الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المحكم والمتشابه
كثير من المتعمقين يسترون تكذيبهم للنصوص بدعوى أن ما يخالفونه منها هو من المتشابه المنهي عن اتباعه. وقد كثر الكلام في المحكم والمتشابه، وسألخِّص ما بان لي راجيًا من الله تعالى التوفيق.
المعنى المتبادر من كلمتي «محكم» و «متشابه» أن المحكم هو المتقَن الذي لا خللَ فيه، والمتشابه هو الذي يشبه بعضه بعضًا. والقرآن كلام رب العالمين، أحكم الحاكمين، العليم القدير؛ فلابد أن يكون كلُّه محكمًا. وينبغي أن يُعلَم أنَّ إحكام الشيء يختلف باختلاف ما أُعِدَّ له، ففي البناء يختلف الإحكام في الحصن ودار السكنى وقصر النزهة. وهكذا يختلف الإحكام في حُجَر الدار الواحدة كالمجلس والمخزن والمطبخ والحمام. ويختلف المُعَدُّ لغرض واحد باختلاف الأحوال، فالمجلس الذي يصلح للشتاء قد لا يصلح للصيف، والذي يصلح للصيف في بلد لا تكون فيه السَّموم قد لا يصلح في بلد تكون فيه. وهكذا الكلام، كما يقوله البيانيون في تفسير البلاغة. فمهما يكن في بعض الآيات مما يزعمه بعضُ الناس خللًا، فهو بالنظر إلى ما أُعِدَّتْ له الآية عين الإحكام.
وهناك صفات تشترك فيها آيات القرآن، كالإحكام والصدق وغير ذلك من الصفات المحمودة. فيصح أن يقال: إن القرآن كلَّه متشابه، كما أنه كلَّه محكم. وقد وصفه الله تعالى [2/ 334] بهذين الوصفين، قال تعالى:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [فاتحة سورة هود].
وقال عز وجل: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [فاتحة سورة يس].
وقال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23].
فيبقى النظر في قوله تعالى: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
…
دل هذا أن منه آيات محكمات غير متشابهات، وآيات متشابهات غير محكمات، فلابد أن يكون الإحكام والتشابه هنا بمعنى غير الأول، فما هو؟
أشهر ما روي عن السلف في ذلك قولان:
الأول: أن المحكم ما يَنسخ. والمتشابه المنسوخ.
الثاني: أن المحكم: ما للناس سبيل إلى معرفة تأويله، كآيات الحلال والحرام. والمتشابه: ما لا يعلم تأويله إلا الله، كوقت قيام الساعة. وقد عُرف من عادة السلف أنهم يفسِّرون الآية ببعض ما تتناوله، وذلك على سبيل التمثيل، وأنهم كانوا يطلقون النسخ على ما يشمل البيان بالتخصيص ونحوه، فيمكن أن يُشرح ذانك
(1)
القولان على ما يأتي:
القول الأول: أن المحكمات هي كل آية بينة بنفسها، والمتشابهات ما تحتاج إلى أن يبيِّنها غيرُها، كالمنسوخ والمجمل بنوعيه.
(1)
(ط): «ذلك» .
القول الثاني: أن المحكمات كل آية يتهيأ للسامع مع معرفة معناها الذي سيقت لبيانه أن [2/ 335] يعرف ما تتوق إليه نفسه مما يتعلق بما اشتملت عليه. والمتشابهات ما عدا ذلك. فالآيات المنذرة بقيام الساعة إنما سيقت لإعلام العباد أن لهم بعد هذه الحياة الدنيا الفانية حياةً خالدة يحاسَبون فيها على ما قدَّموه في الدنيا ويُجزَون به، ليستعدُّوا لها بالإيمان والعمل الصالح والاستكثار منه، واجتناب الكفر والظلم والفسوق والعصيان. فهذا هو المقصود، ولكن كثيرًا من النفوس تَخَطَّاه متعطشةً إلى معرفة وقت قيام القيامة. قال الله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187].
{حَفِيٌّ عَنْهَا} : معنيٌّ بالسؤال عن وقتها حتى علمتَه. فردَّ الله تعالى عليهم بأن رسوله ليس مثلهم في الحرص على معرفة ذلك، لأنه يعلم أن المهم هو الاستعداد لها، فهو مستعدٌّ، فلا يهمُّه أن تقوم بعد لحظة أو بعد ألوف القرون. وفي القرآن عدة آيات أخرى في هذا المعنى.
وفي «الصحيحين»
(1)
عن أنس «أن رجلًا قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: «ويلك! وما أعددتَ لها؟ » قال: ما أعددتُ لها إلا أني أحب الله ورسوله. قال: «أنت مع من أحببتَ» . قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرَحَهم بها». عدل به النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المهم، ونبَّهه على أن المحبة تقتضي المعيَّة. فمن صدقَ حبُّه لله ورسوله كان
(1)
البخاري (6171) ومسلم (2639).