
(1)
عن عمرو، إلا أنه قال:«قال عمرو: في الحقوق» .
فقوله: «قضى باليمين مع الشاهد» لا يمكن ــ ولو على بُعد بعيد ــ إجراءُ تأويلهم المذكور فيه. وراويه عن ابن عباس ــ وهو عمرو بن دينار ثقة جليل فقيه ــ أقرَّه على المعنى الذي نقول به، ولهذا خصَّه بالأموال. والقضاء باليمين حيث لا شهود قد يكون في غير الأموال، وكذلك القضاء بالشاهدين.
وهكذا جاء لفظ هذا الحديث «قضى باليمين مع الشاهد» في حديث أبي هريرة وحديث جابر
(2)
وغيرهما. وفي بعض الشواهد والمراسيل والمقاطيع التصريحُ الواضح.
ومن التأويلات: قول بعضهم في لفظ «قضى باليمين مع الشاهد» : إن المعنى قضى بيمين المدعى عليه مع وجود شاهد واحد للمدعي.
ورُدَّ بأوجه:
منها: أنه خلاف الظاهر، فإن الظاهر أن المعية بين اليمين والشاهد، وأنه قضى بهما معًا.
ومنها: أن الرواية الأولى تردُّ هذا التأويل.
ومنها: أن راويه عن ابن عباس ــ وهو ثقة جليل فقيه ــ أقرَّه على ظاهره كما سلف.
(1)
أخرجه من طريقه أبو داود (3609) والبيهقي (10/ 168).
(2)
سبق تخريجهما.
ومنها: ما ورد في بعض الشواهد والمراسيل والمقاطيع من التصريح الواضح.
وفي «الفتح»
(1)
عن ابن العربي أن بعضهم حمله على صورة خاصة، وهي أن رجلًا اشترى من آخر عبدًا مثلًا فادعى المشتري أن به عيبًا، وأقام شاهدًا واحدًا. فقال البائع: بعته بالبراءة، فيحلف المشتري أنه ما اشترى بالبراءة، ويردُّ العبد.
أقول: حاصل هذا التأويل أن البائع أنكر أولًا العيب، فأقام المدعي وهو المشتري شاهدًا واحدًا، فاعترف المدعى عليه وهو البائع، ولكنه ادّعى دعوى أخرى، وهي أنه باع [2/ 160] بالبراءة. فأنكر المشتري، ولم يكن للبائع بينة، فيحلف المشتري. وأنت خبير أن هذه قضيتان: قضى في الأولى بالاعتراف، وفي الثانية باليمين، وذهب الشاهد لغوًا. فكيف يعبِّر الصحابة عن هذا بلفظ «قضى باليمين مع الشاهد» ، و «قضى بيمين وشاهد» ؟ فإن كلًّا من هاتين العبارتين تعطي أن القضاء وقع باليمين والشاهد معًا.
فإن قيل: قد يقال: لم يعترف البائع بل قال: لا عيب، فإن كان فلا يلزمني لأنني بعت بالبراءة.
قلت: فعلى هذا إن حلف المشتري على وجود العيب وعدم البراءة، فقد قضى له في القضية الثانية بيمينه فقط، وفي الأولى بشاهده ويمينه وهو الذي تفرُّون منه. وإن حلف على عدم البراءة فقط ومع ذلك قضى له بردِّ العبد، فقد قضى له في الثانية بيمينه فقط، وفي الأولى بشاهد واحد بلا يمين،
(1)
(5/ 282).
وهو أشدُّ مما تفرُّون منه. على أن الذي ينبغي في هذه الصورة أن لا يُقبَل قولُ البائع: «لا عيب
…
»، بل يقال له: إما أن تعترف بوجود العيب، وإما أن تُصِرَّ على إنكارك. فإن اعترف فقد تقدم، وإن أصرَّ على إنكاره، قيل للمشتري: ألك شاهد آخر؟ فإن قال: لا، فعلى قولكم يقال للبائع: احلف، فإن حلف قضي له بيمينه
(1)
وذهب الشاهد لغوًا، ولم يحتج إلى دعوى البراءة. وإن أبى قضي بوجود العيب لنكول المدعى عليه، وذهب الشاهد لغوًا، وتمَّت القضية الأولى، ثم ينظر في القضية الثانية.
وعلى قولنا: يقال للمشتري: احلف مع شاهدك، فإن حلف ثبت العيب بشاهده ويمينه، ثم ينظر في القضية الأخرى. وإن أبى قيل للبائع: احلف أنه لا عيب، فإن حلف قُضي له بيمينه واستُغني عن الدعوى الثانية وذهب الشاهد لغوًا. وإن أبى قيل للمشتري: احلف على وجود العيب (وهذه يمين مردودة ليست هي التي تكون مع الشاهد)، فإن حلف قُضي له بيمينه مع نكول البائع واستُغني عن الشاهد، ثم ينظر في القضية الثانية. وإن أبى سقط حقه واستُغني عن القضية الثانية.
فإن قال قائل: أنا أخالفكم في ردِّ اليمين وفي القضاء بالشاهد واليمين إلا في صورة واحدة، وهي ما إذا كان للمدعي شاهد واحد ونكَلَ المدعى عليه عن اليمين، فيحلف المدعي [2/ 161] ويستحق، ففي هذه يقضى له بشاهده مع يمينه.
قلنا: فأنت تقضي للمدعي الذي لا شاهد له بمجرد نكول خصمه، ولا تقضي للمدعي الذي له شاهد بمجرد نكول خصمه، بل تكلِّفه اليمين فوق
(1)
في (ط): «يمينه» . والتصويب من (خ).
ذلك. فكأن وجود شاهد للمدعي يوهن جانب المدعي، حتى لو لم يكن له شاهد لكان جانبه أقوى، فهل يقول هذا أحد؟!
وأما قول الأستاذ: «والليث بن سعد ردَّ على مالك ردًّا ناهضًا في رسالته إليه» . فهذه الرسالة في «إعلام الموقعين» (ج 3 ص 82)
(1)
وهي تفيد أن مالكًا كتب إلى الليث يعاتبه في إفتائه بأشياء على خلاف ما عليه جماعة أهل المدينة، فأجابه الليث بهذه الرسالة. فذكر أولًا أنه قد كان في الأقطار الأخرى جماعة من الصحابة، وكان الخلفاء يكتبون إليهم. قال: «ومن ذلك القضاء بشاهدٍ ويمينِ صاحب الحق، وقد عرفت أنه لم يزل يُقضى بالمدينة به ولم يقضِ به أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشام ولا بحمص ولا بمصر ولا بالعراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. ثم ولي عمر بن عبد العزيز، وكان كما قد علمت في إحياء السنن والجِدِّ في إقامة الدين والإصابة في الرأي والعلم بما قد مضى من أمر الناس. فكتب إليه رُزيق
…
إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد ويمين صاحب الحق. فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة، فوجدنا أهل الشام على غير ذلك، فلا نقضي إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين».
مقصود الليث ــ فيما يظهر ــ أن الأحكام على ضربين: منها ما لا يسع فيه الاختلاف، ومنها ما دون ذلك. وأن الخلفاء كانوا يكتبون إلى مَن
(1)
(3/ 94 - 100) ط، محمد محيي الدين عبد الحميد. وقد نقلها ابن القيم من كتاب «المعرفة والتاريخ» للفسوي (1/ 687 - 695). ورواها أيضًا ابن معين في «التاريخ» (4/ 487 - 497).
بالأقطار الأخرى من الصحابة في الضرب الأول كيلا يخالفوا فيه، وإذا وقع منهم فيه خلاف كتب إليهم الخلفاء ينهونهم عنه. وأما الضرب الثاني فكانوا يُقِرُّون فيه كلَّ مجتهد على اجتهاده، وأنّ هذه القضية من الضرب الثاني. كان الخلفاء في المدينة يقضون بالشاهد واليمين، وكان مَن بالأقطار التي سمَّاها الليث من الصحابة لا يقضون بذلك فيما يعلمه الليث، ولم يكتب إليهم الخلفاء يأمرونهم بالقضاء به، فدلَّ ذلك أنها عندهم من الضرب الثاني. واستشهد لذلك بما ذكره عن عمر بن عبد العزيز، وأنه لما كان بالمدينة كأن فقهاءها ناظروه فقوي عنده قولهم فكان يقضي به. ثم لما صار بالشام كأن [2/ 162] فقهاءها ناظروه، فقوي عنده قولهم فصار إليه. فيرى الليث أن ما كان من الضرب الثاني فليس لمالك أن يجعل عمل أهل المدينة فيه حجةً على الناس كلهم، ولا أن ينكر على من يخالفه فيه.
أقول: فهذا معنى معقول مقبول في الجملة، والمدار على الحجة، وإن حُمِل كلامُ الليث على غير هذا المعنى صار زللًا داحضًا لا ردًّا ناهضًا.
ونحن لم نَدَّعِ أن القضاء بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق من الضرب الأول الذي لا يسع خلافه وينقض قضاء القاضي بخلافه، وإنما ادعينا أنه ثابت بالحجة، وأن المخالف له مخطئ. وليس في رسالة الليث ما يدفع هذا.
وأما قول الأستاذ: «حتى إن يحيى الليثي
…
»، فمخالفة بعض المالكية والشافعية للإمامين إنما تدل أنه قَوِيَ عند المخالفين أنه لا يُقضى بذلك، وقوته عندهم لا تستلزم قوته في نفس الأمر، والمدار على الحجة وقد أقمناها.
وأما قول الأستاذ: «فسَلْ قضاة العصر
…
»، فجوابه: أنها إذا روعيت العدالة الشرعية كما يجب لم يكن هناك اختلال يُعتدُّ به، وقد قضى أهل العلم بذلك ويقضُون به إلى اليوم في بعض الأقطار، ولا يدرك اختلال؛ وإنما الاختلال في جواز القضاء بشهادة فاسقَيْن على ما يقوله الحنفية. أوَ رأيتَ لو قال قضاة العصر: قد فسد الزمان، فلا يُقضى بأقل من ثلاثة شهود على شرط أن تكون القرائن مساعدة لشهادتهم؟ وكما أن الفساد يُخشى مِن ادعاء الباطل، فإن أشدَّ منه يُخشَى مِن جحد الحق.
فإن شدَّدتَ بالشهادة دفعًا لما يُخشى من ظلم المدعي للمدعى عليه، فقد سهَّلتَ بذلك ظلمَ المدعى عليه للمدعي. وهذا أشدُّ، فإن الغالب أن يكون المطالِب عند الحاكم هو الضعيف الذي لا يمكنه استيفاء الحق من المدعى عليه، فكيف أن يظلمه؟ فالقسطاس المستقيم هو اتباع الشريعة، والله عز وجل متكفِّل بحفظها، وضامن بقدره أن يسدِّد المتبعَ لها، ويسُدَّ ما قد يقع من الخلل في تطبيق العمل بشرعه على حكمته في نفس الأمر أو يَجْبُرَه. وهو سبحانه اللطيف الخبير، على كل شيء قدير.
* * * *
[2/ 163] تتمة
يعلم من مناظرة الشافعي لمحمد بن الحسن
(1)
في هذه المسألة أن محمدًا ــ مع إنكاره أن يقضي بشاهد ويمين، وردِّه الأحاديث في ذلك، وزَعْمه أن ذلك خلاف ظاهر القرآن ــ كان يقول: إنَّ نسبَ الطفل إلى المرأة، وبالتالي إلى صاحب الفراش، مع ما يتبع ذلك من أحكام الرق والحرية والتناكح والتوارث واستحقاق الخلافة وغير ذلك، يثبت بشهادة القابلة وحدها. فاعترضه الشافعي بأن عمدته في ذلك أثر «رواه عن علي رضي الله عنه رجل مجهول يقال له: عبد الله بن نجي، ورواه عنه جابر الجعفي
(2)
وكان يؤمن بالرجعة».
فحاول الأستاذ الجواب عن ذلك بوجوه:
الأول: أن قبول شهادة القابلة إنما هو في استهلال المولود ليصلَّى عليه أو لا يصلَّى.
الثاني: أن ابن نجي غير مجهول، فقد روى عنه عدة، ووثَّقه النسائي وابن حبان.
الثالث: أن جابرًا الجعفي روى عنه شعبة مع تشدده، ووثَّقه الثوري.
الرابع: أنه قد تابعه عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن علي.
(1)
انظر «معرفة السنن والآثار» (14/ 261).
(2)
أخرجه من طريقه عبد الرزاق في «المصنف» (13986) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 151).
الخامس: أنه قد روى عبد الرزاق بسنده إلى عمر قبول شهادة القابلة، والأسلمي الذي في السند مرضي عند الشافعي.
أقول: أما الأول، فالموجود في كتب الحنفية أنه يثبت النسب بشهادة القابلة عند أبي حنيفة وصاحبيه في بعض الصور، وعندهما في صور أخرى. فمن شاء فليراجع كتبهم
(1)
، وليقل معي: أحسن الله عزاء المسلمين في علم الأستاذ محمد زاهد الكوثري! فأما القبول في الاستهلال ليصلَّى عليه أو لا يصلَّى، فهذا يوافق عليه الشافعي وغيره، وليس بشهادة، وإنما هو خبر لا يترتب عليه أمر له خطر.
[2/ 164] وأما الثاني، فابن نجي كان مجهول الحال عند الشافعي. وقال البخاري:«فيه نظر» . وهذه الكلمة من أشد الجرح عند البخاري، كما ذكره الأستاذ في كلامه في إسحاق بن إبراهيم الحنيني، وتراه في ترجمة إسحاق من قسم التراجم
(2)
. فأما توثيق ابن حبان فقاعدته توثيق المجاهيل، كما ذكره الأستاذ غير مرة، ومرَّت الإشارة إليها في القواعد، وفي ترجمة
ابن حبان من قسم التراجم
(1)
. وتوثيق النسائي معارَض بطعن البخاري، على أن النسائي يتوسع في توثيق المجاهيل، كما تقدَّم في القواعد.
وأما الثالث، فجابر الجعفي استقرَّ الأمر على توهينه، ثم هو معروف بتدليس الأباطيل، ولم يصرِّح بالسماع.
وأما الرابع، فذاك الخبر تفرد به سويد بن سعيد
(2)
، وهو إنما يصلح للاعتبار فيما صرَّح فيه بالسماع وحدَّث به قبل عماه، أو بعده وروجع فيه فثبت. وهَبْ أنه يصلح للاعتبار في هذا، فأي فائدة في ذلك، وخبر الجعفي طائح؟ !
وأما الخامس، فالأسلمي هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى هالك، وارتضاء الشافعي له إنما هو فيما سمعه عنه، إما لأنه سمع من أصوله، وإما لأنه كان متماسكًا ثم فسد بعد ذلك
(3)
، وهذا الخبر لم يسمعه منه الشافعي. ومع ذلك فشيخه فيه إسحاق بن عبد الله الفَرْوي، وهو هالك باتفاقهم. والزهري عن عمر منقطع.
ثم إن كان المراد بالقبول على الاستهلال القبولَ لأجل الصلاة على
(1)
رقم (200).
(2)
في «السنن الكبرى» للبيهقي (10/ 151): «سويد بن عبد العزيز» ، وضعَّفه البيهقي. وانظر «تهذيب التهذيب» (4/ 276).
(3)
قلت: وإما لأنه لم يتبين له حاله، ولم يعرفه كما عرفه غيره من الأئمة كمالك وأحمد وغيرهما، قال ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (ص 223) بعد أن روى عن الشافعي أنه كان يقول فيه: كان قدريًّا: «لم يَبِنْ له أنه كان يكذب، وكان يحسب أنه طعن الناسُ عليه من أجل مذهبه في القدر» . [ن].
المولود، فليس هذا محل النزاع كما سلف.
[2/ 165] وأما السادس، فقوله تعالى:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] الكلام فيه على التوزيع، أي: لا يحل للمرأة أن تكتم ما خلق الله في رحمها. والنهي عن الكتمان يقتضي أنه مظنة أن يقع، وإنما يظن بالمرأة أن تكتم حيث كان لها غرض. فمآل النهي عن الكتمان إلى الأمر بالاعتراف، فغايةُ ما في هذا الدلالةُ على أنه يُقبل منها الاعتراف. فإذا ذكرت أنها قد تمَّت أقراؤها كان هذا اعترافًا بأنه لا نفقةَ لها، وادعاءً لأنه لا رجعةَ للزوج عليها. فيُقبل منها الاعتراف، ويُنظر في الادعاء، فإن قُبِل منها الادعاء أيضًا، فهل تجعلون الولادة من هذا القبيل؟
فإن قلتم: نعم، لزمكم أن تقبلوا قول الأم نفسها: هذا ابني من فلان، وتُثْبِتوا بذلك نسبه وميراثه وغير ذلك.
فإن قلتم: إنما موضع الاستنباط أن الآية أشعرتْ بأنه يُقبل قول المرأة في الحيض والحمل، وأن علة ذلك هو أنه يتعسر العلم بذلك إلا من جهتها؛ فقلنا: والولادة يعسر العلم بها إلا من جهة النساء، فأخذنا من ذلك قبول شهادتهن
(1)
فيها.
قلنا: أما قبول قولها وحدها في حيضها وحملها، فهذا مما تختصُّ هي بمعرفته دون غيرها. والولادة ليست كذلك، بل يطلع عليها غيرها من النساء. أفرأيتم إذا أخذتم من ذلك قبول شهادة النساء على الولادة، فمن أين أخذتم أنها تكفي امرأة واحدة؟ فقد تحضر عدة قوابل، وقد تحضر مع القابلة
(1)
في (ط): «شهادتين» ، والتصويب من (خ).
عدة نساء، وقد يحيط رجال بالخيمة مثلًا بعد كشفها، والعلمِ بأنه ليس فيها إلا المرأة الحامل، ثم يحرسون الخيمة إلى أن تكشف فلا يكون فيها إلا المرأة وطفل معها، فيشهد الرجال شهادة محققة أنها ولدت ذاك الطفل. دع قضية الرجال فإنها نادرة، ولكن هلَّا
(1)
قلتم: دلَّت هذه الآية على قبول شهادة النساء في الولادة، ودلت آية الدَّين على اشتراط العدد، فيؤخذ من الآيتين قبول شهادة أربع نسوة كما يقول الشافعي؟ أوَ ليس إذا قبلتم شهادة امرأة واحدة فيما يختص به النساء لزمكم قبول رجل واحد فيما يختص به الرجال، كما يتفق في الجامع يوم الجمعة، بل في كل شيء؟ إلا أنه إذا كفت امرأة واحدة فيما يختص به النساء، ورجل فيما يختص به الرجال، فما لا يختص لا يتجه فيه إلا أحد أمرين: إما أن يكفي الواحد رجلًا كان [2/ 166] أو امرأة، وإما أن يشترط رجل أو امرأتان، فقد دلت السنة على هذا فيما يتعلق بالأموال وزادتكم يمينًا.
فإن قلتم: لكن الشافعي لا يقول بقبول شهادة المرأتين مع اليمين.
قلنا: قد قال بذلك أستاذه مالك، وهو مذهب قوي، كما سلف. والله الموفق.
(1)
في (ط): «هل» خطأ، والتصويب من (خ).