المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإيمان قول وعمل يزيد وينقص - التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١١

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌المسألة الأولىإذا بلغ الماءُ قُلَّتَين لم ينجَسْ

- ‌المسألة الثانيةرفع اليدين

- ‌ المسألة الثالثةأفطر الحاجم والمحجوم

- ‌ المسألة الرابعةإشعار الهدي

- ‌ المسألة الخامسةالمحرم لا يجد إزارًا أو نعلين يلبس السراويل والخفَّولا فديةَ عليه

- ‌ المسألة السادسةدرهم وجوزة بدرهمين

- ‌ المسألة السابعةخيار المجلس

- ‌ المسألة التاسعةالطلاق قبل النكاح

- ‌ المسألة العاشرةالعقيقة مشروعة

- ‌ المسألة الحادية عشرةللراجل سهم من الغنيمة، وللفارس ثلاثة:سهم له وسهمان لفرسه

- ‌ المسألة الثانية عشرةأما على القاتل بالمثقل قصاص

- ‌ المسألة الثالثة عشرةلا تعقل العاقلة عبدًا

- ‌إذا قتل حرٌّ حرًّا خطأ [2/ 91] محضًا أو شبهَ عمد

- ‌المسألة الرابعة عشرةتقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا

- ‌ المسألة الخامسة عشرةالقضاء بشاهد ويمين في الأموال

- ‌المسألة السادسة عشرةنكاح الشاهد امرأة شهد زورًا بطلاقها

- ‌ المسألة السابعة عشرةالقرعة المشروعة

- ‌ مقدمة

- ‌ 177] 1 - فصل

- ‌2 - فصل

- ‌3 - فصل

- ‌4 - فصل

- ‌5 - فصل

- ‌3 - يفكِّر في حاله بالنظر إلى أعماله من الطاعة والمعصية

- ‌4 - يفكر في حاله مع الهوى

- ‌9 - يأخذ نفسَه بالاحتياط في ما يخالف ما نشأ عليه

- ‌10 - يسعى في التمييز بين معدن الحجج ومعدن الشبهات

- ‌ الباب الأولفي الفرق بين معدن الحق ومعدن الشبهاتوبيان مآخذ العقائد الإسلامية ومراتبها

- ‌ علم الكلام والفلسفة ليسا من سراط المُنْعَم عليهم

- ‌ فصل

- ‌فصل

- ‌ الكَشْف ليس مما يصلح الاستناد إليه في الدين

- ‌ فصل

- ‌ الباب الثانيفي تنزيه الله ورسله عن الكذب

- ‌تنزيه الله تبارك وتعالى عن الكذب

- ‌ تنزيه الأنبياء عن الكذب

- ‌ الباب الثالثفي الاحتجاج بالنصوص الشرعية في العقائد

- ‌ قول الفخر الرازي في الاحتجاج بالنصوص الشرعية

- ‌قول العضد وغيره

- ‌المحكم والمتشابه

- ‌ وجه تسمية تلك الآيات متشابهات

- ‌ الباب الرابعفي عقيدة السلف وعدة مسائل

- ‌الأينية، أو الفوقية، أو كما يقولون: الجهة

- ‌القرآن كلام الله غير مخلوق

- ‌الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

- ‌معيارُ الإيمان القلبي: العمل

- ‌قول: أنا مؤمن إن شاء الله

- ‌ الخاتمةفيما جاء في ذم التفرق وأنه لا تزال طائفة قائمة على الحقوما يجب على أهل العلم في هذا العصر

- ‌الأول: العقائد

- ‌ الثاني: البدع العملية

- ‌ الثالث: الفقهيات

الفصل: ‌الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

‌الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

اشتهر عن أبي حنيفة أنه كان يقول: ليس العمل من الإيمان، والإيمان لا يزيد ولا ينقص. وروى الخطيب

(1)

عن جماعة من أهل السنة إنكارَهم ذلك على أبي حنيفة، ونسبتَه إلى الإرجاء. فتكلم الكوثري في تلك الروايات، وحاول التشنيع على أولئك الأئمة، وأسرف وغالط على عادته؛ فاضطررتُ إلى مناقشته دفعًا لتهجُّمه بالباطل على أئمة السنة.

قال الكوثري (ص 40) من «تأنيبه» : «يرى أبو حنيفة أن العمل ليس بركن أصلي من الإيمان، بحيث إذا أخلَّ المؤمنُ بعمل يزول منه الإيمان؛ كما يرى أن الإيمان هو العقد الجازم بحيث لا يحتمل النقيض، ومثلُ هذا الإيمان لا يقبل الزيادة والنقص» .

[2/ 363] وقال (ص 43): «وحيث كان أبو حنيفة وأصحابه لا يرون تخليد المؤمن العاصي في النار، رماهم خصومُهم بالإرجاء، وأعلنوا عن أنفسهم أنهم منحازون إلى الخوارج في المعنى» .

وقال (ص 44): «والإرجاء بالمعنى الذي هم يقولون به هو محض السنة، ومن عادى ذلك لا بد أن يقع في مذهب الخوارج أو المعتزلة شاعرًا أو غير شاعر» .

ثم قال: «كان في زمن أبي حنيفة وبعده أناس صالحون يعتقدون أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص؛ ويرمون بالإرجاء من يرى أن الإيمان هو العقد والكلمة، مع أنه الحق الصُّراح بالنظر إلى حجج الشرع. قال الله تعالى:{وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}

(2)

[الحجرات: 14]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه

(1)

في «تاريخ بغداد» (13/ 371 وما بعدها).

(2)

وقع في «التأنيب» : «قلوبهم» سهوًا. [المؤلف].

ص: 555

ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره». أخرجه مسلم عن ابن عمر

(1)

، وعليه جمهور أهل السنة. وهؤلاء الصالحون باعتقادهم ذلك الاعتقاد أصبحوا على موافقة المعتزلة أو الخوارج حتمًا، إن كانوا يعدُّون خلاف اعتقادهم هذا بدعة وضلالة؛ لأن الإخلال بعمل من الأعمال ــ وهو ركن الإيمان ــ يكون إخلالًا بالإيمان، فيكون من أخلَّ بعمل خارجًا من الإيمان، إما داخلًا في الكفر كما يقوله الخوارج، وإما غير داخل فيه، بل في منزلة بين منزلتين ــ الكفر والإيمان ــ كما هو مذهب المعتزلة. وهم من أشد الناس تبرؤًا من هذين الفريقين، فإذا تبرَّأوا

(2)

أيضًا مما كان عليه أبو حنيفة وأصحابه وباقي أئمة هذا الشأن يبقى كلامهم متهافتًا غير مفهوم. وأما إذا عدُّوا العمل من كمال الإيمان فقط، فلا يبقى وجه للتنابز والتنابذ، لكنَّ تشدُّدَهم هذا التشددَّ يدل على أنهم لا يعدُّون العمل من كمال الإيمان فحسب، بل يعدُّونه ركنًا منه أصليًّا، ونتيجة ذلك كما ترى

فإرجاء العمل من أن يكون من أركان الإيمان الأصلية هو السنة، وأما الإرجاء الذي يُعَدُّ بدعة، فهو قول من يقول: لا تضرُّ مع الإيمان معصية، وأصحابنا أبرياء من مثل هذا القول

ولولا مذهب أبي حنيفة وأصحابه في هذه للزِم إكفارُ جماهير المسلمين غير [2/ 364] المعصومين، لإخلالهم بعمل من الأعمال في وقت من الأوقات، وفي ذلك الطامة الكبرى».

أقول: اختلفت الأمة فيمن كان مؤمنًا ثم ارتكب كبيرة. فقالت الخوارج: يكفر، وقالت المعتزلة: لا يكفر ولكن يزول إيمانه، وإذا مات عن غير توبة دخل النار وخلد فيها مع الكفار. وقالت المرجئة: لا يكفر ولا يزول إيمانه ولا يدخل النار، لا يضرُّ مع الإيمان ذنب، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. وقال أهل

(1)

كذا الأصل، أعني «التأنيب» وهو خطأ، والصواب:«عمر بن الخطاب» فإنه من مسنده عند مسلم (8) وغيره، وإنما رواه ابن عمر عنه، فتوهم الكوثري أنه من مسند ابن عمر. [ن].

(2)

(ط): «تبرَّموا» . والتصويب من «التأنيب» .

ص: 556

السنة: لا يكفر، ولا يزول إيمانه البتة بمجرد ارتكابه الكبيرة ولكنه يكون ناقصًا. وقال بعض الأئمة: إلا تركَ الصلاة المكتوبة عمدًا فإنه كفر، وحقَّق بعضُ أتباعهم أن الترك نفسه ليس كفرًا، ولكن الشرع قضى أنه لا يكون إلا من كافر.

يستدل المرجئة والمعتزلة والخوارج بنصوص ظاهرُها أن المؤمنين لا يعذَّبون، ويستدل المعتزلة والخوارج بنصوص ظاهرُها أن مرتكب الكبيرة لا يبقى مؤمنًا، ويستدل الخوارج بنصوص ظاهرُها أن ارتكاب بعض الكبائر كفر. وأهل السنة يجيبون عن الأولَين بأن المراد الإيمان الكامل، وعن الثالث بأنه كفر دون كفر، فهو كفر يقتضي نقص الإيمان، لا زواله. ويدفع المرجئةُ الجواب المذكور بقولهم: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والأعمال ليست من الإيمان.

وهذا القول قد كان أبو حنيفة يقوله، لكن يقول الكوثري: إنه مع ذلك مخالف للمرجئة في أصل قولهم، وهو أنه لا يضر مع الإيمان عمل. ولا غرض في النظر في هذا، وتتبُّع الروايات.

بل أقول: تلك الموافقة التي يعترف بها تكفي لتبرير إنكار الأئمة. أما من لم يعرف منهم أن أبا حنيفة وإن وافق المرجئة في ذاك القول فهو مخالف لهم في أصل قولهم، فعذره في إنكاره واضح. وأما من عرف، فيكفي لإنكار القول أنه مخالف للأدلة كما يأتي، وأنه قد يسمعه من يقتدي بأبي حنيفة، ولا يعلم قوله إن أهل المعاصي يعذَّبون، فيغتَرُّ بذلك. وقد يبلغ بعضهم قولاه معًا فلا يلتفتون إلى الثاني، بل يقولون: رأس الأمر الإيمان، فإذا كان إيمان الفجار مساويًا لإيمان الأنبياء والملائكة ففيم العذاب، وقد دلت النصوص على أن

ص: 557

المؤمنين [2/ 365] لا يعذَّبون؟ ويحملهم ذلك على التهاون بالعمل، يقول أحدهم: لِمَ أعذِّب نفسي في الدنيا بما لا يزيد في إيماني شيئًا؟ حسبي أن إيماني مساوٍ لإيمان جبريل ومحمد عليهما السلام! ويحملهم ذلك على احتقار الملائكة والأنبياء والصديقين قائلين: أعظمُ ما عندهم الإيمان، وأفجَر الفجار مساوٍ لهم فيه!

وإذا كان أبو حنيفة ــ كما يقول الكوثري ــ يرى أن الإيمان هو الاعتقاد القلبي الجازم، وأنه لا يزيد ولا ينقص، فقد يبلغ هذا بعضَ الناس فيقول: إذا كنت لا أصير مؤمنًا إلا بأن يكون يقيني مساويًا ليقين جبريل ومحمد عليهما السلام، فهذا ما لا يكون. ففيم إذًا أعذِّب نفسي بالأعمال، فأجمَعُ عليها عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؟

وبعد، فيكفي مسوِّغًا لإنكار ذاك القول مخالفتُه للنصوص الشرعية. أما النصوص على أن الأعمال من الإيمان وأنه يزيد وينقص بحسبها، فمعروفة، حتى اضطُر الكوثري إلى المواربة، فزعم أن أبا حنيفة إنما كان يدفع أن يكون العمل ركنًا أصليًّا، لا أنه من الإيمان في الجملة، كاليدين والرجلين وغيرها من الأعضاء بالنسبة إلى الجسد، هي منه وينقص بفقدها مع بقاء أصله، وإن كان في بعض عبارات الكوثري ما يخالف هذه الدعوى.

وأما النصوص على أن الإيمان القلبي يزيد وينقص، فمنها الأحاديث الصحيحة في أنه يخرج من النار مَن قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال شعيرة من إيمان، ثم من قالها وفي قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ثم من قالها وفي قلبه أدنى أدنى من مثقال حبة خردل من إيمان.

فأما قول الله عز وجل: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا

ص: 558

وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] فليس فيها ما ينافي أن تكون الأعمال من الإيمان، وإنما غاية ما فيها أن الاعتقاد القلبي ركن ضروري للإيمان، فلا يكون الإنسان مؤمنًا حقًّا بدونه. [2/ 366] فإن قوله:{لَمْ تُؤْمِنُوا} نفيٌ لإيمانهم، ويكفي في نفيه انتفاءُ ركن ضروري عنه كما لا يخفى. وقوله:{وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} لا يقتضي أن الإيمان كلَّه هو الذي يكون في القلب. ألا ترى أنه يصح أن يقال: لم يدخل الإسلام في قلب فلان، أو لم يدخل الدين في قلب فلان، مع الاتفاق أن الإسلام والدين لا يختص بما في القلب.

وأما ما في حديث جبريل: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر

» فقد أجاب عنه البخاري في «كتاب الإيمان» من «صحيحه»

(1)

قال: «باب سؤال جبريلَ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، وبيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم [له]، ثم قال: «جاء جبريل عليه السلام يعلِّمكم دينكم» ، فجعل ذلك كله دينًا، وما بيَّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوفد عبد القيس من الإيمان، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]».

وقصة وفد عبد القيس التي أشار إليها هي في «الصحيحين» أيضًا وقد أوردها فيما بعد، فأخرج

(2)

من طريق ابن عباس في قصة محاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم: «

فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع. أمرهم

(1)

(1/ 114 مع «الفتح»).

(2)

البخاري (53) ومسلم (17).

ص: 559

بالإيمان بالله وحده، قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة

». فقد يقال: الإيمان في حديث جبريل منحوٌّ به المعنَى اللغويَّ، لا المعنى الشرعي، ويؤيد ذلك أن السائل في حديث جبريل كان في الظاهر ــ كما يُعلم من الروايات ــ أعرابيًّا لم يجتمع قبل ذلك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. فلما ابتدأ فقال: ما الإيمان؟ كان الظاهر أنه إنما يريد بالإيمان ما يعرفه في اللغة، فإذا كان معناه في اللغة التصديق القلبي، فظاهر السؤال: ما الذي يُطلب في الدين التصديقُ القلبي به؟ وأما في قصة عبد القيس، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي ابتدأ، فأمرهم بالإيمان ثم فسَّره لهم، فكان المعنى الشرعي للإيمان هو ما جاء في قصة عبد القيس.

فإن قيل: فإنه لم يستوعب الأعمال.

قلت: هذا السؤال مشترك، ولا قائلَ إن ما ذُكر فيه من الأعمال هي من الإيمان دون [2/ 367] غيرها. ومثل هذا في النصوص كثير، من الاقتصار على الأهم، إما لعلم المخاطب بغيره، وإما اتكالًا على أنه سيعلمه عند الحاجة، وإما لأن في الإجمال ما يدل عليه. وكثيرًا ما يقع الاختصار من بعض الرواة.

وبالجملة، فإذا صح قول الكوثري إن أبا حنيفة لا يقول: إن الأعمال ليست من الإيمان مطلقًا، وإنما يقول: إنها ليست ركنًا أصليًّا وإنما الركن الأصلي العقد والكلمة، فالأمر قريب.

فلْنَدَع هذا، ولننظر فيما زعمه أن الإيمان القلبي لا يزيد ولا ينقص حتى قال (ص 67): «لأن الإيمان الشرعي إنما يتحقق عند تحقق الجزم المنافي لتجويز النقيض

لا يتصور تفاوتٌ أصلًا بين إيمان المؤمنين من جهة الجزم والتيقن،

ص: 560

ويكون النقص عن مرتبة اليقين كفرًا».

أقول: تفاوت الإيمان القلبي ثابت نقلًا ونظرًا.

أما النقل فمعروف، وقد تقدمت الإشارة إلى حديث الخروج من النار.

وأما النظر فإن الإنسان إذا قارن بين اعتقاده أن الثلاثة من حيث العددية أقل من الستة وبين اعتقاداته الدينية التي يجزم أنه موقن بها بَانَ له الفرق. فإن أحبَّ الكوثريُّ فليحكم على نفسه وعلى جمهور الناس بعدم الإيمان، وإن أحبَّ فليُثبِتْ ما نفاه. وقد صرَّح النظار بأن اليقين يتفاوت قوةً وضعفًا كما تراه في «المواقف»

(1)

وغيرها.

وفي «فتح الباري»

(2)

: «قال الشيخ محيي الدين

(3)

: «الأظهر المختار أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة. ولهذا كان إيمان الصدِّيق أقوى من إيمان غيره بحيث لا تعتريه الشبهة» . ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى إنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينًا وإخلاصًا وتوكلًا منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها. وقد نقل محمد بن نصر المروزي في كتابه:«تعظيم قدر الصلاة» عن جماعة من الأئمة نحوَ ذلك».

فإن أحبَّ الكوثريُّ فليحكم على نفسه وعلى جمهور الناس أن أحدهم

(1)

موقف 6 مرصد 3 مقصد 2. [المؤلف]. يراجع (ص 388) منه.

(2)

(1/ 46، 47).

(3)

محيي الدين كأنه النووي الفقيه الشافعي شارح «صحيح مسلم» رحمه الله تعالى، وليس المراد به محيي الدين بن عربي الحاتمي المتصوف فذاك له مجال آخر. [م ع].

هو النووي قطعًا. [المؤلف]. والنص في «شرح صحيح مسلم» له (1/ 148).

ص: 561

يختلف حاله في حياته، فيكون تارة مؤمنًا وتارة غيرَ مؤمن! وإن أحبَّ فَلْيُثبِتْ ما نفاه.

[2/ 368] وفي «صحيح مسلم»

(1)

وغيره قصة أبي بن كعب رضي الله عنه في اختلاف القراءة. وفيها قوله: «فسُقِطَ في نفسي من التكذيب ولا إذ كنتُ في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قد غشيني ضرَبَ في صدري، ففِضْتُ عَرَقًا، وكأنما أنظر إلى الله فَرَقًا

». ولا يرتاب عاقل أن إيمان هذا الصحابي الجليل عند تلك الغشية دون إيمانه قبلها وبعدها. وقد عرض لعمر بن الخطاب وغيره في قصة الحديبية ما يشبه ذلك

(2)

. وفي حديث الرجل الذي قاتل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشدّ القتال، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«هو من أهل النار» ، فكاد بعض الناس يرتاب

(3)

.

ولا يرتاب عاقل أن المؤمنين يتفاوتون في التقوى تفاوتًا عظيمًا، وأعظم أسباب ذلك تفاوتهم في اليقين، فإننا نرى أحوالهم في اتقاء الضرر الدنيوي لا يتفاوت ذاك التفاوت. بل إنك تجد من نفسك أنه قد يقوى اعتقادك فترغب نفسك في الطاعة وعن المعصية، وقد يضعف فتتهاون بذلك. وكذلك تجد ذلك عندما تطلع على الأدلة أو الشبهات، فقد يقف العالم على عدة نصوص من الكتاب والسنة فيتبيَّن له أن بعضها يصدِّق بعضًا، وقد يتراءى له أنها تتناقض. وقد يرى نصوصًا في العقائد، فيتبين له أن العقل موافق لها وقد

(1)

رقم (820).

(2)

انظر «صحيح البخاري» (2731، 2732).

(3)

أخرجه البخاري (3062) ومسلم (111) من حديث أبي هريرة.

ص: 562

يتراءى له أنه يخالفها. ويرى نصوصًا في الأحكام فيتبين له أنها موافقة للرأي والنظر والحكمة والقياس، وقد يتراءى له أنها مخالفة لذلك. ويرى نصوصًا في الإخبار عن الجن والشياطين، والأرض والسماء، والشمس والقمر، وغير ذلك، فيتبين له أنها موافقة للواقع، وقد يتراءى له أنها مخالفة له. ويطالع السيرة فيرى فيها أمورًا واضحة الدلالة على النبوة، وقد يرى فيها ما يتراءى له منه خلاف ذلك. ويسمع من الأطباء وغيرهم ما يوافق ما جاء في الشرع، وقد يسمع منهم ما يخالفه. ويطيع النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الأمور فيناله نفع، وقد يتفق له خلاف ذلك. وهذا كمن يريد سفرًا مع رفقة، فتعزِم الرفقةُ على الخروج يوم الجمعة قبل الصلاة، فيأبى أن يخرج قبل الصلاة للنهي الشرعي عن ذلك

(1)

. وسافر الرفقة فتصيبهم مصيبة [2/ 369] كاصطدام القطار، أو غرق الباخرة أو نحو ذلك؛ وينجو هو لتأخره. وقد يتفق خلاف هذا بأن تسلم الرفقة وتغنم، ويخرج هو بعد الصلاة فيصيبه ضرر. وأشباه هذا كثيرة لا تكاد تمضي ساعة إلا ويقع شيء منها. ولا ريب أن اعتقاد الإنسان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لا يبقى على حال واحدة مع اختلاف الأمور المذكورة، بل يصفو تارة، ويتكدر أخرى، ويقوى تارة، ويضعف أخرى، ويزيد تارة، وينقص أخرى.

ولا أرى عاقلًا يتصور حاله وحال الملائكة والأنبياء، ويقول: إن يقينه مثل يقينهم. وقد حاول الكوثري أن يجيب عن هذا فقال (ص 67): «نعم، إن

(1)

قلت: لم يثبت النهي عن السفر يوم الجمعة، بل صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال لمن سمعه يقول: لولا أن اليوم جمعة لخرجت! قال عمر: «اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر» . راجع لهذا وغيره مما روي في النهي كتابنا «سلسلة الأحاديث الضعيفة» رقم (218 و 219). [ن].

ص: 563

إيمان الأنبياء، وإيمان العلماء، وإيمان العوام يتفاوت من جهة ما يحتمل الزوال منها، وما لا يحتمله. واحتمال الزوال أو عدم احتماله ناشئ من أمر خارج، وذلك من تفاوت طرق حصول الجزم عندهم، لا من التفاوت في ذات الإيمان. فالإيمانُ عند الأنبياء لا احتمال لزواله منهم، لأن حصوله عن مشاهدة ووحي قاهر. وإيمانُ العلماء يحتمل الزوال بطروء بعض شبه على أدلة الإيمان عندهم، ولو احتمالًا ضعيفًا. وأما إيمان العوام، فربما يزول بأيسر تشكيك

فبهذا البيان اتضحت المسألة تمام الاتضاح ــ إن شاء الله تعالى ــ لكل من ألقى السمع وهو شهيد».

ونَوَّهَ عن هذا الكلام (ص 193) بقوله: «تحقيق بديع

»!

أقول: لنا أن نلتمس من الأستاذ الكوثري أن يفكِّر في اعتقاده أن الثلاثة من حيث العددية أقل من الستة، هل يمكن أن يتشكك فيه يومًا ما مع بقاء عقله؟ فإن قال: لا، فليستعرض الاعتقادات الدينية الضرورية للإيمان، التي يرى أنه جازم بها حقَّ الجزم، هل يمكن أن يتشكك في بعضها يومًا ما؟ فإن قال: لا، فقد أخرج نفسه من زمرة العلماء الذين قضى في عبارته السابقة بأن إيمانهم يحتمل الزوال!

وإن قال: يجوز ذلك.

قيل له: فتجويزك هذا ألا يدل على أن جزمك بتلك العقيدة دون جزمك بأن الثلاثة نصف الستة؟

[2/ 370] فإن قال: قد قلت: إن هذا الأمر خارج.

قيل له: هذا الأمر الخارج إنما حاصله قوة الدليل في حق الأنبياء، وكونُه دون ذلك في حق العلماء. أوَ ليس من لازم تفاوُتِ الأدلة في القوة تفاوتُ الجزم بمدلولاتها عند العارف بتفاوتها؟ فالدليل الذي يكون عندك غايةً في

ص: 564

القوة، يكون جزمُك بمدلوله وانتفاءِ نقيضه أقوى من جزمك بمدلولِ دليلٍ دونه عندك في القوة.

فإن قال: ليس هذا بلازم، فإنَّ الجزم قد يقع عن شبهة باطلة.

قلت: من جزم عن شبهة باطلة، فإنه لا يراها شبهة، بل يراها دليلًا قاطعًا، وكلامنا إنما هو في العالِم الذي يميِّز بين الأدلة.

فإن عاد وقال: تفاوتُ الأدلة مع الجزم بمدلولاتها إنما يكون من جهةِ أن بعضها لا يحتمل أن تعرض شبهةٌ تُشكِّك فيه، وبعضها يحتمل ذلك.

قيل له: تسمية العارض شبهةً، فيه شِبهُ مغالطة؛ فإنه مَن جزم بشيء ثم عرَضَ له ما يجزم بأنه شبهة، فإنه لا يتغير جزمه الأول، وإنما يتغير حيث يجوِّز أن العارض دليل. فعلى هذا، إذا كنت الآن تجوِّز في بعض ما تجزم به أن يعرض ما يشكِّكُك فيه ويزيل جزمك، فمعنى ذلك أنك تجوِّز أن يعرض مشكِّكٌ فيه يحتمل أن يكون دليلًا صحيحًا، وأن يكون شبهة.

ويوضِّح هذا أن بعض المسائل الحسابية والهندسية اليقينية يجوز لجازم بها بعد أن يحيط بها أن يعرض ما يظهر منه خلافُ ما جزم به. ولكنه يجزم الآن بأنه لو عرض ألفُ عارض من تلك العوارض لما تغيَّرَ جزمُه، وكما يجزم بهذا في حق نفسه، فكذلك يجزم في حق غيره بأن من عرف تلك المسألة كما عرفها، لا يتغيَّر جزمُه ما دام عقله. فهذا هو الذي يصح أن تحكم بأنه جازم أن العارض لا يكون إلا شبهة.

فإن قيل: فما قولك أنت؟

قلت: أقول: إن الإيمان يتفاوت، وإن ذلك التجويز المستبعَد إذا كان

ص: 565