الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم حكى عبارة أبي عبيد، وفي آخرها:«قال أبو عبيد: فذاكرتُ الأصمعي، فقال: القول عندي ما قال ابن أبي ليلى، وعليه كلام العرب. ولو كان المعنى على ما قال أبو حنيفة لكان: لا تعقل العاقلة عن عبد» .
ثم قال الأستاذ: «
…
ولا منافاة بين هذا وبين أن يأتي في لسان العرب (عقل عنه) بمعنى: وَدَى. بل (عقله) في هذا الباب بمعنى: عقل عنه، على الحذف والإيصال؛ لأن أصل الكلام: عقل فلان قوائم الجمال ليدفعها ديةً عن فلان، فاستغنى عن المفعول الصريح، وأوصل إلى المدفوع عنه بحذف (عن)، وهذا من أسرار العربية. والقصد من الآثار المروية عن عمر وابن عباس وإبراهيم النخعي والشعبي واحد
…
».
أقول: عاقلة الإنسان: عَصَبته، على تفصيل معروف في كتب العلم. ف
إذا قتل حرٌّ حرًّا خطأ [2/ 91] محضًا أو شبهَ عمد
، وثبتَ القتل ببينة، فالدية على عاقلة القاتل. ومن الحكمة في ذلك أن أولياء المقتول يطلبون بثأره، ومن شأن عصبة القاتل أن تقوم دونه، وهم مُحِقُّون في ذلك، فيقال لهم: من شأنكم أن تقوموا دونه، فاغْرَموا ما لزم بفعله. وإن كان القتل عمدًا أو لم يثبت إلا باعتراف القاتل لم يلزم العاقلةَ شيء؛ لأنهم قد يقولون في العمد: لو طُلِب دمُه لم نقم دونه، ولا يحِلُّ لنا ذلك، وهو أوقع نفسه باختياره. ويقولون في الاعتراف: هو جرَّ البلاء باختياره. وهكذا إذا لم يلزمه
(1)
شيء إلا بمصالحته، لأن ذلك كاعترافه.
وبقيت مسألتان:
الأولى: أن يقتل عبد حرًّا، فليس في هذا شيء على عاقلة العبد ولا على
(1)
في (ط): «يلزم» . والتصويب من المخطوط.
عاقلة سيده. أما عاقلة العبد، فلأنه ما دام عبدًا في معنى الأجنبي عنهم. وأما عاقلة سيده، فلأنهم يقولون: القاتل المطالَب هو العبد، ولا شأنَ لنا به، ولا نقوم دونه.
الثانية: أن يقتل حرٌّ عبدًا، فقيل: إذا كان عمدًا ثبت القوَد. وقيل: لا قودَ بحال، لأن هذا ليس من مظنة الفتنة، فإن سيد العبد لا يهمُّه أن يأخذ بثأر عبده، وإنما يهمُّه أن يأخذ مالًا يستعيض به منه. فأما إذا كان خطأ محضًا أو شبهَ عمد، فلا قود اتفاقًا، وإنما يجب المال.
واختلفوا في الواجب، فقال قوم: الواجب قيمة العبد بالغةً ما بلغتْ، لأن سيده يستحق ما يعادل ما فاته، ومقدارُ ذلك معروف وهو القيمة، كما لو كان المقتول فرسًا. وإلى هذا رجع أبو يوسف، وهو قول الشافعي وغيره.
وقيل: الواجب دية، لكن مقدارها هو القيمة بشرط أن لا تساوي ديةَ الحرِّ ولا تزيد عليها. فإن ساوت أو زادت لم يجب إلا دون دية الحر بعشرة. وهذا قول أبي حنيفة، ولا يخفى ما فيه.
ثم اختلفوا في تغريم العاقلة، فقال قوم: ليس عليها شيء لأنه إن كان الواجب قيمةَ العبد
(1)
فكما لو كان المقتول فرسًا. وإن كان ديةً فليس من شأن سيد العبد أن يطلب دم القاتل، فيكونَ ذلك من مثار تعصب عاقلته. وقال أبو حنيفة: تُغْرَم
(2)
العاقلة. احتج مخالفوه بما روي عن الشعبي: «لا تعقل العاقلة عمدًا ولا عبدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا» . فقال أبو حنيفة: إنما معنى هذا وارد في المسألة الأولى، وهي أن يكون العبد هو القاتل، فردَّه
(1)
«العبد» ساقطة من (ط)، والاستدراك من المخطوط.
(2)
(ط): «تلزم» . والمثبت من المخطوط.
الأصمعي بما مرَّ، وأجاب الأستاذ بما سمعت.
[2/ 92] وأقول: أما ما ذُكر عن إبراهيم، فقوله:«قتل» لا أدري أبالبناء للفاعل أم المفعول؟ فإن كان للمفعول ــ وهو الظاهر ــ فهو نصٌّ في خلاف قول أبي حنيفة. فإن قيل: رواية أبي حنيفة له تدل على أنه عنده بالبناء للفاعل، قلنا: بل رواية أبي يوسف له تدل أنه عنده بالبناء للمفعول. والحقُّ اطراح هذين، فإن إبراهيم تابعي، والعالمُ كأبي حنيفة وأبي يوسف قد يروي من أقوال التابعين ما لا يقول به. لكن إذا ثبت أن المعروف في اللغة «عقلت القتيل» دون «عقلت القاتل» . تبيَّنَ أن الفعل في قول إبراهيم مبني للمفعول، وهو الظاهر.
وأما الأثر عن ابن عباس، فليس من الواجب مطابقته لما روي عن غيره. بل هي خمس مسائل اتفق القولان على ثلاث، وانفرد كل منهما بواحدة، ويتعين الجزم بهذا إذا كان المعروف في اللغة «عقلت القتيل» ، لا «عقلت القاتل» . فتبيَّن أن المدار على اللغة.
فأما ما ذكره صاحب «العناية» فليس بشيء، بل المعنى: لا تعقل
(1)
العاقلة دية عمد، ولا قيمة عبد، ولا واجب صلح، ولا واجب اعتراف.
وأما تحقيق الأستاذ، فيقال له: العبارة التي زعمت أنها الأصل ــ وهي «عقل فلان قوائم الإبل ليدفعها ديةً عن فلان» ــ إنما تعطي بمقتضى العربية أن فلانًا الثاني هو القاتل، فإننا نقول:«دفعت عن فلان الدَّين الذي عليه، وأديتُ عنه الدية التي لزِمتْه» . ويصح أن يقال بهذا المعنى: «وَدَيتُ عنه» أي:
(1)
في المخطوط: «لا تغرم» .
أدَّيتُ عنه الدية التي لزمته. فأما المقتول، فإنما يقال:«وديته» ، وقد يقال: هذه دية من القتيل، أي بدل عنه. قال الشاعر
(1)
:
عَقَلنا لها من زوجها عددَ الحصَى
قال ابن قتيبة في كتاب «المعاني»
(2)
: «يقول: قتلنا زوجها، فلم نجعل عقلَه إلا همَّها
…
والمغموم يُولَع بلَقْط الحصى وعدِّه». و «مِنْ» هذه هي البدلية، مِثلُها في قوله تعالى:{أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38]. وفي صغار كتب العربية أن «عن» للمجاوزة، وإذا أديتَ الدية فإنما جعلتَها تُجاوِز ذمةَ القاتل، كما تقول: أديتُ عن فلان الدين الذي كان عليه. ولا معنى لمجاوزتها المقتول.
وبعد، فلا ريب أن الأصل «عقلت قوائم الإبل» ، لكن استغنوا عن القوائم على كل حال، فقالوا:«اعقِلْ ناقتك» . ثم كثر عقلُ الإبل في الدية، فاستغنوا في ذكر الدية عن لفظ الإبل. [2/ 93] يقول ولي المقتول أو المصلح: اعقِلوا. ويقول أولياء القاتل: سنعقِل. وكثر ذلك حتى صار المتبادر من العقل في قضايا القتل معنى الدية، فاستُعمل في معناها حتى جُمِع جمْعَها فقيل:«عقول» بمعنى «ديات» . فإذا قيل في قضايا القتل: عقلتُه فمعناه: وديتُه، أي أدَّيتُ ديته. وإذا قيل: عقلتُ عنه، فالمعنى: وديتُ عنه، أي أدَّيت عنه الدية التي كانت مستقرةً عليه، فجعلتُها تجاوزه. هذا هو المعروف في العربية.
(1)
عجزه: مع الصبح أو في جنح كل أصيلِ.
والبيت بلا نسبة في «الحيوان» (1/ 65).
(2)
«المعاني الكبير» (2/ 1007).