المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌البحث الخامس التوسُّل قال في «المختار» (1) : «الوسيلة: ما يُتقرّب به إلى الغير، - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ٤

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمةفي بيان التكليف وما يتصل به

- ‌الأدلة الموجبة العملَ بالظن بشرطه

- ‌المسألة الأولىالاجتهاد والتقليد

- ‌ الإجماع المعتبر

- ‌ طلب رتبة الاجتهاد فرضَ كفاية

- ‌المسألة الثانيةالسنة والبدعة

- ‌ الأشياء الحادثة بعد عصر النبوة نوعان:

- ‌[البحث الأول: البناء على القبور]

- ‌[روايات حديث أبي الهيّاج عن علي]

- ‌ البحث الثانياتخاذ القبور مساجد أو اتخاذ المساجد على القبور

- ‌تنبيهات

- ‌البحث الثالثزيارة القبور

- ‌ الحكمة في استحباب زيارة القبور:

- ‌ هل تُزار قبور الكفّار

- ‌ كيفية الزيارة:

- ‌ فصلفي زيارة قبور الأنبياء والصالحين

- ‌البحث الرابعالتبرُّك

- ‌1): «ماء زمزم

- ‌ تقبيل اليدين والرجلين

- ‌[مسألة التبرك بالصالحين]

- ‌البحث الخامسالتوسُّل

- ‌ حديث «الصحيحين» في قصة الثلاثة أصحاب الغار

- ‌ الفرق بين التوسّل بالحيّ والميت

- ‌[بحث في اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا]

- ‌المسألة الثالثةالنداء للغائبين والموتى وغيرهم

- ‌ المقام الأولعلم الغيب

- ‌ العلم الخبري بما هو غيب عن جميع الخلق

- ‌ معرفة الأنواء

- ‌ العَرافة

- ‌ الفأل والطِيَرة

- ‌ الطّرْق بالحصى

- ‌ رؤية الإنسيّ للجنيّ وسماعه لكلامه

- ‌[الكلام في حجية الإلهام وهل هو من الإظهار على الغيب

- ‌ المقام الثانيفي تصرُّف بعض بني آدم في الكون

- ‌ المقام الثالثالنداء والطلب

- ‌ الحكم على بعض الأعمال أنه كفر لا يسوغ إلا بعد اجتهادٍ ونَظَر

- ‌ الميزان

- ‌ملحق ــ 5 ــفي معنى التأويل

الفصل: ‌ ‌البحث الخامس التوسُّل قال في «المختار» (1) : «الوسيلة: ما يُتقرّب به إلى الغير،

‌البحث الخامس

التوسُّل

قال في «المختار»

(1)

: «الوسيلة: ما يُتقرّب به إلى الغير، والجمع الوسيل والوسائل، والتوسّل والتوسيل واحد، يقال: وسَّل فلان إلى ربه وسيلةً بالتشديد، وتوسّل إليه الوسيلة إذا تقرّب إليه بعمل» .

ومِن هنا نعلم أنه لا دلالة في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] إلا على الأمر بابتغاء ما يتقرّب به إلى الله، وهو أمر مجمل لا يؤخذ بيانه إلا من الشرع، فمن ادّعى في شيءٍ من الأشياء أنه يتقرّب به إلى الله تعالى كُلِّف بإبراز حجّةٍ من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله.

وعليه فأقول: التقرّب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل، واجتناب الحرام والمكروه مما لا يحتاج إلى بيان. وأما التقرُّب إليه بسؤاله والإقسام عليه بحق شيءٍ من الأشياء ــ وهو الذي تفهمه العامة من التوسّل ــ فهو على أقسام:

أولها: سؤال الله تعالى بوجهه الكريم وأسمائه الحسنى. وهذا مستحبٌّ اتفاقًا.

وثانيها: سؤاله بذات من ذوات خلقه، كالكعبة والعرش والكرسي، ولم أر التصريح بجوازه عن أحد

(2)

.

(1)

«مختار الصحاح» (ص 721).

(2)

كتب المؤلف أولًا: «وهذا ممنوع اتفاقًا» ثم أبدلها بهذه العبارة. وقد صرّح جماعة من العلماء بالمنع منه. انظر «مجموع الفتاوى» : (1/ 202، 344)، و «الاقتضاء»:(2/ 307 - 308).

ص: 260

وثالثها: سؤاله بجاه بعض خلقه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

: «وأما القسم الثالث وهو أن يقول: اللهم بجاه فلان عندك أو ببركة فلان أو بحرمة فلان عندك= افعل بي كذا وكذا. فهذا يفعله كثير من الناس، لكن لم يُنقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء، ولم يبلغني عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه؛ إلا ما رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد بن عبد السلام

(2)

. فإنه أفتى أنه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إن صحّ الحديث في النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ومعنى الاستفتاء: قد روى النسائي والترمذي

(3)

وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عَلَّم بعض أصحابه أن يدعو فيقول: «اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة. يا محمد، يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي. اللهم: فشفِّعْه فيَّ» .

(1)

«مجموع الفتاوى» : (27/ 83 - 85).

(2)

انظر «فتاوى العز بن عبد السلام» (ص 83). وقد بيَّن شيخ الإسلام في جواب له عن كلام العزّ هذا فقال: «وأما استثناؤه الرسولَ ــ إن صحّ حديث الأعمى ــ فهو رحمه الله لم يستحضر الحديث بسياقه حتى يتبين له أنه لا يناقض ما أفتى به، بل ظنَّ أنه يدل على محل السؤال، فاستثناه بتقدير صحته

». «جامع المسائل» (5/ 97).

(3)

النسائي في «الكبرى» (10419)، والترمذي (3578)، وأخرجه ابن ماجه (1385)، وأحمد (17240)، وابن خزيمة (1219)، والحاكم:(1/ 313)، والبيهقي في «دلائل النبوة»:(6/ 166).

ص: 261

[117]

فإن هذا الحديث قد استدلّ به طائفة على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته. قالوا: وليس في التوسل دعاء المخلوقين ولا استغاثة بالمخلوق وإنما هو دعاء واستغاثة بالله؛ لكن فيه سؤال بجاهه كما في «سنن ابن ماجه»

(1)

عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر في دعاء الخارج للصلاة أن يقول: «اللهم إني أسألك بحقّ السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياء ولا سمعةً. خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» .

قالوا: ففي هذا الحديث أنه سأل بحق السائلين عليه وبحق ممشاه إلى الصلاة، والله تعالى قد جعل على نفسه حقًّا، قال الله تعالى:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، ونحو قوله:{كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} [الفرقان: 16]، وفي «الصحيح»

(2)

عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: «يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟» قال: الله ورسوله أعلم، قال:«حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. أتدري ما حقّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ فإن حقهم عليه أن لا يعذبهم» .

وقد جاء في غير حديث: «كان حقًّا على الله كذا وكذا» . كقوله: «مَنْ شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها في الثالثة أو الرابعة كان حقًّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال» .

(1)

(778)، وأخرجه أحمد (11156)، وابن أبي شيبة (29812). وسيأتي الكلام عليه.

(2)

البخاري (7373)، ومسلم (30).

ص: 262

قيل: وما طينة الخبال؟ قال: «عصارة أهل النار»

(1)

» اهـ.

قلت: أما الحديث الأول فهو حديث الأعمى المشهور [214] وقد رواه الترمذي وابنُ ماجه والحاكم في «المستدرك» كما في «منتخب كنز العمال»

(2)

. وأخرجه الإمام أحمد وابن خزيمة، وأخرجه البيهقي والنسائي في «عمل اليوم والليلة»

(3)

. وأسانيده كلها تدور على أبي جعفر.

وهذا لفظ الترمذي في «سننه» في كتاب الأدعية: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا شعبة، عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف: أن رجلًا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، قال:«إن شئتَ دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك» قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهتُ بك إلى ربي في حاجتي هذه لتُقْضَى لي، اللهم فشفِّعه فيَّ» .

قال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو الخَطْمي.

(1)

أخرجه أبو داود (3680) من حديث ابن عباس رضي الله عنه، والنسائي (5670) وابن حبان عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأحمد (14880) من حديث جابر رضي الله عنه.

(2)

«كنز العمال» : (2/ 181 و 6/ 521).

(3)

سبق عزوه إلى هذه المصادر قريبًا.

ص: 263

وقال ابن ماجه: حدثنا أحمد بن منصور بن سيَّار، حدثنا عثمان بن عمر، وساق مثل إسناد الترمذي، ولفظه: أنّ رجلًا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ادع الله لي أن يعافيني، فقال:«إن شئتَ أخَّرتُ لك وهو خير، وإن شئتَ دعوتُ» ، فقال: ادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه، ويصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء:«اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بمحمد نبي الرحمة، يا محمد، إني قد توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفِّعْه فيّ» .

قال أبو إسحاق: هذا حديث صحيح.

وأما الإمام أحمد

(1)

فرواه عن عثمان بن عُمر وعن رَوْح، كلاهما عن شعبة عن أبي جعفر، وأخرجه أيضًا عن مؤمّل عن حماد ــ يعني ابن سلمة ــ عن أبي جعفر عن عمارة عن عثمان بن حنيف. والألفاظ متقاربة بنحو لفظ الترمذي وابن ماجه.

قال المانعون: أما رجال حديث الأعمى فكلّهم ثقات لكنه كما قال الترمذي: «غريب لا يُعرف إلا من هذا الوجه» . والغرابةُ وإن كانت لا تُنافي الصحة فإنها توجب ريبة. قال الإمام أحمد: لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير وعامتها عن الضعفاء. وقال الإمام مالك: شرّ العلم الغريب وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس. رواهما البيهقي في «المدخل» كما ذكره السيوطي في «شرح التقريب»

(2)

.

(1)

(17240، 17241، 17242).

(2)

«تدريب الراوي» : (2/ 634). وليسا في المطبوع من «المدخل» . وكلمة أحمد أخرجها ابن عدي في «الكامل» : (1/ 39)، وكلمة مالك أخرجها الخطيب في «الجامع»:(2/ 137).

ص: 264

قلتُ: والغرابة في الاصطلاح إما في المتن وإما في السند، فالغرابة في المتن: أن ينفرد بمتنه واحد. وهذا الحديث تفرّد به أبو جعفر عن عمارة، وتفرّد به عمارة عن عثمان بن حنيف. ومع ذلك فالدعاء الذي تضمّنه غريب في الأدعية المأثورة، ليس له أنيس، فهو غريب في متنه في بابه.

[215]

وقال السيوطي في «شرح التقريب»

(1)

في الكلام على الشاذ وعند قول المتن: (وقال الحاكم

(2)

: هو ما انفرد به ثقة وليس له أصل بمتابع) لذلك الثقة. قال: ويغاير المعلل بأن ذلك وُقِف على عِلّته الدالة على جهة الوهم فيه، والشاذّ لم يوقَف فيه على علة كذلك، فجعل الشاذ تفرّد الثقة، فهو أخص من قول الخليلي.

قال شيخ الإسلام

(3)

: وبقي من كلام الحاكم: وينقدح في نفس الناقد أنه غلط، ولا يقدر على إقامة الدليل على ذلك، قال: وهذا القيد لا بدّ منه، قال: وإنما يغاير المعلل من هذه الجهة، قال: وهذا على هذا أدقّ مِن المعلّل بكثير، فلا يتمكَّن من الحكم به إلا مَن مارس الفنَّ غاية الممارسة، وكان في الذروة من الفهم الثاقب ورسوخ القَدَم في الصناعة.

قلت: ولعُسْره لم يفرِدْه أحدٌ بالتصنيف. ومن أوضح أمثلته: ما أخرجه

(1)

(1/ 268 - 269).

(2)

في «معرفة علوم الحديث» (ص 375).

(3)

يعني الحافظ ابن حجر، وقد نقله عنه تلميذه البقاعي في «النكت الوفية»:(1/ 455) بأتم مما هنا. ولعل السيوطي لخصه منه.

ص: 265

في «المستدرك»

(1)

من طريق عُبيد بن غنام النخعيّ، عن علي بن حكيم، عن شَريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضُّحى، عن ابن عباس قال: في كلّ أرض نبيّ كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى. وقال: صحيح الإسناد.

ولم أزل أتعجَّب من تصحيح الحاكم له حتى رأيت البيهقيَّ

(2)

قال: إسناده صحيح ولكنه شاذٌّ بمرَّة. اهـ

(3)

.

قلت: وهذا الذي قاله الحاكم

(4)

واقع في حديث الأعمى، وذلك أنه تفرّد به أبو جعفر عن عمارة، وتفرّد به عمارة عن عثمان بن حنيف، وهو غريب في الأدعية النبوية، فلم يُعْرَف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاءٌ يشبهه في التوسّل، على كثرة الأدعية المأثورة، وحِرْص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تعليم أصحابه، ولم يُعرف عن أحدٍ من الصحابة ولا من التابعين ولا من سَلَف الأمة ما يُشبهه كما مرّ عن شيخ الإسلام ابن تيمية

(5)

.

فإن قيل: إن الحاكم لم يوافَق على تعريفه للشاذ، فقد قال النووي بعد حكاية قول الحاكم وقوله مثله عن الخليلي:«وما ذكراه مشكل بأفراد العدل الضابط، كحديث: «إنما الأعمال بالنيات» ، والنهي عن بيع الولاء، وغير ذلك في «الصحيح»

» إلخ.

(1)

(2/ 493).

(2)

في كتاب «الأسماء والصفات» : (2/ 268).

(3)

انتهى النقل من «تدريب الراوي» .

(4)

يعني في تعريفه للشاذ.

(5)

(ص 261).

ص: 266

[216]

قلت: قد اتفق الحاكم ومتعقِّبو كلامه على اشتراط الفردية في الشذوذ، ثم اشترط الحاكم قوله:«وليس له أصلٌ بمتابع، وينقدح في نفس الناقد أنه غلط، ولا يقدر على إقامة الدليل» . ومثَّل له السيوطي بما سمعت، واشترط المتعقّبون أن يخالف مَن هو أرجح منه.

فالحاكم لم يحكم بردِّ الفرد مطلقًا، بل شَرَط مع ذلك ما سمعت، وبذلك يعلم أنه لا يَرِدُ عليه أفراد «الصحيح» .

والحاصل أن الحاكم نحى بالشاذ نحو المعلَّل كما أشار إليه شيخ الإسلام، فالتفرّد جُزء علّة، فإذا وُجدت قرائن أخرى على الوهم كملت العلة، كما في حديث ابن عباس الذي مثَّل به السيوطي، ولا يبعُد أن يكون منه حديث البحث، وما أحراه بذلك!

هذا بالنسبة إلى الاستدلال به على التوسُّل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، وأما بعد مماته خصوصًا مع ما زِيد فيه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما مرّ:«قال: فإن كان لك حاجة فمثل ذلك»

(1)

= فيعارضه إجماع الصحابة رضي الله عنهم على العدول عن التوسُّل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته إلى التوسُّل بعمه العباس، فيزداد ضعفًا إلى ضعفه.

والحاصل أن العارف المنصف لا يطمئنّ قلبُه إلى الاحتجاج بهذا الحديث.

(1)

هذه الزيادة أخرجها ابن أبي خيثمة في «تاريخه» كما ذكر شيخ الإسلام في «قاعدة جليلة ــ مجموع الفتاوى» : (1/ 275) وأعلَّها بتفرّد حماد بن سلمة ومخالفته لرواية شعبة وروح بن القاسم وهما أوثق منه. ثم أجاب شيخ الإسلام عنها على فرض ثبوتها فانظره.

ص: 267

أما حديث ابن ماجه

(1)

فهذا لفظه: «حدثنا محمد بن سعيد بن يزيد التستري، حدثنا الفضل بن الموفق أبو الجهم، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك

(2)

، وأسألك بحقّ ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشَرًا، ولا بَطَرًا، ولا رياءً، ولا سُمعةً، وخرجتُ اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. أقَبَل اللهُ عليه بوجهه، واستغفر له سبعون ألف ملك».

ففيه الفضل بن الموفّق ضعَّفه أبو حاتم، وفضيل بن مرزوق من أفراد مسلم، وعِيْب على مسلم إدخاله في «الصحيح» ، وإن كان الأكثر على توثيقه، فإن أبا حاتم قال: صدوق يَهِم كثيرًا، يُكتب حديثه. قيل: يُحتجّ به؟ قال: لا. وقال ابن حبان في «الثقات»

(3)

: «يخطئ» . وقال في «الضعفاء»

(4)

: [217]«كان يخطئ على الثقات، ويروي عن عطية الموضوعات» . كذا في «تهذيب التهذيب»

(5)

. قال: وقال مسعود

(6)

عن الحاكم: ليس هو مِن شرط الصحيح، وقد عِيْبَ على مسلم إخراجه لحديثه اهـ. وهذا القدح مفسَّر فهو

(1)

(778).

(2)

في الأصل: «إليك» سبق قلم.

(3)

(7/ 316).

(4)

(2/ 209).

(5)

(8/ 299).

(6)

في سؤالاته للحاكم (85).

ص: 268

أولى من قول الموثِّقين.

وعطية العوفي ضعَّفه الجمهور. قال السِّنْدي

(1)

في الكلام على هذا الحديث: وفي «الزوائد»

(2)

: هذا إسناد مسلسل بالضعفاء؛ عطية وهو العوفي، وفُضيل بن مرزوق، والفضل بن الموفّق= كلهم ضعفاء، لكن رواه ابن خزيمة في «صحيحه» من طريق فُضيل بن مرزوق، فهو صحيح عنده. اهـ.

وابنُ خزيمة يطلق الصحيح على ما يشمل الحسن، ولا شكّ أنّ فضيلًا وثَّقه كثير من الأئمة ولكن القدح المفسَّر أولى.

قال المجيزون: إن هذين الحديثين قد نصَّ أئمة السنة على صحتهما، فنصَّ على صحة حديث الأعمى الحاكمُ والترمذيُّ وابنُ ماجه

(3)

. ونص على صحة حديث السؤال بحقّ السائلين الإمامُ ابن خزيمة، فمَن أنتم حتى تخالفوهم وتُخطِّئوهم؟

وقولكم في حديث الأعمى: إنه غريب في بابه غير مسلَّم، وقد ثبت في «الصحيحين» وغيرهما حديث الثلاثة أصحاب الغار وتوسّلهم بأعمالهم، واستجابة الله تعالى لهم. ودلّ سياق الحديث على الثناء عليهم، وورد مورد

(1)

في حاشيته على ابن ماجه: (1/ 262).

(2)

«مصباح الزجاجة» (295).

(3)

ابن ماجه لم يصحّح الحديث، والذي في سنن ابن ماجه عقب الحديث:(قال أبو إسحاق: إسناده صحيح) ليس (أبو إسحاق) هو ابن ماجه، لأن كنيته أبو عبد الله. ولا أدري مَن يكون أبو إسحاق هذا. ولعله أحد رواة السنن. ثم راجعت الطبعة المحققة عن مؤسسة الرسالة فوجدت المحقق يذكر أن هذه الزيادة لم ترد في النسخ الخطية التي اعتمدها لسنن ابن ماجه. وأشار في الطبعة الهندية إلى أنها في إحدى النسخ الخطية.

ص: 269

الحثّ على الإخلاص بمثل أعمالهم؛ فكان شريعةً لنا ولا شكّ، فثبت جواز التوسّل بالأعمال بهذا الحديث الذي تواتر أو كاد، فلا سبيل لكم إلى التلاعب به.

وإذا جاز توسّل الشخص بعملٍ من أعماله فجوازه بأحد الصالحين أولى فضلًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء حديث الأعمى والسؤال بحقّ السائلين موافِقَين له في التوسّل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالصالحين.

[218]

قالوا

(1)

: وفي «سنن أبي داود»

(2)

: عن جُبير بن محمد بن جُبير بن مُطعِم، عن أبيه، عن جده قال: جاء أعرابيّ فقال: يا رسول الله، جُهِدَت الأنفسُ، وضاعت العيال، ونُهِكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«ويحك أتدري ما تقول؟ ! » وسبّح رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما زال يسبح حتى عُرِف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال: «ويحك إنه لا يُسْتَشْفَع بالله على أحدٍ من خلقه، شأنُ الله أعظم من ذلك

» الحديث.

(1)

كتب المؤلف قبلها: «الحمد لله» وكأنه استأنف الكلام بعد انقطاع فبدأه بالحمدلة.

(2)

(4726). وأخرجه البزار (3432)، وابن خزيمة في «التوحيد» (148)، والطبراني في «الكبير» (2/ 168)، وابن منده في «التوحيد» (607) وغيرهم. قال ابن منده: إسناد صحيح متصل. وصححه ابن القيم في «تهذيب السنن» : (5/ 2164 - 2173). لكن ضعَّفه الذهبي في «العلو» (ص 39) قال: هذا حديث غريب جدًّا فرد. وفي سنده جبير بن محمد ليّن الحديث، ومحمد بن إسحاق مدلس لم يصرح بالتحديث.

ص: 270

فأنكر عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: «نستشفع بالله عليك» وأقرّه على قوله: «نستشفع بك على الله» وتبيَّن بهذين الحديثين وغيرهما بطلان ما دفعتم به حديثَ الأعمى أنه غريبٌ في بابه.

[219]

وكذلك ثبت في «صحيح البخاري»

(1)

عن أنسٍ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعبّاس بن عبد المطلب فقال: «اللهم إنا كنّا نتوسّل إليك بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبينا فاسْقِنا، قال: فيُسْقَون» . وظاهره التعدّد.

ولا ريب أن الاستسقاء إنما يقع بمحضر جمهور الصحابة رضي الله عنهم وعِلْم الجميع، ولمَّا لم يُنكر صار إجماعًا.

وكذلك معاوية بن أبي سفيان استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي وقال: «اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا»

(2)

ولم يُنكرَ عليه ذلك.

وهذه الأحاديث والآثار لم تزل تتناقلها الأئمة، ويَبْعُد أن يتناقلوها ويتفقوا على عدم العمل بها، بل الظاهر أن الأمّة لم تزل آخذة بهذه السنة مِن زمانه صلى الله عليه وآله وسلم وزمن أصحابه مِن بعده وتابعيهم، وهكذا إلى اليوم. ويشهد لهذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية إنه لم يجد عن العلماء نقلًا في باب التوسّل إلا ما رآه في فتاوى ابن عبد السلام

(3)

، فالظاهر أن التوسّل كان أمرًا مُتّفَقًا عليه متلقًّى بالقبول، معمولًا به في الخاصة والعامة، ولذلك لم يتكلموا عليه في كتبهم.

(1)

(1010).

(2)

تقدم تخريجه (ص 239).

(3)

انظر ما سبق (ص 261).

ص: 271

قال المانعون: يا مقلِّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك، واهدنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، واجعلنا ممن لا سبيل له إلا بسبيلك، واجعل هوانا تَبَعًا لما جاء به رسولك.

ما كان ينبغي لنا أن نعمد إلى عمل أطبق عليه عامة هذه الأمة فنخطّئه ونضلّله لمجرّد الهوى، إنّا والله لحريصون على أن تكون جميع أعمال هذه الأمة مطابقة لشريعة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، مستندة إلى أدلة صحيحة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فهل يُعقل أن نعكس القضية فنسعى في إماتة شيء من السنة والعياذ بالله؟ !

[220]

قد تصفّحنا ما أجبتم به حريصين على أن نجد فيه ما يثلج الصدر في جواز التوسّل، فيسرّنا أن تكون العامة على هدى في هذه المسألة، ونستفيد علمًا لم يكن عندنا، ولكننا لم نجد إلا دعاوى مجرّدة، وبيان ذلك تفصيلًا:

أولًا: قولكم: «إن هذين الحديثين ــ أي حديث الأعمى والسؤال بحق السائلين ــ قد نصَّ الأئمة على صحتهما

» إلخ.

وجوابه: أن حديث الأعمى وإن نصّ الحاكم وابن ماجه على صحَّته

(1)

، والترمذي على أنه متردِّد بين الحُسْن والصحة، فقد نص الترمذي على أنه غريب، والغرابةُ توجب الريبة كما دلّ عليه كلام الإمامين مالك وأحمد، وقد مرَّ

(2)

. وحينئذٍ فتكون جُزء علّة، فإذا وُجِدت قرينة أخرى كملت العلة، وذلك كما في حديث ابن عباس الذي صححه الحاكم: «في كل أرض نبي

(1)

انظر ما سبق من التعليق على نسبة التصحيح إلى ابن ماجه (ص 269).

(2)

(ص 264).

ص: 272