الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الرابعة والثلاثون
التمثيل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
(1)
.
لذا كان من الواجب بيان الحكم الشرعي فيه، وهل هو محرم لذاته، فيشمل جميع أقسامه سواء في العبادات، أو العادات، أم أن أصله الإباحة، والحكم عليه بحسب موضوعه؟ فيتنزل الحكم التكليفي عليه حسب موضوعه؟
وقبل أن أبدأ في الحديث عن حكمه لا بد من تعريف التمثيل حتى يُعرف ما يدخل فيه وما لا يدخل، وقد عُرف
(1)
. التمثيل: حقيقته - تاريخه - حكمه، للشيخ بكر أبو زيد -سُبْحَانَهُ- ص 3 بتصرف.
التمثيل بأنه: «عمل فني منثور أو منظوم، يؤلف على قواعد خاصة ليمثل حادثًا حقيقيًّا، أو مُخْتَلقًا قصدًا للعبرة»
(1)
.
ويمكن أن يعرف التمثيل بأنه: «محاكاة شخص لآخر حقيقي أو خيالي قصدًا للعبرة، بتنظيم مسبق أمام جمهور من الناس حضروا لرؤيته
(2)
. والممثل هو القائم بأعمال التمثيل أمام الجمهور من الناس».
«ومن المعلوم أن الأعمال، إما عبادات، أو عادات، فالأصل في العبادات لا يشرع منها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات لا يحظر منها إلا ما حظره الله.
وعليه: فلا يخلو التمثيل أن يكون على سبيل التعبد التمثيل الديني أو من باب الاعتياد على سبيل اللهو والترفيه، فإن كان على سبيل التعبد، فإن العبادات موقوفة على النص ومورده، و (التمثيل الديني) لا عهد للشريعة به، فهو سبيل محدث، ومن مجامع ملة الإسلام، قول النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَحْدَثَ فِيْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ»
(3)
. ولهذا فما تراه في بعض المدارس والجامعات من فرق للتمثيل الديني، فإن حقيقته (التمثيل البدعي) لما علمت من أصله، وحدوثه لدى المسلمين خارجًا عن دائرة المنصوص
(1)
. المعجم الوسيط (2/ 854).
(2)
. إيقاف النبيل على حكم التمثيل للشيخ عبد السلام آل عبدالكريم 4 ص 20.
(3)
. سبق تخريجه ص 300.
عليه بدليل شرعي، وأنه من سبيل التعبد لدى أهل الأوثان من اليونان، ومبتدعة النصارى، فلا أصل له في الإسلام بإطلاق، فهو إذًا محدث، وكل أمر محدث في الدين فهو بدعة تضاهي الشريعة، فصدق عليه حسب أصول الشرع المطهر اسم (التمثيل البدعي)، وأما إن كان التمثيل في العادات فهذا تشبه بأعداء الله الكافرين، وقد نهينا عن التشبه بهم، إذ لم يعرف إلا عن طريقهم، والنهي عن التشبه بهم أمر بمخالفتهم، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الخوض فيما يخوضون فيه، فقال تعالى:{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)} [التوبة:69].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»
(1)
(2)
.
أقوال العلماء فيه: ذهب جمع من أهل العلم المعاصرين كالشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، والشيخ صالح الفوزان، والشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله، والشيخ حمود التويجري رحمه الله .. وغيرهم إلى تحريم التمثيل.
(1)
. مسند الإمام أحمد (2/ 92)، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (15/ 509): إسناده صالح.
(2)
. التمثيل: حقيقته - تاريخه - حكمه، للشيخ بكر أبو زيد رحمه الله ص 28 - 31 باختصار.
فلما سُئل الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله عن التمثيل، أجاب:«أنا لا أنصح بممارسة التمثيل، وإنما على العلماء أن يبينوا للناس أحكام الله ورسوله، أما أن يتقمص المرء شخصية فلان، واسم فلان، فيقول: أنا عمر، أو أنا عثمان .. أو نحو ذلك، فهذا كذب لا يجوز فعله»
(1)
.
وأما الشيخ صالح الفوزان، فلما ذكر التمثيل في تقديمه لكتاب إيقاف النبيل على حكم التمثيل، علل تحريمه لما فيه من المفاسد الكثيرة، وإن زعم أحد أن فيه مصلحة جزئية، فهي مغمورة بما فيه من المفاسد الراجحة على تلك المصلحة، ومن المعلوم أن من ترجحت مفسدته فهو حرام، وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، مع أنني لا أرى فيه مصلحة قط، ولكن هذا من باب التنزل مع الخصم»
(2)
. اهـ
«ومن أسباب تحريم التمثيل التي استدل بها من حرم التمثيل من العلماء:
1 -
أن يكون فيه القيام بدور عن أحد من أنبياء الله ورسله عليهم السلام، أو عن أحد من صحابة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من الخلفاء الراشدين وزوجاته أمهات المؤمنين رضي الله
(1)
. فتاوى الشيخ ابن باز رحمه الله (5/ 271 - 272).
(2)
. مقدمة كتاب إيقاف النبيل على حكم التمثيل للشيخ عبدالسلام آل عبدالكريم ص 4.
عن الجميع.
2 -
أن يكون فيه محاكاة معين على سبيل الإضحاك، أو السخرية، أو الإيذاء، أو محاكاة مجردة.
3 -
اشتماله على المعازف، أو المؤثرات الصوتية، والغناء المحرم، والرقص من الرجال والنساء.
4 -
القيام بأفعال فيها رعونة، وسخرية، وخرم مروءة.
5 -
اشتماله على التصوير، والاختلاط بين الرجال والنساء.
6 -
اشتماله على قول محرم من السباب، والشتم، واللغو، والقذف، والغزل.
7 -
احتوائه على الكذب والاختلاق، أو في فرع منها مثل دعوى الزواج، والهزل بالطلاق.
8 -
نشر أخلاق وعادات الكافرين، والمبتدعة، والفاسقين.
9 -
الخوض والاستهزاء في أحكام دين الله وشرعه.
10 -
تمثيل قصص وحكايات عن أشخاص لا تصح عنهم، فهي قلب لحقائق التاريخ وتشويه له.
11 -
إفضاؤه إلى نشر الرذيلة، وإشاعة الفساد، والمنكر.
12 -
إلحاق الأذى بالشخص الممثل عينًا، في لباس، أو نطق، أو شعور، أو لحى مصطنعة، أو هيئة معينة، مثل العلماء،
والمشايخ، والزهاد .. وغيرهم.
13 -
أنه مخطط رهيب لتخدير الأمة، وتكوين جيل ساذج تافه، يساق كما تُساق بهيمة الأنعام»
(1)
.
وذهب بعض أهل العلم من المعاصرين إلى أن التمثيل إذا كان مضبوطًا بالضوابط الشرعية، ولم يكن فيه شيء من المحرمات، وفيه مصلحة شرعية، فهو مباح، وإلى هذا ذهب الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، حيث قال: «كثير من إخواننا يمنع من التمثيل مطلقًا، ويقول: إنه لا يجوز لأنه يتضمن الكذب، وربما يتضمن استهزاء بالشعائر الدينية، كما لو تقمص الممثل شخص رجل كبير السن، ووضع عليه لحية من الصوف وما أشبه ذلك، ومن الناس من يقول: إذا كان التمثيل هادفًا، ولم يتضمن محظورًا، يكذب على أحد، ولا يقوم الرجل بدور المرأة، أو المرأة بدور الرجل، ولم يكن فيه تقليد للحيوانات، فإنه لا بأس به، فيجيز التمثيل بشروط؛ وليعلم أن الأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل، أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم، وإذا قلنا أن هذا حرام، وقال الآخرون هذا حلال، فالقول مع المحلل إلا إذا كان هناك دليل
(1)
. التمثيل للشيخ بكر أبو زيد رحمه الله ص 45 - 48.
يدل على التحريم، فيجب اتباع الدليل وهذا في غير العبادات، أما العبادات وهي ما يقصد به التقرب إلى الله، فإن الأصل فيها المنع والتحريم؛ لأن العبادات طريق إلى الله، وهي صراط الله، ولا يمكن أن نفتري على الله ما لم يجعله طريقًا موصلًا إليه»
(1)
.
وبالنظر إلى ما تقدم، فإنه يكاد يستحيل وجود تمثيل متقيد بالشروط السابقة.
«والخلاصة أن التمثيل: حرفةً، وأداءً، وتكسبًا، وعرضًا، ومشاهدةً، لا يجوز؛ لأنه إن كان تمثيلًا دينيًّا فهو بدعي، لوقف العبادات على النص، ولما علمت من أصله لدى النصارى واليونان.
وإن كان غير ذلك فهو لهو محرم، لما فيه من التشبه، ولما رأيته من تفاريق الأدلة، وما يحتوي عليه، ويترتب عنه من الآثار المعارضة لآداب الشريعة، وناموس الترقي، وانحلال ربقة الآداب، وأن ما فيه من عظات وفضائل مزعومة، فهي ضائعة مغمورة في حلبة تلك الملهيات التي توقظ نائم الأهواء، وتحرك ساكن الشهوات، كما ينطق به الواقع المرير، لتمرير الفحش، والخنا، والفسوق، والعصيان، وتهديم البيوت داخل أسوارها، فهو يمثل مخاطر على العقائد، والأخلاق،
(1)
. فتاوى نور على الدرب للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (24/ 2) ترقيم الشاملة باختصار.
والفضائل، والآداب.
وبالجملة فإن انتشار التمثيل بصفته التي تشاهد وتسمع كل يوم وليل: يمثل ظاهرة اعتلال في الأمة، ونهم في اللهو واللعب، ووهن في الدين، وفراغ من العلم، وعجز عن تحصيله، وتحطيم للأمة في قوتها، ووقتها، وتنمية طاقاتها ومواهبها، فما هي إلا وسيلة عدوان على الأمة، وتخطيط رهيب لتعيش سادرة، تخوض فيما لا ينفعها في دينها ولا في دنياها، بل هو ضرر محض عليها في الدين والدنيا، وإفساد الإنسان، وانهيار أخلاقه، بغرض السيطرة عليه، مخطط تخريبي يهودي.
وفي (بروتوكولات يهود): يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل مكان، فتسهل سيطرتنا، إن (فرويد) منا، وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس لكي لا يبقى في نظر الشباب شيء مقدس، ويصبح همه الأكبر إرواء غرائزه الجنسية، وعندئذٍ تنهار أخلاقه. انتهى.
والتاريخ يحفظ في سطوره أن الهيام في المضحكات والترفيهات من علائم الانحطاط وانقراض الدول، فهذا المستعصم آخر خلفاء بني العباس في بغداد كان مولعًا بالتفرج على (المساخرة) المضحكة، وكان يقضي أكثر زمانه معها، كما في الفخري (ص 144)، وتاريخ أبي الفداء (3/ 176) .. وغيرهما.
وهكذا إذا ماتت السنن ظهرت البدع، وإذا ضعف الجد والعزم، تفشى في الأمة الهزل والضعف، لتصل إلى محطة الشيخوخة في دائرة قطيع يسام، وسلع تساوم، وإن الحياة لحادثٌ جللٌ فما بمثل هذا تعمر الحياة، ويكون (التمثيل) ناموسًا ورمزًا لمجدها. وبالجملة فالتمثيل يحوي مفاتيح هذه المقاصد الهابطة، ويتضمن (محاضن تفريخ لها).
وهنا أذكر من ابتلى بشيء من أمر الفتيا، أن يبصر حال أمته ويبصر أوضاعها، وماذا يراد بها، ليتوقى عند إصدار الفتوى من فتيا تكون سلمًا لتلك المآرب المهينة، ولا أرى الفتيا بالجواز المقيد بشروطه، إلا ومصدرها - مع التقدير- في غياب عن الساحة وما يجري فيها من توظيف (التمثيل) لهدم مقومات الأمة، فستكون الفتيا (تكأة) ينطلق منها الآثمون، مستبعدين لضوابطها الشرعية عند من أفتى بها - وقد فعلوا؟!
وأقول أخيرًا: إن التمثيل لو كان جائزًا بشروطه لوجب في هذا الزمان الإفتاء بمنعه وتحريمه لما يشاهد في بلاد المسلمين من زخم التمثيليات المهول التي تفرز خطورة على مقومات المسلمين كافة، ولا ينازع في الواقع هذا إلا جاهل به، أو ممالي»
(1)
. اهـ
(1)
. التمثيل للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله ص 57 - 60.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.