الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - فصل
الدين على درجات: كَفٌّ عما نُهي عنه، وعملٌ بما أُمر به، واعترافٌ بالحق، واعتقادٌ له وعلمٌ به. ومخالفة الهوى للحق في الكف واضحة، فإنّ عامة ما نُهي عنه شهوات ومستلذات، وقد لا يشتهي الإنسان الشيء من ذلك لِذاته، ولكنه يشتهيه لعارض. ومخالفة الهوى للحق في العمل واضحة لما فيه من الكلفة والمشقة.
ومخالفة الهوى للحق في الاعتراف بالحق من وجوه:
الأول: أن يرى الإنسان أنَّ اعترافَه بالحق يستلزم اعترافَه بأنه كان على باطل. فالإنسان ينشأ على دين أو اعتقاد أو مذهب أو رأي يتلقَّاه من مربِّيه ومعلِّمه على أنه حقٌّ، فيكون عليه مدةً، ثم إذا تبين له أنه باطل شقَّ عليه أن يعترف بذلك. وهكذا إذا كان آباؤه أو أجداده أو متبوعه على شيء، ثم تبيَّن له بطلانه. وذلك أنه يرى أن نقصَهم مستلزمٌ لنقصه، فاعترافه بضلالهم أو خطئهم اعتراف بنقصه. حتى إنك لترى المرأة في زماننا هذا إذا وقفتْ على بعض المسائل التي كان فيها خلاف بين أم المؤمنين عائشة وغيرها من الصحابة أخذت تُحامي عن قول عائشة، لا لشيء إلا لأن عائشة امرأة مثلها، فتتوهم أنها إذا زعمت أن عائشة أصابت وأن مَن خالفها من الرجال أخطأوا، كان في ذلك إثبات فضيلة لعائشة على أولئك الرجال، فتكون تلك فضيلةً للنساء على الرجال مطلقًا، فينالها حظٌّ من ذلك. وبهذا يلوح لك سرُّ تعصُّبِ العربي للعربي، والفارسي للفارسي، والتركي للتركي، وغير ذلك. حتى لقد يتعصب الأعمى
(1)
في عصرنا هذا للمعرِّي!
(1)
يشير إلى الدكتور طه حسين الذي ألَّف عن أبي العلاء المعري، وقوَّله ما لم يقلْه، ونسب إليه كلَّ إلحاد وزندقة. فانبرى له العلامة عبد العزيز الميمني وردَّ عليه في كتابه المشهور "أبو العلاء وما إليه".
الوجه الثاني: أن يكون قد صار له في الباطل جاه وشهرة ومعيشة، فيشقُّ عليه أن يعترف بأنه باطل، فتذهب تلك الفوائد.
الوجه الثالث: الكِبْر. يكون الإنسان على جهالة أو باطل، فيجيء آخر فيبيِّن له الحجة، [2/ 181] فيرى أنه إن اعترف كان معنى ذلك اعترافه بأنه ناقص، وأن ذلك الرجل هو الذي هداه. ولهذا ترى من المنتسبين إلى العلم مَن لا يشقُّ عليه الاعترافُ بالخطأ إذا كان الحقُّ تبيَّن له ببحثه ونظره، ويشقُّ عليه ذلك إذا كان غيرُه هو الذي بيَّن له.
الوجه الرابع: الحسد. وذلك إذا كان غيرُه هو الذي بيَّن الحق، فيرى أن اعترافه بذلك الحقِّ يكون اعترافًا لذلك المبيِّن بالفضل والعلم والإصابة، فيَعْظُم ذاك في عيون الناس، ولعله يتبعه كثير منهم. وإنك لتجد من المنتسبين إلى العلم مَن يَحرِص على تخطئة غيره من العلماء ولو بالباطل، حسدًا منه لهم، ومحاولةً لحطِّ منزلتهم عند الناس.
ومخالفةُ الهوى للحقِّ في العلم والاعتقاد قد تكون لمشقَّة تحصيله، فإنه يحتاج إلى البحث والنظر، وفي ذلك مشقّة. ويحتاج إلى سؤال العلماء والاستفادة منهم، وفي ذلك ما مرَّ في الاعتراف. ويحتاج إلى لزوم التقوى طلبًا للتوفيق والهدى، وفي ذلك ما فيه من المشقة. وقد تكون لكراهية العلم والاعتقاد نفسه، وذلك من جهات:
الأول: ما تقدم في الاعتراف. فإنه كما يشقُّ على الإنسان أن يعترف
ببعض ما قد تبيَّن له، فكذلك يشقُّ عليه أن يتبيَّن له، فيشقُّ عليه أن يتبيَّن بطلانُ دينه، أو اعتقاده، أو مذهبه، أو رأيه الذي نشأ عليه، واعتزَّ به، ودعا إليه، وذَبَّ عنه، أو بطلانُ ما كان عليه آباؤه وأجداده وأشياخه، ولاسيّما عندما يلاحظ أنه إن تبيَّن له ذلك تبيَّن أن الذين يُطريهم ويعظِّمهم، ويُثني عليهم بأنهم أهل الحق والإيمان والهدى والعلم والتحقيق، هم على خلاف ذلك، وأن الذين يحقِرهم ويذمُّهم ويسخَر منهم وينسبُهم إلى الجهل والضلال والكفر هم المُحِقُّون. وحسبك ما قصَّه الله عز وجل من قول المشركين، قال تعالى:{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].
فتجد ذا الهوى كلَّما عُرِضَ عليه دليل لمخالفيه أو ما يُوهن دليلًا لأصحابه شقَّ عليه ذلك، واضطرب، واغتاظ، وسارع إلى الشغب. فيقول في دليل مخالفيه: هذه شبهة باطلة مخالفة للقطعيات، وهذا المذهب مذهب باطل لم يذهب إليه إلا أهل الزيغ والضلال .... ويؤكد ذلك بالثناء على مذهبه وأشياخه، ويعدِّد المشاهير منهم، ويُطريهم [2/ 182] بالألفاظ الفخمة، والألفاظ الضخمة، ويذكر ما قيل في مناقبهم ومثالب مخالفيهم، وإن كان يعلم أنه لا يصح، أو أنه باطل!
ومن أوضح الأدلة على غلبة الهوى على الناس أنهم ــ كما تراهم ــ على أديان مختلفة، ومقالات متباينة، ومذاهب متفرقة، وآراء متدافعة؛ ثم تراهم كما قال الله تبارك وتعالى:{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53].
فلا تجد من ينشأ على شيء من ذلك ويثبُت عليه يرجع عنه إلا القليل.
وهؤلاء القليل يكثُر أن يكون أولَ ما بعثهم على الخروج عما كانوا عليه أغراض دنيوية.
ومن جهات الهوى أن يتعلق الاعتقاد بعذاب الآخرة، فتجد الإنسان يهوى أن لا يكون بعثٌ لئلا يؤخذ بذنوبه، فإن علِمَ أنه لا بد من البعث هَوِي أن لا يكون هناك عذاب، فإن علِمَ أنه لا بد من العذاب هَوِي أن لا يكون على مثله عذاب كما هو قول المرجئة، فإن علِمَ أن العصاة معذَّبون هَوِي التوسُّعَ في الشفاعة، وهكذا.
ومن الجهات أنه إذا شقَّ عليه عملٌ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هَوِي عدمَ وجوبه، وإذا ابتُلِي بشيء يشقُّ عليه أن يتركه كشرب المسكر هَوِي عدم حرمته. وكما يهوى ما يخفُّ عليه، فكذلك يهوى ما يخفُّ على من يميل إليه، وما يشتد على من يكرهه؛ فتجد القاضي والمفتي هذه حالهما. ومن المنتسبين إلى العلم من يهوَى ما يُعجِب الأغنياء وأهل الدنيا، أو ما يُعجب العامة، ليكون له جاه عندهم، وتُقْبِل عليه الدنيا. فما ظهرت بدعة، وهَوِيها الرؤساء والأغنياء وأتباعهم إلا هوِيَها وانتصر لها جمعٌ من المنتسبين إلى العلم. ولعل كثيرًا ممن يخالفها إنما الباعث لهم على مخالفتها هوًى آخر وافق الحقَّ. فأما من لا يكون له هوى إلا اتباع الحق فقليل، ولاسيّما في الأزمنة المتأخرة، وهؤلاء القليل يقتصرون على أضعف الإيمان، وهو الإنكار بقلوبهم والمسارَّة به فيما بينهم، إلا من شاء الله.
فإن قيل: فلماذا لم يجعل الله عز وجل جميع حجج الحق مكشوفةً قاهرةً لا تشتبه على أحد، فلا يبقى إلا مطيع يعلم هو وغيرُه أنه مطيع، وإلا
عاصٍ يعلم هو وغيرُه أنه عاصٍ، [2/ 183] ولا يتأتى له إنكار ولا اعتذار
(1)
؟
قلت: لو كان كذلك لكان الناس مجبورين على اعتقاد الحق، فلا يستحقُّون عليه حمدًا ولا كمالًا ولا ثوابًا، ولكانوا مُكرَهين على الاعتراف، كمن كان في مكان مظلم، فزعم أن ذاك الوقت ليل، وراهن على ذلك، ففُتحت الأبواب، فإذا الشمس في كبد السماء. ولكانوا قريبًا من المُكرَهين على الطاعة من عملٍ وكفٍّ، لفوات كثير من الشبهات التي يتعلل بها من
(1)
علق الأخ العلامة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة على هذا الموضع ما لفظه: "يريد الشيخ بالسؤال والجواب أن يبيِّن حكمة الله تعالى في ابتلاء الناس بالهوى والشبهات والشهوات، ليحصل الجهاد والابتلاء، ويحمد المجاهد ويؤجر، وإلا فوضوح الحق والباطل أمر لاخفاء به، ليهلك من هلك من بينة، ويحيى من حي عن بينة".
وعلق على ما يأتي أول الفصل الثالث ما لفظه: "الحق أن حجج الله تعالى التي سماها بيِّنات هي مكشوفة واضحة لا خفاء بها، وإنما تخفى على من في قلبه كِنٌّ، وفي أذنيه وقر، وعلى بصره غشاوة من هواه وأخلاقه وما اعتاد".
قال المؤلف: لا أراه يخفى أن مرادي بالقضية المكشوفة القاهرة هو أن تكون بحيث لا تخفى هي ولا إفادتها اليقين على عاقل، حتى لو زعم زاعم أنه يجهلها، أو أنه يعتقد عدم دلالتها أو يرتاب فيها، لقطع العقلاء بأنه إما مجنون الجنونَ المنافيَ للتكليف أو كاذب. ولا يخفى أنه ليس جميع حجج الحق هكذا، ولكنها بيِّنات البيانَ الذي تحصل به الهداية وتقوم به الحجة. ثم هي على ضربين: الضرب الأول: الحجج التي توصل الإنسان إلى أن يتبين له أنه يجب عليه أن يكون مسلما. الثاني: ما بعد ذلك، فالأول حجج واضحة، لكن من اتبع هوًى قد بان أنه يصد عن الحق، أو قصّر في القيام بما قد بان أن عليه أن يقوم به= فقد يرتاب أو يجهل. والضرب الثاني على درجات، منه ما هو في معنى الأول فيكفر المخطئ فيه، ومنه ما لا يكفر ولكن يؤاخذ، ومنه ما يعذر، ومنه ما يؤجر أيضًا على اجتهاده. [المؤلف]
يضعف حُبُّه للحق، فيغالط بها الناسَ ونفسه أيضًا.
فإن قيل: فإن المؤمن إذا كان مُوقنًا كانت الحجة في معنى المكشوفة عنده، أفلا يكون مُثابًا على إيمانه واعترافه وطاعته؟
قلت: ليس هذا من ذاك في شيء. أما الاعتقاد فمن وجهين:
الأول: أن الحجة لم تكن كلها مكشوفةً للمؤمن من أول الأمر، وإنما بلغ تلك الدرجة بنَظَره وتدبُّره ورغبته في الحق ومخالفته الهوى. وبهذا ثبت صدقُ حبه للحق وإيثاره [2/ 184] على الهوى، فيستمرُّ له حكم ذلك بعد انكشاف الحجة. وهو بمنزلة الظمآن الذي يطلب الماء حتى ظفر به، فأراد أن يشربَ فقال له مسلِّط: إن لم تشرب ضربتُك أو سجنتُك. فمثل هذا لا يقال إذا شرب: إنه إنما شرب مكرهًا.
الوجه الثاني: أن وضوح الحجة للمؤمن لا يستمرُّ بدون جهاد، لأن الشبهات لا تزال تحوم حول المؤمن لتحجبَ عنه الحجة وتُشكِّكه فيها، والشهوات تساعدها، فثباتُه على الإيمان برهانٌ على دوام صدق محبته للحق، وإيثاره على الهوى.
وأما الاعتراف، فالأمر فيه واضح. فإنّ وضوح الحجة عند المؤمن لا يكون مكشوفًا لغيره، فليس في معنى المكره على الاعتراف، بل إنه إذا ذكر
(1)
أن الحجة واضحة عنده وَجَدَ كثيرًا من الناس يكذِّبونه أو يرتابون في دعواه.
وهكذا حاله في الطاعة من عملٍ وكفٍّ، فإن انكشاف الحجة في الإيمان الاعتقادي لا يستلزم انكشاف الحجج الأخرى التي تترتب عليها
(1)
في (ط): "ذكرنا"، والسياق يقتضي ما أثبتناه.
الطاعات. وهَبْ أن هذه انكشفت له أيضًا، فقد بقيت شُبهات أخرى، لولا صِدْقُ حبه للحق وإيثارُه على الهوى لأمكنه التشبث بها، كأن يقول: ينبغي أروِّح
(1)
عن نفسي فإنّ لي حسنات كثيرة لعلها تغمُر هذا التقصير، أو لعلها تنالني شفاعة الشافعين، أو لعل الله يغفر لي، أو أتمتع الآن ثم أتوب.
وقال الله تبارك وتعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158].
وفي "الصحيحين"
(2)
وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تطلعَ الشمسُ من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون. وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها"، ثم قرأ الآية. ونحوه من حديث أبي ذر
(3)
، وابن مسعود
(4)
، وأبي سعيد الخدري
(5)
، وصفوان بن عسَّال
(6)
، وعبد الرحمن بن عوف
(7)
،
(1)
كذا في الأصل بحذف "أن".
(2)
البخاري (4635، 4636) ومسلم (157).
(3)
أخرجه مسلم (159).
(4)
أخرجه عنه مرفوعًا الحاكم في "المستدرك"(4/ 521 - 522)، وهو ضعيف. وثبت عنه موقوفًا في عدة روايات، انظر "الدر المنثور"(6/ 266، 275، 276).
(5)
أخرجه أحمد (11266) والترمذي (3071)، وفي إسناده ابن أبي ليلى، وهو ضعيف.
(6)
أخرجه أحمد (18093) وابن ماجه (4070). وإسناده حسن.
(7)
أخرجه أحمد (1671) والطبري في "تفسيره"(10/ 17) والطبراني في "الكبير"(19/ 381) من حديث معاوية بن أبي سفيان وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص جميعًا. وإسناده حسن.
وعبد الله بن عباس
(1)
، وعبد الله بن عَمْرو بن العاص
(2)
، وغيرهم
(3)
.
والأخبارُ بأن الشمس سوف تطلع من مغربها متواترةٌ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومعنى ذلك أن ما يشاهَد الآن من سيرها ينعكس. فسكَّان هذا الوجه الذي كان فيه النبي [2/ 185] صلى الله عليه وآله وسلم يرونها تغرُب في مغربها على العادة، ثم يرونها في اليوم الثاني طالعةً من مغربها. وأما سكان الوجه الآخر فإنها تطلع عليهم من مشرقهم على عادتها، ثم يرونها تسير إلى مغربها ما شاء الله تعالى، ثم ترجع القهقرى حتى تغرب في مشرقهم. وعلى زعم
(4)
أن الأرض هي التي تدور، فإن دورة الأرض تنعكس، فيكون ما ذكر.
فأما إيمان الناس جميعًا، فوجهه ــ والله أعلم ــ أن النفوس مفطورة على اعتقاد وجود الله عز وجل وربوبيته، ومن شأن ذلك أن يسوق إلى بقية فروع الإيمان. وآيات الآفاق والأنفس تؤكّد ذلك، ولكن الشبهات والأهواء تغلب على أكثر الناس حتى يرتابوا فيتبعوا أهواءهم. فإذا طلعت الشمس من مغربها لحقهم من الذُّعْر والرعب لشدة الهول ما يمحق أثرَ الشبهات والأهواء، وتفزع النفوس إلى مقتضى فطرتها. قال الله تعالى في ركاب البحر: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ
(1)
أخرجه الطبري في "تفسيره"(10/ 21) وابن أبي حاتم في "تفسيره"(5/ 1428).
(2)
أخرجه مسلم (2941).
(3)
راجع "الدر المنثور"(6/ 268 وما بعدها).
(4)
كذا قال المصنف رحمه الله، ولعله من باب التقية، وإلا فكون الأرض تدور في الفضاء أصبح من الحقائق العلمية التي لا تقبل الجدل. وليس في الكتاب ولا في السنة نص ينافي ذلك، خلافًا لبعضهم. [ن].
فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32].
فتلك الآية في حقّ مَن يكون قد بلغه أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بها= حجة مكشوفة قاهرة، وكذلك هي في حقِّ من لم يبلغه لكن بمعونة الرعب والفَزَع وشدة الهول.
وقد دلت الآية على أنَّ من لم يكن آمن قبل تلك الآية لا ينفعه إيمانُه عندها، ومن لم يكن من المؤمنين قبلها يكسب الخير لا ينفعه كسبُ الخير عندها. وفُهِم من ذلك أن من كان مؤمنًا قبلها ينفعه الإيمان عندها، ومن كان من المؤمنين يكسب الخير قبلها ينفعه كسبُ الخير عندها. والنظر يقتضي أنه إنما ينفعه من كسبِ الخير عندها ما كان عادة له.
وفي "صحيح البخاري"
(1)
وغيره من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثلُ ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا". وجاء نحوه من حديث عبد الله بن عَمرو بن العاص
(2)
، وأنس
(3)
، وعائشة
(4)
، وأبي هريرة
(5)
. وأشار إليها ابن حجر في
(1)
رقم (2996). وأخرجه أيضًا أحمد في "المسند"(19679) وابن أبي شيبة في "المصنف"(3/ 230) والبيهقي في "الكبرى"(3/ 374) وغيرهم.
(2)
أخرجه أحمد (6482) وابن أبي شيبة (3/ 230) والدارمي (2/ 316) والبخاري في "الأدب المفرد"(500)، وإسناده صحيح.
(3)
أخرجه أحمد (12503، 13501، 13712) وابن أبي شيبة (3/ 233) والبخاري في "الأدب المفرد"(501). وإسناده حسن.
(4)
أخرجه النسائي (3/ 257).
(5)
أخرجه أبو داود (564) والنسائي (2/ 111) والحاكم في "المستدرك"(1/ 208). قال الحافظ في "الفتح"(6/ 137): "إسناده قوي". وسقط في إسناد الحاكم ذكر أبي هريرة، وهو ثابت في تلخيص الذهبي.
"الفتح"
(1)
.
[2/ 186] فمن كان معتادًا للعمل من أعمال الخير مواظبًا عليه، ثم طرأ عليه بغير اختياره أو باختياره مأذونًا له عارضٌ يعجز معه عن ذاك العمل، أو يُشرَع له تركُه، أو يدَعُه وهو نفل لاشتغاله عنه أو لزيادة المشقة فيه= فقد ثبت باعتياده أنه لولا ذاك العارض ــ وهو غير مقصِّر فيه ــ لاستمرَّ على عادته، فلذلك يكتب له ثواب ذاك العمل. فأولى من هذا من كان معتادًا لعمل، ثم عرض باعث آخر على ذاك العمل، واستمرَّ العامل على عادته.
يريد ــ والله أعلم ــ أن كراهيتكم للحق وهواكم أن لا يكون ما أدعوكم إليه حقًّا يحول بينكم وبين أن يحصل لكم العلم واليقين بصحته.
وفي "تفسير ابن جرير"(12/ 17)
(2)
عن قتادة قال: "أما والله لو استطاع نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومَه، ولكن لم يَمْلك ذلك، ولم يُمَلَّكْه". والرسول لا يحرص على أن يُكره قومه إكراهًا عاديًّا على إظهار قبول الدين،
(1)
(6/ 137).
(2)
(12/ 383) ط. دار هجر. وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في "تفسيره"(6/ 2023).
فإنه يعلم أن هذا لا ينفعهم بل لعله أن يكون أضرَّ عليهم، وإنما يحرص على أن يقبلوه مختارين. ولذلك يحرص هو وأصحابه على أن يُظهِر الله تعالى الآياتِ على يده أملًا أن يحصل للكفّار العلمُ إذا رأوها، فيقبلوا الدين مختارين. ويزداد الحرص على هذا عندما يطالب الكفار بالآيات. وهذه كانت حال محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. فبيَّن الله تعالى لهم في عدة آيات أنه ليس على الرسول إلا البلاغ، وأن الهداية بيد الله، وأن ما أوتِيَه من الآيات كافٍ لأن يؤمن مَن في قلبه خير، وأن الله لو شاء لهدى الناس جميعًا، لكن حكمته إنما اقتضت أن يهديَ من أناب بأن كان يحبُّ الهدى، ويؤثره على الهوى.
فأما من كره الحق واستسلم للهوى، فإنما يستحق أن يزيده الله تعالى ضلالًا. قال الله عز وجل:{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)} إلى أن قال: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ [2/ 187] أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 27 - 31].
وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 109 - 110].
وقال تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13].
وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 101 - 102].
وقال تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 12 - 14].
فلما تبيَّن لموسى وهارون أن فرعون وقومه قد استحكم كفرهم انتهى مقتضى الحرص على أن يهتدوا، واقتضى حبُّهما للحق أن يحبَّا أن لا يهديهما الله. قال الله تعالى:{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [يونس: 88 - 89].
[2/ 188] وفي القرآن آيات كثيرة في أن الله تعالى لا يهدي الكافرين، والمراد بهم من استحكم كفرُهم. وليس كلُّ كافر كذلك، فقد هدى الله تعالى ويهدي من لا يُحْصَى من الكفار، وإنما الحق أن لا يهدي الله تعالى من استحكم كفرُه.