الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الثالثة والثلاثون
وصايا لقمان الحكيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
هذه وصايا نافعة قد حكاها الله تعالى عن لقمان الحكيم ليمتثلها الناس ويقتدوا بها، واختلف السلف في لقمان عليه
السلام، هل كان نبيًا، أو عبدًا صالحًا من غير نبوة؟ على قولين، والأكثر على الثاني.
يقول تعالى مخبرًا عن وصية لقمان لولده، وهو لقمان بن عنقاء بن سدون، واسم ابنه ثاران في قول حكاه السهيلي، وقد ذكره تعالى بأحسن الذكر فإنه آتاه الحكمة، والحكمة هي العلم] بالحق [على وجهه وحكمته، فهي العلم بالأحكام ومعرفة ما فيها من الأسرار والإحكام، فقد يكون الإنسان عالمًا ولا يكون حكيمًا، وأما الحكمة فهي مستلزمة للعلم، بل وللعمل، ولهذا فسرت الحكمة بالعلم النافع، والعمل الصالح.
ولقمان الحكيم يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه، فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف، ولهذا أوصاه أولًا بأن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا، ثم قال محذرًا له:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله رضي الله عنه قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ، أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)}»
(1)
.
(1)
. صحيح البخاري برقم 6918، وصحيح مسلم برقم 124.
ووجه كون الشرك عظيمًا أنه لا أفظع وأبشع ممن سوَّى المخلوق من تراب، لمالك الرقاب، وسوَّى الذي لا يملك من الأمر شيئًا بمن له الأمر كله، وسوَّى الناقص الفقير من جميع الوجوه بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه، وسوَّى من لم يُنعم بمثقال ذرة من النعم بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم ودنياهم وأخراهم وقلوبهم وأبدانهم إلا منه، ولا يصرف السوء إلا هو، فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟ وهل هناك أعظم ظلمًا ممن خلقه الله لعبادته وتوحيده فذهب بنفسه الشريفة [فجعلها في أخس المراتب]؛ جعلها عابدة لمن لا يسوى شيئًا، فظلم نفسه ظلمًا كبيرًا.
ثم قرن بوصيته إياه بعبادة الله وحده البر بالوالدين، كما قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]. وكثيرًا ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن، فقوله:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} أي عهدنا إليه وجعلناها وصية عنده، سنسأله عن القيام بها، وهل حفظها أم لا؟ فوصيناه (بوالديه) وقلنا له:(اشكر لي) بالقيام بعبوديتي، وأداء حقوقي، وأن لا تستعين بنعمتي على معصيتي، ولوالديك بالإحسان إليهما بالقول اللين، والكلام اللطيف، والفعل الجميل، والتواضع لهما] وإكرامهما [وإجلالهما، والقيام بمؤونتهما، واجتناب الإساءة إليهما من كل وجه بالقول والفعل.
ثم ذكر السبب الموجب لبر الوالدين في الأم، فقال:{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} أي مشقة على مشقة، فلا تزال تلاقي المشاق من حين يكون نطفة من الوحم والمرض والضعف والثقل وتغير الحال، ثم وجع الولادة ذلك الوجع الشديد.
قوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} أي تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين، كما قال تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233]. ومن ها هنا استنبط ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر؛ لأنه قال تعالى في الآية الأخرى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]. وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلًا ونهارًا ليذكر الولد بإحسانها المتقدم إليه، كما قال تعالى:{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]. ولهذا قال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، أي فإني سأجزيك على ذلك أوفر الجزاء.
قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} أي: إن حرصا عليك كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما، فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعنك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفًا، أي: محسنًا إليهما {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} يعني المؤمنين {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
روى مسلم في صحيحه من حديث مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه أنه نزلت فيه آيات من القرآن الكريم قال: حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبدًا حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك وأنا أمك، وأنا آمرك بهذا، قال: مكثت ثلاثًا حتى غُشي عليها من الجهد، فقام ابن لها يُقال له (عمارة) فسقاها فجعلت تدعو على سعدٍ، فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}
(1)
.
وفي رواية أنه قال: «يا أمه: تعلمين والله لو كانت لك مئة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني هذا، فإن شئت فكلي، وإن شئت لا تأكلي، فأكلت»
(2)
.
قوله تعالى: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} ، قوله:{يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} : أي إن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة خردل {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} : أي أحضرها الله يوم القيامة حين يضع الموازين القسط وجازى عليها، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، ولو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صماء أو غائبة ذاهبة في
(1)
. برقم 1748.
(2)
. تفسير ابن أبي حاتم رحمه الله برقم 17164.
أرجاء السموات أو الأرض فإن الله يأتي بها؛ لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أي لطيف العلم، فلا تخفى عليه الأشياء وإن دقت ولطفت وتضاءلت {خَبِيرٌ} بدبيب النمل في الليل البهيم، والمقصود من هذا الحث على مراقبة الله، والعمل بطاعته مهما أمكن، والترهيب من عمل القبيح قل أو كثر.
ثم قال: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} أي بحدودها وفروضها وأوقاتها، وخصها لأنها أكبر العبادات البدنية، {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} أي بحسب طاقتك وجهدك، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} علم أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يناله من الناس أذى، فأمره بالصبر وذلك يستلزم كونه فاعلًا لما يأمر به، كافًّا لما ينهى عنه، فتضمن هذا تكميل نفسه بفعل الخير، وترك الشر، وتكميل غيره بذلك بأمره ونهيه.
وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أي أن الصبر على أذى الناس لمن عزم الأمور، أي من الأمور التي يعزم عليها ويهتم بها، ولا يُوفق لها إلا أهل العزائم.
قوله تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} يقول: لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك، احتقارًا منك لهم، واستكبارًا عليهم، ولكن أَلِنْ جانبك، وابسط وجهك إليهم كما
جاء في الحديث: «وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»
(1)
.
قوله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} أي جذلًا متكبرًا جبارًا عنيدًا، لا تفعل ذلك فيبغضك الله، ولهذا قال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي مختال معجب في نفسه فخور، أي على غيره، كما قال تعالى:{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)} [الإسراء: 37].
قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} أي امش مشيًا مقتصدًا ليس بالبطيء المثبط، ولا بالسريع المفرط، بل عدلًا وسطًا بين بين.
قوله تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} أي لا تبالغ في الكلام، ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه؛ ولهذا قال:{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} ، قال مجاهد وغير واحد: إن أقبح الأصوات لصوت الحمير، أي غاية من رفع صوته أنه يشبه بالحمير في علوه ورفعه، ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى، وهذا التشبيه بالحمير يقضي تحريمه وذمه غاية الذم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ، لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ»
(2)
.
وهذه الوصايا التي وصى بها لقمان الحكيم لابنه تجمع
(1)
. صحيح مسلم برقم 2626.
(2)
. صحيح البخاري برقم 6975، وصحيح مسلم برقم 1620.
أمهات الحكم، وتستلزم ما لم يذكر منها، وكل وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها إن كانت أمرًا، وإلى تركها إن كانت نهيًا
(1)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
. انظر: تفسير ابن كثير رحمه الله (11/ 53 - 59)، وتفسير الشيخ عبدالرحمن السعدي ص 618 - 619.