الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وأما المأخذ الخَلَفي الثاني، وهو الكَشْف التصوفي، فقد مضى القرن الأول ولا يعرف المسلمون للتصوف اسمًا ولا رسمًا، خلا أنه كان منهم أفراد صادقو الحبِّ لله تعالى والخشيةِ له، يحافظون على التقوى والورع على حسب ما ثبت في الكتاب والسنة. فقد يبلغ أحدهم أن تظهر مزيته في استجابة الله عز وجل بعض دعائه أو عنايته به على ما يقلُّ في العادة، ويُلَقَّى الحكمةَ في الوعظ والنصيحة والترغيب في الخير. وإذا كان من أهل العلم ظهرت مزيته في فهم الكتاب والسنة، فقد يفهم من الآية أو الحديث معنىً صحيحًا، إذا سمعه العلماء وتدبروا وجدوه حقًّا، ولكنهم كانوا غافلين عنه حتى نبَّههم ذلك العبد الصالح.
ثم جاء القرن الثاني، فتوغَّل أفرادٌ في العبادة والعُزْلة، وكثرة الصوم والسهر، وقلة الأكل لعزة الحلال في نظرهم، فجاوزوا ما كان عليه الحالُ في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوقعوا في طرف من الرياضة، فظهرت على بعضهم بعض آثارها الطبيعية كالإخبار بأن فلانًا الغائب قد مات أو سيقدم وقت كذا، وأن فلانًا يُضمِر في نفسه كذا، وما أشبه ذلك من الجزئيات القريبة، فكان الناس يظنون أن جميع [2/ 239] ذلك من الكرامات. والواقع أن كثيرًا منه كان من آثار الرياضة، وهي آثار طبيعية غريبة تحصل لكل من كان في طبعه استعداد، وتَعانَى الرياضة بشروطها، سواء أكان مسلمًا ــ صالحًا أو فاجرًا ــ أم كافرًا، فأما الكرامات الحقيقية فلا دخلَ فيها لقوى النفس. فلما وقعوا في ذلك وجد الشيطانُ مسلكًا للسلطان على بعض أولئك الأفراد بمقدار مخالفتهم للسنة، فمنهم من كان عنده من
العلم ما دافع به عن دينه، كما نقل عن أبي سليمان الداراني أنه قال:"ربما تقع في قلبي النُّكتة من نُكَت القوم أيامًا، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلَيْن: الكتاب والسنة". ذكرها ونحوَها من كلامهم أبو إسحاق الشاطبي في "الاعتصام"(106 - 121)
(1)
.
[2/ 240] ومنهم من سَلِم لهم أصل الإيمان، لكن وقع في البدع العملية. ومنهم من كان سلطانُ الشيطان عليه أشدَّ، فأوقعه في أشدَّ من ذلك، كما ترى الإشارة إلى بعضه في ترجمة رياح بن عَمْرو القيسي من "لسان الميزان"
(2)
. ثم صار كثيرٌ من الناس يتحرَّون العزلة والجوع والسهر لتحصيل تلك الآثار، فقوي سلطانُ الشيطان عليهم. ثم نُقِلتْ مقالات الأمم الأخرى، ومنها الرياضة وشرحُ ما تُثمِره من قوة الإدراك والتأثير، فضمَّها هُواتُها إلى ما سبق، مُلْصِقين لها بالعبادات الشرعية، وكثر تعاطيها من الخائضين في الكلام والفلسفة. فمنهم من تعاطاها ليروِّج مقالاته المنكرة بنسبتها إلى الكشف والإلهام والوحي، ويتدرَّع عن الإنكار عليه بزعم أنه من أولياء الله تعالى. ومنهم من تعاطاها على أمل أن يجد فيها حلًّا للشكوك والشبهات التي أوقعه فيها التعمّقُ في الكلام والفلسفة.
ومن أول من مزج التصوف بالكلام الحارثُ المحاسبي، ثم اشتدّ الأمر في الذين أخذوا عنه فمَن بعدهم. وكان من نتائج ذلك قضية الحلَّاج، ولعله كان في أقران الحلَّاج مَن هو موافق له في الجملة، بل لعل فيهم مَن هو أوغلُ
(1)
وانظر "الاستقامة"(1/ 95 وما بعدها)، و"الرسالة القشيرية"(1/ 86).
(2)
(3/ 488).