الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الواحدة والثلاثون
الغناء (2) والشِّيلات والمؤثِّرات الصَّوتية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)} [لقمان: 6].
صح عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهما فسرا {لَهْوَ الْحَدِيثِ} بالغناء، وحلف ابن مسعود رضي الله عنه ثلاث مرات فقال:«والله الذي لا إله إلا هو {لَهْوَ الْحَدِيثِ} هو الغناء»
(1)
. وقال أيضًا: الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء الزرع
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله معلقًا على تفسير ابن مسعود رضي الله عنه وغيره للآية السابقة بأن المراد بها الغناء: «فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم الأمة بمراد الله عز وجل من كتابه، فعليهم نزل وهم أول من خوطب به من الأمة، وقد
(1)
. تفسير ابن كثير رحمه الله (11/ 46)، طبع وزارة الشؤون الإسلامية.
(2)
. إغاثة اللهفان (1/ 368).
شاهدوا تفسيره من الرسول صلى الله عليه وسلم علمًا وعملًا، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل»
(1)
.
الغناء ينقسم إلى قسمين:
غناء مع آلات المعازف، وهذا محرم باتفاق الأئمة الأربعة، وقد تقدم الكلام عليه في كلمة سابقة
(2)
.
القسم الثاني: الغناء بدون آلة، وهو موضوع هذه الكلمة، كما أنه هناك موضوع ثالث سيكون موضوع الكلمة الثانية والثلاثون
(3)
، وهو ما يسمى قديمًا التغبير، ويسمى اليوم الأناشيد الإسلامية.
«لقد كان الغناء قديمًا في الفرس والروم، ولم يكن للعرب قبل ذلك إلا الحُداء والنشيد، وأول من نقل الغناء العجمي إلى العربي من أهل مكة سعيد بن مسجح، وذلك أنه مر بالفرس وهم يبنون المسجد الحرام في أيام عبد الله بن الزبير، فسمع غناءهم بالفارسية، فقلبه في شعر عربي، ثم رحل إلى الشام فأخذ ألحان الروم وغيرهم، وانقلب إلى فارس فأخذ غناءً
(1)
. إغاثة اللهفان (1/ 359).
(2)
. انظر: موسوعة الدرر المنتقاة للمؤلف (1/ 477).
(3)
. من هذا الكتاب.
كثيرًا وتعلم الضرب، ثم قدم إلى الحجاز، وقد أخذ محاسن تلك النغم، وألقى منها ما استقبحه من النبرات والنغم، فكان أول من فعل ذلك وتبعه الناس بعد»
(1)
.
(2)
.
(3)
.
وقد اختلف العلماء في حكم الغناء بدون آلة، ولابد من تعريف الغناء قبل الدخول في الخلاف:
الغناء لغة: يدل على الصوت، فكل من رفع صوته ووالاه،
(1)
. انظر: نهاية الأرب في فنون الأدب، لشهاب الدين النويري، (4/ 239 - 240) باختصار.
(2)
. الاعتصام (2/ 114).
(3)
. حكم النشيد الإسلامي، للأخت حنان اليماني ص 38.
فصوته عند العرب غناء
(1)
، والغناء من الصوت ما طُرِّب به
(2)
.
والطرب: هو خفة وهزة تثير النفس لفرحٍ أو حزن أو ارتياح، يقال: طرب أي: تغنى، وطرب في صوته: رجعه ومده وحسنه
(3)
.
قال في المعجم الوسيط: «الغناء هو التطريب، والترنم بالكلام الموزون وغيره، يكون مصحوبًا بالموسيقى وغير مصحوب»
(4)
.
قال القرطبي رحمه الله: «ما يطلق عليه غناء على ضربين:
أحدهما: ضرب جرت عادة الناس باستعماله عند محاولتهم أعمالهم وحملهم أثقالهم، وقطع مفاوز أسفارهم، يسلون بذلك نفوسهم، وينشطون به على مشقات أعمالهم، ويستعينون بذلك على شاق أشغالهم، كحداء الأعراب بإبلهم وغناء النساء لتسكين صغارهن، ولعب الجواري بلعبهن، وما شاكل ذلك، فهذا النحو إذا سلم المغني به من ذكر الفواحش والمحرمات، كوصف الخمور والفتيات، فلا شك في جوازه، ولا يختلف فيه، بل ربما يندب إليه إذا حصل منه ما ينشط على أعمال البر،
(1)
. معجم مقاييس اللغة، لابن فارس (4/ 397) مادة غنى.
(2)
. لسان العرب، لابن منظور (15/ 139) مادة غنا.
(3)
. المعجم الوسيط، لإبراهيم مصطفى وآخرون ص 552 - 553.
(4)
. المعجم الوسيط، لإبراهيم مصطفى ورفقائه ص 665.
ويرغب في تحصيل الخير، كالحداء في الحج، والغزو، كما كان الصحابة يرتجزون في غزوهم.
الضرب الثاني: غناء ينتحله المغنون العارفون لصيغة الغناء، المختارون لما رق من غزل الشعر، الملحنون له بالتلحينات الأنيقة، المقطعون على النغمات الرقيقة التي تهيج النفوس، وتطربها، فهذا هو الغناء المختلف فيه»
(1)
.
وقد استدل القائلون بتحريم الغناء -وهو قول أكثر العلماء- بأدلة كثيرة، منها: قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان:6]، فسرها جمع من الصحابة بالغناء، فقد توعد -سُبْحَانَهُ- في هذه الآية من يشتري لهو الحديث بالعذاب الأليم، فدل ذلك على تحريم الغناء.
ومما استدلوا به أيضًا قوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)} [النجم: 59 - 61]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الغناء، وهي يمانية، يقولون: اسمد لنا: تغن لنا.
ووجه الدلالة: أن الله ذم المشركين الذين أعرضوا عن القرآن واشتغلوا عنه بالأغاني واللهو، وأنكر عليهم تعجبهم في حالة كونهم سامدين، فدل ذلك على تحريم الغناء.
(1)
. كشف القناع عن حكم الوجد والسماع ص 21 - 23.
القائلون بالكراهة:
وهو الأظهر عند الشافعي رحمه الله، والمعتمد من القولين عند الإمام أحمد
(1)
.
أدلتهم:
1 -
ما أخرجه الإمام أحمد، والنسائي من حديث السائب ابن يزيد رضي الله عنه: أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يَا عَائِشَةُ! أَتعْرِفِينَ هَذِهِ؟» قالت: لا يا نبي الله، فقال: هذه قينة
(2)
بني فلان، تحبين أن تغنيك؟ قالت: نعم، فأعطاها طبقًا فغنتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«قَدْ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي مِنْخَرَيْهَا»
(3)
.
وجه الاستدلال: لما أذن لها صلى الله عليه وسلم بسماع الغناء ثم ذمه بقوله صلى الله عليه وسلم: «قد نفخ الشيطان في منخريها» علمنا أن الذم على جهة الكراهة، لا على جهة التحريم؛ لأنه لا يجتمع إباحة وتحريم في نفس الحديث.
وقال القرطبي رحمه الله في بيان وجه الاستدلال: «أنه صلى الله عليه وسلم
(1)
. انظر: روضة الطالبين وعمدة المفتين، للنووي (11/ 227)، المبدع لابن مفلح (8/ 310).
(2)
. القينة: بفتح القاف وسكون الياء التحتية: الأمة غنت أو لم تغن، والماشطة، وكثيرًا ما تطلق على المغنية، وجمعها قينات، وتُجمع على قيان أيضًا. النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، (4/ 135)، مادة قين.
(3)
. مسند الإمام أحمد (24/ 497) برقم 15720، وقال محققوه: إسناده صحيح.
أقرها على الغناء، فكان غير ممنوع، ثم نسبه إلى الشيطان، فكان ممنوعًا، لكن على جهة التنزيه»
(1)
.
«وقال السندي في شرحه على المسند: قوله: (قينة بني فلان) أي جاريتهم المغنية (أن تغنيك) بالتشديد، وفيه جواز ذلك على قلةٍ من غير عرس وعيد، كما يجوز فيهما، ويحتمل أنها كانت أيام عيد.
(قد نفخ) أي فلذلك اتخذت ذلك عادة، وأما التغني أحيانًا فجائز، فلا منافاة بين هذا وبين الإذن السابق الدال على الجواز، وفيه حسن المعاشرة مع الأهل»
(2)
.
2 -
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان في أيام منى تدففان وتضربان، والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه، فقال:«دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ» ، وتلك الأيام أيام منى
(3)
.
وجه الاستدلال: كونه صلى الله عليه وسلم أعرض عن غناء الجاريتين في بيت عائشة رضي الله عنها، ولم يأمرهما بالتوقف، يدل على أنه من باب سماع اللهو الذي يعرض عنه.
(1)
. انظر: كشف القناع عن حكم الوجد والسماع، للقرطبي ص 58.
(2)
. (24/ 497).
(3)
. صحيح البخاري برقم 987، وصحيح مسلم برقم 892.
القائلون بالإباحة:
وممن قال بذلك الإمام ابن حزم الظاهري
(1)
، والغزالي من فقهاء الشافعية، وبعض فقهاء الحنفية، وهو رواية عن أحمد وبعض فقهاء الحنابلة كالإمام أبي بكر الخلّال، وهو مذهب عامة أهل الظاهر والمتصوفة
(2)
.
وقد طُعن في صحة نقل الإباحة عن الإمام أحمد بن حنبل، وبعض أصحابه؛ بأنه محمول على ما كان في زمانهم من القصائد الزهديات
(3)
.
أدلتهم:
1 -
قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157].
وجه الاستدلال: أن الله قد أباح عموم الطيبات في الآية، والغناء من الطيبات المستلذة للنفس، ولم يرد دليل يدل على تحريم الغناء، وكوننا نقول إنه حرام معناه أن الله يعاقب عليه، وهذا أمر لا يُعرف بمجرد العقل، بل بالسمع، فإن امتنع بقي
(1)
. انظر: المحلى لابن حزم (7/ 567، 569).
(2)
. انظر: البحر الرائق (7/ 88)، إحياء علوم الدين للغزالي (2/ 1351 - 1356)؛ المغني لابن قدامة (10/ 155).
(3)
. انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 225 - 226.
الفعل مباحًا لا حرج فيه
(1)
.
مناقشة الاستدلال:
إن هذه الآية لا تعد دليلًا على إباحة الغناء، وخاصة الفاحش، ولو كان كل طيب مستلذ غير نافع مباحًا لأبحنا كثيرًا من المستلذات، ومنها الخمر وأشباهها.
أما القول بأنه لا دليل على الحرمة لا يُسلم به؛ بل وردت نصوص تفيد النهي عن الغناء - كما سبق ذكرها - كما وردت أحاديث ضعيفة كثيرة في النهي عن الغناء وهي بمجموعها صالحة للاحتجاج بها.
2 -
ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار، تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بُعاث - قالت: وليستا بمغنيتين - فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في يوم عيد - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا»
(2)
.
وجه الاستدلال: هذا نص صريح أن الغناء واللعب ليس بحرام. قال القسطلاني: «واستدل به على جواز سماع صوت
(1)
. انظر: إحياء علوم الدين (2/ 1351 - 1356).
(2)
. صحيح البخاري برقم 952، وصحيح مسلم برقم 892 واللفظ له.
الجارية بالغناء، ولو لم تكن مملوكة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر سماعه، بل أنكر إنكاره»
(1)
.
مناقشة الاستدلال:
أ- أن هذا الحديث عليهم وليس لهم، كما قال ابن القيم رحمه الله:«هذا الحديث من أكبر الحجج عليك - أي على المستدل به لإباحة الغناء - فإن الصِّدِّيق سمى الغناء مزمور الشيطان، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه التسمية»
(2)
.
ب- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ليس في حديث الجاريتين أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى ذلك، والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع لا بمجرد السماع»
(3)
.
ج- أن الرخصة استثناء من الحكم العام، وقد جاءت هنا الرخصة في قوله صلى الله عليه وسلم:«يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وهَذَا عِيدُنَا» .
3 -
ما أخرجه الترمذي وغيره من حديث محمد بن
(1)
. إرشاد الساري شرح صحيح البخاري للقسطلاني (2/ 727).
(2)
. الكلام على مسألة السماع لابن القيم رحمه الله ص 310.
(3)
. مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (11/ 566)، وقد فرق شيخ الإسلام بينهما بأن السماع يكون بغير قصد، بينما الاستماع يكون بقصد، مجموع الفتاوى (10/ 78).
حاطب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«فَصْلُ مَا بَيْنَ الحَلَالِ والحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ»
(1)
(2)
.
الترجيح:
«الراجح في حكم الغناء بالألحان المطربة - بدون آلة - أنه يدور بين التحريم والكراهة والإباحة جمعًا بين الأدلة المختلفة في حكم الغناء وسماعه، فيحرم الغناء بالألحان المطربة - بدون آلة - في المواضع التي دل النص أو الإجماع على تحريمه فيها، وهذه المواضع هي:
أولًا: إذا قُصد من الغناء أمر محرم كالإضلال عن سبيل الله، والسخرية بالمؤمنين، فمن النهي الأول قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان:6]، ومن الثاني قوله تعالى:{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)} [النجم: 59 - 61]. ويُقاس على هذين المقصدين المحرمين للغناء، كل مقصود محرم.
(1)
. سنن الترمذي برقم 1088، قال الترمذي: حديث محمد بن حاطب حديث حسن، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي برقم 869.
(2)
. انظر: حكم النشيد الإسلامي للأخت حنان بنت علي اليماني ص 35 - 45.
ثانيًا: إذا اقترن بالغناء أمر محرم كشرب الخمر في مجلس الغناء، كالذي جاء التحذير منه في حديث أبي موسى الأشعري:«لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ والخَمْرَ وَالمَعَازِفَ»
(1)
.
ثالثًا: الغناء الفاحش الذي يدعو إلى معصية، سواء كان ذلك الفحش في ألحان الغناء، أو في مقصده، أو كلماته؛ لعموم قوله تعالى:{وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النحل: 90].
رابعًا: إذا اشتمل الغناء على كلمات مخالفة للشرع، مثل الغزل الفاحش، والهجاء المحرم.
خامسًا: إذا أدى استماع الغناء إلى فعل محرم، أو ترك واجب.
سادسًا: احتراف الغناء والاشتغال به في كل حين ووقت، وقد عدَّه أهل العلم من السفه الذي ترد به الشهادة
(2)
.
* ويكره الغناء بالألحان المطربة - بدون آلة - إذا كان مجردًا عن مواضع المحرمات المذكورة آنفًا. وقد دل على ذلك عموم حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ شَيْءٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ بَاطِلٌ، إِلَّا رَمْيَةَ الرَّجُلِ بِقَوْسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ
(1)
. صحيح البخاري برقم 5590.
(2)
. انظر: تفسير القرطبي (14/ 55).
فَرَسَهِ، وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتِهِ، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ»
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «ومعلوم أن الباطل من الأعمال هو ما ليس فيه منفعة، فهذا يُرخص في بعضه أحيانًا للنفوس التي لا تصبر على الحق المحض»
(2)
.
* ويكون الغناء بالألحان المطربة مباحًا للنساء في المواضع التي جاء النص بإباحته فيها، وبالقدر الذي وردت الرخصة به، وهي:
الأول: في يوم العيد: كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: «وعندي جاريتان تغنيان
…
وذلك يوم عيد
…
الحديث»
(3)
.
الثاني: في العرس: لحديث محمد بن حاطب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فَصْلُ مَا بَيْنَ الحَلَالِ والحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ»
(4)
.
الثالث: حين قدوم الغائب المجاهد الذي له مكانة ومنزلة عند قومه، جاز أن يُضرب له بالدف تحية لقدومه سالمًا، كما جاء في حديث الجارية التي نذرت أن تضرب
(1)
. مسند الإمام أحمد (28/ 533) برقم 17300، وقال محققوه: حديث حسن بمجموع طرقه وشواهده.
(2)
. الكلام على مسألة السماع ص 300.
(3)
. سبق تخريجه ص 285.
(4)
. سبق تخريجه ص 287.
بالدف إن عاد النبي صلى الله عليه وسلم سالمًا من إحدى الغزوات، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي، وَإِلَّا فَلَا»
(1)
.
الرابع: في الختان لتلهية الطفل المختون عن إحساسه بالألم، كما صح عن عائشة رضي الله عنها الرخصة بذلك، فعن أم علقمة مولاة عائشة رضي الله عنها قالت: «إن بنات أخي عائشة خُتنَّ، فقيل لعائشة: ألا ندعو لهن من يلهيهن؟ قالت: بلى، فأرسلت إلى عدي
(2)
فأتاهن، فمرت عائشة في البيت فرأته يتغنى، ويحرك رأسه طربًا - وكان ذا شعر كثير - فقالت: أف، شيطان أخرجوه، أخرجوه»
(3)
.
والغناء في هذه المواضع الأربعة مقيد بالصفة التي وردت الرخصة بها كما جاءت في هذه النصوص، وهي كالتالي:
أن يكون اللهو والغناء في هذه المناسبات دون غيرها من الأوقات.
أن يُقتصر في ألحانه على الترجيع والتطريب اليسيرين، دون
(1)
. سنن الترمذي برقم 3690، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي برقم 2913.
(2)
. قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله: الصواب: مغني.
(3)
. رواه البخاري في الأدب المفرد ص 482، وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة: إسناده محتمل للتحسين (2/ 358) برقم 722.
ترجيع وتطريب أهل الغناء، والفسق، والمجون، المشتمل على التكسر، والتهييج، والمجون، ويؤخذ هذا القيد من قول عائشة رضي الله عنها:«عندي جاريتان تغنيان، وليستا بمغنيتين» ، وفعلها مع المغني الذي رأته يتغنى ويحرك رأسه طربًا فقالت:«أف، شيطان أخرجوه، أخرجوه» لما علمت أن غناءه من جنس غناء أهل الطرب والمجون.
أن تشتمل كلمات الغناء على اللهو المباح لا المحرم، كنحو ما جاء في الحديث:
أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ
فَحَيُّونَا نُحِيِّيكُمْ
أن لا تشتمل كلماته على معنى مخالف للشرع.
أن يُقتصر على الغناء بالدف دون غيره من الآلات، فإن جميع الأحاديث الواردة في إباحة الغناء في هذه المواضع لم يذكر فيها سوى الغناء بالدف للنساء فقط.
أن لا يكون مقترنًا بمحرم كنحو الاختلاط، أو وجود الخمر في مجلس الغناء، وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه تنبيه إلى تحريم هذا النوع من الغناء
(1)
»
(2)
.
(1)
. وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ والخَمْرَ وَالمَعَازِفَ» سبق تخريجه ص 288.
(2)
. حكم ممارسة الفن في الشريعة الإسلامية للشيخ صالح الغزالي ص 113 - 118 باختصار وتصرف.
ويلحق بما سبق ما يسمى بالمؤثرات الصوتية، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ عز وجل لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ»
(1)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:«قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا»
(2)
.
وجه الاستدلال: أولًا: هذا الحديث صريح في تحريم التحايل على شرع الله كما فعلت اليهود، وفي استعمال الإيقاعات المشابهة لصوت المعازف بحجة أنها لا تدخل في المعازف تحايل على الشرع.
ثانيًا: أن الشرع لا يفرق بين المتماثلات، فلا يليق أن يُنسب إلى الشرع الحكيم أنه يحرم صوتًا ثم يُبيح صوتًا مماثلًا له، فالتفريق بين المتماثلات ممتنع شرعًا.
قال ابن القيم رحمه الله: «وإذا تأملت أسرار هذه الشريعة الكاملة وجدتها في غاية الحكمة ورعاية المصالح لا تفرق بين متماثلين ألبتة، ولا تسوي بين مختلفين، ولا تحرم شيئًا لمفسدة، وتبيح ما مفسدته مساوية لما حرمته أو رجحته عليه، ولا تُبيح شيئًا لمصلحة، وتُحرم ما مصلحته مساوية لما أباحته
(1)
. صحيح البخاري برقم 2236، وصحيح مسلم برقم 1581.
(2)
. متفق عليه، صحيح البخاري برقم 2223، وصحيح مسلم برقم 1582.
ألبتة، ولا يوجد فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم شيء من ذلك ألبتة»
(1)
.
ثالثًا: أن تحريم المعازف إنما هو لما يصدر عنها من أصوات، ولما يحصل بها من الطرب، والإيقاعات الصوتية لها صوت وأثر في النفس مثل المعازف؛ بل قد يكون أبلغ فوجب إلحاقها بها بهذا الجامع.
قال ابن القيم رحمه الله: «وإذا كان الزمر، الذي هو أخف آلات اللهو حرامًا، فكيف بما هو أشد منه؟ كالعود، والطنبور، واليراع، ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك، فأقل ما فيه: أنه من شعار الفسَّاق وشاربي الخمور»
(2)
.
رابعًا: أن المعازف تتطور وتتغير من زمان لآخر، ولا يمكن قصر مفهومها على الآلات الموجودة في صدر الإسلام؛ بل تشمل آلات اللهو كلها بلا خلاف في ذلك عند أهل اللغة وعند الفقهاء - كما مر في تعريف المعازف - وعليه فإن كل آلة تستخدم لإصدار الأصوات الموسيقية هي من المعازف الداخلة في التحريم وإن تغيرت الأسماء والأشكال، ويُشبه هذا ما بوب به البخاري فقال:(باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويُسميه بغير اسمه)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وفي هذا الحديث وعيدٌ شديد على من يتحيل في تحليل ما يحرم بتغيير اسمه،
(1)
. بدائع الفوائد (3/ 1072).
(2)
. إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم (1/ 228).
وأن الحكم يدور مع العلة، والعلة في تحريم الخمر الإسكار، فمهما وُجد الإسكار وُجد التحريم ولو لم يستمر الاسم. قال ابن العربي: هو أصل في أن الأحكام تتعلق بمعاني الأسماء لا بألقابها؛ ردًّا على من حمله على اللفظ»
(1)
.
وعليه فإن الأجهزة التي تُحيل الأصوات إلى أصوات شبيهة بأصوات آلات العزف تلحق بها في الحكم؛ لأنها قامت مقامها، واشتركت في الناتج منها، وما قارب الشيء أخذ حكمه. والله أعلم.
خامسًا: أن صوت تلك الإيقاعات ونحوها نظير الصوت الصادر من المعازف، والمعازف من الباطل، والإجماع منعقد على أن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، قال ابن القيم رحمه الله نقلًا عن المزني:"وأجمعوا بأن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل"
(2)
(3)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
. انظر: فتح الباري (10/ 56).
(2)
. إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم (1/ 157).
(3)
. انظر: أحكام الدف في الفقه الإسلامي للأخت مريم بنت ولي علي أحمد حكمي ص 79 - 86، وأحكام النشيد الإسلامي للأخت حنان بنت علي اليماني ص 97 - 100.