الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الثانية والثلاثون
الأناشيد الإسلامية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
فهذا هو الجزء الثاني من الكلام على مسألة الغناء، وهو ما يسمى قديمًا التغبير، ويسمى اليوم الأناشيد الإسلامية.
(1)
.
والنشيد اصطلاحًا: «هو رفع الصوت بشعر، أو رجز، أو نثر، بنوع فيه ترجيع وترقيق وتنغيم؛ لأجل إثارة الحماس، والعواطف، والغيرة الدينية في أوقات وأماكن متنوعة، فردًا أو جماعة»
(2)
.
(1)
. لسان العرب (3/ 423) مادة نشد، وتهذيب اللغة للأزهري (11/ 222).
(2)
. معجم اللغة العربية المعاصرة (3/ 2210)، وحكم ممارسة الفن للشيخ صالح الغزالي ص 137 باختصار.
لقد بدأ النشيد الإسلامي في أوائل السبعينات، وكان إنشادًا عاديًّا عن طريق فرد واحد، أو اثنين ينشدون في المناسبات، ثم استعمل الضرب على الألواح أو الأخشاب مع الإنشاد في الأعياد، أو الأفراح، ثم استعمل الضرب على الدف مع الإنشاد للرجال.
وذكر الشيخ الألباني رحمه الله بداية النشيد في دمشق - قبل هجرته إلى عمان بسنتين -: «أن بعض الشباب المسلم بدأ يتغنى ببعض الأناشيد سليمة المعنى، قاصدًا بذلك معارضة غناء الصوفية بمثل قصائد البوصيري وغيرها، وسجل ذلك في شريط، فلم يلبث إلا قليلًا حتى قُرن معه الضرب على الدف، ثم استعملوه في أول الأمر في حفلات الأعراس، على أساس أن الدف جائز فيها، ثم شاع الشريط واستنسخت منه نسخ، وانتشر استعماله في كثير من البيوت وأخذوا يستمعون إليه ليلًا ونهارًا، بمناسبة وبغير مناسبة، وصار ذلك سلواهم وهجيراهم»
(1)
.
«وبعد أن راجت مثل هذه الأشرطة، بدأ البحث عن المحسنات، فأُدخل على الشريط خدمة الاستريو، وما يعرف بصدى الصوت، فخرج الصوت أجمل وأوقع في النفس، ثم جُربت الأطفال والصبية في الإنشاد، فوُجد أن أصواتهم وأصواتهن أعذب وأسرع إلى الفؤاد المهموم، فسُجلت
(1)
. انظر: تحريم آلات الطرب للشيخ الألباني رحمه الله ص 181 - 182 باختصار.
الأناشيد بتلك الأصوات العذبة في كلمات رقيقة، فوجدت رواجًا أكثر، فأضيف إليها تغريد العصافير، وهدير الماء، مع نوع تمثيل وجماعة من الأطفال فتيات وفتيان، فلاقت رواجًا وقبولًا لم يحصل من قبل، ودخلت عامة بيوت المسلمين، ولم يسلم منها إلا القليل.
ثم تطور الأمر إلى نشأة فرق متخصصة للإنشاد الجماعي في عدد من الدول العربية كالكويت وقطر، وأدخلوا بعض المحسنات الصوتية حتى سُمِع في إنشادهم صوت الطبل والناي، وانتشرت كذلك بين قطاع عريض من الشباب، وتطور الأمر إلى تمثيل المناسبات الدينية عن طريق الإنشاد.
واتسع الخرق، وعظم الخطب، فصور كل هذا على أشرطة فيديو أصبحت حديث المجالس للقاصي والداني، وامتلأت محلات بيع الأشرطة بالمئات، بل الألوف من الأسماء ما بين مسموع ومرئي، ثم اتسع الأمر باستخدام فتيات جميلات - دون البلوغ - في الأناشيد، وقد كُشفت مواضع فاتنة من أجسادهن، على شاطئ البحر مع الصبية فيُنشدون بأناشيد - زعموها - إسلامية.
وسرى هذا الأمر في رياض الأطفال، والمراحل الأولى من التعليم؛ بل حتى المراحل العليا، وتداولته حلقات تحفيظ القرآن في بعض الأماكن من باب الدعوة إلى جذب الشباب، ناهيك عن الاستراحات، والمراكز الصيفية، وأنشطة المدارس،
فضلًا عن امتلاء كثير من البيوت بمثل هذه الصوتيات والمرئيات من الأناشيد.
ولم يقف الأمر عند هذا، بل تطور في الوقت الحاضر، فأصبحت الأناشيد مشابهة لأغاني الفسَّاق من حيث ترقيق الصوت، ووضع صورة المُنشد على غلاف الشريط، وعمل (الفيديو كليب) معها، والذي يحوي مخالفات من حيث وجود النساء والفسَّاق، ومن حيث استعمال المعازف والآلات الموسيقية، وأحسنهم حالًا من يستعمل المؤثرات التي تُشبه في صوتها وأثرها الآلات الموسيقية، ويُسمونها (إيقاعات بأصوات بشرية)، ولم يعد للمعاني أي اعتبار؛ بل يُبحث عن اللحن والمؤثرات.
وقد طغت الأناشيد على غيرها من المواد المسموعة العلمية والنافعة، وكثرت الفرق الإنشادية في العالم الإسلامي، ولم تتردد تلك الفرق في نشر صور فريقها في الجرائد والمجلات بلباس موحد، ووجوه يُعلن كثير منها مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم بحلق لحاهم وإسبال ثيابهم»
(1)
.
«وبعض العلماء يرجعون النشيد الإسلامي إلى النشيد الصوفي الذي نشأ في القرن الثاني الهجري في بغداد، وكانوا
(1)
. حكم النشيد الإسلامي للأخت حنان بنت علي اليماني ص 64 - 66 بتصرف.
يُسمونه (التغبير)، وخاصة عندما تُجعل على شكل أناشيد جماعية، وتُسمى (إسلامية) فهذا ليس له أصل في الدِّين، وممن قال بذلك الشيخ صالح بن فوزان الفوزان - عضو هيئة كبار العلماء -
(1)
.
«وبالنسبة للمقاصد فإن المتتبع لأحوال المنشدين، ومقابلاتهم يجد أنهم يتخذون النشيد وسيلة من وسائل الدعوة في هذا العصر ويعتبرونه بديلًا عن الغناء المحرم؛ بل ويطلبون من الله التوفيق في إخراجه على الصورة المرضية، مما يجعل هذا النشيد بهذا المقصد موافق للسماع الصوفي في التعبد والتقرب، خاصة وقد أدخلوا الإيقاع المؤثر على النشيد فلم يعد بينهما فرق يُذكر. والله المستعان.
تعقيب العلماء على وصف النشيد بـ (الإسلامي)
هذا الوصف للنشيد بأنه (إسلامي) جاء من قبل المنشدين والمروجين للأناشيد، من باب إعطائها صفة المشروعية، وأنها ليست مثل الغناء المحرم، ولكن كثيرًا من العلماء اعترضوا على هذا الاسم، ومن هؤلاء العلماء»
(2)
:
- الشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله، حيث قال: «وأما
(1)
. انظر: البيان المفيد عن حكم التمثيل والأناشيد لعبد الله السليماني ص 49.
(2)
. حكم النشيد الإسلامي للأخت حنان بنت علي اليماني ص 68.
تسمية الأناشيد الجماعية الملحنة بألحان الغناء باسم الأناشيد الإسلامية فهو خطأ؛ لأن الأناشيد الجماعية الملحنة بألحان الغناء من المحدثات، والمحدثات ليست من الأمور الإسلامية، وإنما هي من الأعمال التي يجب ردها والمنع منها، عملًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَحْدَثَ فِيْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهَ فَهُوَ رَدٌّ»
(1)
(2)
.
وقال أيضًا: «إن تسمية الأناشيد الملحنة بألحان الغناء باسم الأناشيد الإسلامية يلزم عليها لوازم سيئة جدًّا وخطيرة:
منها: جعل هذه البدعة من أمور الإسلام ومكملاته، وهذا يتضمن الاستدراك على الشريعة الإسلامية، ويتضمن القول بأنه لم تكن كاملة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: معارضة قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]. ففي هذه الآية الكريمة النص على إكمال الدين لهذه الآية، والقول بأن الأناشيد الملحنة أناشيد إسلامية يتضمن معارضة هذا النص، وذلك بإضافة الأناشيد التي ليست من دين الإسلام إلى دين الإسلام، وجعلها جزءًا منه.
ومنها: نسبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى إهمال أمر من أمور الإسلام، وترك العمل به.
(1)
. إقامة الدليل على المنع من الأناشيد الملحنة والتمثيل للشيخ حمود التويجري ص 8.
(2)
. صحيح البخاري برقم 2697، وصحيح مسلم برقم 1718.
ومنها: استحسان بدعة الأناشيد الملحنة بألحان الغناء، وإدخالها في أمور الإسلام»
(1)
.
وقد ذكر الشاطبي في كتاب (الاعتصام) ما رواه ابن حبيب، عن ابن الماجشون قال:«سمعت مالكًا يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}؛ فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا»
(2)
.
- وكذلك اعترض الشيخ صالح بن فوزان الفوزان على هذه التسمية في عدة مواضع، فقال:«وتسمية هذه الأناشيد بأنها أناشيد إسلامية تسمية خاطئة؛ لأن الإسلام ليس فيه أناشيد إسلامية، وإنما فيه ذكر الله، وتلاوة القرآن، وتعلم العلم النافع»
(3)
.
وقال في موضع آخر: «هذه التسمية - أناشيد إسلامية - غير صحيحة، وهي تسمية حادثة، فليس هناك ما يُسمى بالأناشيد الإسلامية في كتب السلف ومن يعتد بقولهم من أهل العلم، والمعروف أن الصوفية هم الذين يتخذون الأناشيد
(1)
. إقامة الدليل على المنع من الأناشيد الملحنة والتمثيل للشيخ حمود التويجري ص 8 - 10 باختصار.
(2)
. الاعتصام (1/ 65).
(3)
. الخطب المنبرية في المناسبات العصرية للشيخ صالح الفوزان (2/ 113).
دينًا، وهو ما يسمونه بالسماع، وفي وقتنا لما كثرت الأحزاب والجماعات صار لكل حزب أو جماعة أناشيد حماسية، قد يُسمونها بالأناشيد الإسلامية، وهذه التسمية لا صحة لها»
(1)
.
القائلون بالتحريم:
وقد ذهب إلى ذلك الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله في القول الجديد له، والشيخ صالح بن فوزان الفوزان، وكذلك الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في القول الآخر له، وغيرهم من الفقهاء والمحدثين من علماء العصر، وذلك إلحاقًا له بالسماع الصوفي، أو الغناء المحرم.
أقوال العلماء:
- قال الشيخ الألباني رحمه الله بعد أن بين حكم الغناء الصوفي وأدلة تحريمه: «من أجل ذلك حرم العلماء الغناء الصوفي، واشتد إنكارهم على مستحِّليه، فإذا استحضر القارئ في باله هذه الأصول القوية تبين له بكل وضوح أنه لا فرق من حيث الحكم بين الغناء الصوفي، والأناشيد الدينية؛ بل قد تكون في هذه آفة أخرى، وهي أنها قد تلحن على ألحان الأغاني الماجنة، وتوقع على القوانين الموسيقية الشرقية أو الغربية
(1)
. انظر: مجلة الدعوة العدد (1632) 7/ 11/1418 هـ، نقْلًا عن كتاب حكم النشيد الإسلامي للأخت حنان اليماني ص 70.
التي تطرب السامعين وترقصهم، وتُخرجهم عن طورهم، فيكون المقصود هو اللحن والطرب، وليس النشيد بالذات، وهذه مخالفة جديدة وهي التشبه بالكفار والمُجَّان، وقد ينتج من وراء ذلك مخالفة أخرى وهي التشبه بهم في إعراضهم عن القرآن، وهجرهم إياه، فيدخلون في عموم شكوى النبي صلى الله عليه وسلم من قومه، كما في قوله تعالى:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)} [الفرقان:30]»
(1)
.
(2)
.
(1)
. تحريم آلات الطرب ص 181.
(2)
. الخطب المنبرية (3/ 184 - 185).
- وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «الإنشاد الإسلامي إنشاد مبتدع مما ابتدعته الصوفية، ولهذا ينبغي العدول عنه إلى مواعظ القرآن والسنة، اللَّهم إلا أن يكون في مواطن الحرب ليستعان به على الإقدام والجهاد في سبيل الله تعالى فهذا حسن، وإذا اجتمع معه دف كان أبعد عن الصواب»
(1)
.
أدلة القائلين بالتحريم:
استدل القائلون على تحريم الأناشيد بما يلي:
(2)
.
«ثانيًا: أن النشيد من الأمور المحدثة، ولم يكن يُعرف عند
(1)
. فتاوى الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، جمع أشرف عبدالمقصود (1/ 135).
(2)
. انظر: البيان لأخطاء بعض الكتاب للشيخ صالح بن فوزان الفوزان (1/ 312 - 315) بتصرف واختصار.
السلف اجتماع على سماع غير سماع القرآن الكريم، وما سواه فهو سماع مُحدث مذموم»
(1)
، والنشيد أشبه بسماع المتصوفة البدعي، ووجه المشابهة بينهما ظاهر في أمور، منها:
1 -
أن كلًّا من النشيد والسماع الصوفي محدث لم يعرفه سلف هذه الأمة:
وَكُلُّ خَيْرٍ فِي اتِّبَاعٍ مَنْ سَلَفٍ
…
وَكُلُّ شَرٍّ فِي ابْتِدَاعٍ مِنْ خَلَفٍ
2 -
من حيث المقصد، فإن النشيد مما يتقرب به إلى الله - مثل السماع الصوفي- وهذا مأخوذ من قولهم:«إنها - أي الأناشيد - تلهب الحماس، وتوقد في النفس جذوة الإيمان»
(2)
، ومن المعلوم أن البدعة أشد من المعصية. قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فأما سماع القاصدين لصلاح القلوب في الاجتماع على ذلك إما نشيد مجرد،
…
وإما بالتصفيق ونحو ذلك فهو السماع المحدث في الإسلام، فإنه أحدث بعد ذهاب القرون الثلاثة الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم
…
»
(3)
.
3 -
ومن حيث الأداء فكلًّا من النشيد والسماع الصوفي
(1)
. انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية رحمه الله (11/ 627 - 629) بتصرف.
(2)
. البيان المفيد، مناقشة حول الأناشيد للشيخ صالح الأطرم ص 73، نقلاً عن كتاب حكم النشيد الإسلامي للأخت حنان اليماني ص 83.
(3)
. مجموع الفتاوى (11/ 591).
يُؤديان بأصوات ملحنة ناعمة جماعية فاتنة، بل إن السماع الصوفي يُؤدى بالآلات الموسيقية، وقد تطور النشيد اليوم حتى أصبح يُشابه السماع الصوفي في الأداء لحنًا وآلة.
ثالثًا: أن الأناشيد لا تخلو من محظور شرعي؛ إما فيها أو مصاحبًا لها، ومن هذه المخالفات الشرعية:
1 -
التلحين الغنائي المطرب بنغمات مناسبة لضرب العود والموسيقى معها.
2 -
الصوت الجماعي بتلحين.
3 -
استخدام الأصوات الناعمة في هذه الأناشيد لإطراب السامعين.
4 -
اتخاذه عادة والاستمرار عليها، والمطالبة بإفراده بالعناية والإخراج.
5 -
اتخاذه أسلوبًا من أساليب الدعوة.
6 -
اتخاذه للتأثير في السامعين أكثر من استعمال القرآن والحديث لذلك.
7 -
الأناشيد المتضمنة لحماس لم يُبن على أسس سليمة
(1)
.
(1)
. البيان المفيد، مناقشة حول الأناشيد للشيخ صالح الأطرم ص 71 - 72 نقلًا عن كتاب حكم النشيد الإسلامي للأخت حنان اليماني ص 83 - 84.
الترجيح:
من خلال النظر في أدلة القولين ومناقشتها من جهة، والنظر في حقيقة النشيد من جهة أخرى، يتبين أن ما يُعرف اليوم بالنشيد الإسلامي أنواع متباينة ومختلفة؛ من جهة اللحن، والكلمات، والمقاصد، وطريقة الإنشاد، والاستماع تتنازعه أصول ثلاثة: الحُداء والنصب أصل، والغناء أصل، والسماع الصوفي أصل، فما وافق من الأناشيد أحد هذه الأصول، وشابهه في الصفة أُلحق به في الحكم بناءً على القاعدة القياسية في الفرع الذي يتنازعه أكثر من أصل، فإنه يُلحق بأكثرها شبهًا
(1)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
. انظر: حكم ممارسة الفن في الشريعة الإسلامية للشيخ صالح الغزالي ص 174 - 175 بتصرف، وحكم النشيد الإسلامي لحنان بنت علي اليماني ص 63 - 84.