المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ فصلفي زيارة قبور الأنبياء والصالحين - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ٤

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمةفي بيان التكليف وما يتصل به

- ‌الأدلة الموجبة العملَ بالظن بشرطه

- ‌المسألة الأولىالاجتهاد والتقليد

- ‌ الإجماع المعتبر

- ‌ طلب رتبة الاجتهاد فرضَ كفاية

- ‌المسألة الثانيةالسنة والبدعة

- ‌ الأشياء الحادثة بعد عصر النبوة نوعان:

- ‌[البحث الأول: البناء على القبور]

- ‌[روايات حديث أبي الهيّاج عن علي]

- ‌ البحث الثانياتخاذ القبور مساجد أو اتخاذ المساجد على القبور

- ‌تنبيهات

- ‌البحث الثالثزيارة القبور

- ‌ الحكمة في استحباب زيارة القبور:

- ‌ هل تُزار قبور الكفّار

- ‌ كيفية الزيارة:

- ‌ فصلفي زيارة قبور الأنبياء والصالحين

- ‌البحث الرابعالتبرُّك

- ‌1): «ماء زمزم

- ‌ تقبيل اليدين والرجلين

- ‌[مسألة التبرك بالصالحين]

- ‌البحث الخامسالتوسُّل

- ‌ حديث «الصحيحين» في قصة الثلاثة أصحاب الغار

- ‌ الفرق بين التوسّل بالحيّ والميت

- ‌[بحث في اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا]

- ‌المسألة الثالثةالنداء للغائبين والموتى وغيرهم

- ‌ المقام الأولعلم الغيب

- ‌ العلم الخبري بما هو غيب عن جميع الخلق

- ‌ معرفة الأنواء

- ‌ العَرافة

- ‌ الفأل والطِيَرة

- ‌ الطّرْق بالحصى

- ‌ رؤية الإنسيّ للجنيّ وسماعه لكلامه

- ‌[الكلام في حجية الإلهام وهل هو من الإظهار على الغيب

- ‌ المقام الثانيفي تصرُّف بعض بني آدم في الكون

- ‌ المقام الثالثالنداء والطلب

- ‌ الحكم على بعض الأعمال أنه كفر لا يسوغ إلا بعد اجتهادٍ ونَظَر

- ‌ الميزان

- ‌ملحق ــ 5 ــفي معنى التأويل

الفصل: ‌ فصلفي زيارة قبور الأنبياء والصالحين

[ص 6]

‌ فصل

في زيارة قبور الأنبياء والصالحين

قد علمتَ أن الأدلة الواردة في مشروعية زيارة القبور عامةٌ في قبور الأنبياء والصالحين وسائر المسلمين، وإنما النزاعُ في شيئين:

الأول: في شدّ الرحال.

الثاني: الغرض المقصود من الزيارة.

وعند التحقيق ينحصر النزاع في هذا الأخير، كما ستراه إن شاء الله تعالى.

فأما شدّ الرحال، فإنّ من العلماء مَن مَنَعه لحديث «الصحيحين»

(1)

عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تُشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» .

فقال قومٌ: هو نفيٌ، والمراد به النهي، وهو عامّ في كلّ شيءٍ. أي: لا تَشدّوا الرحال إلى شيءٍ من الأشياء إلّا إلى ثلاثة مساجد. ثم ما وَرَد فيه دليلٌ خاصّ في إباحةِ أو نَدْبِ أو وجوبِ شدِّ الرحال إليه غير ما ذُكِر فهو مخصَّصٌ من هذا العموم. وذلك كطلب الرزق، والتفكّر في آيات الآفاق، وزيارة ذوي الأرحام، وطلب العلم، والجهاد، وغير ذلك. فيبقى زيارة القبور داخلًا تحت ذلك العموم.

(1)

البخاري (1864، 1995)، ومسلم (827).

ص: 210

وقال آخرون: بل المراد: لا تشدّوا الرحال إلى بقعة من بقاع الأرض تلتمسون فضلَها عند الله تعالى غير الثلاثة المساجد. قالوا: ولا نحتاج لتخصيص طلب الرزق وغيره مما سبق، ويكون النهي بحالِهِ متناولًا لزيارة القبور.

وقال غيرهم: بل الحديث واردٌ في شأن المساجد، أي: لا تشدّوا الرحال إلى مسجد من المساجد تلتمسون فضله غير المساجد الثلاثة، فيكون الحديث خاصًّا بالمساجد.

وأنت خبيرٌ أنَّ ظاهر اللفظ يعيِّن القول الأول؛ إذ التقييد ببقاع الأرض أو بالمساجد خارج عن مدلول اللفظ. وعلى كلِّ حال فالأدلة ثابتةٌ والإجماعُ منعقدٌ على إباحة شدّ الرحال إلى كلِّ مقصدٍ دينيّ أو دنيويّ يحتاج الوصول إليه إلى ذلك.

والظاهر أن المسلم إذا أراد زيارة القبور للغرض المتفق عليه، وهو تذكُّر الآخرة، ولم يكن بالقُرب منه قبور= لم يَحْرُم عليه أن يشدّ رحله لزيارة أقرب القبور إليه، بل لا أظنُّ أحدًا يتردّد في ....

(1)

أنه مأمور بزيارة القبور لتذكّر الآخرة، والأمر بزيارة القبور [ص 7] مطلق، والنهي عن شدّ الرحال إلى غير الثلاثة المساجد عام، فهل يقال: إن إطلاق الأمر بزيارة القبور يخصّصُ عمومَ النهي عن شدّ الرحال؟ أو يقال: إن عموم النهي عن شدّ الرحال يقيّد إطلاق الأمر بزيارة القبور؟ أو يقال: إن كان بِقُرْبه قبر تعيّن عليه العمل بالحديثين، بأن يزور القبر القريب منه ولا يشدّ رحلَه إلى غيره. وإن لم يكن

(1)

تآكلٌ في طرف الورقة ذهبَ بكلمتين أو ثلاثًا.

ص: 211

بالقرب منه قبر ترجّح تخصيص عموم النهي عن شدّ الرحال بإطلاق الأمر بزيارة القبور، فيرخّص له بشدّ رحله لزيارة أقرب القبور إليه لتذكُّر الآخرة؛ لأن هذا الغرض غرضٌ مهمٌّ شرعًا، وليس في شدّ الرحل إليه إخلال بغرض شرعيّ؛ لأن الغرض الذي لأجله النهي عن شدّ الرحال لغير الثلاثة المساجد إنما هو ــ والله أعلم ــ خشيةَ أن يضيّع المسلمون مصالحهم الدينية والدنيوية في الرحيل إلى ما لا فائدة لهم فيه، وفي مسألتنا قد تحققت الفائدة. وهذا الثالث ــ والله أعلم ــ هو الحقُّ إن شاء الله تعالى.

وعلى هذا فمن جعل لزيارة قبور الأنبياء والصالحين فائدةً دينية زائدة عن قبور غيرهم من المسلمين، أي زائدةً عن مجرّد تذكّر الموت وما بعده خصّصها بنحو ما خصصنا به مَن كان بعيدًا من القبور، في أنه يجوز له شدّ رحله لزيارة أقرب القبور إلى محلّه. ومن هنا قلنا: إنه عند التحقيق ينحصر النزاع في المقصود من الزيارة، وعليه فأقول:

قال المانعون: إن غرض الشارع من الأمر بزيارة القبور هو ما بيّنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله في حديث مسلم

(1)

: «فإنها تُذَكِّر الموتَ» . وفي حديث ابن ماجه

(2)

: «فإنها تزهّد في الدنيا وتذكّر الآخرة» . فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فإنها تذكر الموت ــ فإنها تزهّد في الدنيا وتذكّر الآخرة» نصٌّ منه على مشروعية زيارة القبور، وحينئذٍ

(3)

فلا شكَّ أنه يكفي في تحصيل هذا المقصد أيّ قبرٍ كان من قبور المسلمين.

(1)

(976) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

(1571) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(3)

اختصرها المؤلف إلى (ح) كما فعل في مواضع أخرى.

ص: 212

قال المجيزون: هذا مسلّم، ولكن ليس في هذا ما يدلّ على أنه لا غرض للشارع غير ما ذُكِر، كيف وقد تقدّم من الأحاديث ما يدلُّ على أنه من المقاصد السلامُ عليهم، والدعاء لهم، والدعاء للنفس؟ [ص 8] كما مرَّ ذلك في نَقْل الأدعية الواردة عنه صلى الله عليه وآله وسلم في زيارة القبور، فيرجع إليها

(1)

، وهي تدلّ أن من المقاصد السلام عليهم، والدعاء لهم وللنفس وللمؤمنين. ولفظ حديث عائشة:«السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون»

(2)

.

فإذا تقرَّر ذلك، فلا شك أنه لا يكفي في تحصيل هذه المقاصد زيارة أيّ قبرٍ كان، لأن من المقاصد: السلام على الموتى، وقد يريد الإنسان أن يخصّ بالسلام ميّتًا معينًا من الأنبياء أو الصالحين. ومن المقاصد: الدعاء لصاحب القبر، والإنسان قد يريد أن يخصّ أيضًا. ومن المقاصد: الدعاء للنفس وللمؤمنين، ولا شك أن الدعاء في بعض المواطن أَرْجى. ومن ذلك: مواضع قبور الأنبياء والصالحين، فإنَّ تجلِّي الرحمةِ عندها أكثر من غيرها.

ومن المقاصد الشرعية ــ وإن لم تدلّ عليها تلك الأحاديث ــ: تذكُّر سيرة الأخيار؛ لأن في ذلك الحضّ للنفس عليها. ولا شكَّ أن الإنسان عند زيارته قبور الأنبياء والصالحين يتذكَّر سِيَرهم وما كانوا عليه من الأعمال الصالحة واجتناب الشبهات؛ فيحمله ذلك على الاقتداء بهم. وأيضًا: أنه عند زيارة قبور أهل الخير، يستشعر ما هم فيه من رضوان الله تعالى والجنة،

(1)

(ص 209).

(2)

تقدم (ص 209).

ص: 213

فتشتاقُ نفسُه إلى اللحاق بهم، ويعلم أنّ ذلك متوقِّف على العمل بِعَمَلهم؛ فيحضُّه ذلك على عمل الخير.

فهذه كلُّها مقاصد شرعيّة، تختلف باختلاف القبور، وبذلك يُخصّص حديث النهي عن شدّ الرِّحال على تسليم عمومه في كلِّ شيء. فأما على اقتصار عمومه على البقاع أو المساجد فلا حاجة إلى التخصيص. أما الثاني فواضح، وأما الأول: فلأننا نقول: المراد البقاع لذاتها لا لشيء آخر كائنٍ فيها، كعالم كائن في مصر، وجهادٍ في الثغر، ونحو ذلك. إذ ليس القصد ذات مصر ولا الثغر، وإنما القصد العالم والجهاد. ومثل هذا يقال في قبور الأنبياء والصالحين، فليس القصد القبر، أي الحفرة التي هي من الأرض، بل القصد الذات المدفونة فيها.

[ص 9] قال المانعون: لا نسلِّم أن للشارع حِكْمةً في الأمر بزيارة القبور غير ما نصَّ عليها الحديثُ، كما مر. فأما السلام عليهم، والدعاء لهم، والدعاء للنفس وللمؤمنين فهي من المقاصد العامة التي تُقال عند غير القبور فجيء بها عند زيارة القبور عَرَضًا. وإن سلَّمنا أنها من المقاصد فليست لذاتها وإنما هي حاصلة تبعًا، يدلك على ذلك أن السلام عليهم معناه الدعاء لهم بالسلامة، وذلك

(1)

والدعاءُ لهم وللنفس وللمؤمنين يمكن أن يحصِّلها الإنسان وهو على فراشه، فكيف يقال: إنها من الأغراض التي شُرِعت لها زيارة القبور؟ !

وقولكم: «وقد يريد الإنسان أن يخصّ بالسلام إنسانًا معيّنًا» .

(1)

كذا في الأصل. ويشير بذلك إلى السلام عليهم.

ص: 214

فالجواب: أن السلام هو عبارة عن الدعاء له بالسلامة، فادعُ له وأنتَ في بيتك أو مسجدك أو دكانك أو حيث كنت. وسيأتي في الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليَّ حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني»

(1)

.

وبهذا يُعْلَم الجواب عن قولكم: «ومن المقاصد الدعاء لصاحب القبر

» إلخ.

وأما قولكم: «ومن المقاصد الدعاء للنفس وللمؤمنين

» إلخ.

فقد مرَّ أن هذا ليس من مقاصد زيارة القبور، وإنما يحصل عندها عَرَضًا، فاتخاذه مقصدًا شرعيًّا بدعة. ولم يكن الصحابةُ والتابعون ومَن بعدهم يزورون القبور لأجل الدعاء عندها. ولو كانوا يرون أن في الدعاء عندها مزيد فائدةٍ وكونه أَرْجى للقبول ونحو ذلك لكانوا أسرع إليه. ولو سلّمنا أن الدعاء عندها أرجى لتبيّن بفعل السلف اختصاص العمل بذلك إذا كانت الزيارة لمقصدها، فيُسْتحسن الدعاءُ حينئذٍ. وأما أن يُقصد القبرُ لأجل الدعاء فلا.

وسيأتي في التوسُّل

(2)

حديث البخاري

(3)

في توسّل عمر رضي الله عنه

(1)

أخرجه أحمد (8804)، وأبو داود (2042)، والطبراني في «الكبير» (19/ 486) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسَّنه شيخ الإسلام في «الاقتضاء»:(2/ 170) وصححه النووي في «الخلاصة» : (1/ 440)، وله شواهد عن عدد من الصحابة.

(2)

(ص 271).

(3)

(1010).

ص: 215

والصحابة بالعباس رضي الله عنه وقول عمر: «اللهم إنّا كنّا إذا أجْدَبْنا توسّلنا إليك بنبيك صلى الله عليه وآله وسلم فتسقينا، وإنَّنا نتوسّل إليك بعمِّ نبيك» . وهذا دليلٌ ظاهر أنهم لم يكونوا يرون الدعاء عند القبور، وإلّا لما تركوا قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذهبوا يستسقون في غير محلِّه. وسيأتي في بحث عِلْم الغيب الحديث الذي أخرجه صاحب «المختارة» بسنده إلى عليّ بن الحسين أنه رأى رجلًا يجيء إلى فُرجةٍ كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيدخل فيها ويدعو، فنهاه وقال: أحدّثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدِّي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، فإن تسليمكم ليبلغني أين كنتم»

(1)

.

[ص 10][وثبت]

(2)

عن ابن عمر

(3)

أنه كان يقول عند إتيانه قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه: السلام عليك [يا رسول الله]، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أَبَتِ.

ونحن لا ننكر الدعاءَ عند القبور كما ورد في الأحاديث الصحاح. وإنما ننكر أن تُقْصَد القبور لأجل الدعاء. ونقول: لا تُقصَد القبور إلا لتذكُّر

(1)

وأخرجه إسماعيل القاضي في «فضل الصلاة على النبي» (20)، وابن أبي شيبة (7624)، والبزار (509)، وأبو يعلى (469). والحديث صححه الضياء المقدسي في «المختارة» (428)، وحسَّنه السخاوي في «المقاصد الحسنة» (ص 263).

(2)

طمس بمقدار كلمة أو كلمتين، ولعلها ما قدرته. وهكذا ما قدرته بين معكوفات في المواضع الأخرى.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (6724) وابن أبي شيبة (11915). وإسناده صحيح.

ص: 216

[الموت] والآخرة. فإذا وصل الإنسانُ سلَّم على أهلها ودعا لهم ولنفسه وللمؤمنين كما ورد.

أما قولكم: «إن من المقاصد الشرعية تذكُّر سيرة الأخيار» . فهذا يحصل تمامَ الحصول بقراءة القرآن، فإنه [خُلُق]

(1)

إمام الأخيار صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في «الصحيح» عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها

(2)

، أو قراءة شيء من كتب السنن الصحيحة. وتذكُّر سيرتِه صلى الله عليه وآله وسلم بقراءة القرآن أو مطالعة السنن يغني عن تذكّر سِيَر غيره ممن ليس بمعصوم، ولاسيَّما مع ما مُزِجت به سِيَر غيره من الصالحين من الكذب الذي يخالف كثيرًا من أحكام الشرع.

قال المجيزون: وفي زيارة قبر نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم فائدة أخرى، وهي أن الله سبحانه وتعالى يقول:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، فعلَّق المغفرةَ على ثلاثة أمور: المجيء إليه صلى الله عليه وآله وسلم، والاستغفار، واستغفاره صلى الله عليه وآله وسلم. وعليه فإنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يستغفر لجميع أمته، ولكن استغفاره يحتاج إلى الأمرين الأخيرين، فإذا جاء أحدُنا قبرَه واستغفر الله تعالى تمَّت الأمور الثلاثة، فحصلت الرحمة وقبول التوبة. هكذا رأيتُ معنى هذا في

(1)

مطموسة في الأصل فلعلها ما قدرته.

(2)

لعله أراد ما أخرجه مسلم (746) من قول عائشة رضي الله عنها لما سألها سعد بن هشام عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ألستَ تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: فإن خُلُق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن.

ص: 217

«المواهب»

(1)

.

قال المانعون: الآيةُ واردةٌ في المنافقين. وما عليكم إلا أن تقرأوا ما قبلها وما بعدها، فتعلموا ذلك. يريد الله تعالى: لو أنهم جاؤوك فاعترفوا بما سلف منهم، وخضعوا لحكم الله تعالى على يدك، واستغفروا الله تعالى واستغفرتَ لهم لوجدوا الله توابًا رحيمًا.

ومع قَطْع النظر عن هذا، فإن الاستغفارَين اللذين في الآية مشروطان بتقدُّم المجيء، والاستغفارُ الذي ذكرتم أنّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قد استغفره لأمته متقدِّم على المجيء، ولا يمكنكم أن تقولوا: إنه يمكن أن يستغفر لنا صلى الله عليه وآله وسلم الآن [ص 11] لما ثبت في «صحيح البخاري»

(2)

عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: وارأساه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ذاك لو كان وأنا حيّ، فأستغفر لكِ وأدعو لكِ» الحديث. ودعاؤه صلى الله عليه وآله وسلم لأمته ليس مقيَّدًا بزيارتهم قبرَه اتفاقًا.

وأما شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم فهي حقٌّ وأيُّ حقّ، ولكنها لا تتوقّف على زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم، بل تتوقف على تحقيق الإيمان قبل كلِّ شيء. ففي «صحيح البخاري»

(3)

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَسْعَد الناسِ بشفاعتي يوم القيامة مَن قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه أو نفسه» .

(1)

«المواهب اللّدنيّة» : (3/ 589) للقسطلاني.

(2)

(5666).

(3)

(99).

ص: 218

على أنَّنا لا ننكر زيارةَ قبره صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّها من أفضل القُرُبات، وإنما ننكر ما نهى عنه صلى الله عليه وآله وسلم مِن اتخاذ قبره عيدًا، ونُنكر شدَّ الرحال لغير قبره من قبور الأنبياء والصالحين

(1)

.

وفَصْل الخطاب بيننا وبينكم: أنكم تعتقدون أن الدعاءَ عند القبور أقرب إلى القبول. وتعتقدون أنّ الصالحين أحياء، بحيث يرون زائرهم ويسمعونه ويغيثونه بتصرّفهم في الكون، أو يدعون الله تعالى.

وكلا الأمرين غير صحيح؛ أما الأول، فلأنَّه لو كان الأمر كما تقولون لأمَرَنا به الله تعالى ورسولُه. فإنّ الله تعالى يقول:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]. وقد عَلِمْتم أنه لم يصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم الأمر بزيارة قبور أحدٍ من الصالحين لأجل الدعاء، وعَلِمْتم أن أصحابه رضي الله عنهم لم يكونوا يفعلون ذلك؛ بل صحَّ عنهم ما يخالفه، وهكذا أتباعُهم حتى ذهبت قرون الخيرية، وظَهَر الجهلُ والبدعُ، وصار كلُّ أحدٍ يشرع لنفسه ما يستحسنه هواه. والدين ليس ما تستحسنه النفسُ، وإنما هو ما صحَّ عن الله تعالى وعن رسوله عليه الصلاة والسلام.

(1)

لأن شدّ الرحل إنما هو للمسجد فهو في الحقيقة سفر إلى المساجد، بخلاف غيره من الأنبياء فإن شدّ الرحل إلى قبورهم سفر للقبر ذاته. ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية:«إن الذين استحبوا السفر إلى زيارة قبر نبينا مرادهم السفر إلى مسجده، وهذا مشروع بالإجماع، ولو قصد المسافر إليه فهو إنما يصل إلى المسجد، والمسجد منتهى سفره، لا يصل إلى القبر، بخلاف غيره فإنه يصل إلى القبر» . «مجموع الفتاوى» : (27/ 254، 266).

ص: 219

وهَبُوا أنكم جرّبتم أنّ الدعاء عند القبور أقرب إجابة، فإنّ هذا ليس دليلًا شرعيًّا كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى

(1)

، وليس الدليلُ إلّا ما ثبت من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، إجماعًا واتفاقًا بين جميع العلماء بلا خلافٍ في ذلك أصلًا.

وأمّا اعتقادُكم أنّ الصالحين أحياء، بحيث يرون زائرهم ويسمعونه ويقدرون على إعانته إلى آخره، فسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذا في مبحث مستقلّ

(2)

بما لا تبقى معه شبهة، وحسبكم لو عَقَلْتم حديث عائشة السابق في قولها: وارأساه

(3)

.

[ص 12] هذا، في زيارة من ثبت صلاحُه بالظواهر الشرعية، ولم يكن قبره على الكيفية المنهيّ عنها، ولم يُتَّخذ قبره عيدًا، ولم يكن عند قبره شيءٌ من المنكرات، ولم يقصد من الزيارة التبرُّك بالقبر والتمسُّح ونحوه، والدعاء والاستغاثة ونحو ذلك. فأما في غير ذلك فلا يمكن لعاقل أن ينكر حرمته مطلقًا.

وممن لم يثبت صلاحُه مَن ثبت عنه أنه كان يدّعي علم الغيب أو نحوه لتكذيبه للقرآن.

وكون القبر على كيفية منهيٍّ عنها يُعْلَم مما سبق.

واتخاذُ القبر عيدًا منه ما اعتِيدَ في هذه الأزمان من الاجتماع عند قبر

(1)

(ص 415 - 420).

(2)

لم يأت بحث مستقل في هذا، وانظر إجابة جُمليّة عنه في (ص 422).

(3)

تقدم (ص 218).

ص: 220

بعض المزعوم صلاحُهم في ميعاد معلوم في كل سنة يجتمع فيها الناس، ويتجمّلون لها، ويوسِّعون فيها النفقات وغير ذلك. والحاصل أنهم يتخذون تلك الأيام عيدًا، ويكون الغرض الأكبر من الاجتماع في المحلّ الذي فيه القبر هو اختلاط الرجال بالنساء، والتوصل إلى ما يجرُّه ذلك من المنكرات، وشرح هذا يطول.

وأما قولنا: «ولم يقصد من الزيارة التبرك

» إلخ، فهذا هو المقصد العام لعامة الناس في هذه الأعصار، وهو الشرك الصريح والعياذ بالله، كما سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في مبحث التبرك وغيره

(1)

.

نسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا على دينه، ويهدينا لما اختُلف فيه من الحق بإذنه، وهو وليّ الفضل والإحسان، وهو المستعان وعليه التكلان.

(1)

(ص 222).

ص: 221