الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - فصل
إن قيل: لا ريب أن الانسان ينشأ على دين واعتقاد ومذهب وآراء يتلقاها من مربِّيه [2/ 189] ومعلِّمه، ويتبع فيها أسلافه وأشياخه الذين تمتلئ مسامعه بإطرائهم وتأكيدِ أن الحقَّ ما هم عليه، وبِذَمّ مخالفيهم وثلبهم، وتأكيدِ أنهم على الضلالة. فيمتلئ قلبه بتعظيم أسلافه، وبُغْض مخالفيهم، فيكون رأيه وهواه متعاضِدَين على اتباع أسلافه ومخالفة مخالفيهم. ويتأكد ذلك بأنه يرى أنه إن خالف ما نشأ عليه رماه أهله وأصحابه بالكفر والضلال، وهجروه وآذوه وضيَّقوا عليه عِيشته. ولكن هذه الحال يشترك فيها من نشأ على باطل، ومن نشأ على حق. فإذا دعونا الناس إلى الاستيقاظ للهوى، وبينَّا لهم أثره وضرره، فمن شأن ذلك أن يُشكّكهم فيما نشأوا عليه. وهذا إنما ينفع من نشأ على باطل. فأما من نشأ على حق، فإن تشكيكه ضرر محض؛ لأن غالب الناس عاجزون عن النظر.
قلت: المطالب على ثلاثة أضرب:
الأول: العقائد التي يُطْلَب الجزمُ بها ولا يسع جهلُها.
الثاني: بقية العقائد.
الثالث: الأحكام.
فأما الضرب الأول، فسنبيِّن إن شاء الله تعالى أن النظر فيه ميسَّر لكلِّ أحد، وأن النظر العقلي المتعمَّق فيه لا حاجة إليه، وهو مَثار الشبهات، وملجأ الهوى
(1)
، ومنشأ الضلال، كما سيتضح ذلك إن شاء الله تعالى. فمن استجاب
(1)
(ط): "الهدى" خطأ.
لتلك الدعوة، فإنما تدعوه إلى النظر الفِطْري الشرعي مخلصًا من شوائب الهوى. فإن كان الناظر سابقًا على حقٍّ، فإنه يتبين له بهذا النظر أنه حقٌّ، فيلزمه وقد صفا له وخلص، ونجا من اتباع الهوى، وصَفَتْ له الطُّمأنينة.
وأما الضرب الثاني، فمن كان قائلًا بشيء منه عن حجة صحيحة فإن الاستجابة لتلك الدعوة لا تزيد تلك الحجة إلا وضوحًا مع الخلاص عن الهوى، وإلا فالجهلُ بهذا الضرب خير من القول فيه بغير حجة، وإن صادف الحق.
وأما الضرب الثالث، فالمتواتر منه والمُجْمَع عليه لا يختلف حكمُه، وما عداه قضايا اجتهادية يكفي فيها بذلُ الوسع لتعرُّف الراجح أو الأرجح أو الأحوط فيؤخذ به. وإنما يجيء البلاء فيها من أوجه:
الأول: التقصير في بذل الوسع.
[2/ 190] الثاني: التمسُّك بما ليس من الحق.
الثالث: الاعتداد بترجيح النفس الذي يكون منشؤه الهوى.
الرابع: عدم الرجوع عما يتبين أن غيره أولى بالحق منه.
الخامس: معاداة المخالف مع احتمال أنه هو المصيب، وظهور أنه إن كان مخطئًا فهو معذور.
فمن شأن تلك الاستجابة لتلك الدعوة أن تدفع هذه المفاسد.
* * * *