الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
السنة والبدعة
* تمهيد
* البحث الأول: البناء على القبور
* البحث الثاني: اتخاذ القبور مساجد
* البحث الثالث: زيارة القبور
* البحث الرابع: التبرك
* البحث الخامس: التوسُّل
* بحث في اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا
بسم الله الرحمن الرحيم
[تمهيد]
[ص 1] السنة لغةً: الطريقة والسيرة، واصطلاحًا للفقهاء: مرادف المندوب، وشرعًا إطلاقانِ: الأول ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قولًا وفعلًا وتقريرًا. والثاني ما شرعه الله تعالى لعباده بكتابه وعلى يد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
والبدعة لغةً: الأمر المبتدع، أي المخترع على غير مثالٍ سبقَ، إما مطلقًا، كقوله تعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117] أي: مُبدِعُهما، كما في "المختار"
(1)
وغيره. وإما مقيَّدًا، كأن رأيتَ بخيلًا أعطَى دينارًا، فإنك تقول: هذا الفعل من هذا الرجل بدعة. وشرعًا: الأمر المبتدع في الدين على غير مثالٍ من الكتاب والسنة.
والمحدَثة لغةً: الأمر المكوَّن بعد أن لم يكن: إما باعتبار ذاتِه، كما إذا أعطى كريمٌ دينارًا أو أكثر، فإنك تقول لتلك الإعطاءة: محدثة. وإما باعتبار نوعه، كما إذا أعطى بخيلٌ دينارًا، فإنك تقول: هذا الفعل من هذا الرجل مُحدَث، وهي بهذا الاعتبار مرادفة للبدعة. قال
(2)
:
قوم إذا حاربوا ضرُّوا عدوَّهمُ
…
أو حاولوا النفعَ في أشياعهم نفعوا
(1)
"مختار الصحاح"(بدع).
(2)
هو حسَّان بن ثابت رضي الله عنه، والبيتان من قصيدة له في الديوان (1/ 102، 103) و"سيرة ابن هشام"(2/ 564) و"تاريخ الطبري"(3/ 118) و"الأغاني"(4/ 149).
سجيَّةٌ تلك فيهم غيرُ مُحدَثةٍ
…
إن الخلائقَ فاعلَمْ شرُّها البِدَعُ
وشرعًا: مرادفُ البدعة شرعًا.
فالبدعة والمحدثة شرعًا: الأمر المبتدع في الدين على غيرِ مثالٍ من الكتاب والسنة. والمراد بقوله: "على غير مثالٍ من الكتاب والسنة" أن يكون غيرَ موافقٍ لهما، وكلُّ فعلٍ من الأفعال إما أن يكون موافقًا للكتاب والسنة، وإما أن يكون مخالفًا. والموافق ما دلَّ على موافقته دليلٌ معتبرٌ منهما دلالةً معتبرةً، فهو من السُّنَّة، والمخالف ما دلَّ على مخالفته دليلٌ منهما دلالةً معتبرة، فإن كان موجودًا من أول الإسلام فهو حرام أو مكروه بحسب ما يقتضيه دليله، ولا [يسمَّى]
(1)
بدعة ولا مُحدَثة. وإن لم يكن موجودًا من أول الإسلام بل حدثَ بعد ذلك فهو محدثة بدعة. ولا واسطةَ بين الموافق والمخالف. [ص 2] لأن الله تعالى قال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} ، وأومأ إلى وجه ذلك بقوله عقبَ هذه الآية:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، ليعلم أنه ليس المراد بقوله:{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} أن يكون كل شيء بنصٍّ خاص، وإنما المراد أنه ما من شيء إلّا وحكم الله تعالى فيه مبيَّن في كتابه، إن لم يكن بالمطابقة فبالتضمن أو الالتزام أو المفهوم، كأن يكون ذلك الشيء داخلًا تحت أمرٍ عامّ مبيَّنٍ حكمُه في كتاب الله تعالى. ومنها في المأمورات: العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والتقوى والمعروف
(1)
مخروم في الأصل.
والإنصاف، وفي المنهيات: الجور والإساءة وحرمان ذي القربى والفحشاء والمنكر والبغي، وكلها في هذه الآية. ولذلك رُوي عن ابن مسعود أن أجْمعَ آيةٍ في القرآن لخيرٍ وشرٍّ هذه الآية
(1)
.
ومما يبيِّن ذلك حديث مسلم
(2)
عن شدّاد بن أوس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله تبارك وتعالى كتب الإحسانَ على كلِّ شيء، فإذا قتلتم فأَحسِنُوا القِتلةَ، وإذا ذبحتم فأحْسِنوا الذَّبحَ، وَلْيُحِدَّ أحدُكم شَفْرتَه ولْيُرِحْ ذبيحتَه ".
يقول عبد الله الفقير إليه: أراد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "كتبَ الإحسانَ على كل شيء" قولَه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} . وهذا حجة في عموم مثل هذه الصيغة وفي حجية العموم.
وفي المباحات: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]، وقوله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]، وقوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية [الأنعام: 145]، وقوله تعالى:{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، وقوله تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13].
(1)
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(489) والطبري في "تفسيره"(14/ 337) والطبراني في "المعجم الكبير"(8658) وغيرهم.
(2)
رقم (1955).
ومن العمومات الواردة في كتاب الله تعالى: في اتباع الرسول وطاعته المأمور بهما، فإنه يدخل تحت ذلك جميع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جميع الأحكام.
فإن قيل: فما تقول في الحديث الصحيح: "الحلال بيِّنٌ، والحرام بيِّنٌ، وبينهما مشتبهات"
(1)
؟ فإن ظاهره إثباتُ الواسطة.
قلت: هذه واسطة بين الحلال البيِّن والحرام البيِّن، لا بين الحلال والحرام من حيث هما. والمراد بالحلال هو ما عبَّرنا عنه بالموافق، وبالحرام ما عبَّرنا عنه بالمخالف، والمشتبهات ما تعارضت فيه دليلَا الحلِّ والحرمة، فإنه عند مَن لم يظهر له الترجيح ــ وهم كثير من الناس ــ مشتبه، فأرشد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يُعمل فيه ما يقتضي الاحتياط. هذا مع أنه في نفس الأمر إما حلال وإما حرام، فالحديث دليلٌ على عدم الواسطة، فتأمَّلْ.
ومما يكون حكمه مبيّنًا في كتاب الله تعالى بدلالة الالتزام: الوسائل، أي الأمور التي لا تتم الأمور المشروعة إلّا بها، فإنّ لكل وسيلةٍ حكْمَ مقصدِها، فإن تعدَّدت الوسائل وكلٌّ منها يكفي في تحصيل المقصد كان الحكم لواحدةٍ منها لا بعينها، ويكون الدليل الشرعي الدال على حكم [مقصد]
(2)
ها [دالًا] على [حكمها] دلالةً مطلقةً [عامّةً] عمومًا بدليًّا، كما إذا قلت لإنسانٍ: اضرِبْ رجلًا، فإنه يحصُلُ امتثال الأمر بضرب أي رجلٍ كان.
(1)
أخرجه البخاري (52، 2051) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير.
(2)
الكلمات التي بين المعكوفتين مخرومة في الأصل.