المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الأشياء الحادثة بعد عصر النبوة نوعان: - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ٤

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمةفي بيان التكليف وما يتصل به

- ‌الأدلة الموجبة العملَ بالظن بشرطه

- ‌المسألة الأولىالاجتهاد والتقليد

- ‌ الإجماع المعتبر

- ‌ طلب رتبة الاجتهاد فرضَ كفاية

- ‌المسألة الثانيةالسنة والبدعة

- ‌ الأشياء الحادثة بعد عصر النبوة نوعان:

- ‌[البحث الأول: البناء على القبور]

- ‌[روايات حديث أبي الهيّاج عن علي]

- ‌ البحث الثانياتخاذ القبور مساجد أو اتخاذ المساجد على القبور

- ‌تنبيهات

- ‌البحث الثالثزيارة القبور

- ‌ الحكمة في استحباب زيارة القبور:

- ‌ هل تُزار قبور الكفّار

- ‌ كيفية الزيارة:

- ‌ فصلفي زيارة قبور الأنبياء والصالحين

- ‌البحث الرابعالتبرُّك

- ‌1): «ماء زمزم

- ‌ تقبيل اليدين والرجلين

- ‌[مسألة التبرك بالصالحين]

- ‌البحث الخامسالتوسُّل

- ‌ حديث «الصحيحين» في قصة الثلاثة أصحاب الغار

- ‌ الفرق بين التوسّل بالحيّ والميت

- ‌[بحث في اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا]

- ‌المسألة الثالثةالنداء للغائبين والموتى وغيرهم

- ‌ المقام الأولعلم الغيب

- ‌ العلم الخبري بما هو غيب عن جميع الخلق

- ‌ معرفة الأنواء

- ‌ العَرافة

- ‌ الفأل والطِيَرة

- ‌ الطّرْق بالحصى

- ‌ رؤية الإنسيّ للجنيّ وسماعه لكلامه

- ‌[الكلام في حجية الإلهام وهل هو من الإظهار على الغيب

- ‌ المقام الثانيفي تصرُّف بعض بني آدم في الكون

- ‌ المقام الثالثالنداء والطلب

- ‌ الحكم على بعض الأعمال أنه كفر لا يسوغ إلا بعد اجتهادٍ ونَظَر

- ‌ الميزان

- ‌ملحق ــ 5 ــفي معنى التأويل

الفصل: ‌ الأشياء الحادثة بعد عصر النبوة نوعان:

فقول الشارع: "أدُّوا النُّسُك"[أمرٌ] بأداء النسك، وأداء النسك لا يتم إلّا بسفرٍ إلى الحرم، وما لا يتمُّ الواجب إلّا به فهو واجب، فالسفر إلى الحرم واجب، فكان الأمر بأداء النسك أمرًا بالسفر إلى البيت، وهذا السفر مطلق يصدُق على السفر برًّا والسفر بحرًا وغير ذلك.

إذا تقرر ما ذُكِر فإنه ما من شيء من الأشياء إلّا وحكمه الشرعي مبيَّنٌ في كتاب الله تعالى بإحدى الدلالات الثلاث أو المفهومات المعتبرة، سواء كان موجودًا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم حدثَ بعده، وحينئذٍ فالآتي بشيء ما من الأشياء إن كان الإتيان به موافقًا للشرع فتلك السُّنَّة، وإن كان مخالفًا له فإن كان موجودًا من أول الإسلام فهو حرام أو مكروه فحسب، وإلَّا فهي المحدثة البدعة.

[ص 3] والحاصل أن‌

‌ الأشياء الحادثة بعد عصر النبوة نوعان:

الأول: ما كان فيما يتعلق بمصالح الدنيا، من مطاعم ومشارب وملابس ومراكب ومناظر ومزارع وغير ذلك مما لا يضر بالدين، فهذا جائز لدخوله تحت عمومات الإباحة، فليس في الشرع بدعةً ولا محدثةً لموافقته للشرع، ولا مانعَ من استعمال المحدث من ذلك وسيلةً لتحصيل الأمور الدينية، كركوب الطيارات لأداء النسك، لأن مقصود الشارع من الأمر بالسفر لأداء النسك هو الانتقال إلى الحرم بأيّ وسيلةٍ كانت لأداء المقصود الذي هو النسك، وإن كان الاتباع أفضل.

النوع الثاني: ما كان فيما يتعلق بالأمور الدينية خاصةً، فهذا على قسمين: وسائل ومقاصد.

فأما الوسائل فإنه يجوز العمل بما أُحدِث منها بشرط تعذُّر أو تعسُّرِ

ص: 153

الوفاء بمقصدها الديني بوسيلته التي كان العمل عليها في عهده صلى الله عليه وآله وسلم. ومن هذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم على جمع القرآن في مصحف واحد، وذلك أن المحافظة على القرآن هي أهم الأمور الدينية، وكانت الوسيلة لذلك في عهده صلى الله عليه وآله وسلم الحفظ، فلما استحرَّ القتلُ بالقرَّاء في عهد الصدِّيق، وانتشر المسلمون في الآفاق، وبدأت الهِمَمُ تَكِلِّ عن الحفظ، [و] رأى الصحابة رضي الله عنهم أن الوسيلة الأولى قد ضعُفت عن الوفاء بالمقصد الذي هو المحافظة على القرآن، وأن الاقتصار عليها يُخشَى أن يؤدّي إلى ضياع المقصد= قرروا أن الأمر بالمحافظة على القرآن يلزمهم أن يعملوا لتحصيله بكل وسيلة، فإن أمكن حصولُه بالوسيلة التي كان [العمل] عليها في عهده صلى الله عليه وآله وسلم تعيَّن ذلك، وإلّا نظروا وسيلة أخرى، وعملُهم بالوسيلة الأخرى من السُّنَّة، لأنه عملٌ بمقتضى الدليل.

والحاصل أن الإذن في هذا كأنه على الترتيب، فلا يجوز العمل بالمحدث حتى يمتنع العمل بما قبله، فالعمل بالمحدث من غير أن يمتنع ما قبله بدعة، والعمل به بعد امتناع ما قبله [سنة].

وأما القسم الثاني ــ وهو المقاصد ــ فالمحدَث منه كلُّه بدعة ضلالة، وليس منه صلاة التراويح كما يظن بعضهم، فإنها من السنة، كما ثبت في "الصحيحين"

(1)

عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتخذ حُجرةً في المسجد من حصيرٍ، فصلَّى فيها لياليَ حتى اجتمع عليه ناس، ثم فقدوا صوتَه ليلةً وظنُّوا أنه قد نام، فجعل بعضُهم يتنحنح ليخرج إليهم،

(1)

البخاري (7290) ومسلم (781).

ص: 154

فقال: "ما زال بكم الذي رأيتُ من صنيعكم حتى خشيتُ أن يُكتَب عليكم، ولو كُتِب عليكم ما قمتم به، فصلُّوا أيها الناسُ في بيوتكم، فإن صلاة المرء في بيته أفضلُ إلَّا المكتوبةَ".

وقوله: "ما زال بكم الذي رأيتُ من صنيعكم" يريد ــ والله أعلم ــ من اجتماعهم وحرصهم على الحضور، كما يدل عليه قوله: "فصلُّوا أيها الناس

" إلخ. فقطعَ صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج للصلاة بهم خشيةَ أن تُكتَب عليهم، وأرشدهم إلى أن يُصلُّوا في بيوتهم، لأن صلاة المرء في بيته أفضل إلا المكتوبة، وخشيةُ أن تُفرض هو المانع في الحقيقة. فأما عدولهم عن الصلاة في بيوتهم فإن غاية ما فيه أنه خلاف الأولى، ومع ذلك فكان ينجبر بائتمامهم به صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن لما انقطع ائتمامهم به للمانع الأول انتفى الانجبار كما هو ظاهر. فلما توفي صلى الله عليه وآله وسلم انتفى الأمر الأول الذي هو المانع في الحقيقة، وبقي المانع الآخر وهو كون الأفضل صلاتهم في بيوتهم، فبقي الحال على ذلك خلافةَ الصدّيق وبعضَ خلافة عمر، ثم كان ما أخرجه البخاري

(1)

عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ قال: خرجتُ مع عمر بن الخطاب ليلةً إلى المسجد، فإذا الناسُ أوزاعٌ متفرقون، يصلِّي الرجل لنفسه، ويصلِّي الرجلُ فيصلِّي بصلاته الرهطُ، فقال عمر: إني لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحدٍ لكان أمثلَ، ثم عزَم فجمعَهم على أُبي بن كعب. قال: ثم خرجتُ معه ليلةً أخرى والناسُ يصلُّون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمتِ البدعةُ هذه! والتي ينامون عنها أفضلُ من التي يقومون، يريد آخر الليلة، وكان الناس يقومون أوّلَه.

(1)

رقم (2010).

ص: 155

فدلَّ هذا الحديث أن الناس في خلافة عمر تركوا الصلاةَ في بيوتهم إلى الصلاة في المسجد، فرأى عمر رضي الله عنه أن الأمر الذي لأجله قطعَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخروجَ للصلاة بهم ــ وهو خشية أن يُكتَب ذلك ــ قد انتفى، لإكمال الدين وانقطاع التشريع بوفاته صلى الله عليه وآله وسلم، والأمر الذي لأجله أرشدهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى ترك الصلاة في المسجد ــ وهو الصلاة في بيوتهم ــ قد تركوه من ذاتِ أنفسهم، ولعله رأى أن أمرهم بأن يصلُّوا في بيوتهم ربما يُؤدِّي إلى تكاسُلِ بعضهم، مع أن غاية الأمر أنه أفضل فقط، وإلا فالجميع من السُّنَّة، لا جَرَمَ رأى أن جَمْعهم على قارئ واحدٍ أقربُ إلى السنة من بقائهم أوزاعًا، لموافقته لفعله صلى الله عليه وآله وسلم تلك الليالي، مع زوال المانع الأول، ومع إعراض الناس عن الصلاة في بيوتهم، ومع ذلك فأرشدهم إلى الأكمل بقوله:"والتي ينامون عنها أفضل" يريد ــ والله أعلم ــ بذلك الصلاةَ في البيوت، لأنهم إنما ينامون في بيوتهم.

والحاصل أن السنة في صلاة الليل مخيَّرة بين أقسام:

إما أن يصلِّي الرجل في بيته، وهذه هي الأفضل.

وإما أن يصلّيها في المسجد منفردًا، ويصلِّي كلُّ رهطٍ وحدهم، وهذا هو الذي رأى عمر رضي الله عنه الصحابة يفعلونه.

وإما أن يصلُّوا في المسجد بإمامٍ واحد، وهذا هو الذي فعله صلى الله عليه وآله وسلم بهم لياليَ، ثمَّ عدلَ عنها خشيةَ أن يُكتب. وأما قول عمر رضي الله عنه:"نعمتِ البدعة" فأراد ــ والله أعلم ــ الأمر المبتدع بعد أن كان العمل على خلافه، وهذا إنما هو بالنسبة إلى تلك المدة التي بينَ تركه

ص: 156

صلى الله عليه وآله وسلم الصلاةَ بهم وبينَ عَزْم عمر بجمعِهم على قارئ واحد. لا المبتدع مطلقًا، فقد ثبت فعلُه عنه صلى الله عليه وآله وسلم كما مرَّ. وقد يكون عمر سمع بعضَ الناس يقول: بدعة، لعدم نظرِه في الدليل، أو قدَّر أن بعض الناس سيقول ذلك، فقال: نعمتِ البدعة، أي: في زعم هذا الزاعم، كما قال تعالى في عكس هذا:{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]، أي: على ما كنت تزعم، والله أعلم.

وأما اختراع القواعد لعلوم العربية فهو صالحٌ أن يكون من النوع الأول، لأن الناس محتاجون في أمور دنياهم إلى معرفة لغة أسلافهم، وأن يكون من الثاني، فإن الدين محتاج إلى معرفة اللغة التي ورد بها الشرع، وعلى هذا فهو من الوسائل، لأن حفظ اللغة وسيلة لمعرفة الدين، وكان حفظ اللغة في عهده صلى الله عليه وآله وسلم حاصلًا في العرب بالطبع ومن خالطهم تعلَّم منهم بسهولة، فلما انتشر الإسلام وكثُر اختلاط العرب بالعجم تدهورت اللغة، وكادت تذهب لولا أن [العلماء اهتدوا إلى]

(1)

اختراع تلك القواعد وتدوينها. والله أعلم.

[ص 4] وبما ذُكِر عُلِم معنى الحديث الصحيح

(2)

: "من سَنَّ في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها وأجرُ من عمِل بها من بعده، من غير أن ينقُص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنةً سيئةً كان عليه وِزرها ووِزرُ من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".

فالمراد بالسنة فيه معناها اللغوي، وأصلها في اللغة: الطريقة الحسِّيَّة.

(1)

خرم في طرف الورقة ذهب بعدة كلمات. ولعل تقديرها ما أثبتناه.

(2)

أخرجه مسلم (1017) من حديث جابر.

ص: 157

يقال: سَنَّ فلانٌ سنةً في بطن الوادي، أي: طرقَ طريقةً. ثم تُستعمل في الطريقة المعنوية، يقال: سنَّ فلان سنةً، أي: عمل عملًا يتبعه فيه الناس. ومنه حديث الصحيحين

(1)

عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تُقتَلُ نفسٌ ظلمًا إلّا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها، لأنه أوّلُ من سَنَّ القتلَ".

فمعنى "من سَنَّ في الإسلام سنةً حسنةً": مَن عمِلَ في الإسلام عملًا حسنًا يتبعه فيه الناس، وسبب الحديث صريح في هذا، ولفظه في "صحيح مسلم"

(2)

عن جرير قال: كنّا في صَدْر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءه قومٌ عُراةٌ مُجتابِي النِّمار

الحديثَ، فذكر هيئةَ القوم الدالة على شدةِ فاقتهم، وتكدُّرَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك، وقيامَه في الناس خطيبًا يحثُّهم على الصدقة، ثم قال: فجاء رجلٌ من الأنصار بصُرَّةٍ كادتْ كفُّه تَعجِزُ عنها، بل قد عَجَزَتْ، ثم تتابعَ الناس، حتى رأيتُ لونَيْنِ

(3)

من طعام وثياب، حتى رأيتُ وجهَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتهلَّلُ كأنَّه مُذْهَبةٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سَنَّ في الإسلام سنّةً حسنةً

" إلخ.

وظاهرٌ أنه صلى الله عليه وآله وسلم يشير إلى ذلك الأنصاري الذي جاء بالصُّرَّة، فتتابع الناس لما رأوه. ولا شبهةَ أن مجيئه بالصُّرة من أوفق الأعمال

(1)

البخاري (3335) ومسلم (1677).

(2)

رقم (1017).

(3)

كذا في الأصل. وفي صحيح مسلم: "كَوْمينِ"، والكومة: الصُّبرة، والكوم: العظيم من كل شيء.

ص: 158

للكتاب والسنة، فكيف يُستدلُّ بهذا الحديث على أن البدعة قد تكون حسنة؟

فإن قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قلنا: واللفظ أيضًا لا يعمُّ البدعةَ، لأنه مقيَّدٌ بالحسن، والحسن إنما يعرف بالشرع، ومَن قال: يعرف بالعقل فهو معترف أن العقل ليس بحاكم بعد ورود الشرع، بل الحاكم الشرع فقط، ومع ذلك فالشرع قد استوفى جميع المحاسن والمصالح، إمّا بخصوصٍ وإما بعمومٍ. قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وغيرها من البراهين التي قد ذكرنا بعضها في هذه الرسالة. وكيف يكون شيء من البدعة حسنًا والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:"كل بدعة ضلالة"؟

وأما ما أوردوه من صلاة التراويح وجمع القرآن وعلوم العربية وغير ذلك، فهذا من السُّنَّة لموافقته لأدلة الكتاب والسنة، مع ظهور السبب في عدم وجوده في القرن الأول، وحدوثِ السبب المقتضي لفعله، كما مرَّ بيانه، والله الموفِّق.

وقد علمتَ مما سبقَ أن الحَسَنَ هو ما وافق الشرع مطلقًا، وهو من السنة وإن لم يكن موجودًا في العهد النبوي، وأن السيء هو ما خالف الشرع، فإن كان مطروقًا من أول الإسلام فهو كفرٌ أو حرام أو مكروه بحسب ما قام عليه الدليل، وإن لم يكن مطروقًا من أول الإسلام فهو محدَثةٌ بدعةُ ضلالةٍ. والموافق إذا كان غيرَ موجود، أو كان ثُمَّ هُجِر، فالذي يطرقه أولًا يَصدُقُ عليه أنه سنَّ سنةً حسنةً، فله أجرُها وأجرُ من عَمِل بها من بعده بشرطه. كما أن المخالف إذا لم يكن موجودًا في العهد النبوي، أو وُجِد ثمّ هُجِر، فأولُ من يطرقه يصدُق عليه أنه سنَّ سنةً سيئةً، فعليه وِزرُها ووِزْرُ مَن عمِلَ بها من بعده بشرطه.

ص: 159

[ص 5] ومن المخالف الموجود من أول الإسلام: شرب الخمر، ودعوى الجاهلية، والنياحة. فهذا وإن كان محظورًا كما لا يخفى فلا يُسمَّى بدعةً. نعمْ، إحداثُ نوعٍ منه لم يُعهَد قبلُ يُسمَّى بدعةً، ومن ذلك ما اعتاده رجال الشيعة ونساؤهم من النوح على الحسين بن علي عليهما السلام يومَ عاشوراءَ ولَطْم الخدود وشَقِّ الجيوب، بل هو أشدُّ وأشنع، لأن النياحة في الجاهلية كانت خاصةً بالنساء الضعيفات العقول والقلوب، وبالوقت القريب من الموت، ومع هذا ورد من الزجر عنها ما هو معلوم، فما بالك بنَوح الرجال ...........................

(1)

.

ومن المخالف المبتدع غلوُّ بعض الفِرق بالخوض في آيات الصفات إلى صريح التشبيه، حتى قال بعضهم

(2)

: أعفُوني عن الفرج واللحية، وسَلُوني عما شئتم. وأمثال ذلك. وقد شنَّع الله تعالى على الكفَّارِ في تخرُّصِهم على الملائكة، قال تعالى:{أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]. فكيف بمن ليس كمثله شيء؟ وأما ما ورد من آيات الصفات وأحاديثها فالذي يُفهَم منها هو أن لله جلَّ ذكرُه مطلقَ يدٍ ووجهٍ ونحو ذلك مما ورد، أما أن يدلَّ على ماهية

(3)

أو كيفية ونحوها فلا، بل لو قيل: إن مَلَكًا من الملائكة له رأس لما فُهِم منه إلَّا أن له رأسًا فحسبُ، فأما

(1)

هنا بعض الكلمات ذهبت في التجليد.

(2)

هو داود الجواربي من مشبهة الروافض، كما في "الفرق بين الفِرق"(ص 228) و"المِلل والنِحل"(ص 105، 187).

(3)

لا يقصد الشيخ بالماهية الحقيقة، فهي ثابتة، بل يقصد التحديد والكمية والكيفية، فهي منفية. وسيأتي التصريح بذلك فيما يأتي.

ص: 160

تفصيله فكلَّا. وذلك أن الماهية والكيفية ونحوها لا تُفَهم بمجرد ذكر الرأس مثلًا، وإنما يحكم الإنسان على الشيء الغائب عنه إذا كان قد عرف نوعه، فالإنسان إذا تصوَّر إنسانًا من الغابرين أو الغائبين فإنه لا يحكم عليه إلّا بما هو مشترك بين سائر الأناسيّ فقط. وذلك للعلم بأنه إنسان من هذا النوع المشاهَد، فإنْ تصوَّر شيئًا آخر كطوله وجسامته وبياضه مما لم يثبت اتصافُه بها فهذا مجرَّدُ تخيُّلٍ، كما قد يتصور أن له رأسَ ثورٍ ونحوه.

فأما الملائكة فإن من لم يرَ أحدًا منهم لم يُمكِنْه أن يحكم عليهم بشيء، فإن ورد وصفُهم بالأجنحة، فقد يتصور الإنسان أجنحة كأجنحة الطير، ولكنه فضلًا عن كونه لا يفهم من الخبر أن رؤوسهم كرؤوس الطير وأرجلهم كأرجل الطير، لا يفهم منه أن أجنحتهم كأجنحة الطير وإن وُصِفوا بالأجنحة، للعلم بأنهم ليسوا من نوع الطير. وإذا كان هذا في الملائكة الذين هم خلقٌ من خلق الله تعالى، فما بالك بجبَّار السموات والأرض سبحانه وتعالى؟

ومن المبتدع أيضًا: مقابلُ هذا القول، وهو تأويل ما ورد في الكتاب والسنة من آيات الصفات مطلقًا، قالوا: لأن قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] يَصرِفها عن ظاهرها. فيقال لهم: وما هو ظاهرها؟

فإن قالوا: إن ظاهرها هو أن المراد باليد يدٌ كأيدينا، وبالوجه وجهٌ كوجوهنا ونحو ذلك= فغير مسلَّم، لما مرَّ أنها لا تُفهِم إلّا مطلقَ يدٍ ووجهٍ ونحوها مما ورد، فإن تصوَّر الإنسان ماهية أو كيفية أو كمية فهو يعلم أن ذلك تخيُّلٌ بَحْتٌ، كما مرَّ في أجنحة الملائكة، ولله المثلُ الأعلى.

ص: 161

وإن قالوا: إن ظاهرها وإن كان لا يثبت به إلّا مطلقُ يدٍ ووجه، فقد يتصور الإنسان ماهيةً أو كيفيةً أو كميةً ونحو ذلك، ويحكم بجوازها، كما أن الإنسان إذا علم أن للملائكة [ص 6] أجنحة، وتصوَّر أجنحةً كأجنحة الطير، قد يحكم بجواز ذلك بأن تكون أجنحةً عظيمةً من نور على هيئة أجنحة الطير، فجاءت تلك الآيتانِ لنفي هذا التجويز.

ففي هذا نظر، فإن الإنسان عند تصور عظمة ربّ الأرباب جبَّار السموات والأرض يمتنع منه تجويزُ ذلك. ومن لم يمنعه تصوُر عظمة الرب جلَّ ذكره عن تجويز ذلك فأولى أن لا يمنعه تلك الآيتانِ: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ؛ لأن دلالتهما ليست في منع التجويز بأقوى من تصوُّرِ عظمة الحق سبحانه وتعالى.

وإن قالوا: إن ظاهرها هو إثبات مطلق اليد والوجه ونحوها مما ورد، وزعموا أن ذلك من أصله محال= فلا ولا كرامة، فإن العليم الخبير أنزل تلك الآيات البينات في كتابه غيرَ جاهلٍ ولا غافل، وقد أنزل القرآن عربيًا مُبِينًا، وكلَّف العرب بما فهمتْه من كتابه ومن كلام نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، ولا شكَّ أنهم عند سماع هذه الآيات يفهمون منها ظاهرها غالبًا، أي: ثبوت مطلق يد ووجه ونحوهما مما ورد. ووجوه المجاز التي تكلَّفها المؤوِّلون وإن صلحتْ في بعض المواضع. فهي بعيدة في مواضع كثيرة.

وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ السورة من القرآن فيها شيء من آيات الصفات، فيسمعها العربي فيفهم منها ما يفهم، وليس الحال هاهنا كالحال في آيات الأحكام ونحوها، فإن العمل هناك بالحكم قبل معرفة ناسخه والعامّ قبل معرفة مخصِّصه والمطلق قبل معرفة مقيِّده جائز،

ص: 162

وقد وقع من ذلك كثير في عهده صلى الله عليه وآله وسلم. وعلى فرض أنه غير جائز ففهْمُ المنسوخ بدون معرفة ناسخه ونحوه لا خطر فيه، بخلاف الاعتقاديات، فلم يكن الله سبحانه وتعالى ليُنزِل آيةً تدلُّ دلالة واضحةً على أمرٍ القولُ به كفرٌ أو نحوه، ويَكِلَ البيانَ إلى آية بعيدةٍ عنها، بحيث قد يسمع الأعرابي الأولى دون الثانية. ومع هذا فقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} لا تدلَّانِ على نفي ما أثبتته آيات الصفات من مطلق اليد والوجه ونحوه مما ورد، كما لا تدلَّان على نفي السمع والبصر وغيرهما من الصفات.

وأما قولهم بأن العقل يَصرِفها عن ظاهرها، وكان العرب عقلاء يعلمون عظمة الجبَّار جل جلاله، ويقطعون بتنزُّهه عن ظواهر تلك الآيات، وإنْ فُرِض ضلالُ أحدٍ منهم فهو لتقصيره في عدم النظر بالعقل.

[ص 7] فجوابه أن العقل غايته إدراك انتفاء النقائض عن الله سبحانه وتعالى، تفصيلًا فيما يقطع بكونه نقيصةً، وإجمالًا فيما عدا ذلك. ومطلق اليد والوجه اللائقين بجلال الرب سبحانه وتعالى ونحوهما مما ورد لا يقطع العقل الصحيح بكون ذلك من النقائص، كما في السمع والبصر وغيرهما من الصفات، ومن اعتقد أن ذلك من النقائص فقد غلِط، ومثارُ الغلط: التصوُّرُ، فإن الذهن إذا تصوَّر مطلق اليد والوجه ونحوهما تصوَّر ماهيةً وكميةً جريًا على ما يعتاده ويعرفه في المحسوسات. فيغلَط بعضُ النظَّار، فيظنُّ لشدة تلازمهما في الذهن تلازمَهما في الخارج، وليس الأمر كذلك.

فلذلك انقسم الناس إلى قسمين:

ص: 163

الأول: من علم أن إثبات مطلق اليد والوجه ونحوهما مما ورد لا يستلزم ماهيةً ولا كيفيةً ولا كميةً وغيرها من الحوادث، فآمن بذلك كما جاء من عند الله تعالى.

والثاني: من ظنَّ التلازم بين الأمرين، وهؤلاء افترقوا إلى فرقتين:

فرقة اعتقدت التلازم، فاعتقدت ثبوتَ اليد والوجه مع ما اعتقدتْه ملازمًا لذلك من الحوادث.

وفرقة علمتْ أن ثبوت الماهية والكيفية والكمية وغيرها من الحوادث نقصٌ بالنسبة إلى الله تعالى، فنَفَتْ ثبوتَ مطلق اليد والوجه وغيرهما مما ورد رأسًا، وتعسَّفتْ في تأويل الآيات والأحاديث الواردة بذلك، بدون التفاتٍ إلى ما يلزم على هذا القول، وأعرضتْ عن قوله تعالى في كتابه:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، وقوله تعالى في رسوله صلى الله عليه وآله وسلم:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].

وقد اعتذر بعضهم بأنهم إنما خاضوا في علم الكلام مع كون الخوض فيه بدعة لأنه نشأ في الناس [كثير من] المبتدعة [شبَّهوا] على [الجهال]

(1)

بالشُّبه المنسوجة بالأدلة وغيرها. ورأى العلماء أن الوقوف على طريقة السلف غيرُ كافٍ في ردّ شُبَه هؤلاء القوم وإدحاضِ ما يغُرُّون به الناس، فاضطرُّوا إلى قتالِ أولئك المبتدعة بسلاحهم، وصياغةِ حجج الدين في قوالب الفلسفة، ليكون ذلك كافيًا في إبطال تلك الشُّبه، وأرادوا بهذا القول أن ينظموا هذا الفعل في سلك القسم الأول من النوع الثاني، ويُلحِقوه بجمع القرآن ونحوه.

(1)

هنا كلمات ذهب أكثرها في طرف الورقة، ولعلها ما قدرناها.

ص: 164

والجواب على هذا من وجوه:

الأول: أن هذه الأمور الاعتقادية التي خضتم فيها هي من المقاصد لا من الوسائل، والمقاصد لا يسوغ الإحداثُ فيها أصلًا.

الثاني: أننا لا نُسلِّم أن طريقة السلف قصرتْ عن الدفاع عن الدين، كيف وهي طريقة القرآن وطريقة أنبياء الله أجمعين؟ والتاريخ يشهد بذلك، فإن المتمسكين بطريقة السلف ما زالوا منصورين على المبتدعة حتى نشأتُم.

الثالث: أن هذا الخوض الذي خضتموه منهيٌّ عنه بخصوصه بأدلة الكتاب والسنة.

الرابع: أنكم لم تقتصروا على ما قلتم من صوغ حجج الدين في قوالب الفلسفة، بل قلبتم حجج الدين ومقاصده ظهرًا لبطنٍ، فحكَّمتم أقوال حكماء اليونان وآراء حزب الشيطان في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فكلُّ آية أو حديثٍ رأيتموه يخالف شيئًا من فلسفتكم تأوَّلتموه وصرفتموه عن ظاهره، ورددتموه إلى هواكم، فحكَّمتم هواكم في دين الله.

إلى غير ذلك من الوجوه التي لا خفاء بها، وإلى الله المشتكى، وبه المستعان، وعليه التُّكلان.

وأنت إذا تأملتَ في تاريخ الإسلام وجدتَ جميع البلايا التي فرَّقتْ أهلَه ومزَّقتْ شَمْلَه ناشئةً عن سببين:

أحدهما: هو الخوض في هذه الآيات والأحاديث، والرغبة في إدخالها تحت القوانين الفلسفية.

الثاني: إحياء ما أماته الدين من العصبيات القومية، وذلك أنها لا تقوم

ص: 165

دولةٌ إلا على أساس عصبية، والعصبية أنواع: قومية ووطنية، وكلاهما تؤدي إلى الافتراق، وتَؤول إلى الخلف والشقاق. ودينية، وهي تكفُلُ الاتحاد بين أهل ذلك الدين إذا أُمِيتَتْ بينهم العصبيات القومية والوطنية. ولذلك فإن الدين الإسلامي بُني على إماتة العصبيتين القومية والوطنية، وعلى السعي في إحياء العصبية الدينية.

ولما كانت الأديان معرَّضةً للتشعُّب والاختلاف، وإذا حصلَ الاختلاف وقع الافتراق، وصارت كل فرقةٍ ذاتَ دينٍ مستقل، فيؤدِّيها ذلك إلى التعصُّب على بقية الفرق، وهلُمَّ جرًّا= حَرَصَ الشارع على بقاء دين الإسلام دينًا واحدًا لا اختلافَ ولا افتراقَ فيه، قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]. ومن تأمل أحكام الدين الإسلامي وجدها بأجمعها تَرمي إلى هذا الغرض الذي هو الاجتماع وعدم التفرق.

ولما كان الاختلاف في الدين قد يكون في الأصول، وقد يكون في الفروع، جاء الشرع بمنع الخوض في الأصول، بل ما كان منها ظاهرًا لا يمكن الاختلاف فيه فأمرُه واضح، وما كان بخلاف ذلك فالواجب الإيمان به فقط، وأن يقول كلُّ أحدٍ منا:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، [ص 8] ويمسك عمّا عدا ذلك. وعلى هذا جاء الشرع الشريف، قال تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. ولا شك أن الخائض في الأصول لابدَّ وأن يقْفُوَ ما ليس له به علم، وذلك أن العلم حقيقته ما ينكشف به المعلوم انكشافًا تامًّا، أي: بحيث لا يبقى في مقابله أدنى احتمال. والأشياء التي خاض فيها المحدَثون ليست كذلك.

ص: 166

وقال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 1 - 3]، وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 7 - 8].

وفي "الصحيحين"

(1)

عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} إلى {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} . فقال: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّاهم الله، فاحذروهم".

وفي "سنن الترمذي"

(2)

عن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضِبَ حتى احمرَّ وجهُه، حتى كأنما فُقِئ في وجنتَيْهِ حَبُّ الرُّمّان، فقال:"أبهذا أُمِرتُم؟ أم بهذا أُرسِلْتُ إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمتُ عليكم عزمتُ عليكم أن لا تنازعوا فيه".

وفي "المشكاة"

(3)

: وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمع

(1)

البخاري (4547) ومسلم (2665).

(2)

رقم (2133). قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث صالح المري، وصالح المري له غرائب ينفرد بها لا يتابَع عليها.

(3)

رقم (237).

ص: 167

النبي صلى الله عليه وآله وسلم قومًا يتدارؤون في القرآن، فقال:"إنما هلك مَن كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضَه ببعضٍ، وإنما نزل كتابُ الله يُصدِّق بعضُه بعضًا، فلا تكذِّبوا بعضَه ببعضٍ، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكِلُوه إلى عالمه". رواه أحمد وابن ماجه

(1)

.

وفي "صحيح مسلم"

(2)

عن عبد الله بن عمرو قال: هجَّرتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومًا، قال: فسمع أصواتَ رجلين اختلفَا في آية، فخرج علينا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يُعرَف في وجهه الغضبُ، فقال:"إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب".

ورُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلًا جاء يسأله مستشكلًا لشيء من كتاب الله تعالى، فضربه بالدِّرة ضربًا مُوجِعًا، ونفاه وأمر بأن يُهْجَر، فمكثَ ذلك الرجل إلى أن مات لا يكلِّمه أحد

(3)

.

وعلى هذا مضى التابعون، فقال مالك

(4)

لمن سأله عن الاستواء: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة، وأنت رجلٌ مبتدع.

وقال هو أو غيره لمن سأله عن شيء من ذلك: أنا على يقينٍ من ديني

(1)

"مسند أحمد"(6741) وابن ماجه (85). وإسناده حسن.

(2)

رقم (2666).

(3)

هو صَبيغ بن عِسْل، وقصته مع عمر مشهورة رُويت من طُرق مختلفة، انظر "سنن الدارمي"(146، 150)، و"شرح أصول اعتقاد أهل السنة" للالكائي (ص 634 - 635)، و"تاريخ دمشق (23/ 411 - 413)، و"الإصابة" (5/ 306 - 308).

(4)

انظر "حلية الأولياء"(6/ 325، 326) و"سير أعلام النبلاء"(8/ 100، 101).

ص: 168

وأنتَ شاكٌّ، فاذهبْ إلى شاكٍّ مثلِك فخاصِمْه

(1)

.

وقد كثر النقلُ عن الإمام الشافعي في النهي عن الكلام، ومن معين قوله:"لأن يأتي العبد ربَّه يومَ القيامة بكلِّ ذنبٍ ما خلا الشركَ خيرٌ له من أن يأتيه بشيء من الكلام"

(2)

. ومنه: "إذا سمعتَ الرجل يقول: الاسم عينُ المسمَّى أو غير المسمَّى فاعلم أنه من أهل الكلام، ولا دينَ له"

(3)

.

وأما الإمام أحمد فشأنه في ذلك مشهور، وقد هجرَ الحارثَ المحاسبي لخوضه في الكلام

(4)

.

وقد رجع الأشعري عن الخوض فيه إلى مذهب السلف، كما أبانَه في كتابه "الإبانة"، وكذلك الغزالي كما شرحه في كتابه "الإلجام"، وكذا إمام الحرمين والرازي كما نقله الذهبي في "النبلاء"

(5)

. ولكنه ــ ويا للأسف ــ[ص 9] بعد أن تمزَّقت الجامعة أيدي سبأ، وسلكتْ كل فرقةٍ من الفرق مذهبًا، وحصل الاختلافُ الذي نهى الله ورسولُه عنه، والتنازع والفشل الذي حذَّر الله ورسوله منه.

وغاية الأمر أنه حفظ الله تعالى على بعض هذه الأمة الحقَّ، كما بشَّرَ به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله فيما رواه معاوية بن قرَّة عن أبيه قال:

(1)

انظر "الإبانة" لابن بطة (1/ 404، 2/ 509). وهو قول مالك أيضًا.

(2)

انظر "آداب الشافعي ومناقبه"(ص 187) و"حلية الأولياء"(9/ 111)، و"مناقب الإمام الشافعي" للبيهقي (1/ 452).

(3)

"مناقب الإمام الشافعي"(1/ 405).

(4)

انظر "تاريخ بغداد"(8/ 215، 216).

(5)

انظر (18/ 471 - 474، 21/ 501).

ص: 169

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا فسَدَ أهل الشام فلا خيرَ فيكم، ولا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرُّهم من خذَلَهم حتى تقوم الساعة" قال ابن المديني: هم أصحاب الحديث. رواه الترمذي

(1)

وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ومع هذا فإننا لا نيأسُ من رَوح الله تعالى أن يُعيدَ للإسلام مجدَه، ويردَّ من تفرقتْ بهم السُّبلُ إلى سبيله، وهو على كلِّ شيء قدير.

وأما الفروع فقد جاء الإسلام فيها بما يمنع الاختلاف ويحولُ دونَه، وهو ردُّ ما اختُلِف فيه إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فإن اختلفت الأنظار فكلُّ أحدٍ من النُّظَّار يعذر صاحبَه كما عذَرَه الله تعالى، ولا يَحمِله خلافُه إياه على عدم موالاته وموادَّتِه، ما دامَ قد اجتهد بقدر وُسْعِه، وقال بما ترجَّح عنده أنه الحق. ومع ذلك فلا يكاد يمضي يسيرٌ من الزمن حتى يُظهِر الله تعالى الحقَّ بإظهار دليله، فيزول الاختلاف ويتم الائتلاف.

ولكن البلاء دخلَ على المسلمين من هذه الجهة أيضًا بحملهم على تقيُّدِ كلِّ فرقة منهم بمذهب مخصوص، مع الإعراض عن أدلة الحق ونصوصه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وآلَ بهم الأمرُ إلى العصبية المنهيِّ عنها، فصار كل أحدٍ يتعصَّبُ للمذهب الذي ينتمي إليه ويقدح فيما عداه. وهكذا تجزَّأت العصبية الدينية، التي حرصَ الشارع على جعلها رابطةً لكلِّ من ينتمي إلى الدين الإسلامي حتى تكون الجامعة الإسلامية، كما في "الصحيحين"

(2)

عن

(1)

رقم (2192).

(2)

البخاري (6011) ومسلم (2586).

ص: 170

النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادِّهم وتعاطُفِهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوًا تداعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَر والحمَّى".

وأنت تعلم أن الذين ينتمون إلى الإسلام يبلغون الآن نحو ثلاث مئة مليون

(1)

، ولكنك مع الأسف لو حاولتَ أن ترى منهم بضعةَ آلافٍ على عصبية دينية صحيحة كما شرعه الله تعالى ودعا إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجاهد عليه أصحابه رضي الله عنهم، ومشى عليه خيارُ التابعين رحمهم الله تعالى= [لم تجد] إلا من شاء الله تعالى.

(1)

هذا في سنة 1344 هـ عندما ألَّف الشيخ الرسالة. والآن قد جاوز عددهم المليار.

ص: 171