الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الخامسة
تأملات في سورة الانشقاق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
فإن الله أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، قال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29]. ومن سور القرآن الكريم التي تحتاج منا إلى وقفة تأمل وتدبر سورة الانشقاق، قال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)} [الانشقاق].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي رافع قال: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه الْعَتَمَةَ، فَقَرَأَ:{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} فَسَجَدَ، فقُلْتُ لَهُ، قَالَ: سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم، فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ
(1)
.
قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} : يخبر تعالى في هذه الآيات ما يكون في يوم القيامة من تغير الأجرام العظام، ومعنى انشقت: أي انفطرت وتمايز بعضها من بعض، وانتثرت نجومها، وخسف بشمسها وقمرها، كما قال تعالى:{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)} [الفرقان: 25]، وقال تعالى:{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)} [الرحمن: 37].
قوله تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)} : أي استمعت لربها وأطاعت أمره فيما أمرها به من الانشقاق، وحقت: أي وحق لها أن تطيع أمره لأنه العظيم الذي لا يمانع ولا يغالب، بل قد قهر كل شيء وذل له كل شيء.
قوله تعالى: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)} : أي رجفت وارتجت ونُسفت عليها جبالها، ودك ما عليها من بناء ومعلم فسويت، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا
(1)
. صحيح البخاري برقم 766، وصحيح مسلم برقم 578.
(106)
لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)} [طه: 107]. ثم يمدها الله مد الأديم، يعني كمد الجلد كأنما تفرش جلداً، حتى إن الذين عليها - وهم الخلائق - يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، لكن الآن لا ينفذهم البصر، لو امتد الناس على الأرض لوجدت البعيدين منخفضين لا تراهم، لكن يوم القيامة إذا مدت صار أقصاهم مثل أدناهم، كما جاء في الصحيحين:«يَجْمَعُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ»
(1)
.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث سهل ابن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ
(2)
كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ»، قَالَ سَهْلٌ أَوْ غَيْره: لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ
(3)
.
قوله تعالى: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)} : أي ألقت ما في بطنها من الكنوز والأموات وتخلت منهم، فإنه ينفخ في الصور فتخرج الأموات من القبور إلى وجه الأرض، وتخرج الأرض كنوزها حتى تكون كالأسطوان العظيم يشاهده الخلق، ويتحسرون على ما هم فيه يتنافسون.
(1)
. صحيح البخاري برقم 4712، وصحيح مسلم برقم 194.
(2)
. قال الخطابي رحمه الله: العفر بياض ليس بناصع، وقال ابن فارس: عفراء خالصة البياض، والنقي: أي الدقيق النقي من الغش والنخالة، والمعلم: هو العلامة التي يُهتدى بها إلى الطريق كالجبال والصخرة، فتح الباري (11/ 375).
(3)
. صحيح البخاري برقم 6521، وصحيح مسلم برقم 2790.
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تَقِيءُ الأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَتَلْتُ، وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي، وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي، ثُمَّ يَدَعُونَهُ فَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا»
(1)
.
قوله تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)} أذنت: يعني استمعت وأطاعت لربها، وحقت: فبعد أن كانت مدورة فيها المرتفع والنازل صارت كأنها جلد ممتدة امتدادًا واحدًا.
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)} أي ساع إلى ربك سعيًا، وعامل عملًا، ثم إنك ستلقى ما عملت من خير أو شر، ويشهد لذلك ما رواه الحاكم في المستدرك من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال:«جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَال: يَا مُحَمْد عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ»
(2)
.
قال قتادة: يا ابن آدم إن كدحك لضعيف، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل، ولا قوة إلا بالله.
(1)
. برقم 1013.
(2)
. (5/ 463) برقم 7991، وقال المنذري في كتابه الترغيب والترهيب (1/ 485): رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن. وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير برقم 73.
قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} أي: سهلاً بلا تعسير، أي لا تحقق عليه جميع دقائق أعماله، فإن من حوسب كذلك يهلك لا محالة.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَّا هَلَكَ» ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا ذَلِكِ العَرْضُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الحِسَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَّا هَلَكَ»
(1)
.
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: «اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا» ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قُلْتُ: يَا نَبي اللهِ، مَا الْحِسَابُ الْيَسِيرُ؟ قَالَ:«أَنْ يَنْظُرُ فِي كِتَابِهِ فَيَتَجَاوَزُ عَنْهُ، إِنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَئِذٍ، يَا عَائِشَةُ، هَلَكَ»
(2)
.
قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)} أي: بشماله من وراء ظهره، تثنى يده إلى ورائه ويُعطى كتابه بها كذلك، {فَسَوْفَ
(1)
. صحيح البخاري برقم 6537، وصحيح مسلم برقم 7876.
(2)
. (40/ 260) برقم 24215، وقال محققوه: حديث صحيح دون قوله: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته: اللهم حاسبني حساباً يسيراً، فهذه الزيادة تفرد بها محمد بن إسحاق، قال الذهبي رحمه الله في الميزان: وما تفرد به فيه نكارة.
يَدْعُو ثُبُورًا (11)} أي خساراً وهلاكاً {وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)} أي: يصلى النار التي تسعر به، ويكون مخلداً فيها لأنه كافر.
قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13)} أي: فرحاً لا يفكر في العواقب، ولا يخاف مما أمامه، فأعقبه ذلك الفرح اليسير الحزن الطويل.
قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)} أي: كان يعتقد أنه لا يرجع إلى الله، ولا يعيده بعد موته، قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: الحور الرجوع.
قوله تعالى: {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)} يعني: بلى سيعيده الله كما بدأه، ويجازيه على أعماله خيرها وشرها، فإنه كان به بصيرًا: أي عليمًا خبيرًا.
قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)} والشفق: هو الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس، وإذا غابت هذه الحمرة خرج وقت المغرب، ودخل وقت العشاء، وهذا قول أكثر العلماء.
قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)} أي: ما جمع، لأن الليل يجمع الوحوش والهوام وما أشبه ذلك، تجتمع وتخرج وتبرز من جحورها وبيوتها، وكذلك ربما يشير إلى اجتماع الناس بعضهم إلى بعض.
قوله تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)} يعني: إذا اجتمع نوره
وتم وكمل، وذلك في ليالي الإبدار، وفي الإقسام بهذه الأشياء المختلفة الأحوال تناسب مع جواب القسم، وهو قوله تعالى:{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)} أي حالًا بعد حال، أي لتنتقلن من حال إلى حال، من كونكم نطفًا في الأرحام إلى خروجكم إلى الحياة، ثم موت بعد ذلك، ثم تبعثون فتصيرون إلى ربكم فيجازي كلًّا بعمله.
قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)} أي: فما لهؤلاء الكفار لا يؤمنون مع وضوح الآيات! والاستفهام للإنكار والتعجب، والفاء للتقريع: أي إذا علم ما تقدم فأي مانع يمنعهم من الإيمان.
قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)} أي: لا يخضعون له ولا ينقادون لأمره، ولا يصلون، فيركعون ويسجدون، كما قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)} [المرسلات: 48].
قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)} أي: من سجيتهم التكذيب، والعناد والمخالفة للحق، فإن المكذب بالحق عنادًا لا حيلة فيه.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)} أي: بما يعملونه وينوونه سرًّا، فالله يعلم سرهم وجهرهم، وسيجازيهم بأعمالهم، ولهذا قال:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)} ، وسميت البشارة بشارة لأنها تؤثر في البشرة سرورًا أو غمًّا.
قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)} أي: لكن الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الأعمال الصالحة - جمعوا بين الإيمان والعمل- فهؤلاء لهم أجر غير ممنون، أي ثواب عظيم غير مقطوع، وهو جنة عرضها السموات والأرض، قال تعالى:{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)} [مريم: 62]. مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وختمت السورة الكريمة بوعيد الكافرين ووعد المؤمنين
(1)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
. تفسير ابن كثير رحمه الله (14/ 292 - 300)، وتفسير جزء عم للشيخ ابن عثيمين رحمه الله ص 109 - 123، وتفسير جزء عم للشيخ ابن سعدي رحمه الله ص 876 - 877.