الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ص 110]
المقام الثالث
النداء والطلب
قد تبيّن مما مضى أن المخلوق لا يعلم الغيب ولا يطلعه الله عليه، إلا أن يكون نبيًّا، فيطلعه الله تعالى على بعضٍ من الغيب، لا على جميعه، وذلك في حال حياتهم، فأما بعد وفاتهم فإنهم في الرفيق الأعلى مشغولون بما هو خير وأبقى.
وعُلِم أن المخلوق لا يملك شيئًا من الأشياء إلا ما كان يقدر عليه البشر بما جرت به العادة، وأما غير ذلك فإنما يملك الدعاء به في حال حياته الأولى في الدنيا أو الثانية يوم القيامة؛ وعليه فنداء الغائب:
إن كان باعتقادِ أنه يسمع فهو اعتقاد باطل قطعًا؛ لأن فيه اعتقادًا أنه يعلم الغيب، وهذا تكذيبٌ لكتاب الله تعالى وردّ للسنن الصحيحة.
أو باعتقاد أنه يُبلّغ في كل شيء فكذلك؛ لأنه إن كان نبيًّا فقد يُبلَّغ وقد لا يُبلَّغ، وإن كان غير نبيّ فإنه لا يبلّغ حتى لو كان محدَّثًا، لما مرّ أنه إنما يُقْذَف في خاطره في بعض الأشياء، ولا يحصل له بذلك إلا مجرّد الظن.
أو مع الإيمان بأنه إنما يُبلَّغ في بعض الأشياء، فإن كان نبيًّا فمسلَّم أنه قد يبلَّغ، ولكن ذلك لا يُسوّغ النداء؛ لأن النداء لا يكون إلا لمن يترجّح أنه يسمعه، وإن كان غير نبيّ ففيه تكذيب بكتاب الله تعالى كما مرّ.
وكذا الميت مع البُعْد عن القبر على نحو ما مرّ في الغالب، ويختص هذا بزيادة أنه لم يثبت التبليغ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته إلا في الصلاة عليه، وأما مع القُرب من القبر، فكذلك عند من ينفي سماع الموتى، كما دلّ عليه القرآن. ومَن يجوِّز سماعَهم فإنه لا يجوّز نداءهم، وهو عنده
من أقبح البدع إلا ما ورد من السلام في زيارة القبور فلا بأس به اتفاقًا، وهو مؤول بنحو قوله:«يا أرض ربي وربك الله»
(1)
.
وأما الطلب فإن كان لشيءٍ يملكه المطلوب منه، فإن كان مما يقدر عليه مثلُه بالأسباب العادية، فهو جائز ما لم يرد الشرع بمنعه، كالطلب من الساحر أن يسحر، فإنه حرام. وإن كان لما لا يملكه المطلوب منه، أي بأن كان مما لا يقدر عليه مثله بالأسباب العادية، فلا يسوغ طلبه منه وإن كان نبيًّا أو محدَّثًا لما مرَّ أنه إنما يملك من ذلك الدعاء لا غير.
هذا في حال إحدى حياتَيه، فأما حال وفاته
(2)
ففي «صحيح البخاري»
(3)
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: وارأساه! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ذاك لو كان وأنا حيّ، فأستغفرُ لكِ وأدعو لكِ
…
» الحديث.
وأما الشفاعة يوم القيامة فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم موعود بها، وإنما يملكها يوم القيامة. ومع هذا فإن الدعاء قد لا يُستجاب لسَبْق الكتاب، قال تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]. وفي معناها آيات كثيرة. [ص 111] وفي «صحيح مسلم»
(4)
عن سعد أن
(1)
أخرجه أحمد (6161)، وأبو داود (2603)، والحاكم:(1/ 447 و 2/ 100) وصححه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا أو سافر فأدركه الليل قال: يا أرض ربي وربكِ الله، أعوذ بالله من شرِّكِ وشرِّ ما فيك
…
».
(2)
كتب المصنف هذه العبارة عدة مرات لكن ضرب عليها وأبقى ما أثبت.
(3)
(5666).
(4)
(2890).
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرَّ بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين وصلّينا معه ودعا ربَّه طويلًا ثم انصرف فقال:«سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين ومَنَعني واحدة؛ سألتُ ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها، وسألت أن لا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» .
وقال تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80].
وقال تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون: 6].
وقد ثبت في «الصحيح»
(1)
ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعبد الله بن أُبيّ مِن إخراجه من قبره ووضعه له على ركبتيه الشريفتين، وتفلِه عليه من ريقه من قرنه إلى قدمه، وتكفينه له في قميصه، وصلاته عليه. ولم ينفعه ذلك شيئًا.
وفي «صحيح البخاري»
(2)
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يلقى إبراهيمُ أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قَتَرة وغَبَرة فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك: لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا ربّ إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يُبعثون، وأيّ خِزْي
(1)
سبق تخريجه (ص 233).
(2)
(3350).
أخْزَى من أبي الأبعد، فيقول الله: إني حرّمتُ الجنة على الكافرين. ثم يُقال لإبراهيم: ما تحت رجلك؟ فينظر فإذا هو بذيِخ متلطِّخ فيؤخذ بقوائمه فيُلقَى في النار».
وفي «الصحيحين»
(1)
عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إني فَرَطكم على الحوض، مَن مَرَّ عليَّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا، لَيَرِدَنّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم
…
فأقول: إنهم منّي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سُحْقًا سُحْقًا لمن غيّر بعدي».
[ص 112] وفي «مشكاة المصابيح»
(2)
عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذاتَ يوم فذَكَر الغلولَ فعظَّم أمره ثم قال: «لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رُغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملكُ لكَ شيئًا قد أبلغتك، لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرسٌ له حَمْحَمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتُك، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء، يقول: يا رسول الله أغِثْني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، لا ألفينَّ أحدكم يوم القيامة على رقبته صامت فيقول: يا
(1)
البخاري (6583)، ومسلم (2290).
(2)
(2/ 408).
رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك» متفق عليه
(1)
، وهذا لفظ مسلم وهو أتمّ.
أقول: ولا منافاة بين هذا الحديث وأحاديث الشفاعة كما يُعْلَم مِن مراجعتها.
وفي «صحيح البخاري»
(2)
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة مَن قال: لا إله إلا الله خالصًا مِن قلبه أو نفسه» .
[ص 113] ومَن كان له اطلاع على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عَلِم أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا ينادونه غائبًا، وإنما قال قائلهم:«اللهم أخبر عنّا رسولك»
(3)
. ولم يكونوا يطلبون منه فيما
(4)
لا يمكنه تحصيله بالأسباب العادية المشتركة بين الناس، وإنما كانوا يسألونه في ذلك الدعاء.
ومن ذلك ما في «الصحيحين»
(5)
عن أنس رضي الله عنه قال: أصابت الناس سَنَةٌ على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المالُ وجاع العيالُ، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قَزَعة،
(1)
البخاري (3073)، ومسلم (1831).
(2)
(99).
(3)
أخرجه البخاري (3045) في قصة عاصم بن ثابت ورفاقه رضي الله عنهم.
(4)
غير محررة في الأصل.
(5)
البخاري (933)، ومسلم (897).
فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته فمُطِرْنا يومنا ذلك، ومن الغد، وبعد الغد حتى الجمعة الأخرى. وقام ذلك الأعرابي ــ أو غيره ــ فقال: يا رسول الله، تَهدَّم البناء وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه، فقال:«اللهم حوالينا، ولا علينا» الحديث.
وفي «صحيح مسلم»
(1)
عن أبي هريرة قال: لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقال عمر: ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، فقال: نعم، فدعا بنِطْع فبُسِط ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع شيء يسير، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبركة
…
الحديث.
[ص 114] وفي «الصحيحين»
(2)
أيضًا حديث ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومًا فقال: «عُرِضت عليَّ الأمم، فجعل يمرّ النبيُّ ومعه الرجل، والنبيُّ معه الرجلان
…
» الحديث. وفيه ذِكر السبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب. وفيه: فقام عُكّاشة بن مِحْصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال:«اللهمَّ اجعله منهم» . ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: «سبقك بها عُكّاشة» .
وفي «صحيح مسلم»
(3)
عن ربيعة بن كعب قال: كنت أبيت مع
(1)
(27).
(2)
البخاري (6541)، ومسلم (220). وساقه المصنف مختصرًا.
(3)
(489).
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيته بوَضوئه وحاجته فقال لي: «سَل» ، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: «أوَ غيرَ ذلك؟» قلت: هو ذاك. قال: «فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود» .
وهذا الحديث وإن لم يصرّح في السؤال بسؤال الدعاء فإنّ ذلك ظاهر من الجواب كما تراه.
وفي «الصحيحين»
(1)
عن أم سُلَيم أنها قالت: يا رسول الله، أنس خادمك، ادع الله له، فقال:«اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته» . قال أنس: فوالله إن مالي لكثير وإن ولدي وولد ولدي ليتعادّون على نحو المائة اليوم.
والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تُحْصَى.
[ص 115] وأما بعد موته فلم يُنقل عن أحدٍ منهم ولا من التابعين أنه طلب منه شيئًا البتة، بل كان غاية أمرهم إذا حضر أحدهم عند قبره الشريف أن يسلّم عليه وعلى صاحبيه. ولم يكن هذا إعراضًا منهم وتهاونًا بالخير، فإنهم رضي الله عنهم أسرع الناس إلى اغتنام الخير والاستكثار من أنواع البر، فلم يكونوا ليتركوا ذلك إلّا لأمرٍ ما.
وأَصْرح من ذلك حديث البخاري في استسقاء الصحابة رضي الله عنهم بالعبّاس، وقول عمر: اللهم إنّا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك برسولك فتسقينا، وإنّا نتوسّل بعمّ نبيك. وقد مرَّ شرحه في بحث التوسل فراجعه
(2)
.
(1)
البخاري (6334)، ومسلم (2480).
(2)
(ص 271، 279 وما بعدها).
وهو صريح أنهم رضي الله عنهم كانوا يرون أن طلب الدعاء ونحوه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان جائزًا ما دام حيًّا بين أظهرهم، فأما بعد قبضه فلا، ولكنهم لحرصهم على طاعة الرسول وتعظيمه وعلمهم بعظم جاهه فعلوا أقصى ما يمكنهم وهو سؤال الدعاء من عمِّه. وأيضًا لم يُنقل أنَّ أحدًا من الصحابة سأل صحابيًا أفضل منه أمرًا من الأمور إلا إن كان مما يمكن تحصيله بسبب عادي، فإن لم يكن كذلك سأله الدعاء فقط. وهكذا التابعون مع الصحابة، وصغار التابعين مع كبارهم، وهلمّ جرًّا. حتى عمّ الجهل وفشت البدع، وصار الدينُ غريبًا، فوجد الشيطان الفرصةَ إلى إضلال الناس، فأخذ كلّ منهم يشرِّع من الدين ما لم يأذن به الله، ويتحكم في الدين بفعله، ويقضي فيه بحكمه، فوقع الناس فيما وقعوا فيه، فإنا لله وإنّا إليه راجعون!
فهب أنّ أحدًا من بني آدم يتصرّف في الأرض والسموات ــ كما يقولون ــ فإن الشرع لم يُبِحْ لنا سؤاله شيئًا من الأمور إلا ما هو من الأشياء العادية.
وهب أن بعض الغائبين والموتى يسمع كلام مَن كلّمه حيثما كان، فإن الشرع لم يُبح لنا أن نخاطب ميتًا ولا غائبًا.
وهؤلاء الملائكة الكرام الذين هم متصرّفون في كثير من الأشياء قطعًا لم يُشْرَع لنا سؤالهم ولا خطابهم.
ويا ترى لو أن إنسانًا أخذ يخاطب الملكين الحافظين، ويتلطّف بهما أن يكتبا حسناته ويؤخّرا كتابة سيئاته، ماذا يقول له الناس؟ !
ويا ترى لو أن إنسانًا أخذ يصيح: يا ملائكة ربي أكثروا من الاستغفار لي! [ص 116] مع أن استغفار الملائكة لبني آدم ثابت بكتاب الله تعالى، قال الله
وقال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5].
[ص 97] قال المجيزون: فإن فينا مَن يقول: إننا نرى المَلِك من ملوك الدنيا لا بُدّ في قضاء الحوائج لديه من التوسُّل بوزرائه وجلسائه والوجهاء لديه، وقد يكون صاحب الحاجة من المجرمين الذين غضب عليهم الملك، فهو يستحي أن يسأل المَلِك بنفسه، ويعلم أنه لو سأله بنفسه لم يَنَلْ منه حاجته بخلاف ما إذا استشفع بأحد الوجهاء والمقرّبين.
وقد أمر الله تعالى عبادَه بطلب الاستغفار من رسوله وسؤال الدعاء من جميع المسلمين ولاسيَّما من أهل الخير والصلاح. وأحاديث الشفاعة يوم القيامة متواترة.
قال المانعون: الله أعلى وأجلّ، أما ضرب المثل بالملوك فهو من الجهل بالله جلّ ذكره، وذلك أن ملوك الأرض لهم أسباب تدعوهم إلى الانقباض عن العامة ــ تنزّه الله سبحانه وتعالى عنها ــ كالخوف، فالملك يرى أنه لو برز للناس دائمًا تمكّن أعداؤه من اغتياله. والكبر، فهو يرى أنه لو
برز للناس دائمًا لسقط من أعينهم واجترءوا عليه. والبخل، فهو يرى أنه لو برز للناس دائمًا وقضى حوائجهم فني بما بيده. والعجز، فهو يرى أنّ بروزه للناس دائمًا يشق عليه ويتعبه.
فلهذه الأسباب ونحوها احتاجوا إلى جعل وزراء وحُجّاب يكونون وسائط بينهم وبين الناس.
ولهم أسباب تمنعهم عن الإقبال على من أساء إليهم؛ كالجَوْر وعدم التخلُّق بالعفو، فإنه يحول بينهم وبين قبول توبة المسيء، ويمنعهم من قبول
(1)
حوائجه.
وإذا تأملت هذه الأسباب وجدتها جميعها محالًا على الله تعالى، فهو سبحانه وتعالى يقول:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
وجاء في الحديث: «إن الدعاء هو مخّ العبادة» . وفي رواية: «هو العبادة»
(2)
.
فالله سبحانه وتعالى أمر خلقه بسؤاله والالتجاء إليه، وأخبر أن الذي يمتنع عن سؤاله يستحقّ العقاب.
(1)
كذا في الأصل، ولعلها «قضاء» .
(2)
بهذا اللفظ أخرجه أبو داود (1479)، والترمذي (2969)، وابن ماجه (3828) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما. قال الترمذي: حسن صحيح.
وباللفظ الأول أخرجه الترمذي (3371) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال: غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة.
وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
وأمر عباده في أم كتابه أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
[ص 98] ومعناه: لا نعبد إلا إيّاك، ولا نستعين إلا إياك.
وفي «الصحيحين»
(1)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له» .
وفي «صحيح مسلم»
(2)
عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديتُه فاستهدوني أهدِكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي لن تبلغوا ضرِّي فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص
(1)
البخاري (1145)، ومسلم (758).
(2)
(2577).
ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها، فمَن وجد خيرًا فليحمد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه».
وفي «صحيح مسلم»
(1)
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان [على] راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال ــ من شدة الفرح ــ: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح» .
وأخرجه البخاري موقوفًا على عبد الله
(2)
بلفظ: «لله أفرح بتوبة عبده
(1)
(2747).
(2)
كذا فهم المؤلف من كلام التبريزي في «المشكاة» : (2/ 31) ــ وهو ينقل لفظ الحديث منها ــ إذ قال بعد نقله لفظ حديث ابن مسعود: «روى مسلم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه فحسب، وروى البخاري الموقوف على ابن مسعود أيضًا» . ففهم المؤلف أن البخاري أخرج هذا الحديث موقوفًا، وأخرجه مسلم مرفوعًا، وليس كذلك، وإنما أراد أن راوي الحديث عن ابن مسعود وهو الحارث بن سويد قال: حدثنا عبد الله (يعني ابن مسعود) حديثين، أحدهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والآخر عن نفسه
…
ثم ذكرهما.
فالبخاري (6308) أخرج المرفوع والموقوف، وأما مسلم (2744) فأخرج المرفوع فقط، وهو حديث الباب. أما الموقوف فلفظ البخاري: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه فقال به هكذا
…
».
المؤمن من رجل نزل في أرض دوِّيَّة مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه. [ص 99] فالله أشدّ فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده».
وفي «صحيح مسلم»
(1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يُستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثمٍ أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل» . قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: «يقول: قد دعوت قد دعوت فلمْ أرَ يُستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويَدَع الدعاء» .
وفي «سنن الترمذي»
(2)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من لم يسأل الله يغضب [عليه]» .
وفي «سنن الترمذي»
(3)
عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ليسأل أحدكم ربّه حاجته كلها، حتى يسأل شِسْع نعله إذا انقطع» .
(1)
(2735) وهذا لفظه. وهو في البخاري بنحوه (6340).
(2)
(3373).
(3)
أخرجه الترمذي في الدعوات كما في «تحفة الأشراف» : (1/ 107) وقد ألحق بمطبوعة جامع الترمذي (5/ 782) استدراكًا من «التحفة» وسنده ضعيف.
وأخرج الإمام أحمد في «مسنده»
(1)
عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدّخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها» . قالوا: إذًا نُكْثِر، قال:«الله أكثر» .
فمن تأمل هذه الدلائل وغيرها عرف بطلان تلك الأوهام، وعلم أن الإعراض عن الله سبحانه وتعالى والعدول عن دعائه وسؤاله موجب للعقوبة. وأما طلب الدعاء من الأحياء ولاسيَّما الصالحين فهو مستحبّ، ولكن بشرط ألّا يقصر الإنسان من الدعاء لنفسه، بل يبتهل إلى الله تعالى بالدعاء مع طلبه من غيره.
ونحن لا ندفعُ هذا وإنما ندفع الاستغاثة بالموتى والغائبين، فإنها إن كانت مع اعتقاد علمهم الغيب وقدرتهم على الإغاثة= كان في هذا من الشرك ما مرّ بيانُه، وإن كانت مع اعتقاد أن الله تعالى يُبلّغهم ويُجيب دعاءهم فنحو ذلك.
وإذا كان العبد لا يثق باستجابة دعائه لنفسه بتلك الحاجة فكيف يثق باستجابة دعائه أن يُبلّغهم الله تعالى طلبه منهم الدعاء؟! على أنَّ هذه الأشياء مما لم ينزل الله به سلطانًا ــ بل هي مضادة لدلائل كتاب الله تعالى وسنة رسوله كما علمت مما مرَّ.
(1)
(11149). وأخرجه ابن أبي شيبة (29780)، والحاكم:(1/ 493)، والطبراني في «الأوسط» (4368) وغيرهم. وصححه الحاكم، وقال البوصيري: إسناده جيد. انظر «إتحاف الخيرة» : (6/ 147).
[ص 100] وأما استشفاعهم يوم القيامة فإنما هو طلب الدعاء من الأحياء يومئذٍ، وليس في هذا ما يدلّ على جواز نداء الغائبين والموتى والاستغاثة بهم، على أن الشفاعة ملك لله تعالى، قال سبحانه وتعالى:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44]. وقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]. والآيات في هذا كثيرة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن طلبها منه: «أعنّي على نفسك بكثرة السجود»
(1)
.
[ص 101] قال المجيزون: فإننا نرى كثيرًا أن أحدنا يجهد في دعاء الله تعالى فلا يُستجاب له حتى إذا ذهب إلى قبرٍ من قبور الصالحين فزاره واعتقد تعظيمه، ودعا بما يحبّ استُجِيب له.
ونرى كثيرًا من أصحاب الحاجات والعاهات إذا استغاث بأحدٍ من الصالحين حصل له الفَرَج، ولو اقتصر على الدعاء لم يحصل له ذلك!
وقد ينذر الإنسان بشيء لأحدِ الصالحين بنيّة حصول شيء، فيحصل ذلك الشيء قريبًا، فإذا أخّر النذرَ عاد ذلك الشيء كما كان أو أُحدثت بدله عقوبة أخرى، فإذا بادَرَ الناذر ووفّى بنذره رُفعت عنه العقوبة.
ونرى بعض أهل الجهات جرت عادتهم أنهم إذا احتاجوا إلى المطر ذهبوا إلى قبر بعض الصالحين، فذبحوا عنده وتوسّلوا به، فيسقون. وإذا
(1)
سبق تخريجه (ص 400).
أخروا بعض السنين تأخر المطر، وربما قصّروا في بعض حقوق الزيارة فتأخّر المطر.
ونرى بعض النساء لا تحمل أو لا يعيش لها ولد أو تولد لها البنات، فإذا تمسكت بأحد المقابر حصل مطلوبها.
وكثيرًا ما نرى ناسًا يتعرّضون لبعض الصالحين بإيذاء أولاده أو إخوانه المعتقدين فيه، فلا يلبث أن يُصاب ببلاء، حتى إذا ذهب وزار ذلك القبر واستعفى سدنته ذهب عنه ما يكره!
ونرى كثيرًا من الخوارق عند قبور بعض الصالحين تدلّ على رضاهم وحبهم لمن يزورهم ويتقرّب إليهم وتبرّك بقبورهم.
وكثيرًا ما ينذر الإنسان لأحد أصحاب القبور بشيء فلا يشعر إلا وقد جاءه أحد أتباعهم يطلب منه ذلك النذر مع أنه لم يُعلِم بالنذر أحد، وقد يرى ذلك الوليّ في نومه يأمره بأداء ذلك النذر ونحو ذلك.
[ص 102] وكثيرًا ما نرى المجانين إذا زاروا بهم القبور ذهب جنونهم
(1)
.
ومن جملة الخوارق المرئية عند القبور: اتساع القُبَّة للزائرين ولو بلغوا آلافًا، مع أنها لا تسع بحسب العادة إلا نحو المائتين.
ومنها خروج دراهم جديدة رمي بها للمجاذيب.
ومنها اختلاف أحوال الناس في تناول التراب من الطاقات التي تكون في توابيتهم، فينال بعض الناس التراب بمجرّد إدخال يده، ويأتي من هو أطول منه يدًّا، فيمدّ يده ويطاولها ويجهد نفسه فلا ينال التراب، فيجيء
(1)
كتب المؤلف بعدها «و» وترك مقدار ثلاث كلمات.
بعض سدَنة القبر فيقول له: انذر بكذا، فإذا نَذَر بذلك ومدّ يده، نال التراب بسهولة!
ومنها أن الزائرين يضعون أسلحتهم ونحوها على باب القُبَّة فلا يقدر أحدٌ على سرقتها، وقد تتراكم الأسلحة بكثرة، فيخرج الزائر فيجد سلاحه ظاهرًا، وكلما خرج أحدٌ منهم وجد سلاحه فوق تلك الأسلحة حتى لا يتعب في البحث عنه. وقد يكون هو أول من وضع سلاحه تحت جميع الأسلحة.
ومنها أن يجيء المجذوب فينحر نفسه أو يبعج بطنه، ثم يعود في الحال سالمًا، وقد يضع أحدهم الرمح في ثغرة نحره حتى ينجم من قفاه أو في بطنه حتى ينجم من ظهره. بل قد يذبح أحد المجاذيب صاحبه حتى يُرى الرأس مفصولًا عن الجسد، ثم يردّه فيقوم المذبوح سالمًا.
والحاصل أنها تظهر خوارق كثيرة، ومَن أراد مراجعتها فليراجع الكتب الموضوعة في كرامات الأولياء.
[ص 103] قال المانعون: قد أسلفنا أول بحث التبرّك: أن كل ما يُراد تحصيله بسبب غير عاديّ لا يكون سببه إلّا شرعيًّا، والشرعيّ ما ثبت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله. ولا ريب أن الدعاء سبب شرعي. وقد عُلِمَ من حال السلف الأول أنهم لم يكونوا يقصدون القبور للدعاء، بل ثبت عن الصحابة العدولُ عن الاستسقاء بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى طلب الدعاء من عمّه، ومرّ
(1)
ذِكْر الحديث الصحيح، قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تتخذوا قبري عيدًا
…
» إلخ، ونَهْي زينِ العابدين لذلك الرجلِ الذي كان يعتاد قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدعاء، وذِكْره لهذا الحديث.
(1)
(ص 215 - 216).
وإذا كان هذا في قبره صلى الله عليه وآله وسلم فغيره أولى، فحينئذٍ فجميع ما ذكرتموه من الدعاء عند القبور والاستغاثة بالصالحين والنذر لهم والذبح عند القبور، وتمسّك النساء بهم لأجل الولد، وغير ذلك= كلها محظورة في الشرع كما يعلمه من له مسكة بالكتاب والسنة.
ولا يلزم من كونها محظورة في الشرع أن لا يحصل بها نفع كما لا يلزم من حصول النفع بها كونه مأذونًا بها في الشرع؛ فهذا السحر ينتفع به صاحبه، وهذه الكهانة والتنجيم، واستخدام الجن والرقى التي فيها كفر= كلها تنفع صاحبها، وهو حرام أو كفر. وهذه صفة الدجّال في الأحاديث الصحيحة ينتفع أصحابه بالمطر ورغد العيش وحياة أقربائهم الموتى ــ فيما يرون ــ وغير ذلك، واتّباعُه أشدُّ الكفر.
وإذا كانت الأسباب العادية ــ مع أن الأصل في الشرع إباحتها ــ وفيها الحرام والكفر كالزنا والربا والسرقة ونحوها مما لا يُحْصَى، وأصحابها ينتفعون بها بلا شكّ، فما بالك بالأسباب غير العادية، والأصل في الشرع حظرها؟
والحاصل أن خوارق العادة قد قسمها العلماء إلى أقسام:
أولها: معجزات الأنبياء، وهذه قد مضت بمضيّهم، وبقي بعض معجزات خاتمهم صلى الله عليه وآله وسلم، وأعظمها كتاب الله تعالى.
الثاني: كرامات الأولياء، والعلماء مختلفون فيها، فمن العلماء مَن ينكرها رأسًا، وينسب كل مَن ظهر على يده ما يُشبه الخارقة إلى أحد الأقسام الآتية. [ص 104] والباقون يثبتونها ويفرّقون بينها وبين الأقسام الآتية بوقوع الكرامة على يد عالم عامل محافظ على ظواهر الكتاب والسنة، متنزّه عن مخالفتهما، هذا في حال حياته، وأما بعد وفاته فإنما تُعرَف بقرائن الأحوال.
وذلك أنه إن وقع شيء من الخوارق لأحد الموتى، نظرنا الأحوال الحاضرة حينئذٍ، فإن كانت موافقة للكتاب والسنة، وكانت تلك الخارقة صادرة لتأييد الكتاب والسنة= جاز تسميتها كرامة، وإلا فهي من بعض الأقسام الآتية.
مثاله: أن يؤذى ولدٌ لبعض الصالحين الموتى، فيصاب المؤذي ببلاء، فالواجب أن ننظر، فإن كانت الأذية بغير حق، والمؤذي ظالم لولد ذلك الصالح= جاز أن تسمّى هذه كرامة. وإن كانت الأذية بحق مؤيَّد بدليل شرعي قطعنا أنها ليست بكرامة، وإنما هي من أحد الأقسام الآتية.
إذا تقرّر هذا لديك عرفتَ أن مجرّد الخارقة من حيث هي لا تصلح دليلًا لشيء، فإن أدلة الشرع محصورة وليست الخارقة منها، إلا المعجزة فليس الكلام فيها. وبهذا التقرير يندفع كل ما أوردتموه، ولنبيِّن أقسام الخوارق بعد المعجزة والكرامة فنقول:
منها: الاستدراج، وهذا ما يجريه الله تعالى عند بعض الأفعال ابتلاءً للناس؛ هل يثبتون على دينهم الثابت بالكتاب والسنة أم يضلون. ويصلح أن يكون منه ما يقع للدجال من الخوارق. ومن هذا ما ابتلى الله تعالى به الصحابة يوم أُحدٍ كما دلَّ على ذلك القرآن.
ومنها: السحر والشعبذة والاستعانة بالجن وأعمال الشياطين، يقصدون بها تضليل المسلمين وإزاغتهم عن السراط المستقيم، كما كانوا يفعلون في الجاهلية في الأصنام، وكما يفعلونه مع عباد الأوثان، ومثله كثير جدًّا. وقد مرَّ شيءٌ من هذا أواخر الكلام على علم الغيب، فارجع إليه
(1)
.
(1)
(ص 361 فما بعدها).
و [منها]: الكهانة والتنجيم وغير ذلك مما مرَّ في بحث الاطلاع على المغيِّبات.
[ص 105] إذا تقرر ما ذكر، فالكلام على هذه الخوارق التي زعمتم وقوعها من وجهين:
الأول: إنكار وقوعها أصلًا، وأنه لا يجوز القول بوقوعها إلا عن مشاهدة أو تواتر بإخبارِ عددٍ يحصل بإخبارهم القطعُ بوقوعها، كما يقطع مَن باليمن أن أرض الهند موجودة.
وعلى فرض صحة وقوعها، فإنها محتملة لأن تكون من الشعبذة، ولأن تكون من السحر، ولأن تكون من أعمال الشياطين، ولأن تكون استدراجًا يبتلي الله بها عباده، ولأن تكون كرامةً. وإذا كان الأمر كذلك لم يكن من الممكن تعيين كونها من أحد الأقسام، وإنما المتيسِّر أن توزَن بميزان الشرع، فإن كان صاحبها ثابتًا على كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وكانت الخارقة مؤيِّدة لأحكام كتاب الله تعالى وسنة رسوله= كان الواجب إحسان الظن بصاحبها أن الله تعالى أكرمه. ومع ذلك فليست دالةً على أنه معصوم من المعاصي، بل ولا تمكن العصمة لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ثم إذا وقعت لذلك الشخص خارقة أخرى، كان حظّها حظّ صاحبتها، وهكذا أبدًا. فإن رأينا خارقةً تؤيد خلاف أحكام كتاب الله تعالى وسنة رسوله، حَكَمْنا عليها أنها من أحد الأنواع الأخرى.
والمقصود أن أصول الأحكام في شريعة الإسلام هي الكتاب والسنة لا غير، والعالم هو العالم بأحكامهما، والوليّ هو العامل بما عَلِمه منهما، والخوارق بعد المعجزة ليست بحجّة ولا دليل ولا يُسْتند إليها في قليل ولا
كثير، وإنما تفيد مجرَّد حُسن الظن لا غير، ولهذا كان سيّد الطائفة الجُنيد رضي الله عنه يقول لأصحابه: لو رأيتم رجلًا قد تربّع في الهواء فلا تقتدوا به حتى تروا صنيعَه عند الأمر والنهي، فإن رأيتموه ممتثِلًا لجميع الأوامر الإلهية مجتنبًا لجميع المناهي، فاعتقدوه واقتدوا به. وإن رأيتموه يخلُّ [106] بالأوامر ولا يجتنب المناهي فاجتنبوه
(1)
.
فجَعَل الدليل على كون الخارق كرامة هو الثبات على جميع الأوامر، واجتناب جميع المناهي، فكان من المحال أن يجعل الخارق دليلًا على الثبات، أو على كون فعلٍ من الأفعال هو من الدين وإلا لكان دورًا، فتأمّل.
مع أن هذا الأمر من المعلوم بالضرورة لكل مسلم، فإن أركان الإيمان إنما هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشرّه. ومِن لازم الإيمان بالله ورسوله الإيمانُ بالكتاب والسنة والاهتداءُ بهديهما. والخارقُ بعد المعجزة خارج عن ذلك كله، اللهم إلا أن يختار أحدٌ لنفسه الكفر بهما والإيمانَ بالخارق، فهو وما تولّى، أعاذنا الله وجميع المسلمين من الخذلان!
الوجه الثاني في الكلام على هذه الخوارق: بيانها تفصيلًا:
أولًا: قولكم: إن أحدكم يجهد في دعاء الله تعالى
…
إلخ.
جوابه: أنه إن صحَّ ولم يتكرّر فهو مجرّد موافقة. فإن تكرر حتى حصل لصاحبه القطعُ بمقتضاه، فهو من الاستدراج، أو مما يصلح له من بقية الأنواع، فإن الله تعالى يقول:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، ويقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ
(1)
أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (1719) من قول أبي يزيد البِسْطامي.
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
الثاني: قولكم: ونرى كثيرًا
…
إلخ.
والجواب عنه كالذي قبله.
الثالث: قولكم: وقد ينذر الإنسان
…
إلخ
والجواب عنه كالذي قبله، وقد يكون البلاء الذي أصابه بسبب تأخير النذر من الشياطين، ولذلك إذا أطاعهم بأداء ما نذر به كفُّوا عنه. وقد مرَّ في التبرّك قول زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنها له أنها كانت تقذف عينها فتذهب إلى يهودي يرقي، فإذا رقاها سكنت، فقال عبد الله رضي الله عنه: إنما ذلك الشيطان ينخسها بيده
…
(1)
إلخ.
الرابع: قولكم: ونرى بعض أهل الجهات
…
والجواب عنه: أن هذا مجرّد موافقة، فإن تتابعَتْ وتكررت حتى حصل العلم بذلك، فهو من الاستدراج ــ والعياذ بالله ــ كما يقع مع الدجّال. والغالب أن هذا مجرّد موافقة يصير أهلُ الجهة إلى الوقت الذي جرت العادة بنزول المطر فيه، فإذا أبطأ أسبوعًا أو نحوه ذهبوا ففعلوا تلك الأفعال، ثم ينزل الله تعالى المطر على جاري العادة في نزوله في ذلك الفصل، وقد يكفّون في بعض السنين عن فعلهم [107] فيتفق تأخّر المطر تلك السنة، فيجد الشيطان الفرصة إلى تثبيت تلك العقيدة في صدورهم. وقد أخرج النسائي
(2)
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لو
(1)
تقدم (ص 227).
(2)
(1526) وفي «الكبرى» (1849). وأخرجه أحمد (11042)، والحميدي (751) وابن حبان (6130) وغيرهم بلفظ:«سبع سنين» . وأخرجه غيرهم بلفظ «عشر سنين» .
أمسك الله القَطْر عن عباده خمس سنين ثم أرسله لأصبحتْ طائفة من الناس كافرين، يقولون: سُقينا بنوء المِجدَح».
وعلى كل حال فلا يخلو عن استدراج، نعوذ بالله من غضبه و
(1)
.
الخامس: قولكم: ونرى بعضَ النساء
…
إلخ.
والجواب: أن هذا مجرَّد اتفاق، فإن تواتر وتكرر حتى حصل العلم بمقتضاه فهو استدراج والعياذ بالله.
السادس: قولكم: وكثيرًا ما نرى أُناسًا
…
إلخ.
والجواب: أنه قد مرّ أن المؤذي لولد ذلك الصالح إن آذاه ظلمًا وعدوانًا، وبغير حق ثابت في أحكام الكتاب والسنة، فيجوز أن يكون ما ناله كرامة للصالح. وإن كان بالعكس، كأن أنكر مسلمٌ البناء على القبر ونحوه، فابْتُلي بشيءٍ فهذا من أعمال الشياطين. والغالب أن هذا لم يقع ولا يقع وإنما هو من ظنون هؤلاء الجهال كما قال قوم:{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54].
وعلى فرض أنّ شيئًا من ذلك وقع فهو إما مجرّد اتفاق، وإما من أعمال الشياطين الذين اتخذوا ذلك القبر شبكةً لاصطياد الجهّال، والعياذ بالله. وإما من سِحْر أولئك السَّدَنة، فإن وافقهم ذلك المنكر على باطلهم كفوا عنه، وإذا كان المنكر ثابتَ العقيدة صحيحَها لم يُصِبْه ما يكره أبدًا.
السابع: قولكم: ونرى كثيرًا من الخوارق
…
إلخ.
(1)
كذا في الأصل.
والجواب: أن أصحاب القبور موتى لا يسمعون ولا يُبصرون على ما تقدّم، وليس لهم تصرّف في شيءٍ من الدنيا، وإنما يحضر عند قبورهم بعضُ الشياطين يضلون بني آدم، ليهلكوهم ويُرْدوهم، وربما كان ذلك من الاستدراج والعياذ بالله، فاتقوا الله في أنفسكم وارجعوا إلى دينكم.
الثامن: قولكم: وكثيرًا ما ينذر
…
إلخ.
والجواب: أن هذا ــ إن صحّ ــ فهو من أعمال الشياطين يوحون إلى ذلك الولي من أوليائهم ذلك الخبر بعد أن سمعوا الناذِرَ يذكره، أو أخبرهم به وسواسه.
وقولكم: وقد يرى ذلك الوليَّ في نومه
…
إلخ.
الجواب: أنه إنما رأى الشيطان، والشيطان يتصوّر بكل أحدٍ إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، على أن العلماء رضي الله عنهم صرّحوا أنه لو رأى الإنسانُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمره بشيء لم يجُزْ له أن يعمله إن كان غير جائز في الشرع، وقد مرَّ إيضاح ذلك
(1)
.
[ص 108] التاسع: قولكم: وكثيرًا ما نرى المجانين .....
الجواب: أن هذا من أوضح الواضح من عمل الشيطان، كما مرَّ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
العاشر: قولكم: ومن جملة الخوراق ..... إلخ.
والجواب: أن اتساع القبة لا يصح، فإن فُرِض أنه صحّ بمشاهدةٍ أو
(1)
(ص 335).
تواتر يفيد العلم القطعي، فهو استدراج. وخروج الدراهم هو حيلة من حيل السَّدَنة؛ يدخل أحدهم إلى التابوت ويقف فيه، وعنده دراهم مجلوّة، فإذا أريد التمويه تكلّم بعض السَّدَنة الذين خارج التابوت بما يفهم منه الداخل، فيرمي بشيءٍ من تلك الدراهم.
وقد بلغنا عن بعض القبور أن أحد السَّدَنة يدخل في ذلك التابوت، ويُدخل معه دراهم مجلوّة ونارًا، فإذا أريد التمويه وضع بعض الدراهم على النار حتى يحمى ثم أخذه ورماه إلى الخارج، ويموّهوا على الناس أنَّ الوليّ أحضره من البلاد التي تُطبَع فيها الدراهم.
وبهذه الحيلة يضع ذلك السادن حجرًا عريضة فيجعل عليها ترابًا، فإذا أريد التمويه أبعدها عن قرب الطاقة التي يتناول منها التراب، فإذا مد الزائرُ يده لم تصل إلى الأرض لبعدها، فإذا جاء بعض السَّدَنة وأخبره أن ينذر فنذر، تكلم بما يفهم به صاحبه، فيرفع تلك الحجر إلى حيث تنالها يد الرجل بسهولة.
وأمثال هذه الحيل كثيرة جدًّا عند هذه المشاهد، وكثيرًا ما تساعدهم الشياطين فيها، فتذهب الشياطين في البلاد توسوس للناس، وتسمع ما يكون منهم من نذور ونحوها، وترجع تخبر أصحابها، وإذا كانت الشياطين تخبر أصحابها بما استرقته من خبر السماء فما بالك بخبر الأرض؟
الحادي عشر: قولكم: ومنها أن الزائرين يضعون أسلحتهم
…
إلخ.
والجواب: أن هذا باطل لا يصحّ، فإن صحّ يقينًا فقد يكون من عمل الشياطين، فيكون قرين كلِّ إنسان يعرف سلاحه، فينظر أين وضَعَه ويعلم
ذلك، فيبقى يحرسه يرقب صاحبه، حتى إذا أراد الخروجَ أسرع فقدَّم له سلاحَه. وقد يكون ذلك من الاستدراج والعياذ بالله.
[ص 109] الثاني عشر: قولكم: ومنها أن يجيء المجذوب
…
إلخ.
والجواب: أن هذا من سِحْر الشياطين، يسحرون المجذوب حتى لا يدري ماذا يصنع، ثم يسحرون عيون الناس، فيخيلون إليهم هذه الأشياء.
وها نحن قد بينّا لكم المحامل التي تُحمل عليها هذه الخوارق المدّعاة، وما كان من الاطلاع على المغيّبات قد ذكرنا محاملَها في ما مضى، لتعلموا أنه ما من خارقةٍ ــ غير المعجزات ــ إلا وهي إلى الباطل أقرب، وأن الحجة هي كتاب الله تعالى وسنة رسوله فقط.
فإن قلتم: إنّ فَتْح هذا الباب من تجويز أعمال الشياطين يؤدّي إلى مُحالات كثيرة، فلا يثق الإنسان بما يرى ولا بما يسمع، إذ كل شيء من ذلك محتمل لمثل ما ذُكِر، فقد يخيّل إليه الشيطان أنه يطأ زوجته وهو إنما يطأ بنته، مع تخييله لبنته أنه إنما يطأها زوجُها. وأشباه ذلك مما لا يُحْصَى.
فالجواب: أننا لأجل ذلك قدّمنا إنكار هذه الخوارق المدّعاة، وقلنا: إنها لا تثبت أصلًا، وإن فُرِض أنه ثبت شيءٌ منها بطريق القطع عرضناها على حكم كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فإن قضى الكتاب والسنة ببطلانها عَلِمنا قطعًا أنها من تلك الأنواع الباطلة. والقولُ بأن شيئًا من هذه الخوارق يجوز أن يُستدلّ به ولو خالف الكتاب والسنة قولٌ لا ينبغي أن يصدر من مسلم.
تنبيه
قد يستبعد بعضُ الناس وجود الشياطين عند قبور الصالحين.
والجواب: أن الشياطين مأذون لهم فيما هو أشدّ من هذا، ففي «الصحيحين»
(1)
عن أنسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم» . وفي «صحيح مسلم»
(2)
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِلَ به قرينه من الجنّ وقرينه من الملائكة» قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: «وإياي، ولكن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير» ولمسلم
(3)
أيضًا نحوه عن عائشة.
وفي «الصحيحين»
(4)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن عفريتًا من الجن تفلّت البارحة ليقطع عليَّ صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته
…
» الحديث.
وقد أخرجه مسلم
(5)
عن أبي الدرداء قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فسمعناه يقول: «أعوذ بالله منك» ، ثم قال:«ألعنك بلعنة الله» ثلاثًا، وبسط يدَه كأنه يتناول شيئًا، فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئًا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك
(1)
البخاري (3281) ومسلم (2175) عن صفية بنت حُيي رضي الله عنها، وأخرجه مسلم (2174) عن أنس رضي الله عنه.
(2)
(2814).
(3)
(2815).
(4)
البخاري (3423)، ومسلم (541).
(5)
(542).
وفي «سنن أبي داود»
(1)
عن أنسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «رصّوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصفّ كأنها الحذف» .
وفي «صحيح مسلم»
(2)
عن ابن مسعود قال: «إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل، فيأتي القومَ فيحدّثهم الحديث من الكذب، فيتفرقون، فيقول الرجل منهم: سمعت رجلًا أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدّث» .
ولا يخفى أن الشياطين بالصالح أشدّ اهتمامًا، وهذه المشاهد حريّة بأن تكون محضورة بالشياطين؛ لأنه إما أن يكون صاحب القبر صالحًا لم تتمكّن منه الشياطين في حياته، فهم حريصون على أن يعتاضوا عما فاتهم منه بما ينالونه بواسطة قبره. وإما أن يكون طالحًا فهو صاحبهم حيًّا وميّتًا؛ ولهذا نرى حرم الله تعالى وحرم رسوله منزّهين عما ذكرتم، وإن كان شياطين الإنس والجن ربما انتهكوا حرمتهما بحِيَل يتلاعبون بها بعقول الجهّال مما يعلّمهم إيّاها الشيطان، كما كانت الأصنام والأوثان في الجاهلية داخل الكعبة وخارجها. نسأل الله تعالى التوفيق.
(1)
(665). وأخرجه النسائي (815)، وأحمد (13735). وصححه ابن خزيمة (1545) وابن حبان (2166).
(2)
(7).
[78]
قال المجيزون: أما بعد هذا فلا طاقة لنا بجدالكم، ولكنّا نكتفي بما هو مثبت في دواوين الإسلام من المؤلفات التي لا تُحصى، بل وبإجماع المسلمين على النداء والاستغاثة بالأنبياء والصالحين، حتى إن الظاهر أن ذلك أمر فَطَرهم الله تعالى عليه، وإنكم وإن أتعبتم أنفسكم ولجَجْتُم في الخطاب فلن تقدروا على تغيير ذلك ولا تبديله، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32]. وإنما نسألكم عن أمر واحد وهو أن المسلمين في هذا الأمر فِرَق:
الفريق الأول: مَن يُثبت للأنبياء والصالحين الكشف الصادق في السموات والأرض، ويثبت لهم التصرّف فيما بين ذلك مُسْنِدًا ذلك إلى الإذن الربّاني.
الفريق الثاني: مَن لا يثبت لهم ذلك وإنما يقول: إن الله تعالى يبلغهم ويجيب دعاءهم.
الفريق الثالث: مَن لا يقول بهذا ولا بهذا، ولكنه يثبت التوسّل، ويجعل الطلب منهم والاستغاثة بهم حاضرين في معنى طلب الدعاء، ويجعل خطابهم عند قبورهم بناء على أنهم يسمعون الكلام، كما ثبت ذلك في أحاديث صحيحة، وأنهم قادرون على الدعاء وإن كانوا موتى، كما ثبت من وقوع العبادات من بعض الموتى. ويجعل نداءهم والطلب منهم والاستغاثة بهم غائبين في معنى التوسّل.
وليس من هذه الفِرَق من يدّعي لمخلوقٍ الاستقلال بالقدرة من دون الله تعالى، ولا مشاركته في القدرة، وإنما يقولون: إن الله سبحانه وتعالى يُسْمِع مَن يكرمه من خلقه ما غاب عنه من المسموعات، ويُطْلِعُه على ما غاب من
المعلومات، ويُجري على يده ما شاء من خوارق العادات.
ويبنون على ذلك جواز النداء والطلب على ما مرّ. وكلٌّ منهم متمسّك بدليل شرعيّ، فلم تتمسكوا معهم بالأدب الواجب بين العلماء، بل بادرتم إلى تفسيقهم وتكفيرهم وتضليلهم، وإخراجهم من الدين رأسًا [79] فجعلتم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم محصورةً فيكم، وسائر الأمة مرتدون، فما سمعنا بضلال أضلّ من هذا! وما دام الأمر على هذا فالكلام معكم ضائع، لأنكم تعتبروننا مرتدين كفّارًا نحن وجميع هذه الأمة إلا أفرادًا يُعدّون بالأصابع. وهذا القول يكفي في ردّه حكايتُه.
قال المانعون: إنا والحمد لله أنصار الحقّ لا عداوةَ بيننا وبين الحق، وقد تدبّرنا كتاب الله تعالى وسنة رسوله وآثار سلف هذه الأمة، فوجدنا السبيل واضحًا، والمنار بيّنًا، والهدى معروفًا. وقد سردنا في هذه الرسالة من أدلة الكتاب والسنة ما يغني عن سواه، ولا تجهل أن هناك أحاديث ضعيفة وآثارًا سخيفة لا يصحّ الاستناد إليها ولا الاعتماد عليها ولو لم يعارضها شيءٌ، فكيف وقد عارضها القرآن والسنن المتواترة.
وأما دعوى الإجماع فباطلة، فإنه لم يزل في كل زمان قائم لله بحجة، ومع ذلك فإنه قد سبق
(1)
عن ابن حجر قوله: إن الإجماع لا يكون حجة في هذه الأعصار لتغيّر الناس وغَلَبة الفساد. ومع هذا فالإجماع إنما يكون حجة إذا عُلِم يقينًا، وليس عندكم فيه هنا إلا الاحتمال، بل ليس ــ والحمد لله ــ
(2)
(1)
لم يسبق هنا شيء، ولعله مما لم نعثر عليه من مباحث الكتاب. وقد ذكره المؤلف في رسالة «عمارة القبور» .
(2)
تحتمل قراءتها: «ليس فيه بحمد الله
…
» وما أثبته أقرب إلى الرسم.
احتمال أصلًا ــ كما مرّ ــ. وهذه الأدلة القواطع من آيات الكتاب، والأحاديث المتواترة الصحيحة، فما معنى دعوى الإجماع بمناقضتها ومعارضتها؟ وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
وعليكم أن تراجعوا كلام الإمام الشافعي في الإجماع، وكلام الإمام أحمد، وقد مرَّ بعضُه.
وأما قولكم: إن الناس مفطورون على ذلك، فهذا جهل بيّن، فإن الفطرة إنما هي معرفة الله وحده، وما خرج عنها فهو ليس من الفطرة، وإنما هو التقليد المحض، كما ينشأ أولاد الكفار كفّارًا، يظنون الحق ما عاش عليه آباؤهم وأجدادهم وألِفُوه واعتادوه، فيقول قائلهم:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]. ويُنشد:
بلادٌ بها عقَّ الشبابُ تمائمي
…
وأوّل أرضٍ مسّ جلدي ترابُها
(1)
ويردّد:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
…
إذا جَمَعَتْنا يا جريرُ المجامع
(2)
ويقول أحدهم: واعجباه! أيمضي آباؤنا وأجدادنا وفيهم العلماء والعُبّاد والأمراء على هذه العقيدة وتكون باطلة، إن هذا لشيء عجيب! أوَ يسوغ لنا أن نخالفهم في ذلك ويفوز هؤلاء النّفَر القليل بالحق دونهم؟ لو كان خيرًا ما سبقوهم إليه.
(1)
البيت في «الأمالي» (1/ 84) للقالي، وتخريجه في «سمط اللآلي» (ص 272) ونُسب لغير واحد. وانظر «الكامل»:(2/ 842).
(2)
البيت للفرزدق في «ديوانه» (1/ 418).
ثم يوحي بعضهم إلى بعض أن اثبتوا على ما وجدتم عليه آباءكم وأشياخكم، وأعرضوا عن كلام من يريد أن يصدكم عن ذلك والغَوا فيه، ولا تتفكّروا فيه، ولا تتدبروه، ولا تطالعوا رسائلهم فإنها مضلّة. وهكذا تمضي أعمارُهم في مناصبة الحق ومعارضته ومحاربته ومناقضته والإعراض عنه والتحذير منه، [ص 80] كأنهم لا يقرؤون كتاب الله تعالى، فيعلمون أن الدين هو ما جاء من عند الله تعالى بكتابه وسنة رسوله الصحيحة، فيتدبرون القرآن ويراجعون السنة.
وهب أنّ آباءهم وأجدادهم وأشياخَهم كلهم على الحق، أفلا يجب على هؤلاء أن يعرفوا الحق بعينه، ويأخذوه من معدنه، حتى يكونوا على يقين منه لا على مجرد التقليد والظن المتردّد؟ وإننا لا نطلب منكم إلا أن تتبعوا الحق وتعملوا بموجبه مع قطع النظر عما كان عليه الآباء والمشايخ وغيرهم، فإنكم مكلّفون كما هم مكلّفون، والحُجَج قائمة عليكم كما كانت عليهم.
ولو رجعتم إلى أنفسكم لعلمتم أنه إنما يحملكم على معارضة الحق مجرّد الهوى والتعصّب والإلْفَة لأنفسكم ولآبائكم ولأشياخكم. وهذه هي صفة أهل الضلال كما تعلمون، فاتقوا الله في أنفسكم، وجرّدوها عن الأهواء، واعمدوا إلى الحق تجدوه واضحًا لا غبار عليه.
إن الفتى من يقول: هانا ذا
…
ليس الفتى مَن يقول: كان أبي
(1)
(1)
يُنسب إلى علي بن أبي طالب، وهو في «الجليس الصالح»:(1/ 109)، و «غُرر الخصائص» (ص 74) بلا نسبة.
فإن آباءنا وآباءكم ليسوا بمعصومين عن الخطأ، ولا ندري ما هو الذي أخطأوا فيه مما أصابوا، وإنما يُعرف ذلك بالحجة، وهي كتاب الله تعالى وسنة رسوله الصحيحة، فعليكم بهما ترشدوا إن شاء الله تعالى. ولاسيّما والخطأ في مسائل التوحيد والجهل بها لا يُعذَر صاحبه، كما لا يسوغ التقليد فيها اتفاقًا.
واعلموا أن الله تعالى لم يحفظ علينا كتابه وسنة رسوله إلا لتقوم علينا الحجةُ بهما لئلّا نتمسّك بشبهة التقليد ونقول: لم نجد متمسّكًا غيرها، لذلك حفظ الله تعالى علينا كتابَه وسنةَ رسوله حتى لا تبقى لنا شُبهة.
وكيف بكَ يا ابنَ آدم إذا قال الله تعالى لك: ألم تعلم أن من شرط الإيمان أن تؤمن بكتابي وبرسولي؟
قلتَ: بلى يا رب.
قال: أوَ لم تعلم أن كتابي وسنة رسولي كانت موجودة في حياتك؟
قلت: بلى يا رب.
قال: أوَ لم يكن يمكنك أن تفهم معانيهما؟
قلت: بلى يا ربّ.
قال: فلماذا أعرضتَ عنهما واتبعتَ ما يقول الناس؟
ثم يقول لك: ألم تعلم أني أنزلتُ كتابي مخاطبًا به جميع بني آدم قائلًا: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21].
فيقول: بلى يا ربّ.
فيقول: أوَ لستَ من الناس المخاطَبين.
فتقول: بلى يا ربّ.
فيقول لك: أوَ لم تقرأ فيه أنه {عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103].
فتقول: بلى يا ربّ.
فيقول لك: أوَ لم تقرأ هذه الآية؟
فتقول: بلى يا رب.
فيقول: أوَ لم تفهم معناها بالأسلوب العربي؟
فتقول: بلى يا رب.
فيقول: وكيف اعتقدتَ ما يناقضها؟
فلا يسعك إلا السكوت، إذ لا يمكنك أن تقول: عملتُ بقول آبائي وأشياخي، فتعترف على نفسك أنك قدمتَ قولَ آبائك وأشياخك على كلام ربك جل جلاله!
[81]
فصل
وأما شكواكم من التكفير والتفسيق فهي شكوى لا معنى لها، وإنما عليكم أن تتجرَّدوا عن الأهواء، وتنظروا بعين الإنصاف وحب الحق حتى تقفوا على ما وقف عليه المكفِّرون والمُفَسِّقون؛ فإن تبين لكم أن لهم حجة في ذلك فلا تلوموهم على أن عملوا بها. وإن لم تجدوا لهم حجة ووجدتموهم متأوّلين، فاعلموا أنهم معذورون في ذلك. وقد مرّ في هذه الرسالة ما يتعلق بهذا
(1)
.
وإن اتضح لكم أنهم لا حجة لهم ولا تأويل، وإنما قالوا ما قالوه
(1)
لم نره فيما سبق.
بالهوى والعناد، فحينئذٍ فلوموهم عن يقين.
وقد قسّمتم الناس على فِرَق، فنبني الكلام عليها، فنقول:
أما الفرقة الثالثة، وهم الذين يجيزون التوسّل، ويجيزون الطلب من الصالحين الحاضرين الأحياء، لا على أنهم قادرون على تحصيل المطلوب بأنفسهم، بل على أنهم قادرون على تحصيل سببه، وهو الدعاء. فمعنى قولهم:«يا سيدي فلان أغِثْني أو أدركني أو الغارة» = أغثني بالدعاء، وأدركني بالدعاء، والغارة بالدعاء.
ويخاطبون الموتى عند قبورهم بناءً على أنهم يسمعون الكلامَ ويقدرون على الدعاء، وينادون الغائبين ويستغيثون بهم لا على معنى أنهم يسمعون ويُغيثون بل على معنى التوسّل.
فقولهم: «يا بدوي الغاره» يريدون به: اللهم إنا نسألك بجاه البدوي الإغاثة= فمسألة التوسّل قد مرّ ما فيها. وخلاصة القول فيها: أنه خلاف السنة، وطلب الدعاء ثابت بالكتاب والسنة، وطلب الفعل من الحيّ الحاضر بمعنى طلب الدعاء لا بأس به إذا قامت القرينةُ على المراد، فأما إذا لم تقم قرينة فالعمل على الظاهر، وهو أن الطالب يعتقد أن المطلوب منه يقدر على تحصيل المطلوب. وسيأتي ما في هذا.
ثم إن قول ما ظاهره كفر محظور في الشرع وإن كان القائل لم يرد به ظاهره.
وأما خطاب الموتى عند قبورهم وسؤال الدعاء منهم صريحًا، فإنه يدلّ على اعتقاد أنهم يَسْمعون أو يُبلّغون ويَدْعون.
وقد مرت الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة على عدم سماعهم وعدم دعائهم فراجعْها
(1)
. ولا ريب أن فاعل ذلك مخالف لتلك الأدلّة، وبمراجعتها يتبيّن حكم مخالفها.
وأما إن طلب منهم غير الدعاء فالأمر أشدّ، وفيه نحو ما سبق قريبًا.
وأما الفرقة الثانية، وهم الذين يعتقدون أن الله تعالى يبلّغ الصالحين غائبين أو موتى، فهؤلاء مكذّبون لصريح الكتاب والسنة، فإن التبليغ إنما يقع للأنبياء في حال حياتهم في بعض الوقائع لا في جميعها. [82] ومع ذلك فإنما يجوز في حال حياتهم أو غيبتهم أن يقال كما قال عاصم:«اللهم أخبر عنا رسولك»
(2)
.
وأما أن الله تعالى يقبل رجاءهم، فهذا صحيح في حقّ الأنبياء عليهم السلام غالبًا لما مرّ، ومع ذلك فالطريق في سؤالهم ذلك: أن يُسأل منهم الدعاءَ حال حياتهم. وأما إذا كانوا غائبين أو قد ماتوا فإنما يقال: اللهم شفِّع نبيّك صلى الله عليه وآله وسلم فينا، ونحوه مما ثبت بالدليل.
وأما غير الأنبياء فإنما المشروع أن يُسأل منهم الدعاء في حال حياتهم، وأما بعد موتهم فإنما الجائز أن يسأل من الله تعالى أن يجعله مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقًا.
وأما الفرقة الأولى، وهم الذين يثبتون للأنبياء والصالحين الكشفَ الصادق في السموات والأرض عمومًا، ويثبتون لهم التصرّف فيما بين ذلك، مُسْنِدين ذلك إلى الإذن الربّاني، فهؤلاء في إثباتهم للأنبياء الكشفَ في ما
(1)
(ص 399 وما بعدها).
(2)
سبق تخريجه (ص 403).
بين السموات والأرض عمومًا مكذّبون لكتاب الله تعالى وسنة رسوله، لما مرّ بيانُه في المقام الأول، وفي إثباته للصالحين أشدّ تكذيبًا للكتاب والسنة. وفي إثبات التصرُّف فيما بينهما عمومًا مكذّبون لكتاب الله تعالى وسنة رسوله لما مرّ بيانه في المقام الثاني.
ثم إن ما خالف كتاب الله وسنة رسوله فهو باطل، والمبطل في العقائد غير معذور عند الجمهور. وفوق ذلك فمخالفة كتاب الله تعالى في الاعتقاد لا تخلو أن تكون صريحة أو غير صريحة، فغير الصريحة تكذيبٌ له غير صريح، وهذا خطأ في الاعتقاد، وقد مرّ أن صاحبه غير معذور عند الجمهور. وأما الصريحة فهي تكذيب صريح لكتاب الله تعالى، [ص 83] وتكذيبه الصريح كفر صريح. وهذا كتاب الله تعالى بين أيديكم، وهذه اعتقاداتكم، فانظروا أين منزلتكم؟
ثم إن الاستعانة والاستغاثة والاستعاذة ونحوها من أقسام الطلب إن كانت مما جرت به العادةُ المشتركة بين سائر البشر، فالأصل جوازها حتى يرد الشرع بالمنع. وإن كانت فيما لم تَجْرِ به العادة؛ بأن يطلب من مخلوق ما لا يقدر عليه البشر عادة، فهذه من العبادة، قال الله عز وجل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي
…
} الآية [غافر: 60]. وفي الحديث عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه
(1)
. وفي رواية للترمذي عن أنس
(1)
سبق تخريجه (ص 408).
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الدعاء مخ العبادة»
(1)
.
ولا شك أن مَن طلب من المخلوق ما لا يقدر عليه البَشَر عادةً، فقد عمل معه ما لا يُعْمَل إلا مع الله، أي: دعاه وعَبَدَه. وعبادة غير الله تعالى كفر بلا شكّ. ولا شكَّ أن مَن يعمل هذا مع المخلوقين معتقد استحقاقَهم لمثله. وبذلك الفعل والاعتقاد يَنْقض شهادته بوجهيها، فإن من شهد أن لا إله إلا الله فقد أخبر أنه يعتقد أن لا معبود بحقّ في الوجود إلا الله، والتَزَم أنه لا يعبد إلا الله. فمتى أخلّ بأحدِ الأمرين كفر، فكيف بمن أخلّ بهما معًا؟ والله أعلم.
قال المجيزون: فهمنا هذا وبقي أن كثيرًا من المانعين يرموننا بكفر أهل الجاهلية وأشدّ منه، فما وجه ذلك؟
قال المانعون: وجهه أنكم تعتقدون في غير الله تعالى أنه يضر وينفع، وهذا هو الذي كانوا يعتقدونه في أصنامهم، وكانوا عند الشدائد يوحّدون الله تعالى، كما دلّ عليه القرآن في عدة مواضع:{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 63 - 64]. إلى غير ذلك من الآيات الدالة أن القومَ كانوا يوحّدون الله تعالى عند الشدائد، وأنتم بخلاف ذلك، بل كلما اشتدت عليكم الشدائد ازددتم غفلةً عن الله تعالى وذكرًا
(2)
للذين تدعون من دونه!
(1)
سبق تخريجه (ص 408).
(2)
الأصل: «وذكر» سهو.
قال المجيزون: لا سواء، فإن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون في أصنامهم أنها تضرّ وتنفع من دون الله أو معه، ونحن إذا اعتقدنا في الصالحين أنهم يضرون وينفعون [ص 84] فإنما نعتقد أن ذلك بإذن الله تعالى، لا من دونه ولا معه.
قال المانعون: وهكذا كان الجاهليون يقولون، كما يدلّ عليه قوله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، وقوله تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43 - 44]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89]، وقوله جلّ ذكره:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31 - 32]. وقوله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ
لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 61 - 63].
وقوله سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]. وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87]. وقوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
…
} الآية [يونس: 22]. وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67]. وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].
وفي «صحيح مسلم»
(1)
عن ابن عبّاس قال: «كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك» . يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت.
وكفى بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فإنهم حصروا السببَ الحاملَ لهم على عبادتهم في إرادة أن يقرِّبوهم إلى الله زُلْفى.
(1)
(1185).
[ص 85] قال المجيزون: هذه الآيات التي ذكرتم وغيرها تدلُّ على أن المشركين سمّوا أصنامهم آلهة، وعبدوها، واعتقدوا أنها تستحقُّ العبادة، واعتقدوا أنها تشفع عند الله تعالى وتقرب إليه بغير إذنه، وكذّبوا القرآن والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، وليس منّا أحدٌ يعبد الصالحين، ولا يعتقد أنهم يستحقون العبادة، ولا يعتقد أنهم يشفعون ويقرِّبون إلى الله تعالى بغير إذنه.
قال المانعون: أما مطلق التسمية فإنه لا يتعلّق بمجرّد لفظها حقّ، وإنما يتعلّق بها من حيث معناها، ومعنى الإله: المعبود بحق، وسيأتي مثل هذا عنكم. وأما العبادة فإن فيكم من يعبد الصالحين، وذلك أنكم تدعونهم وتستيغيثون بهم كما مرّ، والدعاء مخّ العبادة أو هو العبادة، كما ورد في الحديث
(1)
، ويدلُّ عليه قوله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] وفيكم من يتمسّح بأضرحتهم ويذبح عندها، وينذر النذور للموتى، ونحو ذلك. وكلُّ هذا من العبادة. ولا شكّ أنكم تعتقدون أنهم يستحقّون ذلك، وهذا معنى الإلهية.
وأما قولكم: إن المشركين كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تشفع عند الله من غير إذنه، ففيه نظر، كيف وهم يقولون في تلبيتهم: إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك؟ وقد مرَّ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88]. مع أن فيكم من يعتقد في الصالحين قريبًا من
(1)
سبق تخريجه (ص 408).
ذلك ويستدلّ بقوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 22]. غافلًا عن كون ذلك إنما هو في الجنة التي كلّ من دخلَها كان له ما يشاء، وأن الله تعالى يحفظ نفوس أهل الجنة أن تشتهي ما سبق في علمه خلافُه، فلا يشتهي أهل الجنة خروج أقربائهم الكفار من النار.
وأما في الدنيا فقد سبقت الدلائل من الكتاب والسنة أن الأنبياء يُمنعون بعض ما يشاؤون فضلًا عن غيرهم، والله سبحانه وتعالى يقول:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]. وكذا في المحشر قد يُمنعون بعض ما يشاؤون كما مرّ في حديث شفاعة الخليل لأبيه
(1)
.
وأما كون المشركين كذَّبوا القرآن والنبي، فقد شاركتموهم في هذا، فكذّبتم دلائل القرآن ودلائل سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وغاية الأمر أن تكذيبهم أصرح من تكذيبكم.
[ص 86] قال المجيزون: أما كون دعاء الله تعالى من عبادته فمسلّم، ولكن لا نسلِّم أن ما يقع منّا من نذر الصالحين والاستغاثة بهم، كدعاء الله تعالى، فإن دعاء المرء لله تعالى دعاءُ مَن يعلم أنه سبحانه وتعالى الفاعل المختار، فهو يطلب منه العفو والمغفرة والرحمة والرزق والشفاء وغير ذلك، ودعاء أحدنا للصالح إنما هو كما يدعو الإنسانُ صاحبه ويطلب منه ما يقدر عليه.
وأما التمسّح بالأضرحة، فإنما يفعله من يفعله منا تبرّكًا بأثر ذلك الصالح. وقد ثبت التبرّك بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فثبت أن
(1)
تقدم تخريجه (ص 401).
التبرّك بآثار الصالحين إن لم يكن مستحبًّا فليس بكفر قطعًا.
وأما النذر والذبح، فإن الناذر إما أن يتصدّق بالمنذور، ويعطيه من يقرأ إلى روح ذلك الصالح، أو يجمع عليه الناس لذكر الله تعالى، أو نحو ذلك. وإما أن يعطيه أقارب ذلك الصالح وأتباعه.
فهو في الحالة الأولى إنما يريد النذر بثواب تلك الصدقة أو تلك القراءة أو الذكر ونحوه. وفي الثاني إنما أراد النذر على أتباعه، وهذا من باب البرّ والصِّلَة المستحبّة في الشرع. كما أن الإنسان يبرّ قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويعتقد أن ذلك من برِّه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]. فهذا الرجل في نذره على ذلك الميت وإعطاء المنذور به لأتباعه إنما يعني النذر على أتباعه بنيّة البرِّ له.
وكذلك الذبح، فلا نعلمَ أحدًا يذبح باسم أحدٍ من الصالحين، وإنما يذبح على اسم الله تعالى قائلًا: بسم الله، والله أكبر. وإنما قد ينذرون بالشاة ونحوها على الولي قاصدين النذر بثواب الصدقة بها أو غير ذلك مما مرَّ. وإذ قد ثبت أنه لا بأس بهذه الأشياء، فلا بأس باعتقادنا أنهم يستحقّونها.
وأما أننا نعتقد أن لهم ما يشاؤون في الدنيا والآخرة فلسنا نطلق ذلك، وإنما نعتقد أن دعاءهم أقرب إلى الإجابة، وهذا لا ينازع فيه أحد.
[ص 87] قال المانعون: إننا ــ كما يعلم الله تعالى ــ نحبّ أن تكون جميع أفراد الأمة على هدى وسراط مستقيم، ولا غرض لنا في أن يكون أحدٌ منهم ضالًّا، وإنما غرضنا في تحقيق الحقّ.
أما قولكم: إنّ نداءكم للصالحين والاستغاثة بهم ليس كدعاء الله تعالى
…
إلخ، فنداء الصالح على ضربين:
الأول: أن يكون حاضرًا، وهذا معلوم بالضرورة أن مجرّد ندائه لا حرجَ فيه على كل حال.
والثاني: أن يكون غائبًا أو ميّتًا.
والاستغاثةُ على ضربين:
الأول: الاستغاثة بحيّ حاضرٍ بِطَلبِ ما يقدر عليه المخلوقون عادةً، كقولك للطبيب: أغثني بالدواء، ولصاحب الماء: أغثني بالسقي، وللقويّ: أغثني من هذا العدو، وللصالح: أغثني بالدعاء، فهذا من المعلوم بالضرورة أنه لا حرج فيه.
والثاني: الاستغاثة بالحيّ الحاضر بما لا يقدر عليه المخلوقون عادةً، كقولك له: أطلبُ منكَ المطر. وبالميت أو الغائب بأي شيءٍ كان. فنداء الميت أو الغائب والاستغاثة بهما مطلقًا أو بالحيّ الحاضر فيما لا يقدر عليه المخلوقون عادة= عبادةٌ.
وهذه حالة الكفّار مع أصنامهم، ومع عيسى والملائكة، ولا يفيدكم اعتقاد تبليغ الغائب والميت، كما لا يفيد الكفار اعتقاد حياة تلك الأحجار؛ لأن كلًّا منهما وإن كان ممكنًا في القدرة إلا أنه مِن خَرْق العادة، وما كان من خَرْق العادة لم يَسُغ الاستناد إليه إلا أن يخرقها بالفعل بأن يصير مُشاهَدًا أو نحوه، كأن يُحيي الله ميتًا بالفعل. وعليه بنى بعضُ العلماء خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحاب قليب بدر، قالوا: إن الله تعالى ردّ عليهم أرواحهم وأعْلَمَ نبيَّه بذلك فخاطبهم.
وأما التمسُّح بالأضرحة، فقد مرّ في بحث التبرّك ما يُغني عن الإعادة
(1)
، وقد علمتم أن سلفَ الأمة وعلماءها مجمعون على المنع من ذلك، وأنه من أفعال المشركين. ومرّ هناك أيضًا التبرك بآثار الصالحين والخلاف فيه.
وأما النذر فهو على وجهين: النذر لله تعالى، والنذر للمخلوق.
فالنذر لله تعالى هو: أن يلزم الإنسان نفسه لله تعالى حقًّا في عملٍ من الأعمال كالصلاة والصيام ونحوها، وقد يتعلّق بالمخلوق تَبَعًا، كأن ينذر لله تعالى أن يتصدق على زيد، ويُعرف هذا بالنذر على المخلوق.
والثاني: النذر للمخلوق، بمعنى التقرّب إليه بالنذر.
[ص 88] فالنذر لله تعالى بالصدقة على زيد صحيح، فالنذر لله عبادة، وعلى زيد صدقة. وأنتم تنذرون للصالحين كما ينذر لله تعالى، فيقول أحدهم: هذه الناقة لفلان بِنِيّة سلامة الإبل، وهذا الثور لفلان بِنِيَّة سلامتي أو سلامة ولدي. ويقول: يا بدوي هذا الكبش لك على شفاء ولدي، ونحو ذلك. ثم إذا سُئل أحدكُم عن تلك الناقة أو الثور أو الكبش قال: هذه حق الولي الفلاني، ويسمونها: ناقة فلان، وثور فلان وكبش فلان، ويعتبرونها ملكًا له، حتى إذا رأى أحدهم في منامه شخصًا يتسمّى له باسم ذلك الولي ويقول: أعط الناقة حقي لفلان، أعطاها إياه، كائنًا مَن كان!
ومَن مارس أحوال هؤلاء العوام عَرف أنهم لا يريدون بشيءٍ من ذلك أنه لله تعالى، وإنما ينوون به التقرّب إلى الولي الذي هو في زعمهم على كل
(1)
(ص 222 وما بعدها).
شيء قدير، فإن
(1)
لاحظوا قَصْدَ وجه الله تعالى فإنما هو تَبَعًا، أي: أنهم يتقرّبون إلى ذلك الوليِّ، والوليُّ يقربهم إلى الله تعالى زُلْفَى، وله من الله ما يشاء وهو شفيع لا يُردّ.
وأما الذبح، فإنهم ينوون به التقرّب إلى الولي، حتى إن منهم مَن يحضرون للاستسقاء بقبرٍ معروف عندهم بأنه قبر ولي، فيقدِّمون الثورَ ليُذْبح عند القبر، ويعتقدون أنه لو ذُبح بعيدًا عن قبره لم يُجْزِ، كما يعتقدون أنهم إذا لم يُمْطَروا أن في ذلك الثور نقصًا، فينظرون ثورًا أجود منه، ويذهبون به، فيذبحونه عند القبر. بل ربما اعتاد عوام بعض الجهات أن يطوفوا بالثور قبل ذبحه على القبر، ثم يذبحونه بعد ذلك، وربما لطخوا القبر بشيء من دمه، فأين إرادة الصدقة لوجه الله تعالى؟ !
قال المجيزون: إننا لا ننكر أن يكون بعض العامة غلاةً في الاعتقاد إلى نحو ما ذكرتم، ولكنهم في دعاءِ الغائب والميت مع اعتقاد أنه يسمع، والطلبِ منه مع اعتقاد أن الله تعالى أعطاه التصرّف في الكون، والنذرِ له على ما وصفتم، والذبحِ عند قبره كذلك= جُهّال، وهؤلاء معذورون بجهلهم.
وكان ينبغي لكم أن تعملوا معهم بما أمر الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، [ص 89] ولاسيَّما وإطلاقكم التكفير بهذه الأفكار يستلزم ردّ أحاديث كثيرة، كحديث:«إن الله تعالى يغفر في ليلة النصف من شهر شعبان لأكثر من عدد شعر غنم كلب»
(2)
. وأنتم إذا
(1)
كأنها مضروب عليها، ولا يستقيم الكلام بدونها.
(2)
أخرجه الترمذي (739)، وابن ماجه (1389)، وأحمد (26018) وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها. وقد ضعَّفه الترمذي والبخاري، وذكره ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (915).
عددتم مَن على وجه الأرض من المسلمين وجدتم جمهورهم متمسّكين بهذه الأشياء، فإن قلتم بكفرهم لم يبق إلّا عددٌ قليل!
قال المانعون: أما حديث: «عدد شعر غنم كلب» فهو ضعيف. قال الترمذي: سمعتُ محمدًا ــ يعني البخاري ــ يُضعِّف هذا الحديث. وإن صحّ حديثٌ بنحو ذلك فهو محمول على ما إذا وجد هذا العدد
(1)
ممن تمكن له المغفرة؛ لأننا نعلم أن نبيّ الله صلى الله عليه وآله وسلم مكث زمانًا لا يبلغ أصحابه المائة، وأخبر أن أمته ستتبع سَنن من قبلها إلا طائفة منها، وأخبر أنه آخر الزمان لا يبقى على الأرض من يقول: اللهَ اللهَ. فمن هم الذين غفر الله تعالى لهم في بدء أيام رسوله قبل كثرة أصحابه، بل وبعد كثرتهم؟ ومَن هم الذين يغفر الله تعالى لهم آخر الزمان؟ فجوابكم هو جوابنا.
وأما قولكم: إن المعتقدين جُهّال، فهم جُهّال ولا شكّ، ولكن ليس الجهل عُذرًا في أمور الاعتقاد، بل ولا غيرها حيث أمكن التعلّم.
وهؤلاء الناس جميعهم قد بلغتهم دعوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولزم كلًّا منهم أن يعرف حقيقة الدين الذي جاء به، ويعرف معنى هذه الكلمة التي هي كلمة الشهادة حقَّ معرفتها، وإلا جاء يوم القيامة مع القائلين:{رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} الآيات [الأحزاب: 67 - 68]. على أننا نلزم أنفسَنا تحسين الظنّ ما أمكن قائلين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ
(1)
رسمها في الأصل: «الحدد» .
رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
[90]
تنبيه:
قد يتمسك بعض الناس في إبطال التكفير بأحاديث النُّطق بالشهادتين، كحديث الشيخين
(1)
عن ابن عمر رضي الله عنه: «أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالَهم، إلّا بحقّ الإسلام» .
زاد في رواية البخاري: «وحسابهم على الله» .
وحديث البخاري
(2)
عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن صلّى صلاتنا، واستقبل قبلَتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله، وذمة رسوله، فلا تَخْفِروا الله في ذمته» .
والجواب عن هذا على وجهين: إجمالي وتفصيلي.
أما الإجمالي فيقال لهم: قد نصّ علماؤكم جميعًا على كفر من أهان المصحف، أو أنكر بعض آيات القرآن غير البسملة، ونحو ذلك، فكيف ترون في رجل يفعل شيئًا من ذلك وهو يكرر الشهادتين؟
وأما التفصيلي: فتتضمنه قصة جرت لي وأنا يومئذٍ بمجلس المرحوم الإمام الإدريسي، وذلك أني حضرت لديه مرةً وهناك رجل من أهل نجد وجماعة من علماء الشناقطة، فقام المرحوم وتركَنا، فسأل بعضُ الشناقطة ذلك الرجل النجديّ قائلًا: كيف تكفِّرون قومًا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن
(1)
البخاري (25)، ومسلم (22).
(2)
(391).
محمدًا رسول الله، وتستحلّون دماءَهم وأموالَهم؟ وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم كيتَ وكيتَ؟ فأجابه ذلك الرجل قائلًا: إن شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله لا تكفي في الإسلام، ثم طال النزاعُ حول هذا الحديث، وتداخل بقية الشناقطة في الكلام وأنا ساكت، فرجع المرحوم فسكتوا، فقال: ما هذا النزاع؟ فأخذ كلّ منهم يخبره بقوله. فابتدرتُ وقلتُ: إني لم أتداخل في نزاعهم، فالحقّ لي أن أخبركم بالحقيقة. فقال: هات، فقلت: إنه في الحقيقة لا خلافَ ولا اختلاف، فالفريقان متفقان، وإنما هو كما يقول المولَّدون: سوء تفاهم. وذلك أن هؤلاء المشايخ أعني الشناقطة [91] قالوا للأخ: كيتَ وكيتَ، فأجاب عليهم بكيت وكيت.
والواقع أن الأخ لا ينكر أنّ مَن نطق بالشهادتين عارفًا بمعناهما يصير مسلمًا، والمشايخ لا ينكرون أن مَن اعتقد ما يخالف شيئًا من مقتضى الشهادتين صريحًا يعدُّ مرتدًّا حلالَ الدم والمال، وإن استمر على النطق بالشهادتين زاعمًا أن ذلك لا يخالف مقتضاهما، ولكنّ المشايخ تمسّكوا بالنطق بالشهادتين وفهموا أن الأخ يقول: لا يُكتفى بالنطق بها ولو مع فهم معناهما والمحافظة على مقتضاهما. والأخ تمسك بأنه لا يكفي مجرّد النطق بالشهادتين أي: بدون فهم معناهما والمحافظة على مقتضاهما، وفَهِم أن المشايخ يقولون: إنه يكفي مجرّد النطق، أي: ولو بدون ذلك. انتهى.
وأقول الآن بيانًا لذلك: إن المقصود الأهم إنما هو اعتقاد معنى هذه الكلمة على ما يفيده الوضع العربي، والاعتقاد غيب لا يعلمه إلا الله تعالى، فاكتفى الشارع بأقوى الأدلة عليه، وهو النطق على الوجه القاطع، ولذلك لو لقِّن مشرك أعجمي ذمي الشهادتين، ولم يعلم معناهما، فنطق بهما لم يَصِر بذلك مسلمًا، كما إذا لقِّن صيغة الطلاق ولم يعلم معناها، فنطق بها لم يقع.
إذا تقرر ذلك فمعنى الحديث أنه أُمِرَ أن يقاتلهم حتى يشهدوا
…
إلخ فإذا فعلوا عصموا
…
إلخ.
بقي ما إذا نقضوا شهادتهم إما بجحد الشهادتين معًا أو الاتيان بما يخالف شيئًا من مقتضاهما، وذلك كأن يعتقد إنسانٌ أن الله جل جلاله قد يكذب ــ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا ــ مثلًا، وكذا تجويزه أن الأنبياء أو أحدًا منهم يكذبون. ومن هذا ما نص عليه الفقهاء من إنكار آية من كتاب الله تعالى أو زيادة آية فيه غير البسملة فيهما. وهذا كثير مفصل في باب الردة من كتب الفروع، وإنما قد يقع الاختلاف في بعض الجزئيات هل هو مخالف لشيءٍ من مقتضى الشهادتين، فمن ذلك قول الإمام أحمد: إن ترك الصلاة ــ[ص 92] والعياذ بالله ــ كفر ولو مع عدم جحد وجوبها. وقال غيره ــ كالإمام الشافعي ــ: ليس الكفر إلا جحد الوجوب، فالإمام أحمد رحمه الله رأى أن مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وجوب امثال أمره، وأنه من البعيد أن يشهد الإنسان أن لا إله إلا الله شهادةَ حقٍّ ثم يخالف أمره، فكان يقتضي ذلك أن مَن خالف أمر الله تعالى فقد برهن على أن شهادته مدخولة، وبعبارةٍ أصرح فقد خالف مقتضى الشهادة.
ولكن عَلِمَ الله سبحانه وتعالى ضَعْف ابن آدم وأنه معرّض لعدة عوامل
(1)
، كالشهوة والخوف والغضب وغيرها، فعفَا عما عفا عنه، فوجب أن نتبع الأدلة لنعلم ما عفا الله عنه وما لم يعفُ عنه، فلما تتبَّعْنا الأدلة وجدنا العفو عن اللمم قبل كلِّ شيء، ثم نظرنا في بقية الأشياء، فوجدنا من حيث
(1)
بعده كلمة لم تتبين.
العقل أن الإنسان قد يذنب مع سلامة عقيدته، قال تعالى:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}
(1)
[التوبة: 102] إلى غير ذلك.
والنقص الذي يعتري العقيدة غير منضبط، فوجب الرجوع إلى النقل، فما وجدناه حكم فيه بالكفر عَلِمْنا أن نقص العقيدة بفعله يبلغ حدًّا يعدّ نقضًا للشهادة، فوجدنا حديث بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، كما في «المشكاة»
(2)
.
ووجدنا أيضًا حديث الترمذي
(3)
عن عبد الله بن شقيق ــ من ثقات التابعين ــ قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.
وفوق ذلك فالعقل يؤيد هذا، وذلك أن هذه الصلوات الخمس هي أهم أمور الدين، فتَرْك بعضِها أول دليلٍ على التهاون، ومع ذلك فالأمر في فِعْلها
(1)
في الأصل: (وآخرون خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يعفو عنهم) سبق قلم.
(2)
(1/ 126). والحديث أخرجه الترمذي (2621)، والنسائي (463)، وابن ماجه (1079)، وأحمد (22937)، وابن حبان (1454)، والحاكم:(1/ 6) وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، وصححه ابن حبان والحاكم، وصححه النووي في «الخلاصة»:(1/ 245)، وابن القيم في «الصلاة» (ص 68) على شرط مسلم.
(3)
(2622). وأخرجه الحاكم: (1/ 7)، والمروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (948).
يسير، والمشقة فيه خفيفة جدًّا، ولاسيّما مع التسهيل بالسفر والخوف والمرض والعذر بالنوم والنسيان [93] لا جَرَم كان ترك بعضها من أحرى الأشياء أن يُعدّ نقضًا للشهادة.
وقد توسّع الخوارج في هذا الباب فتمسّكوا بظاهر ما مرّ مع عدة أحاديث تنص على بعض الأعمال أنها كفر، كالزنا والسرقة وشرب الخمر والانتهاب والغلول وقتال المسلم وغيره، وخالفهم غيرهم. وليس هذا موضع البحث وإنما الذي يهمّنا أن دعاء الغائب والميت والاستغاثة به وبالحاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى واعتقادَ مقتضى ذلك هي أظهر في نقض الشهادة من ترك إحدى الصلوات؛ لأن فيها عبادة غير الله تعالى واعتقاد استحقاقه لذلك، وهذا هو معنى اتخاذه إلاها، فيكون ذلك مناقضًا لشهادة أن لا إله إلا الله.
وعلى كل حال فلا يحسن بالمنصف أن يلوم مَن قال بتكفير الداعي والمستغيث والمعتقد على الوجه المذكور، وإن لزم على قولهم تكفير أكثر الأمة، كما أنه لا يجترئ مسلم على القدح في الإمام أحمد بن حنبل في قوله: إن مَن تَرَك صلاةً من الفرائض فقد ارتدّ، وإن كان يعترف بوجوبها مع أنه يلزم على هذا القول أن أكثر الأمة مرتدون؛ لأنه ما من مدينة من المدن التي يسكنها المسلمون إلا وتاركوا الصلاة منهم أكثر من المصلين، وإذا عطفت النظر إلى المصلين وجدت كثيرًا منهم لا يصححون صلاتهم مع إمكان التعلم، فهم مع ذلك غير معذورين، فيلتحقون بالتاركين بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم للمسيء صلاته:«صلّ فإنك لم تصلِّ»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري (757)، ومسلم (397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد اختلف الأئمة في أشياء كثيرة عدَّها بعضهم رِدّة كالسِّحر وغيره، ولم يطعن فيه مَن خالفَه حيث كان مجتهدًا مستندًا إلى الدليل، وقد رمى عمرُ رضي الله عنه حاطب بن أبي بلتعة بالنفاق، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، بل نبَّهه على خطأه فقط، ومثل هذا كثير في الصحابة.
وقد قال لي قائل: إن هؤلاء الوهابية كفّار، فقلتُ له: لماذا؟ فقال: لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من كفّر مسلمًا فقد كفر»
(1)
.
[ص 94] فقلت له: فإن الوهابية لا يكفِّرون أحدًا من المسلمين.
قال: كيف وهم يكفّرون مَن قال: يا ستّنا خديجة، ويا
…
ويا
…
؟
فقلت له: إن هذا عندهم كافر لا مسلم، فلم يصدق عليهم الحديث، لأن الحديث يقول:«من كفر مسلمًا» وهم يقولون: إنما كفّرنا كافرًا.
فقال: لكن العبرة بالقول الصحيح لا بما في زعمهم.
فقلت: فإنهم يعتقدون أن القولَ الصحيح هو الذي قالوه. وما ترى لو أن رجلًا مرَّ بك فظننته يهوديًا فناديته: يا يهودي، أليس قد كفّرته؟ قال: بلى.
قلت: فإذا بان مسلمًا، هل يحق لنا أن نقول: إنك كافر؟ قال: لا، لأني إنما قلت له ذلك بناءً على ما وقع في ظني.
فقلت له: فإن الوهّابية على فرض خطئهم في التكفير يقولون مثلك، وعذرهم أبلغ من عذرك، وأدلتهم أقوى من مجرد ظنّك.
قال: فما هو معنى الحديث إذًا؟
(1)
سيأتي بلفظه في الصفحة الآتية.