الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة التاسعة
من مقاصد الحج وحِكمه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
شرع الله - جل وعلا - الحج لأهداف عظيمة، ومقاصد متنوعة، ومنافع عاجلة وآجلة في الدنيا والآخرة، فمن المنافع الدينية: العبادات البدنية من الصلاة والصوم والطواف والصدقات والزكاة والذكر، ونحر الهدي .. وغيرها، ومن المنافع الدنيوية: البيع والشراء، والأكل من لحوم الهدي، والإهداء.
«قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} قال: منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة فرضوان الله تعالى، وأما منافع الدنيا، فما يصيبون من منافع البُدْن والذبائح والتجارات،
وكذا قال مجاهد وغير واحد»
(1)
.
(2)
.
قال ابن جرير - إمام المفسرين- رحمه الله: «وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: عنى بذلك: يشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله والتجارة، وذلك أن الله عم منافع لهم جميع ما يشهد له الموسم، ويأتي إلى مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخصص من ذلك شيئًا من منافعهم بخبر ولا عقل، فذلك على العموم في المنافع التي وضعت»
(3)
.
وأعظم مقاصد الحج: إخلاص العبادة لله، وتوجيه القلوب إليه -سُبْحَانَهُ-، وأنه الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، قال تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)} [الحج: 26]، وقال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162 - 163]. ولذلك شرع الله للحجاج أن يقولوا في تلبيتهم لبيك لا شريك لك.
(1)
. تفسير ابن كثير رحمه الله (10/ 44).
(2)
. تفسير القرطبي رحمه الله (14/ 366).
(3)
. تفسير ابن جرير رحمه الله (7/ 5830).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ»
(1)
.
ومن مقاصد الحج: أن يتعلم الحجاج دين الله، ويتبصروا به في رحاب البيت العتيق من العلماء والمذكِّرين ما يجهلون من أحكام دينهم، وما يجهلون من أحكام حجهم وعمرتهم حتى يؤدوها على علم وبصيرة، وحتى يعبدوا الله في أرضهم وأينما كانوا على علم وبصيرة.
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} [النحل:43 - 44]. روى ابن ماجه في سننه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»
(2)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي، لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ»
(3)
.
ومنها: أن يتعارف المسلمون ويتواصوا بالحق ويتناصحوا فيما بينهم، ويساعد بعضهم بعضًا، ويواسي بعضهم بعضًا، فهم
(1)
. سنن ابن ماجة برقم 2890، وأصله في صحيح البخاري برقم 1517، وفيه حج النبي صلى الله عليه وسلم على رحل وكانت زاملته، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم 2617.
(2)
. برقم 224، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (2/ 727) برقم 3913.
(3)
. صحيح مسلم برقم 1297.
يأتون من كل فج عميق من غرب الأرض وشرقها، وجنوبها وشمالها، يجتمعون في بيت الله العتيق وفي عرفات، وفي مزدلفة، وفي منى، في وقت واحد وبلباس واحد، لا فرق بين عربي وأعجمي، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات:13].
ومن مقاصد الحج: الاستكثار من الصلوات والطواف بالبيت العقيق.
ومن المقاصد أيضًا الإكثار من ذكر الله عند أداء هذه الشعيرة العظيمة، قال تعالى:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28]، وقال تعالى:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198]، وقال تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة:200].
أما حِكَم الحج فهي كثيرة، أكتفي ببعضها، فمن ذلك: أن التجرد من المخيط تذكير بلباس الأكفان بعد الرحيل، وإرشاد إلى التواضع، ونبذ الكبرياء.
ومنها: أن سواد الحجر الأسود تذكير للعباد بشؤم المعصية حتى على الجمادات، وعظم أثرها على القلب، قال صلى الله عليه وسلم: «نَزَلَ
الْحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ»
(1)
.
وفي السعي بين الصفا والمروة تذكير بما حصل لأم إسماعيل مع ابنها بواد لا زرع فيه ولا ماء، فسعت في قفر بين جبلين تطلب الماء لها ولصغيرها، حتى أغاثها الله وأنبع لها زمزم أفضل ماء على وجه الأرض.
وفي اجتماع الحجاج في صعيد عرفات على اختلاف أجناسهم وبلدانهم ولغاتهم، الصغير والكبير، والغني والفقير، والذكر والأنثى، تذكير بعرصات يوم القيامة، واجتماع الخلائق لفصل القضاء.
وفي نحر الهدي تذكير بما حصل لأبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام حينما أراد أن يذبح ابنه إسماعيل، ففداه الله بذبح عظيم.
وفي رمي الجمرات تذكير بالانقياد للأمر، وإظهار الرق والعبودية، والامتثال من غير حظ النفس
(2)
.
ويجمع هذه المقاصد والحكم كلها قوله صلى الله عليه وسلم: «وَالْحَجُّ
(1)
. سنن الترمذي برقم 877، وقال: حديث ابن عباس رضي الله عنهما حديث حسن صحيح.
(2)
. انظر: مجموع فتاوى الشيخ ابن باز رحمه الله (16/ 197 - 215)، والخطب المنبرية، د. عبدالمحسن القاسم (4/ 80 - 89)، ومختصر منهاج القاصدين لابن قدامة رحمه الله (63 - 64).
الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ»
(1)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»
(2)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
. صحيح البخاري برقم 1773، وصحيح مسلم برقم 1349.
(2)
. صحيح البخاري برقم 1521، وصحيح مسلم برقم 1350.