الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[2/ 168]
المسألة السابعة عشرة
القرعة المشروعة
في «تاريخ بغداد» (13/ 390 [407]) من طريق يوسف بن أسباط قال: «وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُقرِع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في سفر، وأقرع أصحابه، وقال أبو حنيفة: القرعة قمار» .
قال الأستاذ (ص 87): «وأما مسألة القرعة، فقد قصرها أبو حنيفة على موردها وقال: إنما يجري الإقراع عند إرادة السفر بين النساء، وعند القسمة التي ليس فيها إبطال حق ثابت، باعتبار أن القرعة وردت في ذلك على خلاف القياس» .
أقول: الذي في كتب الحنفية عن أبي حنيفة أنه لا حكم للقرعة، وإنما تُستحبُّ تطييبًا للنفس، ثم لا يلزم العمل بها، فللزوج أن يخرج بأي أزواجه شاء، حتى لو أقرَعَ فخرج سهمُ إحداهن، فله الخروج بغيرها. وهكذا في القسمة يكون حق التعيين للقاضي. وقد بقيت للقرعة موارد أخرى. ودعوى أنها خلاف القياس كأنه أريد بها أنها في الأصل قمار. وسنوضِّح بعون الله عز وجل بطلان ذلك، ونُثبت أن القرعة في بابها قياس من أعدل الأقيسة وأقومِها وأوفقها بالأصول، وأن جعل التعيين إلى الزوج والقاضي في الفرعين السابقين هو المخالف للأصول.
اعلم أن صورة القرعة قد تستعمل في أربعة أبواب:
الباب الأول: أن يُقصد بها إبطالُ حقِّ صاحب الحق وجعلُه لمن لا حق له، كأن يقول الرجل لصاحبه: ألقِ خاتمَك، وأُلقي خاتمي، ونقترع عليهما، فأيُّنا خرج سهمُه استحقَّ الخاتمين. أو يقول أحدهما: أُقارِعك على خاتمي
هذا، فإن خرج سهمك أخذته أنت. أو يتداعيا دارًا في يد أحدهما، فيقال: أقرعوا بينهما، فإنْ خرج سهم المدعي أخذ الدار.
الباب الثاني: أن يتنازعا حقًّا يمكن أن يكون لهما معًا، ولا دليل يرجِّح جانب أحدهما، كأن يتنازعا دارًا بيدهما معًا، ولا دليل لأحدهما، وحلف كلٌّ منهما أنها جميعها له، ليس لصاحبه منها شيء.
[2/ 169] الباب الثالث: أن يختص الحقُّ بأحدهما بعينه، ويتعذَّر تعيينه، كمن طلَّق بائنًا إحدى امرأتيه، وتعذَّر تعيينُها.
الباب الرابع: أن يكون الحق في الأصل ثابتًا لكلٍّ منهما، لكن اقتضى الدليل أن يُخَصَّ به أحدُهما، لا بعينه.
فأما الباب الأول، فلا نزاع أن القرعة إذا استُعمِلت فيه فهي قمار، وكذلك الباب الثاني.
وأما الباب الثالث ففيه نظر، وقد قال بعض الأئمة بصحة القرعة فيه.
وأما الباب الرابع، فهو مورد القرعة. والفرق بينه وبين الأبواب الأولى بغاية الوضوح، فإنه إذا اقتضى الدليل أن يُخصَّ به أحدهما لا بعينه فما بقي إلا طلبُ طريقٍ للتعيين لا ميلَ فيه ولا حيفَ، فإذا ظفرنا بطريقٍ كذلك، لم يكن فيه إبطالُ حقٍّ ثابت ولا إثباتُ حقٍّ باطل، فما هو هذا الطريق؟
من كانت له امرأتان واحتاج إلى السفر واستصحابِ إحداهما فقط، فقد ثبت الدليل باعتراف أبي حنيفة أن له ذلك، وبقي التعيين. ومن مات عن ابنين، فقسم القاضي المال نصفين، فقد ثبت الدليل باعتراف أبي حنيفة أنه ينبغي تخصيص أحدهما بأحد النصفين والآخر بالآخر، وبقي التعيين.
فأبو حنيفة يقول: يعيِّن الزوج والقاضي، ومخالفوه يقولون: الزوج والقاضي منهيَّان عن الميل وعن كل ما يظهر منه الميل، ولا ريب أن تعيينهما برأيهما ميلٌ، أو يظهر منه الميل، والأصل في ذلك التحريم. فإباحتُه لهما مخالف للأصول والقياس، وفتحٌ لباب الهوى، ومنافٍ للحكمة. وإذا عيَّن الزوجُ برأيه إحدى امرأتيه ظنَّت الأخرى أنه إنما عيَّنها ميلًا إلى هواه، فحَزَنها ذلك، وأدَّى ذلك إلى مفاسد. وإذا عيَّن القاضي برأيه أحد النصفين لزيد، وكان بكرٌ يريده لنفسه، ظنَّ بكرٌ أن القاضي إنما مال مع هواه، وساءت ظنون الناس بالقاضي، وجرَّ ذلك إلى مفاسد.
فإن قال أبو حنيفة: فما المخلص؟ قالوا: قد بيَّنه الله تعالى ورسوله، وهو القرعة. فإن قال: القرعة قمار. قيل له: إنما تكون قمارًا في غير هذا الباب كما تقدم شرحه. وإذا صحَّ أن أبا حنيفة استحبَّ القرعة، فقد لزمه أنها ليست في هذا الباب بقمار وأنها مشروعة. وإذا اعترف بأنها مشروعة، فما بقي إلا أن يجب العمل بها، أو يجوز تركُها وجعلُ [2/ 170] التعيين إلى الزوج والقاضي. والحجة قائمة على منع أن يكون التعيين إلى الزوج والقاضي، لأنه فتحٌ لباب الميل كما تقدَّم، ولا ضرورة إليه ولا حاجة.
وقد وردت القرعة في فروع أخرى من الباب الرابع، وبذلك ثبت أنها في ذلك الباب أصل من الأصول الشرعية يقاس عليه ما يشبهه.
قال الله تبارك وتعالى في قصة مريم: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} إلى أن قال: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 37 - 44].
فالقوم ــ وفيهم نبي الله زكريا عليه السلام ــ اختصموا في كفالة مريم، ففزعوا إلى القرعة، وظاهرٌ أنهم إنما يرضون بالقرعة عند تساويهم في أصل الاستحقاق واقتضاء مصلحة الطفلة أن يختص بكفالتها أحدهم. فقص الله تبارك وتعالى ذلك في كتابه، وأخبر أنه كفَّلها زكريا، أي ــ والله أعلم ــ بأن أخرج سهمه في القرعة، فكان هو القارع.
وقال عز وجل في قصة يونس: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 140 - 142] ذهب يونس إلى فلك مشحون ــ أي مُوقَر ــ ليركب فيه، فكأنه ــ والله أعلم ــ طلع إلى الفلك هو وجماعةٌ حاجتهم كحاجته، فكأن صاحب الفلك أخبرهم أنه لا يمكنه أن يسافر بهم جميعًا لأن فلكه مشحون أي موقر، وطلب إليهم أن ينزل بعضهم، فتشاحُّوا، فاقترعوا، فطلع سهم يونس في المدحضَين، أي في الذين خرجت القرعة بأن ينزلوا. والظاهر أن الفلك كان لا يزال بالمرفأ، وليس في النزول منه خطر ظاهر، لكن الله عز وجل قضى على يونس بما قضى.
وفي «الصحيحين»
(1)
من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا
…
». وفي «صحيح مسلم»
(2)
من حديثه أيضًا مرفوعًا: «لو تعلمون ــ أو يعلمون ــ ما في الصف المقدَّم لكانت قرعةً» . أي أنهم يحضرون معًا، ويكثُرون
(1)
البخاري (615، 653) ومسلم (437).
(2)
رقم (439).
ويتشاحُّون، ولا يكون هناك مُرجِّح، فيحتاج إلى القرعة.
وفي «صحيح البخاري»
(1)
وغيره من حديث أم العلاء قالت: «طار لنا عثمان بن مظعون في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين
…
».
[2/ 171] وفيه
(2)
من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا: «مَثَلُ القائمِ على حدود الله والواقعِ فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة
…
».
وفي «صحيح مسلم»
(3)
وغيره عن عمران بن حصين: «أن رجلًا أعتق ستة مملوكين عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزَّأهم أثلاثًا، ثم أقرعَ بينهم، فأعتق اثنين، وأرقَّ أربعة» .
ووجه ذلك أن تصرُّفَ المريض مرضَ الموت وصيةٌ يصح منها الثلث فقط، ومن الأصول الشرعية مراعاةُ أن تَعتِق الرقبةُ كاملةً، كما ثبت فيمن أعتق في حال صحته بعضَ مملوكه أنه يَعتِق عليه كلُّه، وفيمن أعتق شركًا له في مملوك أنه إن كان المُعِتقُ موسرًا عتَق المملوك كلُّه وغرِم المعتِقُ قيمةَ ما زاد على نصيبه لشريكه. وإن كان مُعسِرًا فقد قال بعض أهل العلم: يعتق
(1)
رقم (1243). وأخرجه أيضًا أحمد في «المسند» (27457، 27458) والطبراني في «الكبير» (25/ 140) والحاكم في «المستدرك» (1/ 378) والبيهقي في «الكبرى» (4/ 76).
(2)
البخاري (2493).
(3)
رقم (1668). وأخرجه أيضًا أبو داود (3958 وما بعدها) والترمذي (1364) والنسائي (4/ 64). ورواه مالك في «الموطأ» (2/ 774) عن الحسن البصري وابن سيرين مرسلًا.
المملوك كلُّه، ويسعى في قيمة ما زاد على نصيب المعتِق حتى يدفعها إلى الشريك. وقال آخرون: قد عتَق منه ما عتَق، ويبقى باقيه على الرق.
ومن المعنى في مراعاة عتق الرقبة كاملةً أن مقصود العتق هو أن يحصل للمملوك وعليه جميع الحقوق المختصة بالأحرار، ويغني عن المسلمين غناء الحر، وليس المبعَّض كذلك. فإن من حقوق الأحرار ما لا يحصل له ولا عليه منها شيء، ومنها ما يحصل له جزء منه فقط، ومع ذلك يكون التبعيض منشأ نزاع مستمر بين المبعَّض ومالك بعضه، فيلحق الضرر بكلٍّ منهما. ويشتبه الحكم في كثير من الفروع على المفتي والقاضي، كما تراه في أحكام المبعَّض في كتب الفقه. فجاءت السنة بأن يُجزَّأ الستّةُ ثلاثةَ أجزاء، ليَعتقَ اثنان كاملان، فكلُّهم متساوون في أصل الحق، واقتضى الدليل أن يُخَصَّ اثنان منهم، وبقي التعيين. فهذه الصورة من الباب الرابع الذي وردت فيه القرعة. فثبت أن القرعة في ذاك الباب أصل من الأصول الشرعية قرَّره الكتاب والسنة، واقتضاه العدل والحكمة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على خاتم أنبيائه محمد وآله وصحبه وسلم.
القائد إلى تصحيح العقائد
وهو القسم الرابع من كتاب
"التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل"
[2/ 174] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي لا أعلمَ به من نفسه، ولا أصدقَ نبأً عنه من وحيه، ولا آمنَ على دينه من رسله، ولا أولى بالحقّ ممن اعتصم بشريعته ورضي بحكمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهمّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. ورضي الله عمن اختارهم لصُحْبة رسوله، وحِفْظ شريعته، وعن أتباعهم المُقتدين بأنوارهم، المقتفين لآثارهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن صاحب كتاب "تأنيب الخطيب" تعرَّض في كتابه للطعن في عقيدة أهل الحديث، ونبَزَهم بالمُجَسِّمة، والمشبّهة، والحَشوية، ورماهم بالجهل والبدعة والزيغ والضلالة. وخاض في بعض المسائل الاعتقادية كمسألة الكلام والإرجاء، فتجشَّمتُ أن أتعقبه في هذا، كما تعقّبته في غيره، راجيًا من الله تبارك وتعالى أن يُثبِّتَ قلبي على دينه، ويهديني لما اختُلِفَ فيه من الحقّ بإذنه، ويتغمَّدني بعفوه ورحمته، إنه لا حول ولا قوة إلا بالله.
* * * *