الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[2/ 47]
المسألة السابعة
خيار المجلس
في "تاريخ بغداد"(13/ 387 [403]) عن بشر بن المفضّل قال: "قلت لأبي حنيفة: نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا" قال: هذا رجز".
قال الأستاذ (ص 78): "إذا حمل ــ يعني الحديث ــ على خيار المجلس يكون مخالفًا لنص كتاب الله الذي يبيح التصرف لكل من المتعاقدين فيما يخصُّه بمجرد تحقُّق ما يدل على التراضي. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] ".
أقول: في "روح المعاني"(ج 2 ص 77)
(1)
: "والمعنى: لا يأكُلْ بعضكم
(2)
أموال بعض. والمراد بالباطل ما يخالف الشرع كالربا والقمار والبخس والظلم، قاله السُّدِّي، وهو المروي عن الباقر رضي الله عنه. وعن الحسن: هو ما كان بغير استحقاق من طريق الأعواض. وأخرج عنه وعن عكرمة ابنُ جرير
(3)
أنهما قالا: كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بهذه الآية، فنُسِخ ذلك بالآية التي في سورة النور: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ
…
} الآية [النور: 61]. والقول الأول أقوى،
(1)
(5/ 15) ط. المنيرية.
(2)
في المطبوع: "بعضهم". والمثبت من روح المعاني.
(3)
في "تفسيره"(6/ 627).
لأن ما أكل على وجه مكارم الأخلاق لا يكون أكلًا بالباطل. وقد أخرج ابن أبي حاتم
(1)
والطبراني
(2)
بسند صحيح عن ابن مسعود أنه قال في الآية: إنها محكمة ما نُسِخت ولا تُنسَخ إلى يوم القيامة".
أقول: المعنى الأول مبني على أن الباء في قوله "بالباطل" للسببية، وأن الباطل ما لا يَعتدُّ به الشرعُ سببًا للحِلِّ. والمعنى الثاني مبني على أن الباء للمقابلة وأن الباطل ما لا تحقُّق له. ونسبة المعنى الأول إلى السدِّي لا أراها تصح، وإنما قال السُّدِّي كما في "تفسير ابن جرير"(ج 5 ص 19)
(3)
: " {بِالْبَاطِلِ}: بالربا والقمار والبخس والظلم. {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً}: ليربَح في الدرهم ألفًا إن استطاع". فأول عبارته يصلح للمعنيين، وبيان صلاحيتها للثاني في القمار والبخس والظلم ظاهر؛ فأما الربا فإن مَن أقرض مائة ليقضي مائة وعشرة يأكل العشرة بما لا تحقُّق له. [2/ 48] فإن غايته أن يقول: لو لم أُقرِض المائة لعلّي كنت اتّجرتُ فيها فربحتُ، ولعل المستقرض اتجر فيها، فربح. فيقال له: هذا لا تحقُّق له. ولعلك لو لم تُقرِضها لسُرِقت منك، ولعلك لو اتجرتَ فيها لخسرتَ، مع ما يلحقك من التعب والعناء. ولعل المستقرض لم يتجر فيها، ولعله اتجر فخسر أو ذهب منه رأس المال، فإن رَبح فبتَعَبِه.
ولتمام هذا موضع آخر، وإنما المقصود هنا أن ذِكْرَ السُّدِّي للربا لا يحتِمُ أنه قائل بالمعنى الأول. وآخر عبارة السُّدِّي ظاهر في المعنى الثاني،
(1)
في "تفسيره"(3/ 926).
(2)
في "المعجم الكبير"(10061).
(3)
(6/ 626) ط. دار هجر.
وأنه رأى أن الغبن في البيع من الأخذ بالباطل المراد في الآية، ولكنه مستثنى استثناءً متصلًا على ما هو الأصل في الاستثناء.
ولنفرض مثالًا يبيِّن ذلك: ثوبانِ قيمةُ كلٍّ منهما بحسب الزمان والمكان عشرة، فقد يجهل البائع ذلك، ويظن قيمةَ كلٍّ منهما خمسة فقط فيبيعهما بعشرة. وقد يجهل المشتري فيظن قيمةَ كلٍّ منهما عشرين فيشتريهما بأربعين. فمن أخذهما بقيمة أحدهما، فقد أخذ أحدهما أو نصفيهما بما لا تحقُّق له. ومن باعهما بمثلَيْ قيمتهما، فقد أخذ نصف الثمن بما لا تحقُّق له. هذا باعتبار قيمة الزمان والمكان، وهو المتعارف بين الناس، فإن من باع أو اشترى بقيمة الزمان والمكان لا يعدُّه الناس غابنًا أو مغبونًا البتة. لكنك إذا تعمقت قد تقول: إنما القيمة الحقيقية مقدار ما غرِمه البائع على السلعة، أو مقدار ما ينقصه فقدها. فيقال لك: هذا بالنظر إلى البائع، فأما بالنظر إلى المشتري فقيمتهما مقدار ما تنفعه. وقد يتعارضان، كمن عنده ماء كثير، فباع منه شَرْبةً لِمضطَرٍّ. ويبقى النظر في الثمن، ويخفى الأمر ويضطرب، وتضيق المعاملة جدًّا.
لا جَرَم، عَدلَ الشرعُ إلى اعتبار قيمة الزمان والمكان في ضمان المتلَفات وغير ذلك ما عدا التجارة. ولمَّا كان الاعتدادُ بذلك في التجارة يسدُّ بابَ الربح، فيرغب الناس عن التجارة، فتضيع المصالح= عدَلَ الشارعُ إلى اعتبار ما تراضى به المتبايعان. فما تراضيا به، فهو القيمة التي يعتد بها الشرع في التجارة. لكن هذا لا يمنع أن يسمَّى الغبنُ أكلًا بالباطل بالنظر إلى التحقق. وليس من لازم الباطل بهذا المعنى أن يكون محرَّمًا في الشرع. وفي الحديث: "كلُّ شيء يلهو به الرجل باطلٌ إلا رميَه بقوسه، وتأديبَه فرسَه،
وملاعبتَه امرأتَه، فإنهن من الحق"
(1)
. ومعلوم أنَّ فيما يلهو به الرجل غير هذه الثلاث ما هو مباح إجماعًا.
[2/ 49] فأما ما أُكِل على وجه مكارم الأخلاق، فإنه إذا عُمِل فيه بالمشروع لم يكن على كلا المعنيين من الأكل بالباطل. وذلك أن الباذل قد يقصد مكافأة المبذول له على إحسان سابق، وقد يرجو عوضًا مستقبلًا، إما مالًا وإما منفعةً، وأقلُّ ذلك: الثناء. والأكلُ في مقابل إحسان سابق أكلٌ بأمر متحقِّق. والمشروع للمبذول له على رجاء مستقبَل أن يقبل عازمًا على المكافأة فيكون بمنزلة من يقترض عازمًا على أن يقضي. وإنما كان بعض الصحابة أولًا يتورعون عن الأكل في بيوت أقاربهم وأصدقائهم خشيةَ أن لا يتيسَّر لهم المكافأة المرضية. فبيَّن الله تعالى لهم في آية النور أنه لا حرج في الأكل، يريد ــ والله أعلم ــ: ما دام ذلك جاريًا على المعروف. والمعروف أن الناس يكرم بعضهم بعضًا، ويكافئ بعضهم بعضًا بالمعروف، فمن أكل عازمًا على المكافأة بحسب ما هو معروف بين أهل المروءات، فلم يأكل بما لا تحقُّق له. نعم لو فرضنا أن رجلًا غنيًّا لئيمًا اعتاد أن يتردد على بيوت أقاربه وأصدقائه ليأكل عندهم غيرَ عازمٍ على المكافأة المعروفة، كان هذا ــ والله أعلم ــ داخلًا في الباطل على كلا المعنيين.
وإذا تدبرتَ علمتَ أنه على المعنى الثاني ليس هناك نسخ، وإنما هو بيان لدفع ما توهَّمه أولئك المتحرِّجون. وقد عُرِف عن السلف أنهم ربما يطلقون النسخ على مطلق البيان، فهذا ــ والله أعلم ــ من ذاك. وبهذا كله
(1)
أخرجه الترمذي (1637) من حديث عقبة بن عامر، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
اندفع ما رُجِّح به المعنى الأول، وترجَّحَ المعنى الثاني، فيكون الاستثناء متصلًا، كما هو الأصل. والله أعلم.
وقوله تعالى: {عَنْ تَرَاضٍ} نصٌّ في اشتراط رضا كلٍّ من المتبايعين. والرضا معنى خفي، وسنة الشارع في مثله أن يضبطه بأمر ظاهر منضبط يشتمل على المعنى الذي عليه مدارُ الحكمة كالرضا هاهنا، فيكون مدار الحكم على ذاك الضابط، فما هو الضابط هاهنا؟
بنى الأستاذ على أنه الصيغة، أي الإيجاب والقبول، كما في النكاح. وذلك مدفوع بوجهين:
الأول: أن الصيغة قد عُلِمت بقوله: "تجارة".
الثاني: أنها ليست بواضحة الدلالة على الرضا، إذ قد تكون عن هزل أو سبق لسان أو استعجال، قبل تمكُّن الرضا من النفس، ويكثر وقوعه ويتكرر، ويكثر التغابن لكثرة الجهل بقيمة المثل؛ بخلاف النكاح فإنه قد لا يقع في العمر إلّا مرة، ويحتاط الناس له ما لا [2/ 50] يحتاطون للبيع.
والشارع يتشوَّف إلى تثبيت النكاح ما لا يتشوَّف إلى تثبيت البيع. جاء في الحديث: "أبغضُ الحلال إلى الله الطلاقُ"
(1)
، وجاء فيه:"من أقال نادمًا بيعته أقال الله عثرتَه يوم القيامة"
(2)
. ومبنى البيع على المشاحَّة، ومبنى
(1)
أخرجه أبو داود (2178) وابن ماجه (2018) والحاكم في "المستدرك"(2/ 196) والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 322). وإسناده ضعيف.
(2)
أخرجه بهذا اللفظ ابن حبان في "صحيحه"(5029) والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 27) من حديث أبي هريرة.
النكاح على المكارمة. وأوضح من هذا كلِّه أن في الحديث: "ثلاثٌ جِدُّهن جِدٌّ، وهزلُهن جِدٌّ: النكاح والطلاق والرجعة"
(1)
. ففرَّق بين هذه الثلاث وبين غيرها كالبيع.
على أن تعيين الضابط إنما هو للشارع، فإذا لم يظهر من الكتاب وجب الرجوع إلى السنة، فنجدها قد ضبطت التراضي بحصول أحد أمرين بعد الإيجاب والقبول: إما اختيار اللزوم، وإما أن يستمرَّا على ظاهر حالهما من التراضي مدةَ اجتماعهما ويتفرقا على ذلك. ولا يخفى على المتدبر أن هذا بغاية المطابقة للحكمة. أما اختيار اللزوم، فواضح أنه بيِّن في استحكام التراضي. وأما الاستمرار على ظاهر الحال من التراضي والتفرق على ذلك، فلأن الغالب أنه إذا كان هناك هزل أو سبق لسان أو استعجال أن يتداركه صاحبه قبل التفرق، ولاسيَّما إذا علم أن التفرق يقطع الخيار.
فبان بهذا أن الحديث مفسِّرٌ للآية التفسيرَ الواضح المطابق للحكمة، لا مخالفٌ لها كما زعم الكوثري. وراجع "تفسير ابن جرير"
(2)
. ويؤكد هذا المعنى ما في "سنن أبي داود"
(3)
وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: "المتبايعان بالخيار ما لم
(1)
أخرجه أبو داود (2195) والترمذي (1184) وابن ماجه (2039) والحاكم في "المستدرك"(2/ 197، 198) والبيهقي في "الكبرى"(7/ 340، 341)، وحسَّنه الترمذي وصححه الحاكم.
(2)
(6/ 631 - 637).
(3)
رقم (3465). وأخرجه أيضًا أحمد في "مسنده"(6721) والترمذي (1247) والنسائي (7/ 251، 252)، وإسناده حسن.
يفترقا، إلا أن تكون صفقة خيار. ولا يحلُّ له أن يفارقَ صاحبَه خشيةَ أن يستقيلَه".
والمراد ــ والله أعلم ــ أنه لا يحلُّ لأحدهما أن يستغفل صاحبه، فيفارقه وهو لا يشعر؛ إذ قد لا يكون استحكم رضاه، وكان يريد الفسخ؛ إلا أنه أمهل اعتمادًا على أن ذلك لا يفوت، حتى لو رآه يريد المفارقة لبادر بالفسخ. فأما ما جاء عن ابن عمر أنه كان إذا اشترى شيئًا يعجبه فارَقَ صاحبه
(1)
، فمحمول على مبادرته بالمفارقة وصاحبُه يراه، أو لا يكون وقف على هذه الزيادة
(2)
.
وقوله: "حتى
(3)
يستقيله" لا يدل على لزوم العقد، فإن الاستقالة بعد لزوم العقد لا تمنع فيها المفارقة؛ إذ قد يستقيله بعد أن يفارقه ويمضي زمان. وإنما المراد ــ والله أعلم ــ أن صاحبه قد يندم [2/ 51] في المجلس، فلا يبادر إلى الفسخ، ويرى من حُسن الأدب والعشرة أن يقول له: "أَقِلْني"، ليكون الفسخ برضاهما فإنه أطيب للنفوس.
قال الكوثري: "على أن الحديث إذا حمل على خيار الرجوع بمعنى أن البائع أو المشتري
(4)
إذا أوجب فله حق الرجوع قبل قبول الآخر في المجلس، فيزول خيار الرجوع من الموجِب ــ بائعًا كان أو مشتريًا ــ بقبول الآخر قبل انقطاع المجلس= فهذا المعنى يكون غير مخالف لكتاب الله تعالى".
(1)
أخرجه البخاري (2107) ومسلم (1531/ 45).
(2)
انظر "التلخيص الحبير"(3/ 20).
(3)
كذا في المطبوع، ولفظ الحديث السابق:"خشية أن".
(4)
في (ط): "والمشتري"، والتصويب من "التأنيب".
أقول: قد علمت أن الحديث بالمعنى الواضح من إثبات خيار المجلس لكلٍّ من المتبايعين بعد تبايعهما غيرُ مخالف لكتاب الله تعالى. وأما هذا المعنى الذي ذكره الكوثري، فالحديث غير محتمل له كما يأتي. ولو احتمله وحُمِل عليه لبقي ما في القرآن في معنى المجمل، لأن قول أحدهما:"بعت" وقول الآخر فورًا: "اشتريت" لا يتضح به التراضي المشروط في القرآن، لاحتمال الهزل وسبق اللسان والاستعجال، كما مرَّ.
ثم حاول الأستاذ تقريب احتمال الحديث للمعنى الذي زعمه فقال:
"وعلى هذا التقدير يكون لفظ "المتبايعين" حقيقةً، إذ هذا اللفظ محمول على حالة العقد في تقديرنا، وحملُه على ما بعد صدور كلمتي المتعاقدين يجعله مجازًا كونيًّا. وفائدة الحديث أن خيار الرجوع ثابت لهما ما دام أحدهما أوجب، ولم يقبل الآخر في المجلس، لا كالخلع على مال والعتق على مال؛ لأنه ليس للزوج ولا المولى الرجوع فيهما قبل قبول المرأة والعبد".
أقول: المُلجئ إلى الفرار إلى هذا القول أن تأويل قدماء الحنفية "المتبايعان" بالمتساومين و"التفرق" بالإيجاب والقبول أُبطِلَ بوجوه:
منها: أنه إخراجٌ للَّفظ عن حقيقته بلا حجة.
ومنها: أن الحديث يبقى بلا فائدة، إذ لا يجهل أحد أن التساوم لا يلزم به شيء. وستعلم أن هذا الفارَّ كالمستجير من الرمضاء بالنار
(1)
!
قوله: "يجعله مجازًا كونيًّا"، تفسيره أن من الأصول المقررة أن المشتق
(1)
مثل مشهور، وهو شطر بيت، صدره: المستجير بعمرٍو عند كربتهِ
قائله: التّكلام الضُّبَعي، كما في "فصل المقال"(ص 377).
يصدُق على الموصوف حقيقةً حين وجود المعنى المشتق منه، فإن لم يمكن فآخر جزء منه. فأما قبل حصوله فمجاز كونيٌّ، أي باعتبار ما سيكون. واختلف فيما بعد زواله، فقيل: حقيقة، وقيل: مجاز كوني، [2/ 52] أي باعتبار ما كان.
فأقول: هذا الأصل يقضي بأنه لا يصدُق حقيقةً على الإنسان لفظُ "بائع" إلا حين وجود البيع حقيقة، وإنما يكون ذلك عند آخر حرفٍ من الصيغة المتأخرة. والحديث يُثبِت أن لكل منهما حينئذٍ الخيار، ويستمرُّ إلى أن يتفرقا، وهذا قولنا.
وأوضح من ذلك أن الذي في الحديث: "المتبايعان"، والتفاعل إنما يوجد عند وجود فعل الثاني، ألا تراك إذا ضربتَ رجلًا أنه لا يصدق عليكما "متضاربان"، ولا عليك أنك أحد المتضاربَين، وإنما يصدق ذلك إذا عقب ذلك ضربُه لك، فحينما تصيبك ضَرْبتُه يوجد التضاربُ حقيقةً، فيصدق عليكما أنكما متضاربان، وأنك أحد المتضاربين.
فإن قلت: كيف وقد زال فعلي؟
قلت: الزائل هو ضربك، والفعل المشتق منه هنا هو التضارب، وهو فعلٌ واحدٌ ضربُك جزء منه، والجزء لا يشترط بقاؤه ولا يضرُّ زواله. ألا ترى أنه يصدق حقيقةً على مَن يتكلم أنه "متكلم" عند آخر حرف من كلامه مع أن أكثر الحروف قد زالت! فإنما يصدق حقيقةً على المتبايعَين أنهما "متبايعان" عند آخر حرف من صيغة المتأخر منهما، وحينئذ يثبت لهما بحكم الحديث الخيار مستمرًّا إلى أن يتفرقا، وهذا قولنا.
ووجه ثالث، وهو أن الحديث كما في "الموطأ" و"الصحيحين"
(1)
يُثبِت أن "لكل واحد منهما الخيار حتى يتفرقا". فهو ثابت للمتأخر قطعًا، يثبت له عند آخر حرفٍ من صيغته مستمرًّا إلى أن يتفرقا. ولا قائلَ بأنه يثبت للمتأخر دون المتقدم، فثبت لكل واحد منهما عند آخر حرف من صيغة الثاني مستمرًّا إلى أن يتفرقا، وهو قولنا.
ولو قال المحتسب للعون وهو يرى رجلًا يضرب آخر: أمسِك الضاربَ حتى تُحضِره عند الحاكم، لكانت كلمة "الضارب" حقيقةً، والحكمُ بالإمساك مستمرًّا إلى غايته، وإن كان الضرب ينقطع قبلها. وهكذا في السارق والزاني وغير ذلك. فقد اتضح أن قولنا مبني على الحقيقة، وضلَّ سعيُ الأستاذ في زعم أنه يكون مجازًا. فأما القول الذي اختاره، فلا يحتمله الحديث حقيقة ولا مجازًا.
فأما قوله: "وفائدة الحديث
…
" فمبني على القول الذي قد فرغنا منه. ومع ذلك، فالحديث أثبتَ الخيارَ لكل واحدٍ من المتبايعين، وصيغةُ الموجِب للبيع لا تتضمن ما لا يحتاج إلى قبول، بخلاف موجِب الخلع أو العتق على مال، فإن إيجابه يتضمن الطلاق أو العتق. فإيجابه في معنى تعليق [2/ 53] الطلاق أو العتق، ولا رجوع في ذلك. فثبت أنه لا يتوهم في البادئ بالصيغة من المتساومَين أنه لا رجوع له، فحملُ الحديث على هذا المعنى الذي اختاره الأستاذ مثلُ حملهِ على المتساومين في أنه لا تكون له فائدة.
هذا، ولم يظفر الأستاذ بعد الجهد بشبهةٍ ما تُجرِّئه على زعم أن كلمة "يتفرقا" في الحديث إن حُمِلت على قولنا كانت مجازًا، وإن حُمِلت على
(1)
"الموطأ"(2/ 671) والبخاري (2111) ومسلم (1531).
قولهم كانت حقيقة. فعدل إلى قوله:
"والتفرق بالأقوال شائع في الكتاب والسنة نحو قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقوله تعالى:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة: 4]، وقوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ
(1)
اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]، وفي الحديث:"افترقت اليهود .. " الحديث. بل التفرق بالأبدان من شأنه إفساد العقود في الشرع لا إتمامها، كعقد الصرف قبل القبض، وعقد السلم قبل القبض لرأس المال، والدَّين بالدَّين قبل تعيين أحدهما. وفي حمل الحديث على التفرق بالأبدان خروج عن الأصول، ومخالفة لكتاب الله تعالى. وأما حملُه على التفرق بالأقوال، فليس فيه خروج عن الأصول، ولا مخالفة لكتاب الله تعالى، مع كونه أشهر في الكتاب والسنة".
أقول: التفرقُ فكُّ الاجتماع، وهو حقيقةٌ في التفرق بالأبدان بلا شبهة. وكثيرًا ما يأتي الاجتماع والتفرق مجازًا في الأمور المعنوية بحسب ما تدل عليه القرائن، ومن ذلك: الشواهد [2/ 54] التي ساقها الأستاذ. ومجيءُ الكلمة في موضع أو ألف موضع أو أكثر مجازًا بقرينته لا يُسوِّغ حملَها على المجاز حيث لا قرينة. وهذه كلمة "أسد" كثُر جدًّا استعمالُها في الرجل الشجاع مع القرينة، حتى لقد يكون ذلك أكثر من استعمالها في معناها الحقيقي، ومع ذلك لا يقول عاقل: إنه يُسَوِّغ حملَها على المجاز حيث لا قرينة. وهذا أصل قطعي ينبغي استحضاره، فقد كثُر تغافلُ المتأولين عنه تلبيسًا على الناس.
(1)
وقع في "التأنيب"(ص 79): "إن تفرقا يغني"، واقتصر في إصلاح الأغلاط (ص 190) على إصلاح "يغن"! [المؤلف].
نعم إذا ثبت أن الشارع نقَلَ الكلمةَ إلى معنى آخر، صارت حقيقة شرعية في المعنى الذي نُقلت إليه. وهذا منتفٍ هنا، إذ لا يدّعي أحد أن الشارع نقل كلمة "التفرق" إلى معنى غير معناها اللغوي.
وأما كثرة مجيئها في القرآن في الأمور المعنوية، فإنما ذلك لأن تلك الأمور مهمة في نظر الشارع، فكثُر ذكرُها دون افتراق الأبدان. ولها في ذلك أسوة بكلمات كثيرة كالرقبة والكظم والزيغ والحَيْف واللين والغِلَظ وغير ذلك.
ولا اختصاص للشواهد التي ذكرها الأستاذ بالقول، بل كلها في تفرق معنوي قد يقع بالقول، وقد يقع بغيره. فالتفرقُ عن الاعتصام بحبل الله يحصل بأن يكفر بعض، ويبتدع [بعض]
(1)
، ويجاهر بالعصيان بعض، وكل من الكفر والابتداع والعصيان قد يقع بالاعتقاد، وبالفعل، وبالقول. وتفرُّق أهل الكتاب بعد مجيء الرسول هو بإيمان بعضهم، واشتدادِ كفر بعضهم، ولا اختصاص لذلك بالقول. وتفرُّقُ الزوجين قد يكون بالفعل كإرضاعها ضرَّةً لها صغيرة، وبالقول من جانب، وبالقول من الجانبين، وبنيَّة الزوج القاطعة على قول مالك. وافتراقُ اليهود باختلاف اعتقاداتهم وما يبنى عليها من الأفعال والأقوال.
ومع هذا، فالتفرق في هذه الأمثلة إنما هو عن اجتماع سابق، وتعاقدُ المتساومين أجدرُ بأن يسمَّى اجتماعًا بعد تفرق، كما لا يخفى. لكنني أُرفِد الأستاذ، فأقول: إن المتساومين يجتمعان بأبدانهما، وتحملهما الرغبة في
(1)
زيادة ليكون التقسيم ثلاثيًا.
البيع على أن يبقَيا مجتمعَين ساعة، ثم إذا تعاقدا زال سبب الاجتماع فيتفرقان بأبدانهما، فالتعاقد كأنه سبب للتفرق، فقد يسوغ إطلاق التفرق على التعاقد لذلك. لكن قد يقال: ليس التعاقد سببًا مباشرًا، ومثله في ذلك عدم الاتفاق على الثمن، فإنهما إذا يئسا من الاتفاق زال سبب الاجتماع. ثم إن ساغ ذاك الإطلاق فمجاز ضعيف لا دليل عليه ولا مُلجِئَ إليه. بل الحديث نص صريح في قولنا، ففي "الصحيحين"
(1)
من [2/ 55] حديث الإمام الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا: "إذا تبايع الرجلان فكلُّ واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعًا
…
وإن تفرَّقا بعد أن يتبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع".
قوله: "بل التفرق بالأبدان من شأنه إفساد العقود
…
".
أقول: فساد العقد في هذه المسائل ليس للتفرق من حيث هو تفرُّق، بل من جهة أخرى حصلت بالتفرق، وهي صيرورته ربًا في الأولى، وبيعَ دَينٍ بدين في الأُخريين. وتفرُّقُ المتعاقدين في شراء دارٍ أو فرس معينة بذهب أو فضة مثلًا لا يحصل به شيء من ذلك ولا ما يشبهه، بل يحصل به ما يُثبت العقدَ ويؤكِّده، وهو تبيُّنُ صحةِ التراضي المشروط في كتاب الله عز وجل، واستحكامه كما تقدم إيضاحه. وكثيرًا ما يُناط بالأمر الواحد حكمان مختلفان من جهتين مختلفتين، كإسلام أحد الزوجين ينافي النكاح إذا كان الآخر كافرًا، ويُثبِته إذا أسلم الآخر أيضًا، أو كان قد أسلم قبل ذلك على خلاف؛ وكإسلام المرأة الأيِّم يُحِلُّ نكاحَها للمسلم ويُحرِّمه للكافر، ويمنع إرثها من أقاربها الكفار، ويُثبِته لها من أقاربها المسلمين. وأمثال ذلك لا تحصى.
(1)
البخاري (2112) ومسلم (1531/ 44).
على أن الأثر الحاصل بالتفرق في مسألتنا ليس هو تصحيح العقد حتى تظهر مخالفته لتلك الصور، فإن العقد قد صح بالإيجاب والقبول. وإنما أثرُ التفرُّقِ قطعُ الخيار، وإن شئتَ فقلْ: إفساد الخيار.
قوله: "خروج عن الأصول، ومخالفة لكتاب الله تعالى".
أقول: أما الخروج عن الأصول فالمراد به مخالفة القياس، يسمُّونه خروجًا عن الأصول تمويهًا وتهويلًا وتستُّرًا! وقد تقدم الجواب الواضح عمّا ذكره الأستاذ من القياس. وبينما الأستاذ يتبجح في آخر (ص 161) بقوله:"أجمع فقهاء العراق على أن الحديث الضعيف "يُرجَّح على القياس"، ويقول (ص 181) في الحسن بن زياد: "كان يأبى الخوض في القياس في مورد النص، كما فعل مع بعض المشاغبين في مسألة القهقهة في الصلاة"، يعني ببعض المشاغبين: الإمام الشافعي ورفيقًا له أورد على الحسن بن زياد أنه يرى أن قذْفَ المحصَنات في الصلاة لا يُبطِل [2/ 56] الوضوء، فكيف يرى أن القهقهة تبطله؟ ! فقام الحسن، وذهب= إذا بالأستاذ يردُّ أحاديثَ خيار المجلس زاعمًا أنها مخالفة للقياس. هذا مع ضعف حديث القهقهة ووضوح القياس المخالف له، وثبوت أحاديث الخيار ووهن القياس المخالف لها.
وأما المخالفة للكتاب، فقد تقدَّم تفنيدُ زعمها. وبينما ترى الأستاذ يحاول التشبُّثَ بدعوى مخالفة الكتاب هنا، إذا به يُعرِض في مسألة القصاص في القتل بالمثقَّل، ومسألة مقدار ما يُقطع سارقه، عن الدلالات القرآنية الواضحة مع ما يوافقها من الأحاديث الصحيحة، وموافقة القياس الجلي في مسألة القصاص. إلى غير ذلك من التناقض الذي يؤلِّف بينه أمر
واحد هو الذبُّ عن المذهب، والغلوُّ في ذلك إلى الحد الذي يصعب معه تبرئةُ صاحبه من أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه، واتخذ الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله. والله المستعان.
قال الأستاذ: "ولا نصَّ فيما يُروى عن ابن عمر من القيام من مجلس العقد على أن خيار المجلس من مذهبه، بل قد يكون هذا منه لأجل أن يقطع على من بايعه حقَّ الرجوع، لاحتمال أنه ممن يرى خيار المجلس. وقد خوصم ابن عمر إلى عثمان في البراءة من العيوب، فحمله عثمانُ على خلاف رأيه فيها، فأصبح يرعى الآراء في عقوده".
أقول: قد روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحديث صريحًا في إثبات خيار المجلس كما تقدم. وفي "صحيح البخاري"
(1)
من طريق يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا
…
الحديث، ثم قال نافع:"وكان ابن عمر إذا اشترى شيئًا يُعجِبه فارقَ صاحبَه". وفي "صحيح البخاري"
(2)
من طريق الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه: "بعتُ من أمير المؤمنين عثمان
…
فلما تبايعنا رجعتُ على عقبي حتى خرجتُ من بيته خشية أن يُرادَّني البيعَ، وكانت السنَّة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا
…
فلما وجب بيعي وبيعُه رأيتُ أني قد غبنتُه".
فصراحة الحديث نفسه، ثم جعلُه سببًا لمفارقة ابن عمر من يشتري منه ما يُعجِبه، وقوله:[2/ 57] "وكانت السنة
…
"، وقوله: "فلما وجب بيعي وبيعه
…
" بغاية الوضوح في بطلان قول الأستاذ: "قد يكون هذا منه
…
".
(1)
رقم (2107).
(2)
رقم (2116).
قال الأستاذ: "ولأصحابنا حجج ناهضة".
أقول: بل شبه داحضة.
قال: "وعالم دار الهجرة مع أبي حنيفة وأصحابه في هذه المسألة، ومن ظن وهنًا بما اتفق عليه إمام أهل العراق وإمام أهل الحجاز فقد ظنَّ سوءًا".
أقول: أما من اعتقد وهنَ قولِهما المخالف لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من رواية جماعة من الصحابة، وعمل به وقضى به جماعةٌ منهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يُعلم لهم مخالف من الصحابة= فإنما اعتقد ما يجب على كل مسلم أن يعتقده. فمن زعم أن هذا المعتقِد قد ظنَّ سوءًا، فقد شارف الخطر الأكبر أو وقع فيه.
ثم ذكر الأستاذ كلمة ابن أبي ذئب، وهو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، وقد ذكرتها في ترجمته من قسم التراجم
(1)
.
وفي "تاريخ بغداد"(13/ 389 [405]) عن ابن عيينة قال: "ما رأيتُ أجرأَ على الله من أبي حنيفة، كان يضرب الأمثال لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيردُّه. بلغه أني أروي: "البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا"، فجعل يقول: أرأيتَ إن كانا في سفينة، أرأيت إن كانا في سجن، أرأيت إن كانا في سفر، كيف يفترقان! ".
قال الأستاذ (ص 82): "هكذا كان غوص أبي حنيفة على المعنى حتى اهتدى إلى أن المراد بالافتراق: الافتراق بالأقوال، لا الأبدان".
أقول: مغزى تلك العبارة أننا إذا قبلنا الحديث وَرَدَ علينا أنه قد يتفق أن لا يتمكن المتبايعان من التفرق. والجواب أن الحديث قد فتح لهما بابًا آخر
(1)
لم تَرِد ترجمته في قسم التراجم، ولعلها كانت في المسوّدة ثم حذفها المؤلف. وأما كلمته فستأتي قريبًا (ص 93).
يتمكنان به من إبرام العقد، وهو أن يختارا اللزوم، فيلزم من غير تفرق. وإن أرادا أو أحدهما الفسخَ فظاهر. وكأن أبا حنيفة لم تبلغه رواية مصرِّحة بذلك.
فإن قيل: قد يبادر أحدهما فيختار اللزوم، ويأبى الآخر أن يختار اللزوم أو يفسخ، فيتضرر المبادر؛ لأنه لا يمكنه إبرام العقد ولا فسخه.
قلت: هو المضيِّق على نفسه بمبادرته، فلينتظر التمكن من المفارقة بأن تصل السفينة إلى مرفأ، أو يطلَقا أو أحدُهما من السجن، أو يُنقل أحدُهما إلى سجن آخر، أو يبلغ المسافران حيث لا يخاف من [2/ 58] الانفراد والتباعد عن الرفقة.
فإن قيل: لكن المدة قد تطول مع جهالتها.
قلت: اتفاقُ أن يجتمع أن يبادر أحدهما، ويمتنع التفرق، وتطول المدة، وتفحش الجهالة= نادرٌ جدًّا. ويقع مثل ذلك كثيرًا في خيار الرؤية. وكذلك في الصَّرْف والسلَم وغيرها مما لا يستقر فيه العقد إلا بالقبض قبل التفرق. فمثلُ ذلك الاستبعاد إن ساغ أن يُعتدَّ به، ففي التوقف عن الأخذ بدليل في ثبوته أو في دلالته نظر. وليس الأمر هاهنا كذلك، فإن الحديث بغاية الصحة، والشهرة، ووضوح الدلالة. فهو في "الصحيحين" وغيرهما من طُرق عن ابن عمر، وصحَّ عنه من قوله وفعله ما يوافقه. وهو في "الصحيحين"
(1)
وغيرهما من حديث حكيم بن حزام. وصحَّ عن أبي برزة
(2)
أنه رواه وقضى به. وجاء
(1)
البخاري (2108، 2110) ومسلم (1532).
(2)
أخرجه أحمد في "المسند"(19813) وأبو داود (3457) وابن ماجه (2182) والبيهقي في "الكبرى"(5/ 270).
من حديث عبد الله بن عمرو
(1)
، وأبي هريرة
(2)
، وسمرة
(3)
، وغيرهم
(4)
. وجاء عن أمير المؤمنين عليّ القضاءُ به. ولا مخالفَ من الصحابة، وإنما جاء الخلاف فيه من التابعين عن ربيعة بالمدينة، وإبراهيم النخعي بالكوفة.
واشتد نكير ابن أبي ذئب إذ قيل له: إن مالكًا لا يأخذ بهذا الحديث، فقال:"يستتاب، فإن تاب وإلا يقتل"
(5)
. ومالك إنما اعتذر في "الموطأ"
(6)
بقوله بعد أن روى الحديث: "ليس لهذا عندنا حدٌّ معروف، ولا أمرٌ معمول به فيه". وتعقَّبه الشافعيُّ وغيرُه بأنّ الحدّ معروف نقلًا ونظرًا، فإنه معلوم أن التفرُّق حقيقة في التفرق بالأبدان، وحدُّه معروف في العُرف. وقد اتفقوا على نظيره في الصرف والسلم. والعمل ثابت عن الصحابة وكثير من
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه أحمد (8099) وابن أبي شيبة في "المصنف"(7/ 125) والطيالسي في "مسنده"(2568) والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 13) و"مشكل الآثار"(5265). وإسناده ضعيف، والحديث صحيح لغيره.
(3)
أخرجه أحمد (20142، 20182 ومواضع أخرى) والطبراني في "الكبير"(6834، 6836، 6838) والبيهقي (5/ 271) من طريق الحسن البصري عن سمرة، والحسن مشهور بالتدليس. والحديث صحيح لغيره.
(4)
منهم ابن عباس، أخرج حديثه ابن حبان في صحيحه (4914) والحاكم في "المستدرك"(2/ 14). وإسناده حسن.
(5)
يراجع "التمهيد"(14/ 9، 10) و"تاريخ بغداد"(2/ 302). وانظر تعليق الذهبي عليه في "السير"(7/ 142، 143).
(6)
(2/ 671).
أئمة التابعين بالمدينة وغيرها. وراجع كتاب "الأم" للشافعي أوائلَ المجلد الثالث
(1)
.
(1)
(4/ 11 وما بعدها) ط. دار الوفاء. وانظر "المحلى"(8/ 351 - 365) و"التمهيد"(14/ 8 - 27) و"الفتح"(4/ 330 - 332).
[2/ 59] المسألة الثامنة
رجل خلا خلوةً مريبةً بامرأة أجنبية يحِلُّ له أن يتزوجها، فعُثِر عليهما، فقالا: نحن زوجان
تقدم في المسألة السادسة قول خالد بن يزيد بن أبي مالك: "أحلَّ أبو حنيفة الزنا
…
". قال: "وأما تحليل الزنا فقال: لو أن رجلًا وامرأة اجتمعا في بيت، وهما معروفا الأبوين، فقالت المرأة: هو زوجي، وقال هو: هي امرأتي= لم أَعرِضْ لهما"
قال الأستاذ (ص 145): "قال الملك المعظَّم في "السهم المصيب": إذا جاء واحد إلى كل واحد من امرأة ورجل، فقالا له: نحن زوجان، فبأي طريقة يفرِّق بينهما أو يعترض عليهما؛ لأن كل واحد منهما يدعي أمرًا حلالًا؟ ولو فُتِح هذا الباب لكان الإنسان كلَّ يوم بل كلَّ ساعة يُشهِد على نفسه وعلى زوجه أنهما زوجان. وهذا لم يقل به أحد من الأئمة، وفيه من الحرج ما لا يخفى على أحد".
أقول: في كتب الحنفية
(1)
: "إن إقرار الرجل أنه زوجها، وهي أنها زوجته يكون إنكاحًا، ويتضمن إقرارُهما الإنشاء". فهذه هي مسألة ابن أبي مالك استشنعها الأستاذ نفسه، وكذلك ملِكُه المعظَّم عنده، ولذلك لجأ إلى المغالطة. وحاصلها أننا إذا عرفنا رجلًا وامرأةً نعلم أنهما ليسا بزوجين، ثم وجدناهما في خلوة مريبة، فقال: هي زوجتي، وقالت: هو زوجي، فأبو حنيفة يقول: يكون اعترافهما عقدًا ينعقد به النكاح، فيصيران زوجين
(1)
انظر "فتاوى قاضي خان"(1/ 322) و"فتح القدير"(3/ 205) و"حاشية ابن عابدين"(3/ 13).
من حينئذ، ولا يعرض لهما! ففي هذا ثلاثة أمور:
الأول: أنه بلا ولي.
الثاني: أنه كيف يكون إنشاء، وإن لم يقصداه؟
الثالث: أنه كيف لا يُعرَض لهما بإنكار وتعزير على الأقل؟ لأنهما قد ارتكبا الحرام قطعًا وهو الخلوة، لأنهما إن كانا تلفظا بزواج قبل العثور عليهما فذاك باطل، إذ لا ولي ولا شهود. وإن لم يتلفظا إلا بدعواهما الزوجية، أو اعترافهما بها عند العثور عليهما، فالأمر أوضح. وأيضًا فالتعزير متّجه من وجه آخر، وذلك لئلا يكون هذا تسهيلًا للفجور، يخلو الفاجر بالفاجرة آمنَينِ مطمئنينِ قائلينِ: إن لم يُطَّلع علينا فذاك المقصود، وإن اطُّلِع علينا قلنا: نحن زوجان!