الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجوب العمل به حاصلٌ، فوجبَ العملُ به دفعًا للضرر المظنون، ولأن الإجماع نوعٌ من الحجة، فيجوز التمسك بمظنونه كما يجوز بمعلومه، قياسًا على السنة. ولأنا بيّنا أن أصل الإجماع فائدته ظنية، فكذا القول في تفاصيله. انتهى.
وبهذا يظهر أن الراجح حجيته عندهم.
[ص 168] وثانيًا: هذا الإجماع منقول عن أهل الأصول فقط، فهل إجماعُهم وحدَهم كافٍ في هذه المسألة؟ فنقول:
قال الشوكاني أيضًا
(1)
:
الإجماع المعتبر
في فنون العلم هو إجماع أهل ذلك الفن العارفين به دونَ من عداهم، فالمعتبر في الإجماع في المسائل الفقهية قول جميع الفقهاء، وفي المسائل الأصولية قول جميع الأصوليين، وفي المسائل النحوية قول جميع النحويين، ونحو ذلك. ومَن عَدا أهل ذلك الفن فهو في حكم العوامّ، فمن اعتبرهم في الإجماع اعتبر غيرَ أهلِ الفن، ومَن لا فلا.
وقال
(2)
في بحث اعتبار العامَّة في الإجماع بعد كلامٍ: قال الروياني في "البحر": إن اختصَّ بمعرفة الحكم العلماءُ، كنُصُبِ الزكوات، وتحريم نكاح المرأة وعمَّتها وخالتها، لم يُعتَبر وفاقُ العامّة معهم. وإن اشترك في معرفته الخاصة والعامة، كأعداد الركعات، وتحريم بنت البنت، فهل يُعتبر إجماع العوامّ معهم؟ فيه وجهان، أصحهما: لا يُعتبر، لأن الإجماع إنما يصحُّ عن
(1)
"إرشاد الفحول"(1/ 416).
(2)
المصدر نفسه (1/ 414، 415).
نظرٍ واجتهاد. والثاني: يعمُّ لاشتراكهم في العلم به. قال سليم الرازي: إجماعُ الخاصة هل يُحتاج معهم فيه إلى إجماع العامة؟ فيه وجهان، والصحيح أنه لا يُحتاج فيه إليهم. قال الجويني: حكم المقلِّد حكم العامّي في ذلك، إذْ لا واسطةَ بين المقلِّد والمجتهد. اهـ.
فأقول: هذه المسألة التي هي تقليد الأموات مسألة أصولية قطعًا، وقد علمتَ مما نقلناه أن الراجح أن إجماع أهل كل فنٍّ على شيء من مسائله كافٍ في الحجية، بل إذا كانت المسألة مما يختصون بمعرفته كان إجماعهم فيها حجةً وفاقًا، كما هو قضية كلام الروياني.
وثالثًا: قد زعم بعض المجيزين الإجماع في عصره على الجواز، ولا شك أن ذلك بعد إجماع الأصوليين الذي نقله الغزالي، فعلى فرض تسليم هذا الإجماع الثاني هل يكون ناقضًا للأول؟ فنقول:
حكى الشوكاني أيضًا
(1)
في بحث الإجماع على شيء بعد الإجماع على خلافه: أن الجمهور على المنع.
إلى أن قال: وحكى أبو الحسن السهيلي في "آداب الجدل" له في هذه المسألة أنها إذا أجمعت الصحابة على قول، ثم أجمع التابعون على قولٍ آخر، فعن الشافعي جوابان:
أحدهما ــ وهو الأصحُّ ــ: أنه لا يجوز وقوعُ مثلِه، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن أمته لا تجتمع على ضلالة
(2)
.
(1)
"إرشاد الفحول"(1/ 405).
(2)
أخرجه ابن ماجه (3950) من حديث أنس بن مالك، وفي إسناده أبو خلف الأعمى متروك، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(83) من طريق آخر، لكن فيه مصعب بن إبراهيم منكر الحديث. وله شواهد يرتقي بها إلى الحسن لغيره.
والثاني: لو صحَّ وقوعه فإنه يجب على التابعين الرجوعُ إلى قول الصحابة.
قال: وقيل: إن كلّ واحدٍ منهما حقٌّ وصوابٌ، على قولِ من يقول: إن كل مجتهد مصيب. وليس بشيء. انتهى.
[ص 169] وبهذا تبيَّن لك أنه لو ثبت الإجماع الثاني لم يكن حجةً، بل الواجب الرجوع إلى الأول، ومع هذا فالإجماع الثاني عند من ادعاه إنما هو سكوتي، وهو ليس بحجة عند الإمام الشافعي وأحمد وغيرهما، صرَّح به الشافعي في "الأم"
(1)
في باب الأوقات التي يُكره فيها الصلاة.
قال الشوكاني
(2)
في بحث الإجماع السكوتي والمذاهب التي فيه: الأول: أنه ليس بإجماع ولا حجة. قاله داود الظاهري وابنُه والمرتضى، وعزاه القاضي إلى الشافعي واختاره، وقال: إنه آخر أقوال الشافعي. وقال الغزالي والرازي والآمدي: إنه نصُّ الشافعي في الجديد: وقال الجويني: إنه ظاهر مذهبه.
إلى أن قال
(3)
: القول الحادي عشر: إنه إجماعٌ بشرط إفادة القرائنِ العلمَ بالرضا، وذلك بأن يوجود من قرائن الأحوال ما يدلُّ على رضا
(1)
(10/ 109، 110 ضمن "اختلاف الحديث").
(2)
"إرشاد الفحول"(1/ 399، 400).
(3)
المصدر نفسه (1/ 403، 404).
الساكتين بذلك القول. واختار هذا الغزالي في "المستصفى"
(1)
. وقال بعض المتأخرين: إنه أحقُّ الأقوال، لأن إفادة القرائنِ العلمَ بالرضا كإفادة النطق، فيصير كالإجماع القطعي.
القول الثاني عشر: إنه يكون حجةً قبل استقرار المذاهب لا بعدها، فإنه لا أثر للسكوت، لما تقرَّر عند أهل المذاهب من عدم إنكار بعضهم على بعضٍ إذا أفتى أو حكمَ بمذهبه، مع مخالفته لمذهب غيره. وهذا التفصيل لابدَّ منه على جميع المذاهب. اهـ.
أقول: وأنت خبيرٌ أنه لو ثبتَ وقوعُ الإجماع الثاني فإنه لا يكون إلّا سكوتيًا كما مرَّ، وليس هناك قرائن تدلُّ على الرضا، بل بالعكس إن القرائن تدلُّ على أن من كان يرى خلافَ ذلك يمنعه الخوف من المقلّدين الذين هم جمهور الناس وأرباب السَّطوة والأُبَّهة أن يبطشوا به، وقد وقع بعض ذلك، ومع ذلك فهو إنما وقع بعد استقرار المذاهب. هذا على سبيل التنزل، وإلّا فلم يزل في كل عصرٍ جماعةٌ من العلماء يمنعون التقليد رأسًا، فدعوى الإجماع الثاني ساقطة من أصلها.
فإن قلت: قد سلَّمتم أن القاصر قد يضطر إلى نوع من التقليد، وهو في العمل بإخبار المجتهد بعدم المعارض للدليل الذي يُبينه له، وإذَنْ فهذا النوع من التقليد لم يزل موجودًا منذ العصر الأول، ولا يخفى أن القاصر منهم كان يستفتي المجتهدَ فيُفتيه، ويلزم في ذلك هذا النوع من التقليد. ثم إن ذلك القاصر يذهب يعمل بتلك الفتوى طولَ عمرِه، ولم يُنقَل أن أحدًا من
(1)
(1/ 191).
المجتهدين أمرَ مستفتيه أن لا يعمل بفتواه إلّا مدةَ حياته، فإذا ماتَ استفتى غيرَه، بل هذا مما لا ريبَ في عدمه، فهو إجماعٌ أرجح من الإجماع [ص 170] الذي نقلتم عن الغزالي. بل فوقَ ذلك لم يكن كل أحدٍ من أهل البوادي يذهب يستفتي المجتهدَ رأسًا، بل كان يذهب بعضهم فيستفتي أحدَ المجتهدين، ثم يرجع فيُخبر أهلَه وجيرانَه وغيرهم، فيعملون بمقتضاها، وربما أخبر أولادَه فأخبروا أولادهم، واتصل العمل بذلك زمنًا طويلًا. وعلى هذا كان العمل في تلك العصور.
فالجواب أولًا: أننا أسلفنا أن أخْذَ القاصر بقول المجتهد في عدم المعارِض إنما هو من العمل بالرواية، غاية ما فيه أنها رواية لا يجوز العمل بمثلها إلا للضرورة، وعلى هذا فلا تقليدَ هناك، فعملُ القاصر بذلك بعد وفاةِ المجتهد ليس من تقليد الميت في شيء، كما أن عمله بذلك في حياته ليس في شيء من تقليد الحي.
ثم إن عمل غيره من أهله وجيرانه بما أخبرهم به إنما هو عملٌ بالرواية، فهو يذكر لهم ما ذكره له المجتهد من الآية وتفسيرها، أو الحديث وترجمته على سبيل الرواية الصحيحة، ثم يذكر لهم إخبارَ المجتهد له أنه لا معارضَ لذلك على سبيل الرواية الجائزة للضرورة، فيجوز لهم العمل بروايته الصحيحة والاضطرارية، كما جاز له العمل برواية المجتهد كذلك. فإن أبيتم إلّا تسمية العمل الاضطراري بهذه الرواية تقليدًا فقد أسلفنا أننا قد نسلِّم ذلك، ولكنه لا يلزم من جواز هذا النوع من التقليد اضطرارًا جواز مطلق التقليد. وهكذا نقول هنا: لا يلزم من جواز هذا النوع من تقليد الميت جوازُ مطلق التقليد.
ولا يقدح هذا في الإجماع الذي نقله الغزالي، لأن كلامه في التقليد المطلق، أي في العمل بمجرد إخبار المجتهد بدون معرفة دليله، وفي هذا دليل واضح على أن أهل الأصول لم يكونوا يعتبرون عملَ القاصر بإخبار العالم بعدمِ المعارض تقليدًا، وإلّا لم يُطلِقوا القولَ بمنع تقليد الميت بإجماعٍ منهم، وهذا هو عينُ ما قدَّمناه أن ذلك إنما هو نوع من الرواية يجوز العمل بها للضرورة.
* قال المانعون: ولم تقفوا عند هذا، بل أوجبتم التزامَ مذهب إمام معين، وهذا مع عمل القرون الثلاثة في طرَفيْ نقيض، وإنما قاله من قاله لِمَا التزمه من جواز التقليد المطلق، فرأى أن العامي مُعرَّضٌ لتتبع الرخص وللتلفيق، فاحترز بإلزامه مذهبًا معينًا، على خلافٍ بينهم [ص 171] يطول شرحُه. حتى إن بعضهم أجاز تتبُّعَ الرخص مطلقًا وكذلك التلفيق، وفي المثل:"لا يَلِدُ الغلطُ إلا غلطا". ما على فاهم الحق من عدم إباحة التقليد المطلق، بل يجب على العامي سؤال المجتهد، فإنه لا يريد تتبع الرخص، فإن اتفقت له رخصة فهو لم يقصدها عينًا. فإذا كان هناك عدة مجتهدين، فذهب العاميُّ فسأل كلَّ واحدٍ منهم، وعرفَ دليله، فوجدها متعارضة، فالواجب عليه الترجيح بين الأدلة إن اتَّسع عقلُه لذلك، وإلّا فبيْنَ المفتين بالعلم فالورع ونحو ذلك بقدر ما يفهمه. هذا إن ذهب فاستفتى كلَّ واحدٍ منهم، أما إذا اكتفى بسؤال واحدٍ منهم وهو الأولى له، فإنه يعمل بفتواه، وإن بلغَه أن غيره ــ ولو أرجح منه ــ يخالفه في ذلك.
وأما التلفيق فإنه لا محذور فيه لإجماع أهل القرون الأولى على عدم
التزام مفتٍ واحدٍ، بل تَعرِض لأحدهم مسألة في نواقض الوضوء كخروج الدم، فيذهب فيستفتي أحدَ العلماء فيُفتِيه بأنه لا ينقُض، ثم تَعرِض له مسألة في مسّ الفرج، فيذهب فيستفتي عالمًا آخر، فيُفتيه بعدم النقض، فيذهب فيتوضأ ويخرج منه دمٌ، فلا يعتبره ناقضًا بناءً على فتوى الأول، ويمسُّ فرجَه ولا يعتبره ناقضًا بناءً على فتوى الثاني، ويُصلِّي بذلك الوضوء مع أنه قد يكون المفتي الأول يرى النقضَ بمس الفرج، والثاني يرى النقض بخروج الدم. فكان جميع القاصرين في تلك الأزمنة معرَّضين للتلفيق كما ترى، والصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومَن بعدهم من جميع العلماء لا يجهلون ذلك. ولم يكن أحدٌ منهم يُلزِم العاميَّ أن لا يستفتي إلّا مفتيًا واحدًا، ولم يكن أحدٌ منهم يُلزِمُ العاميَّ إذا جاء يستفتيه عن شيء من نواقض الوضوء أن يسمع منه جميع المسائل المتعلقة بنواقض الوضوء، فضلًا عن بقية أحكام الوضوء، فضلًا عن الصلاة، وهذا يقتضي إجماعَهم على أنه لا حرجَ في التلفيق.
وإذا تأملتَ ما قدّمناه من أن المستفتي ليس مقلِّدًا للمفتي في شيء، وإنما هو عاملٌ بالدليل، اتضح لك أنه لا معنى لخشية التلفيق، لأنه في حكم المجتهد إذا أداه اجتهادُه إلى صورةٍ ملفَّقةٍ من مذهبَيْ مجتهدين ممن قبله، ولا حرجَ في ذلك اتفاقًا، فكذا هذا. نعم، وكما أن الإجماع المذكور حجة واضحة [ص 172] في عدم الحرج في التلفيق على الصفة المذكورة، فهو حجة على عدم الحرج في التلفيق حتى تتركَّب صورةٌ مُجمَعٌ على منعها. وهذا ظاهر أنهم كانوا يعتبرون كل جزئية من الجزئيات حكمًا مستقلًّا، فكما أن المجتهد قد يؤدِّيه اجتهاده إلى حكم من أحكام الصلاة يخالف بعضَ المجتهدين ممن قبلَه ويوافق بعضهم، ويؤديه اجتهاده إلى حكم من أحكام
الصيام يخالف فيه من وافقه في الأول ويوافق من خالفَه فيه، فإنه يعمل بما أدَّى إليه اجتهاده، ولا عبرةَ بكونه يتركَّب من عبادته صورة مخالفةٌ للإجماع. وهكذا في الصلاة والوضوء، وهكذا في بعض أحكام الوضوء مع بعض. فكذلك يقال في المستفتي، وإنما يحذر مخالفة الإجماع إذا كان في جزئية واحدة. فتأمَّلْ هذا، فإنه واضح، والله أعلم.
وفوق ما ذُكِر فإنكم حكمتم بانقطاع الاجتهاد، وقد حكى في "إرشاد الفحول" الخلاف في ذلك، حتى قال
(1)
: وقالت الحنابلة: لا يجوز خلوُّ العصر عن مجتهدٍ، وبه جزم أبو إسحاق والزبيري، ونسبه أبو إسحاق إلى الفقهاء. قال: ومعناه أن الله تعالى لو أخلى زمانًا من قائم بحجةٍ زال التكليف، إذ التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة، وإذا زال التكليف بطلت الشريعة. قال الزبيري: لن تخلُوَ الأرضُ من قائمٍ لله بالحجة في كل وقتٍ ودهرٍ وزمانٍ، وذلك قليل في كثير، فأما أن يكون غير موجودٍ كما قال الخصم فليس بصواب، لأنه لو عُدِمَ الفقهاء لم تَقُم الفرائضُ كلُّها، ولو عُطِّلت الفرائضُ كلها لحلَّتِ النقمةُ بالخلقِ، كما جاء في الخبر:"لا تقوم الساعةُ إلّا على شِرار الناس"
(2)
. ونحن نعوذ بالله أن نُؤخَّر مع الأشرار. انتهى.
قال ابن دقيق العيد: هذا هو المختار عندنا، لكن إلى الحدّ الذي ينتقض به القواعد بسبب زوالِ الدنيا في آخر الزمان.
(1)
(2/ 1037).
(2)
أخرجه مسلم (2949) من حديث ابن مسعود.
وقال في شرح خطبة "الإلمام"
(1)
: والأرض لا تخلو من قائمٍ لله بالحجة، والأمة الشريفة لابدَّ لها من سالكٍ إلى الحقّ على واضح المحجة
(2)
، إلى أن يأتي أمرُ الله في أشراط الساعة الكبرى. انتهى.
وما قاله الغزالي رحمه الله من أنه قد خلا العصرُ عن المجتهد، قد سبقَه إلى القول به القفَّال، ولكنه ناقَضَ ذلك فقال: إنه ليس بمقلِّدٍ للشافعي، وإنما وافقَ رأيُه رأيَه، كما نقلَ ذلك عنه الزركشي
(3)
، وقال: قول هؤلاء القائلين بخلوّ العصر عن المجتهد ممّا يُقضَى منه العجبُ، فإنهم إن قالوا ذلك باعتبار المعاصرين لهم فقد عاصر القفال والغزالي والرازي والرافعي من الأئمة القائمين بعلوم الاجتهاد على الوفاء والكمال جماعة منهم. [ص 173] ومن كان له إلمامٌ بعلم التاريخ، والاطلاعُ على أحوال علماء الإسلام في كل عصرٍ، لا يخفى عليه مثلُ هذا، بل قد جاء بعدهم من أهل العلم مَن جمعَ الله له من العلوم فوقَ ما اعتدَّه أهلُ العلم في الاجتهاد.
وإن قالوا ذلك لا بهذا الاعتبار، بل باعتبار أنَّ الله عز وجل رفعَ ما تفضَّل به على مَن قبلَ هؤلاء من هذه الأمة
(4)
من كمال الفَهم، وقوة الإدراك، والاستعداد للمعارف، فهذه دعوى من أبطل الباطلات، بل هي جهالةٌ من الجهالات.
(1)
يراجع "البحر المحيط"(6/ 208).
(2)
في الأصل: "الحجة" تبعًا للمطبوعة القديمة من "إرشاد الفحول"، والتصويب من الطبعة المحققة (2/ 1038) و"البحر المحيط".
(3)
المصدر السابق (6/ 208، 209).
(4)
في الأصل: "الأئمة" تبعًا للمطبوعة القديمة، والمثبت من الطبعة المحققة (2/ 1038).
وإن كان ذلك باعتبار تيسُّر العلم لمن قبل هؤلاء المنكرين وصعوبته عليهم وعلى أهل عصورهم، فهذه أيضًا دعوى باطلة، فإنه لا يخفى على من له أدنى فهمٍ أن الاجتهاد قد يسَّره الله تعالى للمتأخرين تيسيرًا لم يكن للسابقين، لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دُوِّنتْ، وصارت في الكثرة إلى حدٍّ لا يُمكِن حصْرُه، والسنة المطهَّرة قد دُوِّنتْ، وتكلم الأئمة على التفسير والتجريح والتصحيح والترجيح بما هو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد. وقد كان السلف الصالح ومَن قبلَ هؤلاء المنكرين يرحلُ للحديث الواحد من قُطْرٍ إلى قُطر. فالاجتهاد على المتأخرين أيسرُ وأسهلُ من الاجتهاد على المتقدمين، ولا يخالف في هذا مَن له فهمٌ صحيح وعقلٌ سويٌّ.
وإذا أمعنتَ النظر وجدتَ هؤلاء المنكرين إنما أُتُوا من قِبَلِ أنفسهم، فإنهم لما عكفوا على التقليد واشتغلوا بغير علم الكتاب والسنة حكموا على غيرهم بما وقعوا فيه، واستصعبوا ما سهَّله الله على من رزقه العلم والفهم، وأفاض على قلبه أنواعَ علوم الكتاب والسنة.
ولما كان هؤلاء الذين صرَّحوا بعدم وجود المجتهدين شافعية، فها نحن نصرِّح لك مَن وُجِد من الشافعية بعد عصرهم ممن لا يخالف مخالفٌ في أنه جمعَ أضعافَ علوم الاجتهاد، فمنهم: ابن عبد السلام، وتلميذه ابن دقيق العيد، ثم تلميذه ابن سيد الناس، ثم تلميذه زين الدين العراقي، ثم تلميذه ابن حجر العسقلاني، ثم تلميذه السيوطي
(1)
. فهؤلاء ستة أعلام، كلُّ
(1)
كونه تلميذ ابن حجر فيه نظر، فقد كان عمر السيوطي ثلاث سنوات عند وفاة الحافظ. وفي "شذرات الذهب" (8/ 52): أحضره والده مجلسَ الحافظ ابن حجر.
واحدٍ منهم تلميذُ مَن قبلَه، قد بلغوا من المعارف العلمية ما يَعرِفه مَن يعرف مصنَّفاتهم حقَّ معرفتها، وكلُّ واحدٍ منهم إمام كبير في الكتاب والسنة، محيطٌ بعلوم الاجتهاد إحاطةً متضاعفةً، عالمٌ بعلومٍ خارجةٍ عنها. ثم في المعاصرين لهؤلاء كثيرٌ من المماثلين لهم، وجاء بعدهم من لا يقصر عن بلوغ مراتبهم، والتعدادُ لبعضهم فضلًا عن كلِّهم يحتاج إلى بسطٍ طويل.
وقد قال الزركشي في "البحر"
(1)
ما لفظه: لم يختلف اثنان في أن ابن عبد السلام بلغَ رتبةَ الاجتهاد، وكذلك ابن دقيق العيد. انتهى.
و[حكاية] هذا الإجماع من هذا الشافعي [ص 174] يكفي في مقابلة حكاية الاتفاق من ذلك الشافعي الرافعي.
وبالجملة، فتطويل البحث في مثل هذا لا يأتي بكثيرِ فائدة، فإن أمرَه أوضحُ من كلِّ واضح، وليس ما يقوله مَن كان من أُسَراء التقليد بلازمٍ لمن فتح الله عليه أبوابَ المعارف، ورزقه من العلم ما يخرج به عن تقليد الرجال، وما هذه بأولِ فاقرةٍ جاء بها المقلدون، ولا هي بأول مقالةٍ باطلةٍ قالها المقصِّرون.
ومن حَصَر فضلَ الله تعالى على بعض خلْقِه، وقصَرَ فهمَ هذه الشريعة المطهرة على مَن تقدَّم عصرُه، فقد تجرَّأ على الله عز وجل، ثم على شريعته الموضوعة لكل عباده، ثم على عباده الذين تعبَّدهم الله بالكتاب والسنة.
ويالله العجب من مقالاتٍ هي جهالاتٌ وضلالاتٌ، فإن هذه المقالة تستلزم رفعَ التعبد بالكتاب والسنة، وأنه لم يبقَ إلّا تقليد الرجال الذين هم
(1)
(6/ 209).
متعبدون بالكتاب والسنة كتعبد من جاء بعدهم على حدٍّ سواء، فإن كان التعبد بالكتاب والسنة مختصًا بمن كانوا في العصور السابقة، ولم يبقَ لهؤلاء إلا التقليد لمن تقدَّمهم، ولا يتمكنون من معرفة أحكام الله من كتاب الله وسنة رسوله، فما الدليل على هذه التفرقة الباطلة والمقالة الزائفة؟ وهل النسخُ إلا هذا؟ ! سبحانك هذا بهتانٌ عظيم. انتهى
(1)
.
وقد نقلتُ هذا الكلام بطوله لما فيه من التحقيق النيِّر.
وبعد، فلا يخفاك أن الحنابلة مُطبِقون على عدم خُلوِّ الأرض من مجتهد، وأكثر أصحابنا الشافعية معهم، وثَمَّ على وجه الأرض طوائفُ من المسلمين لم يزالوا ولا يزالون يقولون بدوام الاجتهاد، كالهادوية في اليمن وغيرهم، فما معنى حكاية الرافعي الاتفاق؟ مع أن عبارته غير جازمة بذلك، ولفظها كما في "ارشاد الفحول"
(2)
: "الخلقُ كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم".
وذكر الشوكاني عقبهَا ما لفظه
(3)
: قال الزركشي: ولعله أخذه من كلام الإمام الرازي، أو من قول الغزالي في "الوسيط":"قد خلا العصر عن المجتهد المستقل". قال الزركشي: ونقلُ الاتفاق عجيب، والمسألة خلافية بيننا وبين الحنابلة، وساعدهم بعضُ أئمتنا. اهـ.
ومن تأمَّل ما شرطَه العلماء في المجتهد علم بطلان القول بخلوّ الزمان
(1)
أي كلام الشوكاني في "إرشاد الفحول" الذي بدأ باقتباسه قبل أربع صفحات.
(2)
(2/ 1036).
(3)
المصدر نفسه (2/ 1037). وانظر "البحر المحيط"(6/ 207).
عنه إلى انتقاض قواعده. وقد بيَّن السيوطي في رسالته "الرد على من أخلدَ إلى الأرض، وجهلَ أن الاجتهاد في كل عصرٍ فرض" أقوالَ هؤلاء الزاعمين أنه قد خلا الزمانُ من المجتهد، وأنهم إنما أرادوا المجتهد المستقل لا المجتهد المطلق، ولعله يأتي نقلُ ذلك إن شاء الله تعالى.
[ص 175] ثم ظهر لي أن الإمام الغزالي رحمه الله مصيبٌ في قوله: "قد خلا العصر عن المجتهد المستقل"، وأراد بالمستقل من لا ينتسب إلى مذهبٍ من المذاهب، وهذا صحيح، فإن المذاهب الأربعة لما انتشرت واستفحل أمرها عَمَّ الانتسابُ إليها أكثرَ الناس، ثم صار تعليم العلم إنما هو على طرقها، فطالب العلم لابدَّ أن يكون أبوه منتسبًا إلى أحدها، فيُرسِله إلى العلماء المنتسبين إلى مذهبه، فينشأ على ذلك المذهب، ويطلب العلم على طريقه، ثم إذا بلغ رتبةَ الاجتهاد لم تَزُلْ عنه تلك النسبة، وإن صار إنما يعمل باجتهاده ويخالف ذلك المذهب في كثير، وهو بنفسه لا يحبُّ أن تزول عنه النسبة خشيةً من الجهّال أن ينسبوه إلى الضلال، لاسيَّما والمناصب والمراتب اللائقة بأهل العلم قد صارت مختصَّةً بالمنتسبين إلى المذاهب، فيرى بقاءه منتسبًا ليتولَّى بعض تلك المناصب، فيأخذ منه ما يقتاتُه في مقابل معرفته بذلك المذهب إن كان الوقف خاصًّا ورأى صحته وصحة التخصيص، أو في مقابلِ قيامِه بتلك الوظيفة العلمية، أو غير ذلك. وهو مع ذلك يجتهد ويُصرِّح بمخالفته لمذهبه في مؤلفاته، وغير ذلك، ولكنه من حيث الاعتبار لا يزال في عداد أهل ذلك المذهب، فهو منتسبٌ على كل حال، وبهذا الاعتبار لا يُطلق عليه مستقل. وسائر المجتهدين في عصر الغزالي وقبلَه بكثير كلهم منتسبون على هذا.
فهذا مراد الغزالي في قوله: "إن العصر خلا عن المجتهد المستقل"، وإن لم يفهمها من جاء بعده، فبنى عليها انقطاع الاجتهاد. وكيف يُعقَل أن الغزالي يقول بانقطاع الاجتهاد وهو نفسه يجتهد في أصول الدين وأصول الفقه، وله فيهما المؤلفات العديدة، والناس فيهما عيالٌ عليه، والاجتهاد فيهما يُشتَرط له شروط الاجتهاد في الفروع بالأولى.
ومع ذلك فهو القائل
(1)
: إنه يكفي المجتهدَ من الحديث أن يكون عنده "سنن أبي داود"، ويكفيه أن يَعرِف مواقعَ كلّ بابٍ، فيراجعه وقتَ الحاجة.
[ص 176] والحاصل أنهم فهموا أن "المستقلّ" في عبارته قيدٌ للاجتهاد المدلول عليه بقوله "المجتهد"، وأنه يريد المستقلّ في اجتهاده، أي المجتهد اجتهادًا مستقلًّا. والذي أراه أنه ليس بقيدٍ للاجتهاد، وإنما هو قيدٌ للشخص، أي الشخص الجامع بين الاجتهاد والاستقلال عن الانتساب، والذي رأيتُه هو المتعين جمعًا بين أقوال هذا الإمام، وعليه فقوله بمعزِلٍ عن انقطاع الاجتهاد، إذ الاستقلال في كلامه أمرٌ اعتباري، يكفي في وجوده أن يقوم أحد أولئك المجتهدين المعدودين في أتباع المذاهب، فيصرِّح باتصافه بالاجتهاد، ويُعلِن به على رؤوس الأشهاد، فيزول ذلك الانتساب اللفظي، ويصير مستقلًّا لفظًا ومعنًى. وإذ لم يقع هذا التصريح في عصره فما المانع أن يقع بعده؟ وليس من شرط المستقل أن لا يطلب العلم
(2)
على طريقة أحد المذاهب، بل يطلبه على طريق مستقلة، ومع ذلك فلا مانعَ من أن يوجَد من يطلب العلم على طريق مستقلة.
(1)
انظر "المستصفى"(2/ 351).
(2)
في الأصل: "العالم"، وهو سبق قلم.
وقد قيل: إن المراد بالمجتهد المستقل المنفيّ هو الذي يقوم بإنشاء مذهب جديد. وهذا أيضًا أمر اعتباري، فما المانع أن يُوجَد مجتهد ذو جاهٍ يكثُر تلامذتُه، فيؤسِّسون له مذهبًا؟
وحاول بعضهم أن يجعل الفرق بين "المستقلّ" المنفي في كلام الغزالي في "الوسيط"، و"المطلق" المعترف بوجوده
(1)
، [ص 177] وحاصلُه أن أحكام الشريعة فروع منتشرة، وإنما يتم الاجتهادُ فيها بضبطها بأصول وقواعد تُرَدُّ إليها وتُحمَل عليها، كقولهم: العام يُبنى على الخاصّ أو لا يبنى؟ المطلق يُحمَل على المقيَّد أو لا يُحمَل؟ وهكذا بقية الأصول المبيَّنة في أصول الفقه. فالأئمة السابقون قد تتبعوا الأدلة الشرعية واستقرأوها، ثم أصَّلُوا تلك الأصول، وجعلوا لكل أصلٍ عبارةً تدلُّ عليه صارت بعد ذلك حقيقةً عرفيَّةً، فمن فعلَ مثلَ ذلك كان مجتهدًا مستقلًّا. ولا شكَّ أن تلك الأصول والقواعد محصورة، وقد أتى عليها أولئك الأئمة. فالمجتهد اليوم لا يُمكِنه تأصيلُ أصلٍ لم يَسبِقُوه إليه، فهو عيالٌ عليهم في ذلك.
وبهذا يتبيَّن أن العصر قد خلَا عن المجتهد المستقل، ليس لقصور الناس، بل لاستحالة أن يأتي أحدٌ بأصولٍ أخرى بعد أن استُغرِقت الأصول الممكنة. فالمجتهد في هذه العصور إذا اجتهد في بناء العام على الخاص، فإن ترجَّح له البناء فهو مذهب الشافعي، وإن ترجَّح له عدمُ البناء فهو مذهب أبي حنيفة، وهكذا في سائر الأصول.
وهذا الفرق كما تراه اعتباريٌّ، وذلك أن الأئمة المتقدمين لم يأتوا بشيء
(1)
بعده بياض في الأصل في بقية الصفحة. والكلام متصل بما بعده.
من عندهم، بل ولم يعتبروا أصلًا لم يُسبَقُوا إلى اعتباره، ولو فعلوا ذلك ــ وحاشاهم ــ لكانوا من شِرار خَلْق الله تعالى. بل ولا يُحْوِج تأصيلُ تلك الأصول إلى استقراء، لأن لها دلائلَ خاصَّةً تدلُّ عليها، بخلاف الأصول اللغوية.
مثاله: كون الحال منصوبًا بشرائط، فإن أئمة النحو إنما عرفوا ذلك باستقراء كلام العرب، وبعد الاستقراء جعلوا له هذا الضابط، وصار الناس بعدهم لا يتوصلون إلى معرفة اللغة إلّا بواسطة تلك الضوابط.
بخلاف أصول الفقه، فإن منها ما هو مبني على العقل كالمجمل والمبيَّن، والعقل لا يحتاج إلى استقراء.
ومنها ما هو مبني على اللغة، وهو لا يحتاج إلى استقراء، بل مَن عرفَ اللغة عرفَه، ومعرفة اللغة تحصُلُ بدون معرفة كلام الأئمة في أصول الفقه.
فمن عرف علومَ اللغة عرفَ أن صيغة "افْعَلْ" أصلها للطلب الجازم، وتجيء لغيره بقرينةٍ عليه، وأن نحو {لَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] يدلُّ على النهي عن الضرب بالأولى، ونحو "في الغنم السائمة زكاةٌ"
(1)
يدلُّ على أن غير السائمة لا شيء فيها. وتعلُّم اللغة هذه الأزمان ليس موقوفًا على تعلُّم ما قرَّره الأئمة في أصول الفقه، بل على أصول علوم اللغة التي أصَّلَها غيرُهم.
ومنها ما هو مبني على الشرع، وهذا لا يحتاج إلى استقراء، بل عليه
(1)
في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة: "في سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة
…
". أخرجه أبو داود (1567) وغيره. ونحوه في كتاب أبي بكر الصديق لأنس، كما رواه البخاري (1454).
دليلٌ خاصٌّ، كما يُستدَلُّ للقياس بقوله تعالى:{فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]. [ص 178] فالأصول المبنية على الشرع لها أدلة خاصة تدلُّ على نفس الأصل، بخلاف الضوابط التي وضعها أئمة اللغة، فليس لها أدلة كذلك، وإنما كان أمامَهم كلمات العرب المنتشرة، فلم يتم لهم وضعُ تلك الضوابط إلّا باستقرائها.
ولو فُرِض أن بعض الأصول تحتاج إلى استقراء الأدلة الشرعية، فالأدلة الشرعية في هذه العصور باقية مجموعة متيسِّرٌ الاطلاعُ عليها أكثر مما كان متيسِّرًا للأئمة السابقين، فاستقراء العالمِ لها اليومَ أتمُّ من استقرائهم، بخلاف الأصول اللغوية.
وأما كون المجتهد اليوم إذا اجتهد في بناء العام على الخاص فلابدّ أن يوافقَ أحدَ الإمامين، فهكذا الإمامانِ لكلٍّ منهما سلفٌ من الصحابة رضي الله عنهم، وإلّا لكان أحدهما خارقًا للإجماع. فلو قصرنا لفظ "المجتهد المستقل" على مَن لم يُسبَقْ إلى اعتبار ذلك الأصل لم يكن إلّا من الصحابة، بل والصحابة أيضًا لابدَّ أن يكون لها سلفٌ من الكتاب والسنة، فلكلٍّ من المختلفين دليلٌ، وإن كان الحقُّ في نفس الأمر واحدًا، إلَّا أنَّ كلًّا منهما يرى الموافق للكتاب والسنة هو ما رآه.
نعم، الأئمة السابقون انفردوا بجمع تلك الأصول في تآليفَ، وبيَّنوها وبيَّنوا دلائلَها من العقل واللغة والشرع، ووضعوا لكلِّ أصلٍ عبارةً تدلُّ عليه، فكانوا ينظرون في أدلة العقل والشرع واللغة أولًا، ثم يذكرون الأصلَ ويختارون له عبارةً تدلُّ عليه. والمجتهدون المتأخرون ينظرون في تلك الكتب أولًا، ثم ينظرون في أدلة العقل والشرع واللغة.
وأيضًا فالأئمة المتقدمون كانوا عارفين باللغة سليقةً، فلم يكونوا محتاجين إلى تعلُّم علوم اللغة على ما وضعه علماؤها. وعلى كل حال فالفرقُ كما قدَّمنا اعتباري. [ص 179] فإن جمعهم لتلك الأصول وبيان دلائلها وإن كانت مزيةً إلّا أنها لا تقتضي كونَ نظرهم في الأحكام أصوبَ من نظر المتأخرين، بل الأمر بالعكس، فإن في جَمْع المتقدمين لها وعنايتهم بها كابرًا عن كابرٍ [ما] يُقرِّب للمجتهد المتأخر المسافةَ، ويَجمعُ له المتشتِّت، فتكون الأدلةُ جميعًا نُصْبَ عينَيْه، وتجتمعُ له معارفُ الأولين جميعًا. وكذلك تعريفُهم تلك الأصول بعباراتٍ استحسنوها لا يَقدحُ في اجتهاد غيرِهم، بل الأمر بالعكس لما ذكرنا.
وأما كونهم كانوا عارفين باللغة سليقةً ففيه نظرٌ، ومع ذلك فالمتأخر يتمكن من بلوغ درجتهم فيما يحتاج إليه الشرع من اللغة، بل ربما كان المتأخر أولى بذلك، فإن المتقدمين لم يكونوا عارفين بلغة العرب كلها على اختلافها، غايتُهم أن يَعرِفوا لغة أهل الأرض التي هم فيها، بخلاف المتأخرين، فإن أئمة اللغة جمعوا لهم سائر فروع اللغة كما هو معروف في كتبهم.
وعلى كلّ حالٍ فهذه فروقٌ لا تُعتبر في الاجتهاد، ولنرجعْ إلى سياق كلام المانعين.
* [ص 180] قال المانعون: ومع هذا كلِّه فإنكم أقمتم كلامَ أئمتكم مقامَ كلام الله تعالى وكلام رسوله في جعله أصلًا، يُؤخذ بظاهره وإيمائه وإشارته ومفهومه، ويُقاس عليه. وهكذا متأخرو أصحابِه يقيمون كلامَ مَن تقدَّمهم مقام كلام الله تعالى وكلام رسوله وكلام الإمام، وهكذا يتسلسل التقليد
طبقة بعد طبقة، مع الإعراض عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فاختلط ــ ولاسيّما في كتب المتأخرين ــ كلامُ الإمام بكلام أصحابه فيما استنبطوه من كلامه بكلام مَن تبعَهم واستنبط من كلامهم، إلى آخر السلسلة.
فكم من مسألةٍ ورد فيها حكمٌ عن الإمام، وصحَّ الدليلُ بخلافها، وعمل به غيرُه من الأئمة، فأعرض أصحابه عن الدليل وعملوا بكلامه، مع أنه كان لهم العملُ بالدليل وعدُّه من مذهب الإمام، لِمَا تواتَر عن الأئمة من قولِ كلٍّ منهم:"إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي" أو معناه. فإن لم تطمئن نفوسهم إلى هذا فكان لهم أن يُقلِّدوا في ذلك الحكم غيرَه من الأئمة المتفق عليهم.
وكم من مسألةٍ لم يَرِدْ فيها عن الإمام نصٌّ، وحكمها في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله واضح، وعمل به غيرُه من الأئمة
(1)
= لم يلتفت الأتباع إلى الدليل الشرعي بل استنبطوا حكمًا من كلام الإمام، ولم يعبأوا بموافقة
(2)
الدليل الشرعي ومن عَمِل به أو مخالفته.
وكم من مسألةٍ لم يَرِد فيها عن الإمام ولا عن أصحابه شيء، ودليلُها في كتاب الله أو سنة رسوله، وأخذ به غيرُه من الأئمة، فجاء متأخرو أتباعه فأعرضوا عن الدليل الشرعي ومَن عمل به، ونظروا في كلام مَن تقدَّمَهم مِن أتباع ذلك المذهب، فاستنبطوا منه حكمًا ما، غير ملتفتين إلى موافقة الدليل الشرعي أو مخالفته.
(1)
قوله: "وعمل به غيره من الأئمة" ألحقه الشيخ بين الأسطر، فوضعناه في مكانه المناسب.
(2)
في الأصل: "بمخالفة
…
أو مخالفته" سبق قلم.
وهكذا اتخذوا القرآن مهجورًا، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، والتمسوا الهدى في غير كتاب الله تعالى. وليتَهم إذْ فعلوا ذلك تركوا الدليل المخالف لهم من الكتاب والسنة ظِهْريًّا، وجعلوه نسيّا منسيًّا، لكنهم يعودون عليه بالتأويل والتحويل، والتحريف والتبديل، وصَرْفِه عن ظاهره بالوجوه البعيدة حتى يردُّوه عَسْفًا إلى موافقة ما التزموه من الأقوال التي تخالفه، حتى لقد تجيء عن الإمام أو أحدِ أتباعه عبارةٌ ظاهرها الدلالةُ على حكم، ثم نجد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله عبارةٌ ظاهرها الدلالةُ على خلاف ذلك، فيقدِّمون ما ظهر لهم من عبارة الإمام أو أحد أصحابه على ما يظهر من عبارة الكتاب أو السنة، وإن كانت دلالة الآية أو الحديث أظهر وأرجح من دلالة عبارتهم. بل لو اتفق ورود نصٍّ قرآني لا يقبل التأويل أصلًا أو نصّ من السنة المتواترة كذلك ما رفعوا له رأسًا. وبعضهم يجيب عن ذلك بقوةٍ: هذا منسوخ، فإن طُولِب بالناسخ قال: لا أعلمه، ولكن قول إمامي بخلافه يدلُّ على اطّلاعه على ناسخه، حتى لو لم يكن قول إمامه نصًّا في ذلك، بل مما استنبطه بعض أصحابه.
[ص 181] فكأيِّنْ من دليلٍ من كتاب الله تعالى أو من سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أجلب عليه مقلِّد بخيله ورَجله، وعدا عليه بنَابِه وظُفْرِه، فغادرَه يتشحَّطُ في الدم، ووَدَعَه قائلًا:
[فخرَّ صريعًا] لليدين وللفم
(1)
(1)
عجز بيت في شعر عدد من الشعراء، منهم جابر بن حُنَي كما في "شرح المفضليات" للأنباري (ص 441)، وربيعة بن مكدم كما في "الأغاني"(16/ 67)، والمكعبر الأسدي كما في "الاقتضاب"(ص 439)، وعصام بن المقشعر كما في "معجم الشعراء" للمرزباني (ص 270).
لدى حيث ألقتْ رحلَها أمُّ قَشْعم
(1)
أتدري أيها الشيخ أيَّ دمٍ أرَقْتَ؟ وأيَّ أديم مزَّقْتَ؟ أتحسبُ فريستَك هي ذلك الدليل المخالف لهواك؟ كلَّا فإنه حجة من حُجج الله تعالى على خلقه، وحجج الله تعالى معصومة:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]. إنما مُثِّلَ لك دينُك وإيمانُك، فعليهما كان عدوانك! ومن دَمِهما ارتوى سيفُك وسنانُك! وبمَصْرعِهما اشتفَى هواك وشيطانُك! وقد كنتَ في غِنًى عن هذا، فإنك تقول: إنك مقيَّدٌ بمذهبك، لا يلزمك الخروج عنه ولو ثبتَ الدليل، ولا يلزمُك إقامةُ دليلٍ على صحة مذهبك ولا دَفْعُ دليلٍ يخالفه، وتقول: إن فَهْمَ الأدلةِ كما ينبغي خاصٌّ بالمجتهد. فما حملَكَ بعد ذلك أن تسعَى لتكلُّف الاحتمالات البعيدة لمناصرة مذهبك، وتعدو على الأدلة المخالفة له فتؤوِّلها وتحوِّلها وتحرِّفها عن مواضعها؟ فهل هذا إلّا التناقض المحض والتعصب البحت؟ وهل هذا إلّا غِلٌّ في قلبك على كل ما خالف مذهبك وغلوٌّ في التعصب له؟ عكس ما ورد في الحديث الصحيح:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به"
(2)
.
نعم، التأويل جائزٌ للمجتهد عند تعارض الأدلة للجمع بينها، مع تحرِّي الحقّ وتوخِّي الأرجح في نفس الأمر، أما في غير ذلك فلا، ولا كرامة.
[ص 182] بالله عليك تدبَّرْ قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي
(1)
عجز بيت لزهير من معلقته.
(2)
أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(15) والخطيب في "تاريخ بغداد"(4/ 369) والبغوي في "شرح السنة"(104) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(2/ 394): تصحيح هذا الحديث بعيدٌ جدًّا من وجوه، ثم ذكرها.
مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 46 - 52]. فانظُرْ أين تضعُ نفسَك؟ فإن لنفسك عليك حقًّا، فلا تُلْقِها في مهاوي الهلاك، وقد خلق الله لك سمعًا وبصرًا وفؤادًا، والحق واضح ما عليه حجاب.
[ص 183] وَيْحَك يا مسكين! إن كنتَ من الذين آمنوا فإن الله تعالى خاطبهم بقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 1 - 5].
وقال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 59 - 62].
ما أشبه حالَ المقلدين بقولِ هؤلاء: "إن أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا".
فعلى المؤمن أن يتأدب مع الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما لو كان بحضرته صلى الله عليه وآله وسلم. فانظر يا مسكين كيف حالُك في هذا الواجب؟
ومن العجائب أن المقلدين يتركون النصوص المتواترة عن إمامهم بأنه إذا صحَّ الحديث فهو مذهبه، وأنه راجعٌ عما يخالفه، إلى آخر ما ورد، ويأخذون بمفهومٍ من قوله أو إشارةٍ أو إيماءٍ، أو مجردِ رأي أحدِ أتباعِه. ومن ذلك ما ذكره أصحاب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أن مذهبه جواز تعدد الجمعة في بلد واحدٍ للحاجة، وذكروا أنهم أخذوا ذلك من تقريره لأهل
بغداد، حيث دخلَها والجمعةُ متعددةٌ بها، فلم ينكر ذلك. ومع هذا فنصُّه ظاهرٌ في منع التعدد مطلقًا
(1)
. فلا أدري من أيهما أَعجَبُ؟ أمِن استدلالِهم بتقريرِه أم من تركِهم لنصِّه حيثُ لم يوافقْ هواهم؟ مع كونهم مسجِّلين على أنفسهم أنهم لا يتركون كلامَه ولو ظهرتْ دلالةُ القرآن بخلافه، أو صحَّ الحديث بخلافه، وعاملين بذلك كأنهم لم يعلموا أن تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان حجةً لعصمته صلى الله عليه وآله وسلم، فمن المحال أن يرى أحدًا يفعل شيئًا غيرَ جائزٍ فيسكت عن إرشاده. والشافعي رحمه الله تعالى على فضله لم يَصِلْ إلى هذه الدرجة، ومع هذا فإنه دخلَ بغداد وهي مقرُّ الخلافة، وفيها جماعة مجتهدون هم المُفتون بجواز تعدد الجمعة، فهل يسوغُ للشافعي أن يقول: أيها الناس! لا تعملوا بفتوى هؤلاء العلماء، بل أنا أفتيكم؟ ومع ذلك فهو لا يأمنُ على نفسِه من الضرر. ومع هذا فالجمعتان في بغداد كانت إحداهما في الجانب الشرقي، والأخرى في الغربي، والنهر حائل بين الجانبين، وكلٌّ من الجانبين في حكم بلدٍ مستقل. ومع هذا فقد كان هذا التقرير في القديم، وقد نصَّ في الجديد على خلافه، فقد [ص 184][نصَّ على]
(2)
المنع، أي منع إقامة جمعتين مطلقًا، وأن ذلك هو المتعين
(3)
، لإجماع السلف على عدم التعدُّد مع الحاجة إليه، وبَسَطَ ذلك بما ينبغي أن تراجعه.
فإن قيل: إن الأصحاب رأوا منعَ التعدُّد مشدَّدًا جدًّا، فعَدَلوا عنه.
فالجواب: أنه إن كان التشديد في هذه المسألة هو حكم الله تعالى
(1)
انظر "الأم"(2/ 385).
(2)
ذهب التآكل في رأس الورقة بكلمتين أو ثلاث. ولعلها ما أثبتناه.
(3)
هنا كلمة لم نتبينها، والسياق مستقيم بدونها.
فليس لهم أن يخففوا ما شدَّد الله، وإن لم يكن التشديد فيها هو حكم الله فمن أين فهموا ذلك؟
فإن قالوا: مِن مذهب الشافعي.
قيل لهم: كلَّا، فإنه ليس معكم إلّا إقراره لأهل بغداد، وهذا لا يتمسك به عاقل.
وإن قلتم: مِن قواعده "أن المشقة تَجلِبُ التيسير".
قيل لكم: هذه قاعدة أغلبية، وقد نصَّ في هذا الفرع على خلافها، فكان مخصّصًا لها، ومذهبُه رحمه الله بناءُ العامّ على الخاص. ومع ذلك فالمشقة هنا لم تتحقق، إذ يُمكِن أهلَ البلد الواحد أن يُصلُّوا في الشوارع التي عند الجامع، أو يوسِّعوا جامعَهم، أو يبنوا أوسعَ منه. ويمكنكم أن تقولوا بأن من لم يدرك وُسْعًا في الجامع وحوالَيْه تسقط عنه الجمعة ويجب عليه الظهر، ونحو ذلك.
وإن قلتم: فهمنا ذلك من كتاب الله تعالى وسنة رسوله.
قيل: فما هو؟ سلَّمنا وجودَه، لكن أنتم مقلِّدون لا تُسوِّغون لنفوسكم الخروجَ عن المذهب.
فإن قالوا: إن الإمام رحمه الله قال: "إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي". وفي معنى صحة الحديث صحةُ دليلٍ آخر.
قيل: فهلَّا طردتُم هذا في جميع المسائل؟ فعملتم بقول الإمام فيما وافقَ الكتابَ والسنة، وعدلتم عما لم يوافق إلى عموم قوله:"إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي"، فتكونوا أسعدَ خلقِ الله بمذهبه، ومِن أسعدِ خَلْقِ الله باتباع كتاب الله تعالى وسنة رسوله.
ثم لماذا عدلتم في هذه المسألة عن ذكر هذا، وأوهمتم الناسَ أن تقرير غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. إذا كان قولُ العشرة المبشَّرين بالجنة وجمهور الصحابة لا يُعدُّ دليلَ حجةٍ حتى يُجمع جميعُ الصحابة، فما بالك بواحدٍ من غيرِهم؟ وقد مرَّ أن مدار حجية التقرير على العصمة، وهذا مما لا خلافَ فيه. نعم، إنما عدلتم عن ذلك لئلا يلزمكم ما أُلزِمُكموه من ترك قوله في كل ما خالف الحديث الصحيح، بل ذلك ما ألزمتموه أنفسَكم بكلمة الإسلام وشهادة الحق، فإنّ مِن لازمها أن لا تُحِلُّوا إلّا ما ثبتَ حِلُّه عن الله ورسوله، ولا تُحرِّموا إلّا ما ثبتَ تحريمُه عن الله ورسولِه، وإلّا كنتم كالذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا. والله يهدي مَن يشاء إلى صراطٍ مستقيم.
[ص 28] فصل
الأئمة الأربعة كغيرهم من أئمة السلف قد ثبت عنهم النهيُ عن التقليد من طرقٍ كثيرة، وكان إفتاؤهم للناس على عمل السلف من إجابة السائل بتلاوة الآية أو رواية الحديث، وتفسير ذلك وبيان دلالته. وقد أسند البيهقي
(1)
إلى الربيع قال: سمعتُ الشافعي وسأله رجلٌ عن مسألة، فقال: رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال كذا وكذا، فقال له السائل: يا أبا عبد الله! أتقول بهذا؟ فارتعد الشافعي واصفرَّ وحالَ لونُه، وقال: ويحك! أيُّ أرضٍ تُقِلُّني، وأيُّ سماء تُظِلّني إذا رويتُ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا ولم أقل به؟! نعم على الرأس والعين، نعم على الرأس والعين.
(1)
في "مناقب الشافعي"(1/ 475). وقد تقدم.
وفي "إعلام الموقعين"
(1)
: وقال الحميدي: سأل رجلٌ الشافعيَّ فأفتاه: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا، فقال الرجل: أتقول بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال الشافعي رحمه الله: أرأيتَ في وسطي زُنَّارًا؟ أتُراني خرجتُ من الكنيسة؟ [ص 29] أقول: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتقول لي: أتقولُ بهذا؟ أروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا أقول به؟ !
ومن ذلك ما نُقِل عن ابن عبد البر
(2)
قال: وجاء رجلٌ إلى مالك فسأله، فقال له مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا، فقال الرجل: أرأيتَ؟ فقال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. وقال: لم يكن فُتيا الناس أن يقال لهم: قلتُ هذا، بل كانوا يكتفون بالرواية ويرضون بها.
وإنما نقلنا هذه لتعلموا أن الأئمة الأربعة رحمهم الله كان عملهم في الإفتاء بعمل السلف بتلاوة الآية أو ذِكْر الحديث على ما مرَّ.
وأما منعهم عن التقليد وإرشادهم الناسَ إلى اتباع السُّنَّة وتركِ قولهم، فالآثار عنهم في ذلك كثيرة مشهورة في كتب المؤلفين. وكفى في ذلك ما ذكره المزني في أول "المختصر". وإننا لنعوذ بالله عز وجل من أن نتَّهم الأئمة الأربعة أو غيرهم من العلماء بأنهم يرضَون بتقديم قولهم على قول الله تعالى ورسوله، حاشاهم، بل وحاشا كلّ مسلمٍ من هذا القول الذي هو الكفر الصُّراح والشرك البَواح. وقد كان تعليمهم لتلامذتهم إنما هو بذكر
(1)
(2/ 266). وانظر "مناقب الشافعي"(1/ 474).
(2)
انظر "التمهيد"(8/ 411) و"الاستذكار"(21/ 25).
أدلة الحكم والاستدلال بها، والإجابة عما يخالفها، فكانوا يعلِّمونهم الاجتهادَ. وهذا واضح من كتبهم.
ومع ذلك فتقليد الميت باطلٌ بإجماع أهل الأصول كما مرَّ. على أنكم غيرُ مقلِّدين لهم، فإنهم لم يتكلَّموا في كل مسألةٍ، وإنما أخذ أتباعُهم يُفرِّعون على أقوالهم ويقيسون ويُرجِّحون، فصار التقليد مركبًا بدرجات كثيرة. ثم جاء المتأخرون، فخلطوا الأحكام المأخوذة عنهم بالأحكام المقيسة على كلامهم [و] بالأحكام التي
(1)
اخترعها الأتباعُ بآرائهم، مع أن المقرر في الأصول أن لازمَ [ص 30] المذهب ليس بمذهب. فالأحكام المأخوذة من لازِم قولهم ليست على هذا مذهبًا لهم.
والحاصل أن التقليد من أصله قد قام الدليل على مَنْعه، كما هو مفصَّلٌ في كتب القوم، مما هو معروفٌ متداولٌ بين الناس، ومرَّ في هذه الرسالة وسيأتي فيها إن شاء الله تعالى ما يكفي في ذلك.
ولو سلَّمنا جواز التقليد للأحياء فإنه لا يجوز للأموات، ولو سلَّمنا جوازه للأموات لما جاء إلّا لما ثبتَ من نصوصهم.
* [ص]
(2)
قال المقلدون: هاهنا ثلاثة أمور:
الأول: قولكم: "إن أهل الثلاثة القرون إنما كانت فتواهم بتلاوة الآية أو رواية الحديث" فنقول: هذا ليس على إطلاقه، كيف وفي المجتهدين مَن يقول بمجرد اجتهاده إذا لم يجد دليلًا من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، كما
(1)
في الأصل: "الذي" سهوًا.
(2)
بداية صفحة جديدة ولم ترقم في الأصل.
ورد عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم، منهم الصدِّيق رضي الله عنه وغيره، كانوا إذا جرت واقعةٌ وأعوزَهم الدليلُ من كتاب الله تعالى أو سنةِ رسوله اجتهدوا برأيهم، ثم يقول المجتهد: إن كان صوابًا فمِن الله، وإن كان خطأ فمنِّي ومن الشيطان
(1)
، أو نحو ذلك.
الثاني: قولكم: "إنه لم يكن منهم مَن يلتزم اتباعَ إمامٍ معين". وهذا قد يُنازَعُ فيه، فقد كان لابن عباس أتباعٌ مخصوصون، ولابن مسعودٍ كذلك، وكذا مَن بعدهم. وأما الأئمة الأربعة فاتِّباعُ تلامذتهم لهم لا يخفى على أحد.
الثالث: حكاية إجماع الأصوليين على منع تقليد الميت، لا يخفى ما فيها، فإن تلامذة الأئمة الأربعة لم يزالوا عاملين بمذاهبهم بعد موتهم، وهكذا مَن بعدهم، وهلُمَّ جرًّا.
* قال المانعون: أما الأول فإننا إنما أطلقنا القول لأن الحكم لا يؤخذ إلّا عن دليل من الكتاب والسنة ولو بواسطة القياس، فإن فُرض أن مجتهدًا لزِمَه النظرُ في واقعة، وتعيَّن عليه فورًا، فإنه يسوغ له أن يجتهد رأيَه بما هو الأولى والأشبه بالشرع، ويلزمه حينئذٍ أن يخبر بأن ذلك اجتهاد منه، كما قال الصدِّيق وغيره، وحينئذٍ فيجوز العمل بذلك الاجتهاد للضرورة. فإن ظهر دليلٌ وجب
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنَّف"(19191) وابن أبي شيبة في "المصنَّف"(11/ 415، 416) والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 223) عن أبي بكر، وأخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار"(9/ 214) والبيهقي (10/ 116) عن عمر، وأخرجه أحمد في "المسند"(1/ 431، 4/ 279) وأبو داود (2116) والنسائي (6/ 122) عن ابن مسعود. وانظر "التلخيص الحبير"(4/ 195).
المصير إليه. [31] وسيأتي شرح هذا إن شاء الله في كلام الإمام الشافعي.
وأما الثاني فليس الأمر كما زعمتم، فإن أصحاب ابن عباس لم يكونوا مقلدين له، وإنما كانوا يأخذون عنه العلم بالرواية، وكثيرًا ما يأخذون عن غيره كما يعرفه من مارسَ الآثار، وكذا أصحاب ابن مسعود وغيره، وكذا أصحاب الأئمة الأربعة، كان أخذهم عنهم بطريق الرواية لا غير، كما هو معروف في كتبهم. كيف لا وقد تواتر عن الأئمة الأربعة المنعُ من التقليد مطلقًا؟ وإنما كان تعليمهم لتلامذتهم روايةً للأحاديث وتعليمًا لطُرق الاجتهاد، فدوَّن تلامذتهم كلامهم كذلك ليستعين به مَن بعدهم في حفظ الأحاديث وتعلُّم كيفية الاجتهاد، لا ليجمُدوا عليه، بل بيَّنوا أنهم ــ أي الأئمة ــ يمنعون من التقليد، كما تراه في أول "مختصر المزني". ولهذا ترى أصحاب كل إمام قد خالفوه في عدة مسائل ترجَّح لهم فيها خلافُ ما ترجَّح له. وقال بعض المنتسبين إلى مذهب الشافعي
(1)
: لسنا مقلدين للشافعي، [ص]
(2)
وإنما وافق رأيُنا رأيَه.
وقال السيوطي في رسالته: "الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض"
(3)
ما لفظه: "وللمفتي المنتسب أربعة أحوال، أحدها أن لا يكون مقلِّدًا لإمامه، لا في المذهب ولا في دليله، لاتصافه بصفة المستقلّ، وإنما يُنسَب إليه لسلوكه طريقَه في الاجتهاد، وادَّعى الأستاذ أبو إسحاق هذه الصفة لأصحابنا، فحكى عن أصحاب مالك وأحمد وداود
(1)
انظر ما سبق (ص 78).
(2)
بداية صفحة جديدة لم ترقم في الأصل.
(3)
(ص 114).
وأكثر الحنفية أنهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم تقليدًا لهم، ثم قال: والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا، وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا تقليدًا له، بل لمّا وجدوا طريقَه في الاجتهاد والقياس أسدَّ الطرق، ولم يكن لهم بدٌّ من الاجتهاد، سلكوا طريقَه، فطلبوا معرفةَ الأحكام بطريق الشافعي".
وذكر في تلك الرسالة نحو هذا عن القاضي عبد الوهاب المالكي
(1)
، نقل عنه كلامًا طويلًا في إبطال التقليد، وفي آخره
(2)
:
"فإن قيل: فهذا خلاف ما أنتم عليه من دعائكم إلى درسِ مذهب [مالك] بن أنس واعتقادِه، والتديُّنِ بصحته وفسادِ ما خالفه.
قلنا: هذا ظنٌّ منك بعيد، وإغفال شديد، لأنا لا ندعو من ندعوه إلى ذلك، إلّا إلى أمرٍ قد عرفنا صحته وعلمنا صوابه بالطريق الذي بيَّناه، فلم نخالفْ بدعائنا إليه ما قررناه وعقدنا البابَ عليه".
قلتُ: وكان تعليمهم مذهب مالك حينئذٍ ليس بذكر مجرد قوله، بل بسَرْد حُججِه من الكتاب والسنة وبيانِ ما لها وعليها. وهذا وجه اندفاع المناقضة. ثم إن قول الأستاذ أبي إسحاق في أصحابنا المتقدمين: "إنهم صاروا إلى مذهب الشافعي
…
" إلخ، أي: في معظم الأحكام، فلا ينافي ذلك أنهم قد يخالفونه إذا ترجَّح لهم ما يخالفه. ويحتمل أن يبقى الكلام على إطلاقه، مع اعتبار مذهب الشافعي بما ثبت بالدليل، وإن نُقِل عنه ما
(1)
(ص 123 - 126).
(2)
(ص 126).
يخالفه، عملًا بقوله:"إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي". ومثلُ هذا يقال في كلام القاضي عبد الوهاب ليتم اندفاع المناقضة في كلامه. والله أعلم.
[ص 32] وبهذا عُلِمَ الجواب على الأمر الثالث، فإن تلامذة الأئمة وعدة طبقات ممن بعدهم لم يكونوا متبعين للأئمة اتباعَ تقليدٍ، وإنما كانوا يتعلمون علمه، فيستعينون به على الاجتهاد، وكثيرًا ما يخالفونه كما علمتَ.
وأما مَن جاء بعد ذلك فجمَدَ على التقليد، فاستغنى بكلام الإمام عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله، واتخذ كتابَ الله مهجورًا، ولم يرفع إليه رأسًا، فهؤلاء لا حجةَ في عملهم، لأنهم لم يكونوا مجتهدين فيُعتَبر قولهم في الإجماع، ولا تجوز فتواهم، ولا تُجيزون أنتم تقليدهم، فأنتم وهُم سواءٌ. ومن راجع مؤلفاتهم علم مقدارَ علمهم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله.
على أنه لم يزل في المنتسبين إلى الأئمة علماء أجلَّةٌ عارفون بكتاب الله تعالى وسنة رسوله، ينكرون التقليد ويمنعونه ويتبعون الدليل، كما هو مفصَّل في محالِّه من الكتب المؤلفة في إبطال التقليد. فأولئك في الحقيقة مجتهدون، وإن كان تيَّار التقليد حين طمَّ على الأمة حَرَمَهم من لقب الاجتهاد، وحَرَمَ الأمةَ من الاهتداء بهَدْيهم والانتفاع بعلمهم، إلّا أن آثارهم والحمد لله محفوظة.
تلك آثارنا تدلُّ علينا
…
فانظروا بعدنا إلى الآثار
(1)
نحن لا ننكر أن تقديم المقلدين لقول إمامهم على الدليل الشرعي صادر عن حسنِ ظنٍّ به [ص 33] أنه قد أحاط بأدلة الكتاب والسنة، فرأوا أنه
(1)
البيت في "ريحانة الألباء"(1/ 302) بلا نسبة.
إذا كان صريحُ كلامه أو مفهومه يخالف ظاهرَ آيةٍ أو حديثٍ، فالظاهر أنه إنما ذهب إلى خلاف ذلك لدليلٍ أقوى منه ثبتَ لديه، ولا يلزم من عدم اطلاعنا على دليله عدمُه، لما لا يخفى أن عدم العلم ليس علمًا بالعدم.
وهذا في الحقيقة غلوٌّ مذموم وجهلٌ فاحش، لأن الأصل عدم اطلاعه على هذا الدليل، والأصل أنه لا دليل يخالفه. وكم من حديث لم يعمل به الأئمة لعدم صحته لديهم، وقد صحَّ بعدهم، وسيأتي إن شاء الله.
[ص 34] ومن جنس ما ذكرناه دليل بقاء وقت المغرب إلى غروب الشفق، فإن الشافعي رحمه الله نصَّ على أنه لم يصحَّ لديه، وأنه إن صحَّ وجبَ العمل به. وقد صحَّ بعده ذلك الدليل، بل هو في أعلى درجات الصحة، وصار إليه أصحابه، إما عملًا بالدليل الثابت، وإما ــ وهو الظاهر ــ عملًا بوصيته. وعلى كلٍّ فكان ينبغي لهم أن يُوسِّعوا الدائرة، فيعملوا بكل ما ثبت من الأدلة عملًا بوصية الإمام أنه إذا صحَّ الحديث فهو مذهبه، وأن يعملوا بما صحَّ عنه من نهيه عن تقليده وتقليد غيره، ويقتدوا بسيرته في الإفتاء والتدريس ببيان الحجج.
ومن المعلوم أن السُّنَّة كانت في عهد الأئمة مفرَّقةً بتفرق التابعين في مشارق الأرض ومغاربها، وإنما تتبعها مَن بعدهم ودوَّنها، وذلك من فضل الله تعالى على هذه الأمة.
وأيضًا كيف يسوغ لرجلٍ يؤمن بالله واليوم الآخر تركُ العمل بآية من كتاب الله تعالى أو حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لمجرد احتمالِ أنه ثبتَ عند إمامِه ما يخالفه؟ مع أن الأئمة نصُّوا على أنه إذا صحَّ الحديث بخلاف قولهم وجبَ أن يُرمى بقولهم عرضَ الحائط، وأنهم
راجعون عن ذلك القول المخالف في حياتهم وبعد مماتهم، وأنه إذا صحَّ الحديث فهو قولهم ومذهبهم. فلو أن إنسانًا من المنتسبين إلى أحد الأئمة عملَ بحديث صحيح لكان أسعدَ خلْقِ الله باتباعِ مذهب ذلك الإمام، لأن القول الذي يخالف الحديث إن كان نصًّا من الإمام فهو مرجوع عنه بما ذكر، وإن كان من تخريج الأصحاب فهو أوهى وأوهنُ. هذا علاوةً على أنه أسعدُ خلق الله باتباع دين الله في تلك القضية.
فصل
ويقال لمن ناظر في مسألة التقليد: أمجتهدٌ أنتَ فيها أم مقلِّد؟
فإن قال: مجتهد، كان ذلك تسليمًا منه ببقاء الاجتهاد.
وقيل له: مجتهد مطلق أم في هذه المسألة فقط؟
فإن قال: مُطْلق.
قيل له: فلماذا تُنازع في مسألة التقليد؟
قال: ليترخص به العامة.
قيل له: إنه لا يَسوغُ للعامي العملُ بالتقليد إلا بعد علمه بجوازه، ولا سبيلَ له إليه، لأنه إن ادّعاه عن دليلٍ فالأدلة في ذلك ــ على علّاتها ــ ظنية، يفتقر جوازُ العمل بها إلى اجتهاد، وليس من أهله. أو عن تقليدٍ أيضًا عاد السؤال وهكذا. ونعني بالعلم الظنَّ الذي يُسوِّغ الشرعُ الاستنادَ إلى مثله.
وإن قال: بل في هذه المسألة فقط.
قيل له: هذا متوقّفٌ على القول بجواز تجزِّي
(1)
الاجتهاد، وإنها مسألة
(1)
كذا في الأصل، مصدر تجزَّى بالتسهيل، والأصل:"التجزُّؤ".
خلافية، فمقلدٌ أنت فيها أم مجتهد؟
فإن قال: مقلِّد.
قيل له: فاجتهادك في مسألة التقليد باطل، لبنائه على أصلٍ أنتَ فيه مقلِّد.
وإن قال: بل مجتهد فيها أيضًا.
قيل له: هذا لا يصحّ، وذلك أن كونه يجوز لك الاستناد إلى القول بجواز التجزِّي متوقفٌ على غلبة ظنك بجواز التجزِّي، وغلبةُ ظنك بجواز التجزِّي متوقف على اجتهادك في مسألته اجتهادًا يغلبُ على ظنِّك صحتُه، واجتهادُك فيها اجتهادً يغلب على ظنك صحتُه متوقف على غلبة ظنك بأنك أهلٌ للاجتهاد فيها، وغلبةُ ظنك بأنك أهلٌ للاجتهاد فيها متوقف على غلبة ظنك أنه يجوز لك الاستنادُ إلى القول بجواز التجزِّي، وإنه دَوْر.
وإن قال: أنا في مسألة التقليد مقلِّدٌ أيضًا، أُورِدَ عليه السؤالُ الذي قدَّمنا.
فقيل له: إنه لا يَسُوغ لك الاستنادُ إلى التقليد إلّا بعد غلبة ظنك بجوازه، ولا سبيل لك إليها، لأن غلبة الظن إمّا عن دليل، والأدلة في هذا ــ على علاتها ــ ظنية تفتقر إلى الاجتهاد، ولستَ من أهله؛ وإما عن تقليدٍ، فيعود السؤال، وهكذا.
فإن قال: فإن غلبة الظن بجواز التقليد حصلتْ لي بفتوى مجتهدٍ ذكرَ لي فيها الأدلة الشرعية، وفسَّرها لي، وأخبرني أنه ليس لها معارض معتبر.
قيل له: مجتهد مقيّد أم مطلق؟
فإن قال: مقيّد، أُورِدَ عليه ما مرَّ.
فإن قال: مطلق.
قيل له: فهلَّا صنعت في جميع فروع دينك هكذا، فتكون ناجيًا بيقين؟
ويقال له ولمن تعامَى عن البرهان المتقدم: لمن أنتَ مقلِّد؟ فإن سمَّى أحدًا من الأئمة [ص 60] قيل له: إن هذا الإمام قائلٌ ببطلان التقليد، وهذه نصوصه في كتبه وكتب أصحابه وغيرها، وهذه الأدلة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله وأقوال العلماء، مع عمل السلف الصالح الصحابة فمَن بعدهم والأئمة، تؤيِّد ما قاله من المنع.
فإن قال: لكن بعض العلماء نُسِب إليه القول بجواز التقليد.
قيل له: دعْ "قِيل وقال" العاطل عن الاستدلال، واسمعْ نصوصَ ربك عز وجل ونصوصَ نبيك وأصحابه وأتباعهم وأئمة الدين، ومنهم إمامك. فإن وفَّقه الله تعالى فلله الحمد، وإلّا فقل له: فهاهنا مخرجٌ حسن، وهو أن تعتمد استفتاء علماء الكتاب والسنة الموجودين في عصرك، فتسألهم عما يعرض لك من أمور دينك، فيخبرك المسؤول بالدّليل الذي في المسألة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ويفسِّر لك معناه، ويبيِّن لك وجه الدلالة، ويُخبرك بأنه لا معارضَ له، وأنه أخذ بمقتضاه من الأئمة المشهورين فلانٌ، فيكون عملك بهذه الفتوى عملًا بكتاب الله تعالى وسنة رسولِه وفتوى العالم المعاصر لك، مع اطمئنان قلبك بقول أحد الأئمة المشهورين ما يوافق ذلك، إذ تكون في حكم المقلد له، وأنت ترى صحة تقليده.
فإن قال المتعامي عن البرهان المتقدم: لكن في هذا تبعيض التقليد [ص 26] والتعرض للتلفيق. وقد أخبرني بعض العلماء بمنع ذلك ووجوبِ الالتزام لمذهب إمام معين.
قيل له: هذا التحريج قول باطل، وذُكِر له عملُ الأمة في زمن الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم، مع نصوص العلماء المصرّحين بجواز تجزِّي التقليد ونحو ذلك مما مرَّ بيانه، وذُكِّر بنصوص الكتاب والسنة وعمل السلف في وجوب العمل بالدليل، وبنصوص إمامه وغيره في ذلك، وبُيِّن له أن الإمام الذي يريد أن يلتزم مذهبَه مطلقًا غير معصوم ولا محيط بالشريعة، ولا يدَّعى له ذلك. وقد تواتر عنه ما يفيد ذلك من الاعتراف بأنه معرَّض للخطأ مع عدم إحاطته بالشريعة، وتواتر عنه الأمر بتقديم ما صحَّ من الأدلة على قوله.
ومثلُه في ذلك سائر الأئمة وجميع أفراد الأمة ما عدا نبيها صلى الله عليه وآله وسلم. وذُكِر له بعض الأدلة العقلية والنقلية على ذلك مما بيَّناه في هذه الرسالة وغيره.
وقيل له: إننا نتلو عليك آية من كتاب الله تعالى، أو نروي لك حديثًا صحيحًا عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ونبيِّن لك دلالته على حكم من الأحكام بحسب ما تقتضيه اللغةُ العربية والإطلاقات الشرعية، ونذكر لك مَن أخذ بذلك من الأئمة الأربعة، وأنه لا معارضَ لذلك من الأدلة الشرعية، فيجيء رجلٌ مقلِّد فيخبرك بحكمٍ فهمه من كلام مقلِّد آخر، وأن ذلك المقلد فهمه من كلام مقلِّد ممن تقدَّمه، وهلُمَّ جرًّا، حتى تتصل الحلقات بالإمام المجتهد. ففهْمُ المقلّد الذي أفتاك يحتمل الخطأ، وتلك العبارة التي فهم منها ذلك يحتمل أن يكون لها معارض من العبارات
الأخرى، وقسْ على هذا قولَ مَن تقدمَه وهكذا مَن قبلهم إلى آخر السند، مع أن الإمام المجتهد يحتمل أن يكون أفتى بما أفتى عن دليل ثابت، ويحتمل أن يكون اجتهد في ذلك برأيه لعدم استحضاره للدليل، كما وقع كثير من ذلك لأكابر الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم. وعلى فرض كونه أخذه من دليل ثابت، فذلك الدليل محتملٌ لأن يكون له معارضٌ لم يطلع عليه الإمام واطلعَ عليه غيره، أو لم يثبت عنده وثبتَ عند غيره، كما في وقت المغرب في قول الشافعي، وغير ذلك مع ما تقدم بيانه [ص 27] من أن جَمْع العلم كان صعبًا في القرون الأولى قبلَ تدوينه؛ فأيهما أرجحُ إن كنتَ مسلمًا عاقلًا؟
آلحكمُ المفهومُ من كتاب الله وسنة رسوله كما يبينه لك أحد علماء الكتاب والسنة، العارفين بأحكامهما، والمطلعين على مذاهب الأئمة وأدلتهم، مع إخباره لك أنه لا معارضَ لذلك، وموافقة قول أحد الأئمة المشهورين لذلك، فتكون عاملًا بما فهمتَه من الكتاب والسنة، مع أن الأصل أنه لا معارضَ لذلك، وتأكَّد ذلك بإخبار ذلك العالم، وتَمَّ الاطمئنان بموافقة أحد الأئمة المشهورين؟
أم الحكم المفهوم من عبارة بعض المقلدين، كما يحكيه لك أحد المقلّدين الذين لا يعرفون أحكام كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله، ولا هم مطَّلعون على مذاهب الأئمة وأدلتهم، بل غايتهم معرفة كلام بعض من تقدَّمهم من المقلِّدين الذين هم قريب منهم في ذلك، وهلُمَّ جرًّا، ولاسيَّما مع إصرارهم على مخالفة إمامهم الأعظم في منع التقليد وفي منع العمل بقوله فيما جاء الدليل الشرعي بخلافه، ومع ردِّهم لما ثبت من الكتاب أو السنة بخلاف قول إمامهم أو بخلاف قول أحد أتباعه فيما ادَّعى أنه استنبطه
من قول الإمام أو من قول تابعٍ آخر، وتنقُّصِهم لبقية الأئمة المجتهدين في ردّ أقوالهم جملةً؟
وهذا بخلاف الطريقة التي أَرشدْنا إليها، فإن المستفتي لا يكون رادًّا لحكم من أحكام كتاب الله وسنة رسوله، ولا رادًّا لما قاله إمامُه من مَنْع التقليدِ ومَنْع العمل بقوله فيما جاء الدليل الشرعي بخلافه، ولا متنقِّصًا لأحد الأئمة المجتهدين لكونه إنما يُرجِّح بالدليل لا بمجرَّد التشهِّي، مع أنه وإن خالفَ قولَ أحدهم في مسألةٍ وافقه في أخرى. ولا يَرِدُ على هذا شيء من المحذورات، لأنه قد عمِلَ بالكتاب والسنة بعد تفهُّمِ ذلك ممن يُعرَف بالعلم، واعتمدَ في عدمِ المعارض على الأصل، مع ظاهر إخبار المفتي، مع تأكُّدِ ذلك بموافقة أحد المجتهدين المشهورين. فإن كان مفتيه مجتهدًا فقد أدى الواجب، وإلَّا فهو في الحكم المقلِّد لذلك الإمام الذي وافق قوله. وتجزِّي التقليد عند من يقول به لا مانعَ منه إلّا تتبع الرخص، وهو منتفٍ في هذه الطريقة. وأما التلفيق فلا محذورَ فيه كما بيناه آنفًا
(1)
. فإن هداه الله تعالى لهذه الطريقة فلله الحمد، وإلَّا فإنّ الله غنيٌّ عن العالمين.
وهذا الفصل كافٍ في إبطال التقليد، لتأيُّده بالبراهين القاطعة، ولا يخرج عن ذلك إلا صورة واحدة، وهي ما إذا استفتى القاصرُ مجتهدًا مطلقًا في مسألة التقليد، فأفتاه بالجواز فتوًى متفقًا على صحتها، بأن ذكر له دليلًا شرعيًّا وفسَّره له، وأخبره أنه لا مُعارضَ لذلك. وهذه الصورة مع عزَّتها قد بينّا ما ينقُضُ هذه الفتوى، وبيَّنا الطريقة التي إذا اعتمدها الإنسان كان ناجيًا بيقين، والحمد لله رب العالمين.
(1)
انظر (ص 75).
[فصل]
[ص 35] * قال المقلدون: أخبِرونا أيها المانعون:
(1)
أأنتم أعلمُ أم الأئمة الأربعة؟ فإن قلتم: هم أعلمُ، فكيف تَسُوغ لكم مخالفتُهم؟
(2)
أأنتم أعلم أم الأئمة الذين جاءوا بعدهم مقلدين لهم؟ فإن قلتم: هم أعلم، فلِمَ لا تقلِّدون كما قلَّدوا؟
(3)
ما تعتقدون في المقلِّدين من علماءَ وغيرِهم وهم جمهور الأمة، أهم على حق أم على ضلالة؟
(4)
ما تعتقدون في مشايخكم الذين أخذتم عنهم العلم ومشايخهم وهلمَّ جرًّا؟
(5)
ما تعتقدون في مؤلفي هذه الكتب التي تأخذون عنها العلم؟
* قال المانعون:
(1)
الأئمة الأربعة أعلم إجمالًا، فأما تفصيلًا فقد يبلُغنا من السنة ما لم يبلغهم، وهذا كثير. وذلك أن السُّنَّة كانت في وقتهم لم تُدوَّن. وفي ترجمة الإمام مالك
(1)
أن الرشيد قال له: إني عزمتُ أن أحمل الناس على "الموطأ" كما حمل عثمان الناسَ على المصحف. فقال: أما حملُ الناس على "الموطأ" فليس لك إلى ذلك سبيلٌ؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم افترقوا بعده في الأمصار فحدَّثوا، فعند أهل كل مصرٍ علمٌ.
(1)
انظر "طبقات ابن سعد"(ص 440 - القسم المتمم)، وفيه أن أبا جعفر المنصور قال له ذلك. وانظر "ترتيب المدارك"(1/ 192، 193) و"سير أعلام النبلاء"(8/ 78).
وفي "إعلام الموقعين"
(1)
أن الربيع قال: سمعتُ الشافعي يقول: كل مسألة يصحُّ فيها الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلتُ فأنا راجعٌ عنها في حياتي وبعد مماتي.
ونقل إمام الحرمين في "نهايته"
(2)
عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال: إذا صحَّ خبرٌ يخالف مذهبي فاتبعوه، واعلموا أنه مذهبي.
وفي "تدريب الراوي"
(3)
للسيوطي تنبيهات، الأول: اعتُرِض على التمثيل بـ "مسند أحمد" بأنه شرطَ في مسندِه الصحيحَ. قال العراقي: ولا نسلِّم ذلك، والذي رواه عنه أبو موسى المديني أنه سُئل عن حديث فقال: انظروه، فإن كان في "المسند" وإلّا فليس بحجة. فهذا ليس بصريح في أن كلَّ ما فيه حجة، بل ما ليس فيه ليس بحجة. قال: على أن ثَمَّ أحاديثَ صحيحة مخرجة في "الصحيحين" وليست فيه، منها: حديث عائشة في قصة أم زرع
(4)
. انتهى.
وساق السيوطي الكلام إلى أن قال
(5)
: "وقال الهيثمي في "زوائد المسند": "مسند أحمد" أصحُّ صحيحًا من غيرِه، [وقال ابن كثير]
(6)
: لا
(1)
(2/ 266).
(2)
"نهاية المطلب"(4/ 260).
(3)
(1/ 172).
(4)
أخرجه البخاري (5189) ومسلم (2448).
(5)
(1/ 173). وكلام الهيثمي في أول "غاية المقصد" بنحوه.
(6)
زيادة من "تدريب الراوي". وكلام ابن كثير في "اختصار علوم الحديث"(1/ 118، 119).
يُوازي "مسندَ أحمد" كتابٌ مسند في كثرته وحسنِ سياقاته، وقد فاته أحاديث كثيرة جدًّا، بل قيل: إنه لم يقع له جماعة من الصحابة الذين في الصحيحين قريبًا من مئتين".
وإذا كان هذا الإمام أحمد، وهو وارثُ مَن قبله من الأئمة وجامعُ علمِهم وزيادة، وهو أكثر الأئمة روايةً للحديث وأجمعهم، كما يُعلَم من الموازنة بين ما رُوِي عنه وما رُوي عنهم= إذا كان ذلك في حقِّه ففي حقِّ غيره أولى وأحرى. وهذا واضح جدًّا، والله أعلم.
[ص 36] ومع هذا فقد يتنبه الإنسان لدلالةٍ في كتاب الله تعالى أو في السنة الثابتة عزُبَتْ عن من هو أعلم منه، كما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيثُ ذكَّرتْه المرأةُ بقوله تعالى:{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]
(1)
. وابن مسعود حيث ذكَّره أبو موسى بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا [فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً] فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]
(2)
. وفي "زاد المعاد"
(3)
في الكلام على حديث فاطمة بنت قيس وقول عمر: "لا نردُّ كتابَ ربنا لقولِ امرأةٍ لعلها نسيتْ
…
" إلخ: أن الإمام أحمد كان يتعجب من ذلك
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(10420) وابن المنذر في "تفسيره"(1551) عن أبي عبد الرحمن السلمي. وفي الباب روايات أخرى تكلم عليها الألباني في "إرواء الغليل"(6/ 348) وضعفها. وانظر "تفسير ابن كثير"(3/ 45، 46) و"فتح الباري"(9/ 204) و"الدر المنثور"(4/ 293، 294).
(2)
أخرجه البخاري (345، 346، 347) ومسلم (368).
(3)
(5/ 478).
ويقول: وأين في كتاب الله أن للمطلقة ثلاثًا السكنى والنفقة؟ أو كما ذكر.
وهذا كثير جدًّا عن أكابر الصحابة، ولا يحتاج إلى إثبات دليلٍ، فإنه مما لا خفاءَ فيه أن الإنسان معرَّضٌ للنسيان مهما كانت رتبتُه، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسهو في الصلاة وينسى بعض الآيات حتى يُذكِّره بعضُ أصحابه، كما ثبت في حديث ذي اليدين
(1)
وغيره، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم معصوم، إذا نسي ذكَّره الله تعالى بوحيٍ أو إلهامٍ، أو يُقيِّظُ له من يذكِّره من أصحابه، وذلك لئلا يُعتبر فعلُه المبني على النسيان شرعًا.
وأما غيره من الأمة أكابرها وأصاغرها إذا نسي فقد يُذكَّر، كما في نسيان عمر وابن مسعود المارّ ذكره، وقد لا يَذكُر ولا يُذكَّر، وذلك لأنه لا محذورَ في عدم تذكيرهم، إذ ليس قول أحدٍ منهم ولا فعلُه حجةً تُفيد شرعًا لغيره.
وأما قولكم: "فإن قلتم: هم أعلم منا فكيف يسوغ لكم مخالفتهم؟ "، فأخبِرونا أهم أعلمُ أم أكابرُ الصحابة: أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعائشة وغيرهم؟ ولا شك أن أكابر الصحابة أعلم، فكيف ساغ لهؤلاء الأئمة مخالفةُ مَن هو أعلمُ منهم. وجوابكم هو جوابنا.
إن الله سبحانه وتعالى لم يُنزل كتابه خاصًّا بأحد، بل عامًّا في كل مكلَّف، قائلًا سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} ، {يَاعِبَادِيَ} . فكلُّ مكلَّفٍ من بني آدم مكلَّفٌ بأن يفهم خطابَ ربّه، وإنه لَعارٌ وشنارٌ وفضيحة الأبد أن يكون كلام الله تعالى الذي أنزله على نبيه مخاطبًا لنا خطابًا يتناول كلَّ واحدٍ منا، موجودًا بين أيدينا، ميسَّرةٌ الطريقُ إلى فهمه والعمل به، ثم نُعرِض عنه
(1)
أخرجه البخاري (1228) ومسلم (573) من حديث أبي هريرة.
ونهجره! إنا لله وإنا إليه راجعون.
وأيْمُ الله لو أن أهل مدينة من المدن جاءهم كتابٌ من ملكهم يتناول كلَّ واحدٍ منهم، ما بقي واحدٌ منهم إلّا وأحبّ أن يسمع خطابَ الملك ويفهمه، فأما إذا علموا أنه أمرهم أن من عملَ بما في ذلك الكتاب استحق الإنعام والإكرام، ومَن لم يعمل بما فيه استحق التخليد في الحبس، فإن كلّ واحدٍ منهم يبذل جِدَّه وجهدَه ليطلع على ذلك الكتاب، وعلى الأقل على خبر جازمٍ ممن يثق به أن الذي في الكتاب هو كذا. فأما إذا قال له من يثق: أظن أن فيه كذا، فإنه لا يكتفي بذلك. [ص 37] وكذا لو أرسل الملك رسولًا، وأمر كلَّ أحدٍ باتباعه والعملِ بقوله. إذا كان هذا في مَلِك من ملوك الدنيا، لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًّا، وإن أثاب فثوابُه محدود، وإن عاقب فعقابه منقطع، فكيف بنا وكتاب الله جل جلاله وسنة رسوله بين أيدينا، وثوابُه الجنة وعقابه النار؟ !
ولما كان سلف هذه الأمة وخير القرون يعلمون ذلك، ويعلمون أن كلَّ فردٍ منهم مكلَّفٌ بأن يعرف حكم الله تعالى من كتابه الكريم، أو مما يرويه له الثقات عن رسوله عليه أفضل الصلاة والتسليم= لم يكونوا يُعرِّجون على غير ذلك ولا يلتفتون إليه، ولاسيما مع علمهم أن غير المعصوم وإن علَتْ رتبتُه في العلم والفضل معرَّضٌ للخطأ والنسيان والغفلة وعدم الاطلاع وغير ذلك، فلم يكونوا يعملون إلّا بكتاب الله تعالى وإلَّا بما أخبرهم الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن الخطأ والنسيان والغفلة وغيرها منتفيةٌ في الرواية، إذ لا تُقبل إلا بالجزم، بخلاف الرأي، فإن المجتهد مكلَّف بما غلب على ظنه، وقد يعزُب عنه الدليلُ فيعمل برأيه، فلم يكن مجرد رأيه
حجةً.
ولهذا قال الإمام الشافعي وغيره: ليس قول الصحابي حجةً، وإذا روى الصحابي حديثًا ورأى خلافَه عمِلْنا نحن بما رواه لا بما رآه.
فلذلك ترى أصاغر الصحابة قد يخالفون أكابرَهم، وترى التابعين قد يخالفون أصاغر الصحابة وأكابرَهم، كما يخالف بعضهم بعضًا. وهكذا تابِعوا التابعين على هذا المنوال، إلّا إذا أجمع الصحابة على أمرٍ الإجماعَ المعتبر.
ولهذا رُوي عن الإمام الشافعي أنه قال
(1)
: ما جاء عن الله ورسوله فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة تخيَّرنا، وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجالٌ. أي أن ما جاء عن الصحابة فإن كانوا أجمعوا فإجماعُهم حجة، وحاشاهم أن يُجمِعوا إلّا على حكمٍ ثابت في الكتاب أو السنة، وإن اختلفوا اجتهدنا واخترنا ما رأيناه أقربَ إلى دلالة الكتاب والسنة، وإن كان قولًا لأحد أصاغرهم يخالف ما عليه الأكابر.
وكذا لم يزل علماء الأمة يخالف كلُّ واحدٍ منهم مَن هو أكبر منه، فضلًا عمن هو مثلُه أو دونَه، لاختلاف الأفهام والمدارك، والتفاوت في الاطلاع على الدليل، وكل واحدٍ مكلَّفٌ بما غلبَ على ظنّه أنه حكم الله تعالى، [ص 38] بدليلٍ من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن خالفَ مَن هو أجلُّ منه وأفضل وأكمل وأكثر. ولا يلزم من مخالفة
(1)
هذا مروي عن الإمام أبي حنيفة في "الانتقاء"(ص 144) و"المدخل" للبيهقي (ص 111) و"الإحكام" لابن حزم (4/ 188) وغيرها.
الإنسان لغيره استنقاصُه له، ولا بُغضُه له، ولا تفضيلُه نفسَه عليه، ولا غيرُ ذلك، وإنما اجتهد ذاك، فعمِلَ بما أدَّاه إليه اجتهادُه كما هو فرضُه، واجتهد هذا، فعمِلَ بما أدَّاه إليه اجتهادُه كما هو فرضه.
[ص 39] وفي "الأم"
(1)
في باب الأوقات التي تُكْرَه فيها الصلاة، باب الخلاف في هذا الباب: حدثنا الربيع قال الشافعي رحمه الله تعالى: فخالَفَنا بعضُ أهل ناحيتنا وغيره فقال: يُصلَّى على الجنائز بعد العصر وبعد الصبح ما لم تقارب الشمس أن تطلع، وما لم تتغيَّر الشمس. واحتجَّ في ذلك بشيء رواه عن ابن عمر يُشبِه بعضَ ما قال.
قال الشافعي: وابن عمر إنما سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم النهيَ أن يتحَّرى أحدٌ فيصلِّي عند طلوع الشمس وعند غروبها
(2)
، ولم أعلمه روى عنه النهي عن الصلاة بعد العصر ولا بعد الصبح. فذهب ابن عمر إلى أن النهي يُطلَق على كل شيء، فنهى عن الصلاة على الجنائز لأنها صلاةٌ في هذين الوقتين، وصلَّى عليها بعد الصبح وبعد العصر، لأنا لم نعلمه روى النهيّ عن الصلاة في هذه الساعات.
أقول: انظر احتياط هذا الإمام بقوله: "ولم أعلمه روى عنه النهي
…
" إلخ، حيث عدلَ عن قوله: "ولم يسمع منه"؛ لأنه قد يكون سمع منه ونسي أو تأوَّل، كما أنه قد يكون ثبت سماع ابن عمر عند غير الإمام الشافعي، فعبَّر بعبارة لا شبهةَ فيها، مشيرًا بها إلى أنه لا يلزمه العمل إلا بما علم.
(1)
"اختلاف الحديث" ضمن كتاب "الأم"(10/ 102، 103).
(2)
أخرجه البخاري (585)، ومسلم (828).
ثم قال بعد كلام
(1)
: قال الشافعي: وذهب أيضًا إلى أنه لا يُصلِّي أحد للطواف بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس. واحتج بأن عمر بن الخطاب طاف بعد الصبح، ثم نظر فلم يرَ الشمس طلعتْ، فركب حتى أناخ بذي طُوى، فصلَّى
(2)
.
قال الشافعي: فإن كان عمر كره الصلاة في تلك الساعة فهو مثل مذهب ابن عمر، وذلك أن يكون علمَ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر، فرأى نهيه مطلقًا، فترك الصلاة في تلك الساعة حتى طلعت الشمس.
إلى أن قال
(3)
: قال الشافعي: وفي هذا المعنى أن أبا أيوب الأنصاري سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى أن تُستقبَل القبلةُ أو بيت المقدس لحاجة الإنسان
(4)
…
إلخ.
إلى أن قال
(5)
: قال الشافعي: علم أبو أيوب النهيَ، فرآه مطلقًا، وعلم ابن عمر استقبالَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحاجته، ولم يعلم النهي، ومن علمهما معًا قال
…
إلخ.
إلى أن قال
(6)
: قال الشافعي: وفي هذا المعنى أن أُسَيد بن حُضَير
(1)
المصدر السابق (10/ 104).
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 368).
(3)
"الأم"(10/ 104).
(4)
أخرجه البخاري (144) ومسلم (364).
(5)
"الأم"(10/ 105).
(6)
المصدر نفسه (10/ 105).
وجابر بن عبد الله صلَّيا مريضَين قاعدينِ بقومٍ أصحَّاءَ، فأمراهم بالقعود معهما
(1)
، وذلك أنهما ــ والله أعلم ــ علما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [ص 40] صلَّى جالسًا وصلَّى وراءه قومٌ قيامًا، فأمرهم بالجلوس
(2)
، فأخذا به، وكان الحق عليهما. ولا شكَّ أنه قد عزبَ عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى في مرضه الذي مات فيه جالسًا، وأبو بكر إلى جنبه قائمًا
(3)
…
إلخ.
أقول: انظر كيف جزمَ الإمام رضي الله عنه بأن هذين الصحابين الجليلين عزبَ عنهما ذلك الأمر المشهود الذي لا يكاد يعزُب عن أحد. وهذا حسْنُ ظنٍّ من الإمام رضي الله عنه، وذلك أن الواجب عليه الأخذ بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو ثبت عن الصحابة خلافه، ومع ذلك فيُحسِن الظنَّ بالصحابة ما أمكنَ، فإن أمكنَ عدمُ الاطلاع قيل: لعله لم يعلم، وإن لم يمكن قيل: لعله عزبَ عنه. وهذا هو الواجب على كل متأخّرٍ في حقِّ من تقدَّمه.
والعالم في زماننا يجب عليه الأخذ بالحديث وإن خالفه بعض المجتهدين، ومع ذلك يُحسِن الظنَّ والأدب بمثل ما مرَّ. وإذا ساغ للإمام رضي الله عنه أن يُجوِّز أن أكابر الصحابة لم يطلعوا على بعض الأحاديث،
(1)
راجع "مصنف عبد الرزاق"(2/ 462) و"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 224، 225).
(2)
أخرجه البخاري (688، 1113، 1236) ومسلم (412) من حديث عائشة. وفي الباب أحاديث أخرى.
(3)
أخرجه البخاري (683) ومسلم (418) من حديث عائشة.
وكان يعزُب عنهم مثل ذلك الأمر المشهور الذي لا يكاد يستقرُّ في الذهن أنه يعزُب عن أحدٍ منهم، فلَأنْ يجوزَ مثلُ ذلك للعلماء المتأخرين في حق المتقدمين أولى وأحرى.
والحاصل أن الواجب هو الأخذ بالحديث مطلقًا، ثم يتلطَّف العالم في الاعتذار عمن تقدَّمه بما أمكن، ولو بأن يقول: ربما بلغَهم دليلٌ لم يبلُغْنا، وليس لنا أن نعمل إلا بما بلغَنا.
ثم قال بعد كلام: قال الشافعي
(1)
: وفي مثل هذا المعنى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خطبَ الناسَ وعثمانُ بن عفان محصورٌ، فأخبرهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهاهم عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث
(2)
…
إلخ.
إلى أن قال: وكلٌّ قال بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يدلُّ على أنه قاله على معنًى دون معنًى أو نسخَه، فعلمَ الأولَ ولم يعلم غيرَه، فلو علمَ أمْرَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه صارَ إليه إن شاء الله.
أقول: في "المسند"
(3)
من طرقٍ عن علي رضي الله عنه حديث إباحة الادّخار من لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فليراجَع.
(1)
"الأم"(10/ 106).
(2)
أخرجه البخاري (5573) ومسلم (1969).
(3)
رقم (1236، 1237). وأخرجه أيضًا الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 185). وفي إسناده ضعف. والحديث صحيح لغيره.
ثم قال: قال الشافعي
(1)
: ولهذا أشباهٌ غيره في الأحاديث، وإنما وضعت هذه الجملة عليه لتدلَّ على أمورٍ غلِط فيها بعضُ من نظرَ في العلم، ليعلَمَ مَن علِمَه أن من متقدمي الصحبة وأهلِ الفضل والدين والأمانة من يعزُب عنه من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء علِمَه غيرُه، ممن لعله لا يُقاربه في تقدُّم صحبته وعلمِه. ويعلَمَ أن علم خاصِّ السنن إنما هو علم خاصٌّ لمن فتح الله عز وجل له علمه، لا أنه عام مشهورٌ شهرةَ الصلاةِ، وجُملِ الفرائض التي كُلِّفَتْها العامةُ، ولو كان مشهورًا شهرةَ جُملِ الفرائض ما كان الأمر فيما وصفتُ من هذا وأشباهه كما وصفتُ.
ويعلَمَ أن الحديث إذا رواه الثقاتُ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذلك ثبوته. وأن لا نعوِّل على حديثٍ ليثبتَ أنْ وافقه بعضُ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يُردّ لأنْ عَمِلَ بعضُ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عملًا خالفَه، لأنَّ لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كلِّهم حاجةً إلى أمرِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعليهم اتباعُه، لا أن شيئًا من أقاويلهم تبِعَ ما رُوي عنه ووافقَه يزيد قولَه شدَّةً، ولا شيئًا من أقاويلهم يُوهِن ما روى عنه الثقة، [ص 41] لأن قوله المفروض اتباعُه عليهم وعلى الناس، وليس هكذا قول بشرٍ غيرِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الشافعي
(2)
: فإن قال قائل: أَتَّهمُ الحديث المروي عن رسول الله
(1)
كتاب "الأم"(10/ 107).
(2)
كتاب "الأم"(10/ 107).
صلى الله عليه وآله وسلم إذا خالفَه بعض أصحابه، جاز له أن يتَّهم [الحديث] عن بعض أصحابه لخلافه، لأن كلًّا روي خاصة معًا. وإن يُتَّهما فما رُوِي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى أن يُصار إليه. ومن قال منهم قولًا لم يروِه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يَجُزْ لأحدٍ أن يقول: إنما قاله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لِما وصفتُ أنه يَعزُب عن بعضهم بعضُ قوله، ولم يجز أن نذكره عنه إلّا رأيًا له ما لم يقلْه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فإن كان هكذا لم يجز أن يُعارَضَ بقول أحدٍ قولُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولو قال قائل: لا يجوز أن يكون إلا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لم يحلَّ له خلاف من وضعه هذا الموضع. وليس من الناس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلّا وقد أُخِذ من قوله وتُرِك لقول غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يجوز في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يُردَّ لقولِ أحدٍ غيرِه.
فإن قال قائل: فاذكُر لي في هذا ما يدلُّ على ما وصفتَ فيه.
قيل له: ما وصفتُ في هذا الباب وغيرِه متفرقًا وجملةً. ومنه: أن عمر بن الخطاب إمامَ المسلمين، والمقدَّمَ في المنزلة والفضل وقِدَم الصحبة والورع، والثقة والثبت، والمبتدئ بالعلم قبلَ أن يُسأله، والكاشفَ عنه، لأن قوله حكمٌ يلزم، كان
(1)
يقضي بين المهاجرين والأنصار أن الدية للعاقلة، ولا تَرِث المرأةُ من دية زوجها شيئًا، حتى أخبره أو كتب إليه
(1)
في الأصل: "حتى كان". و"حتى" لا توجد في "الأم"، وبدونها يستقيم السياق.
الضحاك بن سفيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب إليه أن يُورِّث امرأةَ أشيمَ الضبابي من دية زوجها، فرجع إليه عمر وترك قوله
(1)
.
وكان عمر يقضي أن في الإبهام خمس عشرة، والوسطى والمسبِّحة عشرًا عشرًا، وفي التي تلي الخنصرَ تسعًا، وفي الخنصر ستًّا، حتى وجد كتابًا عند آل عمرو بن حزم الذي كتبه له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"وفي كلِّ إصبعٍ مما هنالك عشْرٌ من الإبل"، فترك الناس قولَ عمر
(2)
، وصاروا إلى كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. [ص 42] ففعلوا في ترك أمرِ عمر لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فِعْلَ عمر في فِعْلِ نفسه، في أنه ترك فِعْلَ نفسِه لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك الذي أوجب الله جلَّ وعزَّ عليه وعليهم وعلى جميع خلقه.
قال الشافعي
(3)
: وفي هذا دلالةٌ على أن حاكمهم كان يحكم برأيه فيما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه سنة لم يعلمها، ولم يعلمها أكثرهم، وذلك يدلُّ على أن علم خاصِّ الأحكام خاصٌّ كما وصفتُ، لا عامٌّ كعامِّ جُملِ الفرائض.
قال الشافعي: وقسمَ أبو بكر حتى لقي الله عز وجل، فسوَّى بين الحرّ والعبد، ولم يفضِّل بين أحدٍ بسابقةٍ ولا نسبٍ. ثم قسمَ عمر، فألغى العبيد،
(1)
أخرجه أبو داود (2927) والترمذي (2110)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(17698) والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 93). وكتاب عمرو بن حزم في "الموطأ"(2/ 489) وغيره.
(3)
كتاب "الأم"(10/ 108).
وفضَّل بالنسب والسابقة، ثم قسمَ عليٌّ، فألغى العبيد وسوَّى بين الناس، وهذا أعظمُ ما يلي الخلفاء وأعمُّه وأولاه أن لا يختلفوا فيه.
وإنما لله جلَّ وعزَّ في المال ثلاثة أقسام: قسم الفيء، وقسم الغنيمة، وقسم الصدقة. فاختلف الأئمة فيها، ولم يمتنع أحدٌ من أخذِ ما أعطاه أبو بكر ولا عمر ولا علي. وفي هذا دلالةٌ على أنهم يُسلِّمون لحاكمهم وإن كان رأيهم خلافَ رأيه، وإن كان حاكمهم قد يحكم بخلاف آرائهم، لا أن جميع أحكامهم من جهة الإجماع منهم. وعلى أن من ادَّعَى أن حكم حاكمهم إذا كان بين أظهرهم ولم يردُّوه، فلا يكون إلا وقد رأوا رأيَه، قِيْل: إنهم لو رأوا رأيَه فيه لم يخالفوه بعده.
فإن قال قائل: قد رأوه في حياته، ثم رأوا خلافه بعده.
قيل له: فيدخلُ عليك في هذا ــ إن كان كما قلتَ ــ أن إجماعهم لا يكون حجةً عندهم
…
إلخ، بكلام يُبطل فيه ما يُسمَّى بالإجماع السكوتي.
ثم قال
(1)
: فإن قال قائل: أفتجدُ مثلَ هذا؟
قلنا: إنما بدأنا به لأنه أشهرُ ما صنع الأئمةُ، وأولى أن لا يختلفوا فيه وأن لا يجهله العامة، ونحن نجد كثيرًا من ذلك. إن أبا بكر جعلَ الجدَّ أبًا، ثم طرحَ الإخوةَ معه، ثم خالفه فيه عمر وعثمان وعلي. ومن ذلك أن أبا بكر رأى على بعض أهل الردّة فداءً وسبيًا، وحبسَهم لذلك، فأطلقَهم عمر وقال: لا سَبْيَ ولا فداءَ. مع غيرِ هذا مما سكتنا عنه، ونكتفي بهذا منه.
(1)
"الأم"(10/ 110).
[ص 43] ثم ذكر مسائل أخرى مما وقع فيها الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، وقال في أثناء كلامه
(1)
: فدلَّ ذلك على أن قائل السلف يقول برأيه ويخالفه غيرُه، ويقول برأيه ولا يُروى عن غيره فيما قال به شيء.
إلى أن قال
(2)
: وفي هذا دليلٌ على أن بعضهم لا يرى قولَ بعضٍ حجةً تلزمُه إذا رأى خلافها، وأنهم لا يرون اللازمَ إلا الكتاب والسنة.
ثم ذكر كلامًا يُبطِل به إمكانَ العلم بالإجماع الحقيقي، إلى أن قال: قال الشافعي: والعلم من وجهين: اتباع أو استنباط، والاتباع اتباعُ كتابٍ، فإن لم يكنْ فسنَّة، فإن لم يكن فقول عامةِ من سلَفَنا لا نعلم له مخالفًا، فإن لم يكن فقياسٌ على كتاب الله جلَّ وعزّ، فإن لم يكن فقياسٌ على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن لم يكن فقياس على قول عامةِ مَن سلف لا مخالفَ له، ولا يجوز القول إلا بالقياس، وإذا قاس من له القياس فاختلفوا، وسِعَ كلًّا أن يقول بمبلغ اجتهاده، ولم يَسَعْه اتباعُ غيرِه فيما أدَّى إليه اجتهاده بخلافه. والله أعلم اهـ
(3)
.
وفي ما ذكرناه الدلالةُ التي ليس بعدها أصرحُ منها على كثير مما ذكرناه في هذه الرسالة. ومن تأمَّلَ هذا الفصل من كلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى عرفَ سقوطَ التقليد جملةً إذا ثبتَ الحديثُ، خصوصًا قوله: "ويعلم أن الحديث إذا رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذلك
(1)
"الأم"(10/ 112).
(2)
المصدر نفسه (10/ 113).
(3)
إلى هنا انتهى النقل من كتاب "الأم".
ثبوته، وأن لا نُعوِّل على حديثٍ ليثبتَ أن وافقَه بعضُ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يُرَدُّ لأن عمِلَ بعضُ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عملًا خالفَه، لأنَّ لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كلِّهم حاجةً إلى أمرِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعليهم اتباعه لا أنَّ شيئًا من أقاويلهم تَبِعَ ما رُوي عنه ووافقَه يزيدُ قولَه شِدَّةً، ولا شيئًا خالفَه من أقاويلهم يُوهِن ما رَوى عنه ــ أي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ــ الثقةُ، لأن قولَه المفروضُ اتباعُه عليهم وعلى الناس، [ص 44] وليس هكذا قول بشرٍ غيرِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الشافعي: فإن قال قائل: أَتَّهِمُ الحديثَ المروي عن رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خالفه بعض أصحابه جاز له أن يتَّهِمَ [الحديث] عن بعض أصحابه لخلافِه، لأن كلًّا روي خاصةً معًا. وإن يُتَّهما، فما رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى أن يُصار إليه. ومن قال منهم قولًا لم يَرْوِه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجز لأحدٍ أن يقول: إنما قاله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لِما وصفتُ من أنه يعزُبُ عن بعضهم بعضُ قوله، ولم يجزْ أن نذكره عنه إلّا رأيًا له، ما لم يقلْه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فإن كان هكذا لم يجزْ أن يُعارَضَ بقولِ أحدٍ قولُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولو قال قائل: لا يجوز أن يكون إلّا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يحلَّ له خلاف من وضعه هذا الموضع. وليس من الناس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلّا وقد أُخِذ من قوله وتُرِك لقولِ غيرِه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يجوز في قول النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أن يُرَدَّ لقولِ أحدٍ غيرِه".
هذا الإمام الشافعي رحمه الله يقول: "ومَن قال منهم ــ أي الصحابة رضي الله عنهم ــ قولًا لم يَروِه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يجزْ لأحدٍ أن يقول: إنما قاله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يجز أن نذكره عنه إلّا رأيًا له
…
" إلخ. وبالضرورة إن جميع الأئمة هكذا، فلا يجوز أن يُردَّ الدليلُ الصحيح بخلافِهم له واحتمالِ أن يكون ثبت لديهم أرجحُ منه. والله الموافق.
[ص 45] السؤال الثاني: قولكم: "أأنتم أعلمُ أم الأئمة الذين جاءوا بعدهم ــ أي بعد الأئمة الأربعة ــ مقلِّدين لهم؟ ".
فالجواب: أن العلماء الذين جاءوا بعد الأئمة الأربعة ثلاثة أقسام:
ففيهم الكثير الطيب أئمة مجتهدون، حتى من الذين يظنُّ الناس أنهم مقلِّدون، حتى لقد عَدَّ أهلُ كلِّ مذهبٍ كثيرًا من المجتهدين في عِدادِ المقلِّدين لإمامهم تكثيرًا للسواد، حتى تنازعت المذاهب الأربعة إمامَ السنة محمد بن إسماعيل البخاري، فعدَّه أهلُ كلِّ مذهب في المقلِّدين لإمامهم، ولا يخفى على أحدٍ أنه كان مجتهدًا مستقلًّا، فكم في "صحيحه" من ردٍّ على كلِّ مذهب منها. ومن طالع مصنَّفات أولئك العلماء عرفَ الحقيقة.
القسم الثاني: قوم منتسبون إلى مذاهب الأئمة، وهم مع ذلك مجتهدون، كما مرَّ فيما نقلناه عن السيوطي، وقد قال الشيخ أبو إسحاق: إن أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى من هذا القسم. ومرَّ عن القاضي عبد الوهاب المالكي نحوه.
وعليه فتلامذة الأئمة لا يخرجون عن هذين القسمين، وكذا تلامذتهم. ومن راجع كتب الأصول عرف أن كثيرًا من العلماء الذين يظنّ الناس أنهم كانوا مقلِّدين قائلون بمنع التقليد وذمِّه، وإذا منعوه وذمُّوه علمنا أنهم لم يكونوا عاملين به، وإنما كانوا يتظاهرون بالتقليد [ص 46] حذرًا على أنفسهم من مثلِ ما عُومِل به ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما. ومع ذلك فكانوا يبلِّغون حجةَ الله تعالى بالإشارة والإيماء، كما يقول بعضهم:"والمختار من حيث الدليل كذا" أو "وظاهر هذه الآية أو هذا الحديث كذا"، أو يقول:"هذا مذهبنا، ومذهبُ فلانٍ (يذكر إمامًا آخر) كذا، مستدلًّا بكذا"، ويذكر الآية أو الحديث.
وقد يُصرِّحون بالحقّ إذا ألَّفوا أو درسوا في أصول الفقه، حيث يذكرون شروط الاجتهاد، ويصرِّحون أن من جمعَها فهو مجتهدٌ، فرضُه الاجتهاد. ويذكرون ممن منع التقليد مطلقًا من العلماء، ويُردِّدون في مؤلفاتهم قولَ إمامهم إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، وغير ذلك مما يعرفه مَن طالع مؤلفاتهم. وإذا استفتاهم الناسُ عن مذهب إمامهم نقلوا لهم قوله نقْلَ الراوي المخبر فقط. وهؤلاء على هُدًى وصراطٍ مستقيم.
وأما القسم الثالث: المقلدون الذين استخبرتمونا أهم أعلمُ أم مجتهدو هذا العصر؟ [ص 47] فنقول: أهل هذا القسم فِرَقٌ:
الأولى: المشتغلون بعلوم اللسان وتأليفها وتصنيفها، ولم يُحصِّلوا غيرَها.
الثانية: المشتغلون بنقل أقوال أحد الأئمة والتخريج عليها، وجَمْع
ذلك وتأليفه وتصنيفه، ولم يُحصِّلوا غيرَ ذلك.
الثالثة: المشتغلون بالكلام والجدل والمنطق والفلسفة والتأليف فيها، ولم يحصِّلوا غير ذلك.
الرابعة: المشتغلون بالتصوف والعبادة والسياحة والتخلِّي عن الناس، ولم يُحصِّلوا غيرَ ذلك.
الخامسة: المشتغلون بعلوم الاجتهاد، ولكن لم يبلغوا رتبة الاجتهاد.
وهذه الفِرق كلُّها وإن كانوا أو بعضُهم أعلمَ من مجتهدي هذا العصر بالنسبة إلى بعض العلوم، فهم بالنسبة إلى الأحكام الشرعية من العامة لا من العلماء، وإن طار صيتُهم وعظمتْ سُمعتُهم.
الفرقة السادسة
(1)
: أناسٌ تدلُّ مؤلفاتهم على أنهم أحرزوا علوم الاجتهاد وبرَّزوا فيها، وتدلُّ مؤلفاتهم على تعصُّبٍ شديد للمذهب المنتسبين إليه، بحيث يُقطَع بعدم دخولهم في القسم الثاني. فهؤلاء إذا كان فيهم مَن هو أعلم من مجتهدي هذا العصر فهو لم ينتفع بعلمه، بل يَصدُق عليه من بعض الوجوه قوله تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} . ومع هذا فإننا لا نقول في شخصٍ معين: إنه كذلك، بل نتخلَّص من ذلك بأن نرجِّح شهادةَ مؤلفاتِه على تعصبه الذي يدلُّ على قصورِه، لاعتضادها بظاهرِ اعترافه بأنه قاصر.
(1)
في الأصل: "الخامسة".
[ص 48] السؤال الثالث: قولكم: "ما تعتقدون في المقلدين من علماء وغيرهم وهم جمهور الأمة: أعلى حقٍّ أم ضلالة؟ ".
الجواب: فقد علمتم أننا نعتقد أن من كان من العلماء بالغًا رتبةَ الاجتهاد فهو مجتهد، وإن لم يُصرِّح بذلك، لما مرَّ. والمجتهدون كلُّهم على هدًى من ربهم وصراطٍ مستقيم.
وأما من كان قاصرًا عن ذلك، فإن كان من المتعصبين المضادِّين لكتاب الله تعالى وسنة رسوله ولأهل العلم بهما، قائمًا بعداوتهم وإثارةِ العامة عليهم، فهذا هالك بلا شكٍّ. وإن لم يكن بهذه الصفة فهو كمن دونَه من العامة إن لم تقُمْ حجة الله عليهم بمنع التقليد، ومنعِ الإعراض عن كتاب الله تعالى واتخاذِه مهجورًا، والمنعِ من عداوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمقاطعة سنته، فهو معذور إن شاء الله. وإلّا فأمره إلى الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذَّبه، ما دام محرزًا للإيمان المعتبر.
السؤال الرابع: قولكم "ما تعتقدون في مشايخكم الذين أخذتم عنهم العلم، ومشايخهم وهلمَّ جرًّا"؟
الجواب: أنهم قد دخلوا في عموم العلماء، وقد تقدم حكمهم. ومع هذا فهم على قسمين:
قسم بلغَ رتبةَ الاجتهاد، فنحن نعتقد فيه كما كان الإمام أحمد بن حنبل يعتقد في الإمام الشافعي، وكما كان الشافعي يعتقده في الإمام مالك، وكما كان مالك يعتقده في كبار التابعين، وكما كان التابعون يعتقدونه في الصحابة رضي الله عنهم. ولنا أسوةٌ بهم في مخالفة كل واحدٍ منهم لشيخه أو مشايخه
في بعض الأحكام، إيثارًا لدلالة كتاب الله تعالى وسنة رسوله، عملًا بقوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"
(1)
. قال النووي في "أربعينه"
(2)
: هذا حديث صحيح، رويناه في كتاب "الحجة" بإسناد صحيح.
وقِسم لم يبلغوا رتبة الاجتهاد، فهؤلاء نعتقد فيهم كما كان يعتقده الأئمة في الرواة.
السؤال الخامس: "ما تعتقدون في مؤلِّفي هذه الكتب التي تأخذون عنها العلم"؟
الجواب: أنهم قد دخلوا في عموم العلماء، وقد تقدم حكمهم. ومع ذلك فإننا نعتقد فيهم ما كان الأئمة يعتقدونه في الرواة. ولنذكر هاهنا حديثًا
…
(3)
ذهبَ كثيرًا من صدوركم، وهو حديث "الصحيحين"
(4)
عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مثلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثلِ الغيثِ الكثير أصابَ أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قَبِلتِ الماءَ فأنبتتِ الكلأ والعُشْبَ الكثير، وكانت منها أجادبُ أمسكتْ الماء فنفع الله بها الناسَ، فشرِبوا وسَقَوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى
(1)
سبق تخريجه (ص 90).
(2)
انظره مع شرحه "جامع العلوم والحكم"(2/ 393).
(3)
خرم بمقدار كلمة.
(4)
البخاري (79) ومسلم (2282).
إنما هي قِيعانٌ لا تُمسِك ماءً ولا تُنبِتُ كلأً. فذلك مثلُ مَن فَقِهَ في دين الله ونفعَه ما بعثني الله به فعَلِمَ وعلَّم، ومثلُ من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يَقبلْ هُدى الله الذي أُرسِلْتُ".
* * * *
فصل
قد بينّا بحمد الله تعالى الأجوبة عما أوردتموه من الأسئلة، وبعدُ، فإنكم لا تجهلون أننا مأمورون بتدبُّر كتاب الله عز وجل، وتعلُّم وتفهُّم سنة رسوله، فإذا وجدنا آية أو حديثًا يدلُّ على حكم من الأحكام، وبَحثنا حتى غلب على ظننا أنه لا معارضَ له، فهل تُسوِّغون لنا الإعراضَ عن ذلك الدليل إلى قول العلماء؟
هَبُوا أنه يَسُوغ ذلك فيما إذا قام الإجماع على خلافِ ذلك الدليل، وهذا إن لم يكن معدومًا فهو أقلُّ قليل، فما تقولون إذا كان الأئمة مختلفين، فبعضهم يقول بمقتضى ذلك الدليل، وبعضهم يقول بخلافه؟ وقد علمتم أن الله تعالى أمر بردِّ ما اختُلِفَ فيه إلى كتابه وسنة رسوله، فهل تُوجِبون علينا اختيارَ قول الإمام الموافق لذلك الدليل، عملًا بأمر الله تعالى لنا ولسائر المسلمين باتباع كتابه وسنة رسوله، وردِّ ما اختُلِف فيه إليها، أم تُسوِّغون لنا اتباعَ القول المخالف لذلك الدليل لمجرد احتمال أن قائله وقفَ على معارضٍ له؟ وقد علمتم أن هذا مجردُ احتمالٍ الأصلُ عدمُه، والأدلة متواترة والأئمة مُجمِعون على أنه لا يسوغُ الاستناد إلى مثله. وقد مرَّ في كلام الإمام الشافعي بيان ذلك، وهو مع ذلك معارَضٌ بأشياء كثيرة:
أولها: احتمال أن يكون ذلك الإمام الذي قال بخلاف ذلك الدليل لم يطلع عليه، أو اطلع عليه وعَزَبَ عنه، أو عَزَبَتْ عنه دلالتُه، ولاسيَّما وقد تقوم قرينة على بعض هذه الاحتمالات، كما سيأتي في مسألة البناء على القبور إن شاء الله.
وثانيها: أن الظاهر عدم هذا المحتمل بدليل عمل الإمام الآخر بما يوافق ذلك الدليل.
وثالثها: بحث العالم البحث الواجب حتى يغلب على ظنه المحتمل، ولاسيَّما وأدلة الشريعة في هذه الأزمنة مدوَّنة مخدومة ميسَّرة، ولاسيَّما مع تيسُّر جمع الكتب بهذه المطابع. فمن المعلوم أن مَن جمع الأمهاتِ الستَّ و"مسند" الإمام أحمد وغيرها من كتب السنة المطبوعة الآنَ كان عنده من الأحاديث ما لم يكن عند أحد الأئمة المتقدمين، بل هذا المتعيَّن في بعض الأحاديث بعينه.
هَبُوا أنه لا يَسُوغ لنا اختيارُ أحد القولين على سبيل الاجتهاد لعدم التأهل له في زعمكم، فما تقولون في اختيار أحد القولين أو الأقوال على سبيل التقليد؟ ويكون الاختيار لما ظهر رجحانه بموافقة الدليل الراجح، فإن علماء التقليد إلّا من شذَّ يقولون: إن للإنسان أن يُقلِّد من شاء من الأئمة في حقّ نفسه، ويتجزَّأ التقليد، وهذا هو الذي لا ينبغي غيره، لما هو معلوم من عمل السلف الصالح، حتى الأئمة الأربعة أنفسهم، فلم يكونوا يُلزِمون العاميَّ أن لا يستفتيَ إلا عالمًا واحدًا.
واستثنى بعضهم ما إذا كان بقصد تتبُّعِ الرخص، فإنه لا يجوز. وصرَّح بعضهم بجواز تتبُّع الرخص أيضًا، وتتبُّعُ الرخص لا يتأتَّى إلّا فيما إذا كان التقليد بحسب الهوى والتشهّي، أما إذا كان اتباعًا لما يُرجِّحه الدليل ــ كما هو الفرض في مسألتنا ــ فلا يتأتى ذلك. وشرطَ آخرون أن لا يُؤدِّي تجزِّي التقليد إلى التلفيق بحيث تتركَّب قضيةٌ لا يقول بها كلٌّ من المقلَّدين، كأن يقلِّد الشافعيَّ في عدم نقض الوضوء بخروج الدم، ويقلِّد أبا حنيفة في عدم
النقض بمسِّ الذكر، ويريد أن يعمل بهما في وضوء واحد، قال: لأن وضوءه باطل اتفاقًا. وأجازه بعضهم، وهو المتعيِّن، كما يقتضيه إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم. يأتي العاميُّ أحدَ العلماء فيسأله عن مسألة في نواقض الوضوء مثلًا، فيفتيه، ثم يأتي عالمًا آخر، فيسأله عن مسألة أخرى في نواقض الوضوء أيضًا، فيفتيه، فيذهب فيعمل بهما معًا، وقد يكون ذلك تلفيقًا على ما وُصِف، كأن يُفتِيَه الأول بعدم النقض بخروج الدم، والثاني بعدم النقض بمسّ الذكر، ويكون الأول يرى النقض بمسِّ الذكر، والثاني يرى النقض بخروج الدم. بل ربما تتركب من العمل بمجموع الفتاوى صورة باطلة إجماعًا من حيث جملتها، فقد كان العاميُّ في تلك القرون معرّضًا لهذا، والعلماء ــ الصحابة ومَن بعدهم ــ لا يخفى عليهم مثل هذا، ولم يأمر أحدٌ منهم أحدًا من العامة الاحتراز عن ذلك.
فإن قيل: لكن الفتوى في تلك القرون كانت ببيان الدليل كما ذكرتم، فكان العامي في حكم المجتهد، فكما أنه لا بدعَ في قول المجتهد بعدم النقض بالأمرين مثلًا تبعًا للدليل، وإن كان لم يسبقه أحدٌ من المجتهدين إلى القول بذلك، بل بعضهم يرى عدم النقض بالأول ويرى النقض بالثاني، وبعضهم بالعكس، فكذلك العامي في الفتوى المبيَّن فيها الدليلُ.
فالجواب: أن كلامنا مبني على التنزل في جواز التقليد، والقائلون بجواز التقليد يزعمون أن العمل بهذا النوع من الفتيا تقليد، وأن عامة السلف كانوا مقلِّدين لعلمائهم، وبهذا يتم لنا الاستدلال بذلك على جواز تجزِّي التقليد وجواز التلفيق.
وأما من يعترف بأن العمل بهذا النوع من الفتيا ليس تقليدًا، فهو يرى بطلانَ التقليد من أصله، وهذا هو الأصل الذي ندعو إليه، وإنما أردنا أن نُثبت أن العمل بالطريق التي ندعو إليها صحيح اتفاقًا، وذلك أننا نقول: إن العالم منا يجتهد قدرَ وُسْعِه، وينظر في أدلة المجتهدين المشهورين، ثم يعمل بالراجح من الأدلة، ولابدَّ أن يكون موافقًا لأحدهم. فمن اعترف ببطلان التقليد فإنه يُصحِّح عملَنا، لأنه هو الفرض المتعيَّن علينا، إذ قد اجتهدنا في الأدلة وأخذنا بالراجح. وأما مَن يزعم صحةَ التقليد فإنه يصحِّح عملنا أيضًا، لشرطِنا موافقةَ أحد المجتهدين المشهورين. وأما المتحيِّر فإنه يرى أن عملنا صحيح على كلا التقديرين، والحمد لله رب العالمين.
وكما أن جمهور علماء المقلِّدين قائلون بجواز أن يقلِّد الإنسان مَن شاء من الأئمة في حقِّ نفسه مع تجزئة التقليد، فكذلك محققوهم قائلون بجواز تجزِّي التقليد في الحكم والفتوى. وأما نحن فنقول: إنما منعَ بعضُهم تجزِّي التقليد في الحكم والفتوى لأمرين:
الأول: خشية أن يكون الحاكم والمفتي رقيقَ الدين، فيتبع هواه، فإذا جاءه أحد الخصمين أو السائل بعَرَضٍ من الدنيا حكمَ له أو أفتاه بالمذهب الذي وافق هواه، وإذا جاءه خصمه بعَرَضٍ أكثر حكم بالمذهب الآخر، فاتخذ دينَ الله لُعبةً وشبكةً يصطاد بها أعراض الدنيا.
الثاني: أن القضاء يحتاج إلى توليةٍ من السلطان، وكذلك تبعتْه الفتوى في الأزمنة الأخيرة، وجرت عادة السلاطين أن يُعيِّنوا للقاضي أو المفتي مذهبًا معيَّنًا ليقضي أو يفتي به.
وأيضًا فالمفتي وإن لم يكن مُولًّى من قِبل السلطان جرت العادة أنه
يكون منتسبًا إلى مذهبٍ من المذاهب المشهورة، فلا يأتيه يستفتيه إلّا العامة الملتزمون لذلك المذهب، وهم إنما يسألونه عن ذلك المذهب المعيَّن، فكيف يجيبهم بغيره؟ ولهذا حكى بعضهم قال
(1)
: كان السيوطي رحمه الله تعالى ربَّما يُرجِّح خلافَ مذهب الشافعي في بعض المسائل اجتهادًا، فإذا جاءه سائل في تلك المسألة أفتاه بمذهب الشافعي، فقيل له في ذلك، فقال: إنما يسألونني عن مذهب الشافعي لا عن الراجح عندي.
إذا تقرر ذلك فقد قال المحققون من علماء التقليد: إذا كان القاضي أو المفتي عدلًا ولم يمنعه السلطان من الحكم بغير مذهب معيَّن، فله تجزئة التقليد في القضاء أيضًا، فيختار من مذاهب الأئمة ما يُرجِّحه الدليل إن كان متأهلًا أو نحو ذلك. وأما المفتي فإن كان مُولًّى، فإذا كان عدلًا ولم يمنعه السلطان من الفتوى بغير مذهب معين فله تجزئة التقليد في الفتوى أيضًا، فيختار ما يرجِّحه الدليل أو تقتضيه المصلحة كالتشديد على القوي المفرِّط والتخفيف على الضعيف المعذور ونحو ذلك. وإن لم يكن مولَّى
(2)
فيُشترط في حقه العدالة فقط، كذا قيل. وينبغي أنه يشترط في المفتي أن لا يفتي بغير المذهب المنتسب إليه، إلّا أن يذكر للسائل أن مذهب إمامنا كذا. ولكن مذهب فلانٍ من الأئمة كذا، ويرشده إلى تقليده إن أراد.
هذا على مقتضى تفريع المقلدين، وأما ما ندعو إليه فإننا نقول: إنه ينبغي لأولي الأمر أن لا يُولُّوا القضاء أو الفتوى إلّا مَن كان عدلًا عالمًا بالكتاب والسنة وأقوال الأئمة، وهو الذي ندَّعي له الاجتهاد، وهو المستحق للقضاء
(1)
انظر "الميزان" للشعراني (1/ 16).
(2)
بعده في الأصل: "فإن كان".
والفتوى إجماعًا، فيولِّيه السلطان القضاءَ بما ترجَّح له دليله الشرعي بعد اجتهاده، بشرط موافقة أحد المجتهدين المشهورين، وكذلك الفتوى، ويشترط فيها أيضًا أن يُبيِّن للمستفتي أن الفتوى هي بما اقتضاه اجتهاده، ويُبيِّن له مَن وافقه من المجتهدين.
وينبغي للناس أن يَعْمِدوا إلى مَن كان بقربهم من مدّعي الاجتهاد الظاهري العدالة، فيستفتوهم في سائر أمور دينهم، فيفتي العالم سائلَه كما كان عليه العمل في السلف الصالح، بذكرِ الدليل وتفسيره وغير ذلك، ثم يخبره بمن وافق ذلك من الأئمة، فيعمل السائل بتلك الفتوى ويكون بريئًا بيقين، لأنه إن كان العمل بالتقليد غير جائز فهو قد أدّى أقصى ما يمكنه، وهو سؤال العلماء المعاصرين له طبقَ ما كان عليه العملُ في القرون الأولى بمعرفة الدليل ودلالته وعدم المعارض، وليس يمكنه أكثر من هذا إلّا أن يتفرغ لطلب العلم حتى يبلغ رتبة الاجتهاد، وهذا ليس مكلَّفًا به كلُّ أحدٍ بلا خلاف.
وإن كان العمل بالتقليد جائزًا فإما أن يكون متعينًا في هذه الأزمان كما زعم، وإما أن لا يكون متعينًا، فإن لم يكن متعينًا فالأمر واضح، لأنه يكون المرء حينئذٍ
(1)
مخيَّرًا بين التقليد وبين استفتاء علماء عصره، واستفتاءُ علماء عصره على ما ذكرنا أرجح لما قررناه، وهو مع
(2)
ذلك في حكم المقلد للإمام الذي شرطنا موافقة قوله. وإن كان متعينًا فقد شرطنا أن يخبره المفتي بموافقة أحد المجتهدين المشهورين، وحينئذٍ يكون في حكم المقلد لذلك المجتهد، وقد التزم الأدب مع كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ومع علماء
(1)
اختصرها المؤلف إلى (ح) وكذا ما بعدها.
(2)
هكذا استظهرنا الكلمتين من الأصل.
عصره، ومع الأئمة المجتهدين، إذ لم يُرجِّحْ أحدَهم على غيره مطلقًا بدون مرجِّح ظاهر، كما هو شأن المقلد المحض، بل عمل بقول هذا في مسألة، وقولِ الآخر في أخرى، وترجيحه بمقتضى الدليل الشرعي كما عرفه وفهمه، وكما أخبره مفتيه أنه لا معارضَ له. وهذا كما كان علماء التابعين ومَن بعدهم يتخيرون في أقوال الصحابة، ويرجِّحون بحسب ما يقتضيه الدليل، ويُفتون القاصرين بذلك.
رُوي عن الإمام الشافعي أنه قال
(1)
: ما جاء عن الله ورسوله فعلى العين والرأس، وما جاء عن الصحابة تخيَّرنا، وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال.
ونحن نقول: ما جاء عن الله ورسوله فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الأئمة المجتهدين من الصحابة وغيرهم مجمعًا عليه فهو في حكم ما جاء عن الله ورسوله، فعلى الرأس والعين؛ أو مختلَفًا فيه تخيَّرنا، فاخترنا ما ظهر لنا رجحانه بالنسبة إلى الدليل من كتاب الله تعالى وسنة رسوله. ومع ذلك فنعوذ بالله عز وجل ونبرأ إليه من تنقُّص أحدٍ من الأئمة رضي الله عنهم، كما كانوا يعوذون بالله ويبرأون إليه من تنقُّص أحدٍ من الصحابة، ولكن فرض الله في حقِّنا أن نتخيَّر في أقوال المجتهدين إذا اختلفوا، عملًا بأمره أن يُرَدَّ ما اختُلِف فيه إليه وإلى رسوله، وكان هذا في حياة رسوله بالرد إلى كتاب الله تعالى وإلى رسوله بنفسه، وبعد وفاة رسولِه بالرد إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وهذا كما كان عمل الأئمة رحمهم الله تعالى إذ فرض الله عليهم ذلك، فكانوا يتخيرون في أقوال الصحابة إذا اختلفوا بردّها إلى كتاب الله
(1)
هذا مشهور عن الإمام أبي حنيفة، وقد سبق تخريجه (ص 114).
تعالى وسنة رسوله، واختيار ما ظهر لهم رجحانُه.
وبهذا تبيَّن أوضحَ البيان أن باب العمل بالدليل مفتوح بالاتفاق، أما على القول بوجود المجتهدين اليوم فواضح، وأما على القول بانقطاع الاجتهاد فالأدلة الشرعية محفوظة، وأقوال المجتهدين مدوَّنة، ولا مانعَ من تقليد أيّ مجتهدٍ كان، فلا أقلّ من ترجُّح من يوافق قوله الدليل، ولا أقلّ من أن يكون مدَّعي الاجتهاد اليوم أهلًا للترجيح، مع أنه لو فُرِض أنه ليس مجتهدًا وأنه أخطأ في الترجيح، فليس في ذلك محذور، لأن القائلين بالتقليد يجيزون التقليد ابتداءً، فلأن يجوز بعد بذل الوسع في طلب المرجِّح الشرعي أولى وأحرى. وبهذا يَسْلَم القاصر من محاربة الله ورسوله باتخاذ القرآن مهجورًا والزيغ عن اتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والله سبحانه وتعالى يقول:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. وفي الحديث الصحيح: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به"
(1)
. ويَسْلَم من الجهل بالدليل الشرعي في عمله، ويَسْلَم من سوء الأدب مع بعض الأئمة المجتهدين بتنقُّصِهم والتعصُّب عليهم والترجيح عليهم بدون مرجِّح معتبر، ويَسْلَم من عناد علماء عصره القائمين بعلوم الكتاب والسنة وغير ذلك، وحَسْبُه أنه موافق للشرع بيقين.
فهذه الميزان، لا "ميزان" الشعراني رحمه الله، فإنه بناها على أن كل فردٍ من أفراد المجتهدين في المسائل الخلافية مصيبٌ باعتبارٍ مخطئ باعتبارٍ، أما إصابته ففي نسبته الحكمَ الذي قال به إلى الشريعة، وأما خطأه ففي زعمه
(1)
سبق تخريجه (ص 90).
إطلاقَ الشريعة ذلك الحكم. مثاله: الماء المستعمل، قال أبو ثور وداود وأصحابه: إنه طاهر مطهِّر غير مكروهٍ استعمالُه، وقال مالك وأصحابه: طاهر مطهِّر مكروهٌ استعمالُه، وقال الشافعي: طاهر غير مطهِّر، وقال أبو يوسف: إنه نجس. كذا في "بداية المجتهد"
(1)
. فالشعراني رحمه الله يقول
(2)
:
الأول مخفف، وهو محمول على أن يكون المستعمل نبيًّا أو وليًّا، فيبقى الماء على أصله، لا يتقاطر فيه شيء من الذنوب.
والثاني أشدُّ منه قليلًا، وهو محمولٌ على ما إذا كان المستعمل مستورًا ومريدُ التطهير غير مُكَاشَف، فهو شاكٌّ هل تقاطَرَ فيه شيء من الخطايا أو لا؟ ولما كان الظاهر التقاطر كُرِه له التطهُّر به، وكذا إذا كان مكاشفًا، ووجد أن الماء لم يتقاطر فيه إلّا شيء من المكروهات ونحوها.
والثالث أشدّ، وهو محمول على ما إذا كان المستعملُ مسرِفًا على نفسه ومريد التطهير غير مكاشف، فإنه حينئذ يتأكَّد عنده أنه تقاطر في الإناء شيء من المعاصي، ولكنه لما لم يكن مشاهدًا لها لم يُحكَم في حقه بنجاسة الماء، غير أنه غير مطهِّر. وكذا إذا كان مريد التطهير مكاشفًا، وشاهد الماء، فإذا هو لم يتقاطر فيه إلّا شيء من الصغائر.
والرابع أشدُّ من الجميع، وهو خاصٌّ بما إذا كان مريد التطهير مكاشفًا، وشاهد الماء قد تقاطر فيه شيء من الكبائر.
هذا قضية كلام الشعراني رحمه الله أو نحوه، وحاصل ما ذكر أن الحكم
(1)
(1/ 30).
(2)
انظر "الميزان الكبرى"(1/ 108).
الشرعي في الماء المستعمل أنه يختلف باختلاف الأحوال، ففي الحال الأول طاهر ومطهِّر غير مكروه، وفي الثاني مكروه، وفي الثالث غير طهور، وفي الرابع نجس. وحينئذ فأبو ثور وداود وأصحابه وإن أصابوا في قولهم بالنسبة إلى ما حمل عليه قولهم، فإنهم أخطأوا في إطلاق ذلك وتعميمه، وذلك أنهم رأوا بعض الأدلة تدل على أن شيئًا من المستعمل طاهر طهور غير مكروه، فقالوا به وعمَّموه في جميع الأحوال، والحال أنه واقع فيما إذا كان المستعمل نبيًا أو وليًّا فقط. وعلى هذا فقِسْ.
والحاصل أن قضية ميزانه أنهم جميعهم على خطأ، لم يصيبوا الحكم الشرعي، وإن أخذ كلٌّ منهم بطرفٍ منه. وهكذا عمَّم ميزانه في جميع مسائل الخلاف، فإذا جميع أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة المجتهدين الأربعة وغيرهم كلهم عنده كما ترى مخطئون.
وهذا ضدُّ ما قاله قوم: إن كل مجتهد مصيب، وإن الحق متعدد. وكلاهما باطل، وقوله رحمه الله: أظهر بطلانًا لاقتضائه إجماعَ الأئمة على الخطأ في جميع مسائل الخلاف ما عداه.
فإن قيل: إنه أراد بميزانه دفعَ ما يُوهمه الاختلاف من تناقض الأدلة الشرعية.
فالجواب: أن هذا مندفعٌ بما هو معلوم أن المجتهدين غيرُ معصومين عن الخطأ في الاجتهاد، فقد يجهل أحدهم الدليل، وقد ينساه، وقد يَعزُب عنه، وقد تَعزُب عنه دلالته، إلى غير ذلك. فلا جَرمَ كانوا معرَّضين للخطأ، وهذا يقتضي أن يكونوا في المسائل الخلافية على قسمين: مصيب فحسبُ،
ومخطئ فحسبُ. وبهذا ثبت الحديث الصحيح
(1)
أنه "إذا حكم الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجرٌ واحد"، وعلى هذا أجمع الصحابة رضي الله عنهم فمَن بعدهم من أئمة الأمة. وبهذا يثبتُ نزاهةُ الشريعة عن التناقض، ويثبتُ نزاهة الأئمة، لأننا لا نقول: إنهم جميعهم مخطئون كما هو قضية قوله، بل ولا نجزم في أحدٍ منهم بعينه أنه مخطئ، وإنما نُرجِّح ما ترجَّح لنا من حيث الدليل. ويثبتُ أيضًا نزاهةُ الصحابة رضي الله عنهم وجميع الأمة عن الإجماع على الخطأ، بخلاف ما يقتضيه قوله. إلى غير ذلك مما هو واضح جلي.
فوازِنْ أيها القارئ بين الميزانين وفَّقك الله تعالى.
قال المقلِّدون: أيها القوم! قد جادلتمونا فأطلتم جدالَنا، وما لنا ولتضييع أعمارنا في نزاعٍ لا ينقطع. هَبُوا أن كلّ ما احتججتم به صحيح، وكلّ ما دافعنا به هَباءٌ تذهب به الريح، ولاسيَّما والطريقة التي أرشدتم إليها قريبةٌ من الصواب أو هي الصواب عينُه. لكن أنتم لا تجهلون أنّ بين زماننا هذا والقرون الثلاثة بَونًا بعيدًا، فقد كان المجتهدون لا يُحصَون كثرةً، وأما في عصرنا هذا فأنتم تعلمون أنه بعد تسليم وجود الاجتهاد فلأفراد يُعدُّون بالأصابع، لو كلَّفتم جميعَ المسلمين قصدَهم من أطراف المعمورة في كل واقعةٍ تعرِضُ لكان هذا تكليفَ ما لا يُطاق. وكيف يصنع الناس بعباداتهم ومعاملاتهم اليومية؟ مع أن كثيرًا ممن يدّعي الاجتهاد ليس عنده من العلم شيء، بل كثيرًا ما تُتَّخذ دعوى الاجتهاد وسيلةً إلى اتباع الشهوات، والاسترسال في الأهواء، واستخدام الأدلة الشرعية في الأغراض النفسية
(1)
أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص.
بدون هدًى من الله، فيجعلون الشرع تبعًا لأهوائهم وسُلَّمًا لشهواتهم، وينظرون إلى البدع الناشئة عن الاختلاط بالأجانب، فيأخذون على عاتقهم نصرتَها بتأويل أدلة الشرع إليها، إلى غير ذلك من المفاسد التي لا تخفى على أحد.
وكلُّ أحدٍ لا يخفى عليه أن تقليد أحد الأئمة الأربعة أقربُ إلى دين الله تعالى من سؤال أحد هؤلاء المنتحلين للاجتهاد على هذه الصفة.
* يقول عبد الله المفتقر إليه: هذا الكلام صحيح، فإنا لا نعلم الآن على ظهر الأرض من يصحُّ منه دعوى الاجتهاد إلّا أفرادًا معروفين، وأما من ينتحل الاجتهاد لأغراضه
(1)
، بل لخدمة شهواته وهواه فهذا أضرُّ على الدين من غلاة المقلِّدين، فإن المقلدين إنما أُتُوا من الغلوّ في حسن ظنِّهم بالأئمة الأعلام، حتى أدَّاهم ذلك إلى تقديم قولهم على أدلَّة الكتاب والسنة، ظنًّا أنهم اطلعوا عليها، وإنما خالفوها لما هو أقوى منها كما مرَّ بيانه. وأما هؤلاء المنتحلون فإنما يتخذون انتحال الاجتهاد وسيلةً لأغراضهم وأهوائهم.
وهذا الأمر هو الذي غرَّ بعضَ صالحي المقلِّدين حتى ذهب إلى سدِّ باب الاجتهاد، وإن لم يُوفَّق للصواب في ذلك، لأن الأرض لا تخلو من قائم لله تعالى بالحجة، وحجة الله تعالى بكتابه وسنة رسوله باقيةٌ إلى يوم القيامة. وإنما الواجب أن يُميَّز بين المُحِقِّ والمُبْطِل، فلا ينبغي أن يُدْفَع الباطل بوجهٍ يقتضي دفع الحق، كيف وهو إذن باطل مثله يحتاج إلى دفع، ومع ذلك فهو غير مستحق أن يظهر عليه؛ لأن الله تعالى إنما وعد الحقَّ بالظهور على
(1)
هكذا استظهرنا الكلمة، ورسمها غير واضح.
الباطل، وإنما أوقع المسلمين فيما أوقعَهم فيه هذه الحيلة العوجاء، يريد أحدهم أن يدفع الباطل فيَعْمِد إلى باطلٍ مثلِه ليدفعه به، فيُزْهِق الله الجميع ويُظهِر الحقَّ على لسان من اختار، كما قال تعالى:{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37].
ومع هذا فالمفسدة في دفع الحق أضرُّ من المفسدة في صولة الباطل؛ لأن في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ما يُميِّز بين المحق والمبطل، والهادي من المُضِلّ، وقد وعد الله تعالى الحقَّ بالظهور على الباطل، قال عز وجل:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18].
والجواب عمّا مرَّ أن يقال: أما قولكم: "أين زماننا هذا من القرون الثلاثة؟
…
" إلخ، فالجواب: هذا مسلَّم، والسبب في ذلك ظهور بدعة التقليد، فإنها لما ظهرت صار من يريد طلب العلم إنما همُّه أن يتعلَّم في مذهب بعض الأئمة، فيشتغل بذلك من أول عمره، فينشأ على ذلك، وربما أفنى فيه جميع عمره. وأما سائر أهل المعاش فغاية أحدهم أن يتعلم مختصرًا في المذهب الذي عليه أبوه، ليعمل به، ثم يذهب في عمل دنياه، وزادَ الطينَ بِلَّةً كون الدُّوَل التي تتولَّى أمور المسلمين من المقلدين، فصاروا يُولُّون القضاء والإفتاء والتدريس غير أهلها، بل يشترطون أن يكون مقلدًا، فلو كان مجتهدًا لم يولُّوه شيئًا. وبعد أن صارت المذاهب أحْزابًا كلٌّ منها يتعصب لحزبه صار اجتهاد المتفقهين فيها إنما هو في جمع العامة، وجَرِّهم إلى جانبه، وتسليطهم على مَن يخالفه.
ولمّا تكافأت هذه الأربعة المذاهب اصطلح فقهاؤها على أن يعترف كلٌّ منهم للآخر، ويتعصبوا على مَن خرج عنهم. فصار الاجتهاد مطرودًا متعصَّبًا عليه، ومن تظاهر به قيل: هذا مبتدع خارج عن المذاهب الأربعة، فاجتمعوا على أذيته، ولم يجد من يردُّ عنه، لأن أمور الدولة بأيديهم. ثم يجيء طالب العلم، فيرى هوانَ الاجتهاد وما وقع فيه صاحبه من المشقة والعناء، فتنصرف همتُه عن سلوك تلك الطريق، لما يرى أن نتيجتها في الدنيا العناء والتعب، بخلاف طريق التقليد، فإنه يرى نتيجتها في الدنيا القضاء والإفتاء، والمناصب العالية، والرتب السامية، والأموال الواسعة، والمواكب التابعة، إلى غير ذلك.
ثم طرأتْ بعد ذلك تلك القولة، أي انقطاع الاجتهاد، وشاعت في الناس، فكانت ضِغثًا على إبَّالةٍ، إذ انتشر بين الناس أن الاجتهاد ممتنع، فانقطعت رغبات الناس فيه ضرورةَ أن الهمم لا تتعلق إلا بما في نيله مطمع. ومع ذلك فإن الله تعالى لا يُخلِف وعدَه بحفظ الدين، فلم يزل في هذه العصور كلها من تقوم به الحجة من المجتهدين رغمًا عن تلك العوائق والقواطع، كما بُيِّن في هذه الرسالة وغيرها، والطريق بحمد الله تعالى واضحة ميسَّرة.
وأما قولكم: إنه لا يطيق جميع المسلمين قصدَ المجتهد في كل واقعة، فهذا صحيح، ولكن البلاد على قسمين:
الأول: الذي فيه أو بالقرب منه عالمٌ بالكتاب والسنة وأقوال الأئمة، عدلٌ يدعي الاجتهاد، فهؤلاء يتعين عليهم الرجوع إلى قوله على ما شرحنا، وبعد شرط العلم والعدالة وموافقة أحد المجتهدين ينتفي المحذور.