الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[2/ 39]
المسألة الثالثة
أفطر الحاجم والمحجوم
في "تاريخ بغداد"(13/ 388 [403]) من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه قال: "ذُكِر لأبي حنيفة قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم". فقال: هذا سجع".
قال الأستاذ (ص 81): "حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" لم يُثبته كثير من أهل الحديث منهم ابن معين
…
ومَن أثبته يرى الحديث إما منسوخًا باحتجام النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم، وإمّا مؤولًا بمعنى أنهما عرضة للإفطار
…
".
قلت: ممن صحح الحديث من وجه أو أكثر: الإمامُ أحمد، وابن المديني، وإسحاق بن راهويه، والبخاري، وأبو زرعة، وعثمان بن سعيد الدارمي، وابن خزيمة، وغيرهم. فأما ابن معين ففي "الفتح"
(1)
: "قال المرُّوذي: قلت لأحمد: إن يحيى بن معين قال: ليس فيه شيء يثبت. فقال: هذا مجازفة".
وزعمُ الأستاذ أن مَن أثبته يراه منسوخًا أو مؤولًا، ليس كما قال، فإنه ترك القسم الثالث. قال ابن حجر في "فتح الباري"
(2)
: "وعن علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور: يُفطر الحاجم والمحجوم، وأوجبوا عليهما القضاء. وشذَّ عطاء، فأوجب الكفارة أيضًا. وقال بقول أحمد من الشافعية: ابن خزيمة، وابن المنذر، وأبو الوليد النيسابوري، وابن حبان
…
(1)
(4/ 177).
(2)
(4/ 174).
وبذلك قال الداودي من المالكية".
فأما دعوى النسخ بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، فالحديث رواه عبد الوارث، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس:"احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم"
(1)
. ورواه وهيب عن أيوب بسنده: "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو مُحرِم، واحتجم وهو صائم"
(2)
. وفي "الفتح"
(3)
: "ورواه ابن علية ومعمر عن أيوب عن عكرمة مرسلًا، واختلف على حماد بن زيد في وصله وإرساله". وجاء عن مِقْسَم عن ابن عباس
(4)
: "احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، وهو صائم محرم". وذكر البيهقي (ج 4 ص 263) وقال: "ورواه أيضًا ميمون بن مهران عن ابن عباس"
(5)
. وكذلك في رواية لابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، كما في "الفتح"
(6)
. [2/ 40] وفي رواية عن عكرمة عن ابن عباس عند أحمد (ج 1 ص 305)
(7)
ذكر قصةَ اليهودية التي وضعت السمَّ في طعام النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد من ذلك شيئًا احتجم، قال: فسافر مرة، فلما أحرم وجد من ذلك شيئًا، فاحتجم".
(1)
أخرجه البخاري (1939، 5694).
(2)
أخرجه البخاري (1938).
(3)
(4/ 177).
(4)
أخرجه بهذا الطريق أبو داود (2373) والترمذي (777) وابن ماجه (1682، 3081) والبيهقي (4/ 263) وغيرهم.
(5)
أخرجه بهذا الطريق الترمذي (776) والطحاوي في "معاني الآثار"(2/ 101).
(6)
لم أجد الإشارة إليها في "الفتح". وهي في "مسند البزار"(11/ 214).
(7)
رقم (2784).
وقد أجاب ابن خزيمة
(1)
عن هذا الحديث بأن للمسافر إذا أصبح صائمًا ثم بدا له أثناء النهار أن يفطر. وحاصل الجواب أنه صلى الله عليه وسلم أصبح في سفره صائمًا، ثم لما هاج به الوجع احتجم فأفطر. وكأن ابن عباس لم يكن قد بلغه أن الحجامة تُفطِّر الصائم، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح صائمًا ثم رآه احتجم، ولم يبحث عمّا كان بعد الحجامة. فوقع في ظنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استمَّر على الصيام. ثم لما بلغه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أنّ بعض الناس يرى أن الحجامة تفطِّر الصائم احتج بالقصة على حسب ظنه.
وهذا كما سَمع
(2)
أسامةَ يُحدّث بحديث: "لا ربا إلا في النسيئة"
(3)
، ولم يثبت عنده حديث:"لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنًا بوزن، مثلًا بمثل، يدًا بيد"
(4)
، فكان يفتي بحِلِّ الذهب بالذهب مع التفاضل نقدًا، وكذا الفضة بالفضة. ثم جاء أن بعض الصحابة أخبره بالحديث الآخر، فرجع
(5)
.
وكما أخبره أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فلم يصلِّ فيها، فكان يفتي بذلك
(6)
. وقد صح عن بلال أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، وأنه صلى الله عليه وسلم صلَّى بين العمودين المقدمين
(7)
.
وكما كان يرى أن لا قراءة في السِّريَّة، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ
(1)
في "صحيحه"(3/ 228).
(2)
أي ابن عباس.
(3)
أخرجه البخاري (2178، 2179) ومسلم (1596).
(4)
أخرجه مسلم (1584).
(5)
كما في "صحيح مسلم"(1594/ 100).
(6)
أخرجه مسلم (1330).
(7)
أخرجه البخاري (1598) ومسلم (1329).
فيها. فقيل له: لعله كان يقرأ في نفسه؛ فغضب
(1)
. وقد أثبت غيره القراءة بما لا تبقى معه شبهة
(2)
.
وأمثال هذا كثير مما يحتج به الصحابي على حسب ظنه، ويتبين أن ظنَّه كان خطأ. وقد روى عطاء ذاك الحديث عن ابن عباس
(3)
ثم ذهب إلى الإفطار كما مرَّ
(4)
.
فإن قيل: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم أفطر بالحجامة لكان الظاهر أن يبِّين ذلك للناس.
قلت: يجاب أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بما سبق منه من بيان أنه يفطر الحاجم والمحجوم، ومن بيان أن الصائم في السفر يحل له الإفطار.
فإن قيل: فقد جاء عن أبي سعيد الخدري
(5)
وعن أنس
(6)
أن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص في الحجامة للصائم.
(1)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(12005). وانظر "فتح الباري"(2/ 254).
(2)
انظر "صحيح البخاري"(759 - 762) و"صحيح مسلم"(451 - 454).
(3)
أخرجه البخاري (5695).
(4)
انظر "الفتح"(4/ 174). وروى ابن أبي شيبة في "المصنف"(3/ 52) عنه: لا بأس بالحجامة للصائم ما لم يَخَفْ ضعفًا.
(5)
أخرجه النسائي في "الكبرى"(3224، 3228) وابن خزيمة (3/ 230) والدارقطني (2/ 182)، قال الحافظ في "الفتح" (4/ 178): رجاله ثقات، ولكن اختُلف في رفعه ووقفه.
(6)
أخرجه الدارقطني (2/ 182). وقال: كلهم ثقات، ولا أعلم له علة. وقال الحافظ في "الفتح" (40/ 178): رواته كلهم من رجال البخاري، إلّا أن في المتن ما يُنكَر، لأن فيه أن ذلك كان في الفتح، وجعفر كان قتل قبل ذلك.
[2/ 41] قلت: في صحة ذلك عنهما كلام، كما ترى في "فتح الباري"
(1)
. ولو صح أمكن أن يكون مرادهما بالترخيص ما ذكره ابن عباس من احتجامه صلى الله عليه وسلم وهو صائم في سفره، وقد مرَّ ما فيه.
وأما التأويل بصرف النص عن ظاهره، فلا مسوِّغ له. والله أعلم
(2)
.
(1)
(4/ 178).
(2)
قلت: لا شك أن التأويل المذكور لا مسوغ له، ولكني أرى أن الجواب الصحيح هو أن الحديث منسوخ بنص حديثي أبي سعيد وأنس المذكورين، فإنهما حديثان صحيحان، له عن أبي سعيد طريقان، أحدهما صحيح، وعن أنس ثلاث طرق أحدها صحيح أيضًا، وأما الكلام الذي أحال المصنف فيه على "الفتح" فليس فيه ما يمكن أن يكون علة في الحديث لاسيما إذا نظر إليه من جميع طرقه، فإن كثرة الطرق للحديث تدل على أن له أصلًا، فكيف إذا كان بعض مفرداتها صحيحًا في نفسه، وليس هذا مجال شرح ذلك، ومحله في "إرواء الغليل"(931)، ولكن لا بأس من الإشارة إلى شيء من كلام الحافظ رحمه الله مع التعليق الموجز عليه، قال في بعض طرق أنس:"ورواته كلهم من رجال البخاري، إلا أن في المتن ما ينكر لأن فيه أن ذلك كان في الفتح، وجعفر كان قتل قبل ذلك".
قلت: وهذا سهو من الحافظ رحمه الله، فإنه ليس في الحديث ذكر للفتح أصلًا، وعليه فالحديث صحيح لا نكارة فيه، والعجيب أن الحافظ ادعى ما سبق بعد أن ذكر الحديث بدون ذكر الفتح، وهذا لفظه:"أخرجه الدارقطني ولفظه: "أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: أفطر هذان، ثم رخصَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم. رواته كلهم ثقات
…
". وهكذا هو عند الدارقطني في "سننه" (ص 239).
وإذا عرفت هذا اللفظ الصريح في النسخ يتبين لك أن قول المؤلف رحمه الله: "ولو صح أمكن أن يكون مرادهما بالترخيص ما ذكره ابن عباس
…
" أنه غير ممكن، فتأمل. [ن].