الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مسألة التبرك بالصالحين]
[ص 9] وهل للمسلمين أن يتبرّكوا بصلحائهم كما يتبرّك الصحابة رضي الله عنهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستندين إلى تلك الأحاديث ونحوها أو لا؟
يقول المجيزون: نعم؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم بُعِث مشرّعًا، والأصل في فعله التشريع، أي أن حكم غيره من الأمة مثل حكمه، والخصوصية خلاف الأصل، فلا يُصار إليها إلا بدليل.
قالوا: ويُقاس على التبرّك بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم التبرُّك بذريته من حيثُ كونُهم ذريةً له. وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم هذا حيث استسقوا بالعبّاس رضي الله عنه لفضله ولقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال عمر رضي الله عنه:«وإنّا نتوسَّل إليك بعمّ نبيّك»
(1)
. واستسقوا زمان معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي لفضله. وقال معاوية: «اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا»
(2)
.
ويقول المانعون: أما ما لم يرد فيه دليل صحيح فالأمر فيه واضح، وأما ما ورد فيه دليل صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فَعَلَه أو أقرَّ عليه في باب التبرّك به، فهو خاصّ به، وليس هذا من باب التشريع؛ لأن التشريع إنما هو في الأحكام التي المدار فيها التكليف، لأنه لما كان النبي صلى الله
(1)
أخرجه البخاري (1010، 3710).
(2)
أخرجه الفسوي في «المعرفة والتاريخ» : (2/ 220) وأبو زرعة الدمشقي في «تاريخه» : (1/ 602).
عليه وآله وسلم مكلَّفًا مثلنا كان كل فعل يفعله شريعةً لنا إلا أن يدلّ دليلٌ على الخصوصية.
وأما التبرُّك فإن المدار فيه على الفضل والبركة، وهو صلى الله عليه وآله وسلم أعظم الناس بركةً، وليس أحدٌ من أمته مثله في ذلك، فكيف يقال: إن التبرك به يدلّ على التبرُّك بغيره؟ هذا واضح البطلان، إلا أن يدّعي المجيزون أنَّ أحدًا من أُمته أولى منه صلى الله عليه وآله وسلم أو مساوٍ له، فليفعلوا ما شاؤوا، ولن يلتزموا ذلك حتى يخلعوا ربقة الإسلام من أعناقهم!
[ص 10] ومما يؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقطوع بكونه حبيب الله وخليله في الدنيا والآخرة، قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. وأما غيره من هذه الأمة فإنما يمكن القطع في حق الصحابة المبشّرين بالجنة، ومع ذلك فلم يكن يُتبَّرك بهم رضي الله عنهم، ولا يثبت في التبرُّك بهم أثرٌ صحيح، لا بمَن كان منهم من القرابة ولا غيرهم.
فدلَّ ذلك على أنَّ التبرُّك كان خصوصية له صلى الله عليه وآله وسلم لا يَشْرَكه فيها غيره حتى مَن عُلِمَت نجاتُه.
وأما غيرهم فلا سبيل إلى القطع بكمال إيمان أحد ولا وفاته عليه ولا نجاته يوم القيامة. وفي ذلك أحاديث كثيرة منها:
حديث «الصحيحين»
(1)
عن أبي بكرة قال: أثنى رجلٌ على رجلٍ عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «ويلك قطعتَ عنقَ أخيك ــ ثلاثًا ــ، من كان منكم مادحًا لا محالة فليقل: أحسب فلانًا والله حسيبه، إن كان يرى أنه كذلك، ولا يزكِّي على الله أحدًا» .
(1)
البخاري (2662)، ومسلم (3000).
ومنها: حديث «الصحيحين»
(1)
أيضًا عن ابن مسعود عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفيه: «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها» .
وفي «الصحيحين»
(2)
أيضًا عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار» .
ولما قالت الأنصاريةُ في عثمان بن مظعون: هنيئًا لك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. لم يُقرّها صلى الله عليه وآله وسلم. والحديث في «صحيح البخاري»
(3)
.
ولما قال سعد بن أبي وقّاص: يا رسول الله مالَكَ عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمنًا. قال:«أو مسلمًا» . والحديث في «صحيح البخاري»
(4)
أيضًا.
والمراد هنا كراهية القطع بالإيمان والنجاة، فأما الثناء على شخص بأنه كان مواظبًا على عمل الخير، مُجانبًا أعمال الشرّ فحَسَنٌ، وهو المراد في حديث «الصحيحين»
(5)
عن أنس قال: مرّوا بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا، فقال
(1)
البخاري (3332)، ومسلم (2643).
(2)
البخاري (2898)، ومسلم (112).
(3)
(1243).
(4)
(27)، وهو في «صحيح مسلم» (150) أيضًا.
(5)
البخاري (1367)، ومسلم (949).
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وجَبَت» . ثم مرّوا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا، فقال:«وجَبَت» . فقال عمر: ما وجبت؟ قال: «هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت له النار. أنتم شهداء الله في الأرض» .
والسرُّ في ذلك ــ والله أعلم ــ أن ثناءهم على الميت يدلّ على أنهم لم يروا منه إلا الخير، فإذا شهدوا له بذلك غفر الله له ما لم يطلعوا عليه؛ لأنه سبحانه وتعالى أكرم من أن يفضحه في الآخرة وقد ستره في الدنيا، كما ورد معنى ذلك في «الصحيح» ، [ص 11] ففي «الصحيحين»
(1)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كلُّ أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من المجانة
(2)
أن يعمل الرجل بالليل عملًا ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه، ويصبح يكشف ستر الله عنه».
وفي «الصحيحين»
(3)
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى [إذا] قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: سَتَرْتُها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته. وأما الكفّار والمنافقون فينادي بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء
(1)
البخاري (6069)، ومسلم (2990).
(2)
كذا في الأصل: «المجاهرون
…
المجانة». والمؤلف ينقل لفظ الحديث من «المشكاة» : (3/ 47). وهو لفظ بعض روايات «صحيح البخاري» كما في «فتح الباري» : (10/ 486 - 487).
(3)
البخاري (2441)، ومسلم (2768).
الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين».
ثم رأيت الحديث في «مسند الإمام أحمد»
(1)
مفسَّرًا على ما ظهر لي، وهو في مسند أبي هريرة ولفظه:«ما من عبدٍ مسلم يموت يشهد له ثلاثة أبيات من جيرانه الأدْنَين بخير إلا قال الله عز وجل: قد قبلت شهادة عبادي على ما عَلِموا وغفرتُ له ما أعلم» .
وذلك أن شهادة الجيران الأدْنَين ظاهرة في كونه لم يُجاهر بسوءٍ، وإذا لم يجاهر بسوء كان ذلك ظاهرًا في عدم استرساله في المعاصي وتوغّله فيها، إذ لو فعل ذلك لهان عليه المجاهرة ولو بإطلاع جيرانه على بعض عمله، إذ العادة تقضي بذلك، مع جَرَيان عادة الله تعالى بفضيحة المسترسل في المعاصي والمتوغِّل فيها. فإذ لم يقع شيءٌ من ذلك، أي من مجاهرته أو من اطلاع أعدائه أو فضيحة الله تعالى له= كان ذلك ظاهرًا في عدم استرساله.
وتلخيصه: أن ستر الله تعالى لعبده في الدنيا دليل إرادته المغفرة في الآخرة، كما اقتضته الأحاديث الصحيحة، وشهادةُ الجيران ظاهرةٌ في الدّلالة على الستر، وبهذا يتمّ المراد.
نعم يُشترط أن يكون الشهود من الجيران ممن يفرِّق بين الحق والباطل، والطاعة مِن المعصية. ويشترط أيضًا أن تكون شهادتهم مطابقةً لما علموه.
(1)
(8989، 9295). يرويه شيخ من أهل البصرة عن أبي هريرة، فسنده ضعيف من أجل هذا الشيخ المبهم.
فإن قيل: فما تقولون في مَن كان ظاهر عمله الخير ثم خُتِم له ــ والعياذ بالله ــ بسوء الخاتمة، فإن الله تعالى يقول:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48، 116].
فالجواب: أن هذا قلّما يتفق مع ما ذُكِر لظاهر هذه الأحاديث وغيرها؛ لأن الخاتمة هي فَذْلَكة
(1)
العمل الطويل، ففي «الصحيح»
(2)
: «اعملوا فكُلٌّ ميسّر لما خُلِق له» . فإن أمكن وقوعه كان مخصّصًا لما ذكر.
ثم اعلم أن هذه الشهادة ليست في التزكية المنهيّ عنها في الأحاديث المارّة؛ لأن تلك في التزكية المقطوع بها بما في نفس الأمر، وهذه شهادة بما شاهدوه من محافظته على الخير، واجتنابه الشر.
[ص 12] ولا يقال: إن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وجَبَت» قد يكون عن وحي، فيكون خاصًّا، بل ذلك عام
(3)
في كل مسلم، بدليل رواية أبي هريرة التي رواها الإمام أحمد، كما مرّ قريبًا.
وفي البخاري
(4)
عن أبي الأسود قال: قدمت المدينة وقد وقع بها مرض، فجلستُ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمرَّت بهم جنازة، فأُثنيَ على صاحبها خيرًا، فقال عمر رضي الله عنه: وجبت، ثم مُرّ بأخرى فأثني على صاحبها خيرًا، فقال عمر رضي الله عنه: وجبت، ثم مُرَّ بالثالثة
(1)
أي: خلاصته ونتيجته.
(2)
البخاري (4946)، ومسلم (2647).
(3)
لم يظهر إلا «عا» بسبب تآكل الورقة.
(4)
(1368).
فأُثنيَ على صاحبها شرًّا، فقال: وجبت. فقال أبو الأسود: فقلت: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة» . فقلنا: وثلاثة؟ قال: «وثلاثة» . فقلنا: واثنان. قال: «واثنان» . ثم لم نسأله عن الواحد.
والمقصود أن غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأمة لا يمكن القطع بتحقق إيمانه في حياته، ولا بموته عليه، ولا بنجاته يوم القيامة، حتى لو ظهرت على يده الخوارق؛ لأنها لا تفيد إلا الظنّ، لإمكان أن يكون من باب الاستعانة بالجن أو السِّحر أو الاستدراج أو غير ذلك.
كيف وقد يقع ما يشبه ذلك للكفار، كما كان للإشراقيين من الفلاسفة، والكَهَنة من العرب، والسَّحَرة من بقية الأمم، وكما هو معروف الآن بالتنويم المغناطيسي وغير ذلك. وحسبك ما يقع للمسيح الدجّال.
وليس المقصود رمي من ظهرت على أيديهم الخوارق بالسِّحْر والكذب وغيره، وإنما المقصود بيان أن ظهور ذلك على أيديهم لا يفيد القطع، بخلاف معجزات الرسل فإنها أمرٌ فوقَ ذلك. ولا يَغُررك قولهم:(ما كان معجزةً لنبي كان كرامة لولي)
(1)
، فإن هذا الإطلاق يتناول ادّعاء أن الولي قد يأتي بكتاب معجز كالقرآن، ولاسيما مع ادّعائهم نزول الوحي عليهم، كما سيأتي نقله إن شاء الله تعالى، فتنبّه.
نعم، إذا كان الإنسان كامل الاستقامة على الحدود الشرعية، كان الغالب تحقُّقَ إيمانه ونجاته، ووجب العمل بالظاهر فيما صح الأمر به
(1)
انظر «فتح الباري» : (7/ 383)، و «الإنصاف في حقيقة الأولياء» (ص 37) للصنعاني.
والإذن فيه، كمحبته وإكرامه القَدْر المشروع في حقِّ فضلاء المؤمنين. فأما أن يُقام مُقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التبرّك بآثاره فكلّا.
على أن النوع الشائع في التعظيم، وهو تقبيل الأيدي والرُّكَب والأرجل لم يثبت فعله في حقِّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلّا في حديث اليهوديين على ما مرّ
(1)
. وأما مقابلته صلى الله عليه وآله وسلم لجميع الصحابة فإنما كان بمجرَّد المصافحة. وأما في هذا الزمان فقد صار الشريف أو الشيخ لا يُرْجى أن يقابله أحدٌ أبدًا إلّا ويعظّمه بشيء من ذلك، فيقيم نفسَه فوق مُقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم!
[ص 13] فصل
قال المانعون: وأما قياس ذرّيته صلى الله عليه وآله وسلم على آثاره فغير صحيح، أما عند مَن لا يجيز القياس فظاهر. وأما مَن يجيزه فإنه يشترط الأولوية أو المساواة، ولا مساواة هنا فضلًا عن الأولويّة.
بيانه: أن آثاره صلى الله عليه وآله وسلم كالشَّعر والثياب وغيرها مما ورد مقطوعٌ بكونها كانت مُلابِسَةً له، ومقطوع بأنها ليس لها صفات تناقض البَرَكة، ولا كذلك الذرية في الأمرين، فتأمّل.
وأما استسقاء الصحابة بالعبّاس فليس من هذا؛ لأنهم إنما توسلوا بدعائه، وهذا جائز اتفاقًا، حتى أن الله سبحانه أمرنا بالدعاء لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
(1)
(ص 237).
وفي «صحيح مسلم»
(1)
عن عبد الله بن عَمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علَيَّ فإنه مَن صلّى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمَن سأل لي الوسيلة حلَّت عليه الشفاعة» .
وروى الترمذي وأبو داود
(2)
عن عمر بن الخطاب قال: استأذنتُ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم في العمرة، فأذِن لي وقال:«أشْرِكنا يا أُخَي في دعائك ولا تنسنا» .
ولا يُنْكَر أن لأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم من القُرب منه ما يوجب لهم المزيَّة على غيرهم في الجملة، فمن كان منتسبًا إليه صلى الله عليه وآله وسلم، ظاهرَ الاستقامة فمحبته واجبة، وسؤال الدعاء منه حَسَن، وأما التبرُّك به قياسًا فلا، لما مرّ.
وكذا كلّ مَن كان ظاهر الصلاح والاستقامة والفضل فمحبّته واجبة، وسؤال الدعاء منه حَسَن، ومِن هذا استسقاء معاويةَ بيزيد بن الأسود الجرشي رحمه الله تعالى
(3)
.
(1)
(384).
(2)
الترمذي (3562)، وأبو داود (1498)، وأخرجه أيضًا ابن ماجه (2894)، وأحمد (195) وغيرهم. قال الترمذي: حسن صحيح. لكن في سنده عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف.
(3)
سبق تخريجه (ص 239).
قال المجيزون: إن الاستدلال بما ورد في التبرُّك بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على التبرُّك بآثار غيره لا يستدعي الأولويّة ولا المماثلة ولا اليقين، بل المدار على وجود مطلق البركة، وهي بحسب الظن المعتبر شرعًا. ونحن وإن لم نقطع في حق الصالحين بالتحقق بالإيمان وغيره، فالمدار في الشرع على غَلَبة الظن، وهي حاصلة.
وما أجبتم به عن التبرُّك بذريّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يردّه؛ لأن المدار على وجود الأثر الطاهر، وهو موجود فيهم، ولا يحتاج إلى القطع بل يكفي غَلَبة الظنّ، إذ المدار عليها في الشرعيّات. وما زالت الأمة تتبرّك بصالحيها وذريّة نبيها بتقبيل الأيدي والرُّكَب والأرجل، والتبرّك بالتفل والثياب وغير ذلك. فهو إجماع، وله أسوة بغيره من الإجماعات التي خرقتموها!
[ص 14] قال المانعون: أما قولكم: إنه لا يشترط الأولويّة والمساواة، فممنوع كما مرّ.
وأما قولكم: إن المدار في الشرعيات على غَلَبة الظن، فجوابه: أن هذا مسلّم لو ثبت التبرّك بالصالح مطلقًا، وهو لم يثبت، وإنما ذكرنا ذلك إيضاحًا للفرق الظاهر.
وقولكم في الذرية: إن المدار على غَلَبة الظن أيضًا= جوابُ مَن لم يفهم، ونحن لم ننكر نَسَبَهم، وإنما مرادنا أن الظنّي لا يُقاس بالقطعي.
وما ذكرتموه من عمل الناس، فجوابه: أنه لا يتمّ لكم دعوى الإجماع، بل لنا أن نقول: إن السلف كانوا مجمعين على ترك ذلك، يعني الصحابة
والتابعين، وإنّما حَدَث بعد ذلك، وإجماعُ الصحابة والتابعين هو الإجماع الصحيح. ولعلكم تذكرون ما نقلناه عن الفقهاء في البحث الأول من هذه المسألة
(1)
. فبالله عليكم تعالوا بنا نصطلح، ودَعُوا هواكم ومحبّتكم لاستعباد الناس {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64]. واذكروا الحديث الصحيح، قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به»
(2)
، وثِقوا بالله تعالى، فوالله ليعوضنَّكم خيرًا مما سيفوتكم من التقبيل وغيره
(3)
.
[ص 15] يقول عُبيد الله المفتقر إليه: نعم الاحتياط في هذا أن تُتبّع سيرة السلف، فيُنظر ما كان يعمله خيار الصحابة رضي الله عنهم والتابعون في حق أقارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين لم يُبشّروا بالجنة، فيُعْمَل مع مَن وُجد الآن من الأشراف المُسْتَيقَنين
(4)
. ويُنظر ما كان يعمله التابعون في حق غير المبشرين من الصحابة رضي الله عنهم، فيعمله العامةُ الآن مع العلماء والصلحاء. وإنما قيّدنا بعدم التبشير لما تقدم من بطلان قياس الظني على القطعي، والله أعلم.
(1)
(ص 68 - 75).
(2)
تقدم تخريجه (ص 90).
(3)
كتب المؤلف بعده ثم ضرب عليه: «أقول: هذا ما أمكنني اختطافه في هذا البحث على حين عجل، وأدعه مفتوحًا» وترك نصف الصفحة بياضًا. وما كتبه المؤلف بعد ذلك هو تتميم للكلام المفتوح في المسألة.
(4)
غير محررة في الأصل.
على أننا نعلم أن العلماء وأهل الفضل والصلاح الصادقين لا يحبون تعظيم الناس لهم، بل تقشعرّ منه جلودهم، وتشمئزّ منه نفوسهم، ويكرهونه أشدّ الكراهة.
وكذلك يكرهون تبرّك الناس بهم؛ لأنهم دائمًا يرون نفوسهم من أهل النقص والخطأ، ويكرهون كل ما قد يكون سببًا للعُجْب وذريعةً إليه، حتى إن بعضهم يتلبّس بما ظاهره المعصية هربًا من ذلك.
وأما مَن كان دون هذه المنزلة، فإنه وإن أحبَّ تعظيم الناس له وتبرّكهم به فإنما يدعوه إلى ذلك حبُّ الدنيا، فيرى أن تعظيم الناس له وتبرّكهم به يستدعي تقرّبهم إليه بالأموال، فالمقصود حينئذٍ
(1)
هو المنفعة المادية فقط. وهذا مع كونه مقصدًا سيّئًا في نفسه بالاتفاق، فالمانعون لا يمنعون الناسَ من مواساة أهل العلم والفضل والصلاح والقرابة الشريفة بالأموال، بل يرون ذلك من أفضل القُرُبات، ويحضّون الناسَ على الاستكثار منه.
نعم، قد يكون بعض الأشراف والعلماء يحبُّ تعظيم الناس له وتبرّكهم به مع عدم احتياجه إلى المنفعة المادية، وإنما يحبّ ذلك لمجرّد الفخر والعُجْب والمباهاة والتعاظم، ولا شكّ أن ذلك مذموم شرعًا. وأشدّ الناس محاربةً لهذا الداء ونحوه من أدواء القلوب: مشايخ الصوفية، حتى إن بعضهم يقول: من رأى نفسه خيرًا من بعرة كانت البعرةُ خيرًا منه!
والذي ينبغي في مثل هذا: أن يُعامل صاحبه بنقيض قصده كما ورد:
(1)
كتبها المؤلف (ح) اختصارًا، وكذا ستأتي بعد أسطر.
الكبر على المتكبِّر تواضع
(1)
.
[ص 16] على أن التعظيم إنما هو وسيلة لإظهار المحبَّة التي هي المقصود بالذات وحينئذٍ فيمكن إظهار المحبة بغيره كقوله: «إني أحبك في الله» كما ورد الأمر بذلك في الحديث
(2)
، وكإهداء الهدايا، وغير ذلك.
وكذلك التبرّك إنما هو وسيلة لحصول البركة التي هي المقصود بالذات، وحيئنذٍ
(3)
فيمكن استحصال البركة بطلب الدعاء، كما ثبت الأمر به، وحينئذٍ فلا يخفى أن الاحتياط يقضي بالتوقّف عن التعظيم والتبرّك المختلَف فيهما، وأن يُقتصَر في تحصيل المقصود بكلّ منهما على الوسيلة الثابت الإذن بها شرعًا بالاتفاق، عملًا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
(4)
، وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام:«الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس» الحديث
(5)
.
(1)
ذكرها ابن الملقن في «طبقات الأولياء» (ص 112) لبشر الحافي. ووردت بلفظ «التكبر على المتكبر صدقة» . انظر «فيض القدير» : (4/ 336)، و «الأسرار المرفوعة»:(142).
(2)
أخرجه أبو داود (5124)، والترمذي (2392)، والنسائي في «الكبرى» (9963)، وأحمد (17303) من حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه. وأخرجه أحمد (21619) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وفي سنده ابن لهيعة.
(3)
اختصرها المؤلف إلى (ح).
(4)
أخرجه الترمذي (2518)، والنسائي (5711)، وأحمد (1723) وابن حبان (722) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما، قال الترمذي: حسن صحيح.
(5)
أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
خاتمة:
رأيت في بعض الكتب
(1)
بحثًا في فضل العلم والشرف أيهما أعظم، فذكر المؤلف اختلافًا في ذلك، ثم قال ما معناه: إن القائل بأفضلية الشرف قال: لو جُنّ الشريف لم يزل عنه الشرف، ولو جُنّ العالم زال عنه العلم، وفضل الشرف ذاتي، وفضل العلم عَرَضي. وبناءً على ذلك جزم بأفضلية الشرف.
فعجبت من هذا مع قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وما يبينها من الأحاديث الكثيرة!
ثم ظهر لي أن المبحوث عنه هو فضل الشرف وفضل العلم مع قطع النظر عن التقوى، فأقول: إن كلًّا من العلم والشرف لا يكون فضلًا إلا مع التقوى، فإذا فُقِدت التقوى عاد وبالًا على صاحبه، كما يدلّ عليه قوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ
…
} الآية [الأحزاب: 30]، وقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا
…
} الآية [الأعراف: 175]. وحينئذٍ فالخلاف مفروض بين عالم وشريف مستويي الرتبة في التقوى.
إذا تقرّر ذلك فالأفضل منهما هو العلم؛ لأن طلبه نوع من أنواع التقوى، بخلاف النسب، ولأنَّ العلم شرط للتقوى بخلاف النسب، ولأن العلم من الفواضل التي ينفع بها صاحبُها دينَه وإخوانه المسلمين، ولا كذلك النسب، ولأن طلب العلم من عمل الإنسان الذي يستحقّ عليه الثواب بخلاف النسب.
(1)
لعله كتاب «ظهور الحقائق في بيان الطرائق» (ص 111) لعبد الله بن علوي العطاس. ففيه نحو ما ذكره المؤلف.
وعلى كل حال فالفضل إنما يتحقّق بالتقوى والاتباع، وإلّا عاد العلمُ وبالًا على صاحبه. وفقنا الله تعالى لما يحبّه ويرضاه آمين.
على أن الوجهين اللذين ادعى أنهما يقتضيان أفضلية النسب يقتضيان أفضلية العلم، وذلك أنه تبين منهما أن النسب ليس من الأفعال الاختيارية التي يُحْمَد صاحبها عليها، بل هو كالطول والقصر وبياض اللون وسواده مما لا يتعلّق به الحمد ولا الجزاء. ولو تمّ استدلاله لزم منه أن حُسْن الوجه أفضل من العلم؛ لأنه ذاتي لا يزول بالجنون. وهذا القول هو الجنون! على أن فضل النسب هو أمر اعتباري [ص 17] بين الناس، وأما عند الله تعالى فليس الكرم إلا التقوى.
وأما ما ورد من الأدلة الشرعية مما يقتضي فضيلةً للنسب فإنما هو باعتبار كونه منشئًا للتقوى أو ناشئًا عنها، والأول ــ أعني كونه منشئًا للتقوى ــ إنما يكون بالنظر إلى المجموع لا الجميع، وحيث كان كذلك فلا يحصل للفرد إلّا إذا كان من أهل التقوى، وذلك لوجود المقتضي الذي لأجله أُطلق الفضل على النسب فيه، وإلّا كان كالحشَفَة من التمر، بل إذا اتصف بما يضاد التقوى كان بمنزلة حشفةٍ نُقِعَت في نجاسة.
والثاني ــ أعني كونه ناشئًا عن التقوى ــ شرط حصوله للفرد أن لا يوجد فيه ما يُناقض التقوى ويعارضها. ومع ذلك فمعلوم أن النسب ليس من الأمور القطعية. وقد سمعت شيخي محمد بن علي الإدريسي يحكي عن جده أحمد بن إدريس أنه كان يقول: (الزمانُ قد طال وليس على فروج النساء أقفال). وهذا البحث يحتاج إلى بسط ليس هذا موضعه.
[ص 18] وقد بقي من أقسام التبرك: التبرّك بالقبور والمشاهد وما بني عليها من المساجد.
أقول
(1)
: قد عَلَمتَ الأدلة الصحيحة الصريحة على حُرمة البناء على القبر وحرمة بناء المسجد عليه أو بقربه بحيث يكون منسوبًا إليه، وأن ذلك من الكبائر الملعون صاحبها، والمشتدّ غضب الله على من فعلها، وأنّ العلة في ذلك هي كراهية التشبّه بالمشركين من الأمم السالفة، وخشية أن يجر ذلك إلى الشرك كما مرّ تقريرُه بأدلته
(2)
.
فإذا كانت المشاهد والمساجد المتخذة على القبور بهذه المثابة، فالواجب على كل مسلم المبادرة إلى هدمها كما صحّ به الأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورواه الإمام الشافعي رحمه الله عن الأئمة بمكة
(3)
، ونقله عنه النووي في «شرح مسلم»
(4)
. ومضى في بحث البناء على القبور أن ذلك هو مذهبه ومذهب جميع أئمة الإسلام، بل هو الدين الذي تعبَّدنا الله به. فارجعْ إلى ذلك
(5)
.
فمن لم يقدر على هدمه بيده فالواجب عليه تشديد الإنكار بلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان، وليس بعد ذلك من الإيمان مثقال
(1)
في الأصل بعدها: «قد تقدم إثبات» والظاهر أن المؤلف نسي أن يضرب عليها بعد أن غيّر العبارة عدة مرات.
(2)
انظر ما سبق (ص 186 وما بعدها).
(3)
انظر «الأم» : (2/ 631).
(4)
(7/ 36 - 38).
(5)
(ص 195).
ذرة كما ورد في «صحيح مسلم»
(1)
[ص 19] عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما من نبي بعثه الله في أُمّة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلُف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» .
وفي «صحيح مسلم»
(2)
أيضًا عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» .
فإذا كان الاقتصار على الإنكار بالقلب أضعف الإيمان الذي ليس بعده من الإيمان حبة خردل، فما بالك بالرّضا بذلك؟ فما بالك بالمساعدة عليه؟ فما بالك بفعل ما حَرُم [من] البناء واتخاذ المساجد لأجله، وتواتر لعن فاعله، واشتداد غضب الله عليه؟
وعلماء الأمة سَلَفًا وخَلَفًا مجمعون على أنّ التبرك بالقبور بالاستلام والتمسح والتقبيل ووضع العينين ونحوه= كلّه محادّة لله ورسوله، وخروج عن سواء سبيله، فالعلماء بين مكفِّر ومفسِّق. ولا يصح قياس قبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على آثاره، لأن القبور ولاسيَّما قبور الأنبياء والصالحين مظنة افتتان الناس وضلالهم. وقد تقدّم
(3)
في حديث أبي داود عن قيس بن
(1)
(50).
(2)
(49).
(3)
(ص 238).
سعد وأحمد عن معاذ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟ » قال: فقلت: لا.
وهذا يدل على أنهم كانوا يعلمون وضوح الفرق بينه صلى الله عليه وآله وسلم حاضرًا وبين قبره، ويعلمون الخَطَر في تعظيم القبور. وقد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتخاذ المساجد على القبور من عبادة الأوثان فيما روي عنه من قوله:«اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعْبَد. اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»
(1)
.
وقد تقدم بيان عِلّته زيادةً على علة النهي عن مطلق البناء، وذلك خشية الصلاة إلى القبر، فكيف بمن صلى إلى القبر؟ فكيف بمن أقبل على القبر يشمّه ويضمّه ويستلمه ويلثمه ويضع عينيه عليه حال العاشق الوامق، إنّا لله وإنّا إليه راجعون!
ولو نظرتَ حالَ الناس مع كلام الله تعالى الموجود عند كلّ أحدٍ منهم لرأيتهم عنه معرضين، وعلى عبادة القبور مُقبلين! بل كثيرًا ما ترى الإنسان تاركًا للصلاة والصيام، مرتكبًا للفواحش، جاهلًا بربّه ودينه، وهو مع ذلك مشغوف بهذه القبور [ص 20] يحنّ إليها، ويحنو عليها، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والله عز وجل يقول في كتابه العزيز:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].
(1)
بهذا اللفظ أخرجه مالك في «الموطأ» (475) من مرسل عطاء بن يسار. وأخرجه بنحوه أحمد (7358)، والحميدي (1025) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد حسن.
هذه حال أهل الجاهلية، وقد كانوا مع ذلك إذا وقع أحدهم في شدة أعلن التوحيد كما قصّه الله عز وجل في مواضع من كتابه، منها قوله عز وجل:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].
وأخرج الترمذي
(1)
عن عمران بن حُصين قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي: «يا حُصين كم تعبد اليومَ إلهًا؟ » قال أبي: سبعة، ستًّا في الأرض وواحدًا في السماء، قال:«فأيهم تعدّ لرغبتك ورهبتك؟ » قال: الذي في السماء
…
الحديث.
فهذا حال أهل الجاهلية الذين سمعتَ قوارع الآيات في شأنهم، وعلمتَ بعثة محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم لدعوتهم، وقيامه هو ومَن آمن معه بجهادهم. فأما عامة المسلمين اليوم فإن قبور صالحيهم أحبّ إليهم من مساجدهم، وبذل الأموال الطائلة في عمارتها وفرشها وإيقاد السُّرُج عليها والذبح عندها [تابع ص 20] أيسر عليهم من إخراج الزكاة الواجبة، والمشيُ إلى بعض تلك القبور للتمسّح بها أشرف لديهم من المشي إلى علماء الدين، ودعاؤها والاستغاثة بها أرجى عندهم من إخلاص الدعاء لله وحده لا شريك له. وكلما اشتدّ على أحدهم البلاءُ ازداد ابتهالًا إليها على العكس من حال أهل الجاهلية، فإنّا لله وإنا إليه راجعون.
وقد مرّ بيان الزيارة المشروعة التي قام الدليل على استحبابها ومنع ما
(1)
(3483). وأخرجه البزار (9/ 53)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2355). قال الترمذي:«غريب» . وفي نسخة: «حسن غريب» .
عداها، فارجع إليه
(1)
. فإن كنتَ ممن يحبّ الله ورسوله، فالسبيل واضح، وميزان المحبةِ الاتباعُ، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]. وإن كنت ممن وجد حلاوة الإيمان فالطريق بيِّن. وإن كنت ممن كان هواه تَبَعًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقد تبيّن لك ما جاء به، ففي «الصحيحين»
(2)
عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين» .
وفيهما
(3)
عنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوةَ الإيمان: مَنْ كان الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، ومن أحبّ عبدًا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يكون في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار» .
وفي «صحيح مسلم»
(4)
عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ذاقَ طعمَ الإيمان مَن رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا» .
وقد صحَّح النووي ــ كما مرَّ
(5)
ــ الحديثَ المرويّ عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يؤمن أحدُكم حتى يكون
(1)
(ص 209).
(2)
البخاري (15)، ومسلم (44).
(3)
البخاري (16)، ومسلم (43).
(4)
(34).
(5)
(ص 129).
هواه تبعًا لما جِئت به».
وحسبك قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
وإن كانت نفسك تحدّثك أنها تحبُّ اللهَ ورسولَه فامتحنها بالرضا والتسليم لكلّ ما جاء عن الله وعن رسوله، فقد قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31].
فإن كنت زاهدًا في محبة الله تعالى وزعمتَ أنك تحبّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعلم أن محبته على قسمين:
الأولى: محبة لا تنافي محبة الله تعالى [ص 21] فهذه هي شرط الإيمان، وميزانها الاتِّباع.
ومحبة تنافي محبَّة الله تعالى، وهي كمحبة النصارى لعيسى، فهذه هي مناقضة للإيمان. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما يحبّ مَن أحبّ اللهَ.
ويقال لصاحب هذه المحبّة: إن كنت تحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه لا يحبّك، وكيف يحبّ مَن لا يحب الله؟ وكيف يحبّ مَن غضب عليه الله؟ فاتق الله في نفسك، وانظر إلى أين أنت سائقها، على أن المحبّة لا تتحقق إلا بالاتباع على كل حال. والله أعلم.