الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الكلام في حجية الإلهام وهل هو من الإظهار على الغيب
؟]
[209]
وقد ذكر الشوكاني في «إرشاد الفحول»
(1)
دعوى بعض المتصوّفة حجيَّةَ الإلهام، قال: «واحتجَّ بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] أي: ما تفرّقون به بين الحق والباطل، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] أي: عن كل ما يلتبس على غيره وجهُ الحكم فيه. وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]. فهذه العلوم الدينية تحصُلُ للعباد إذا زَكَت أنفسُهم، وسلمت قلوبهم لله تعالى، بترك المنهيّات وامتثال المأمورات؛ وخبرُهُ
(2)
صدق ووعده حق.
واحتجَّ شهابُ الدين السُّهْرَوَرْدي على الإلهام بقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]، وبقوله:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]. فهذا الوحي هو مجرّد الإلهام.
ثم إن من الوحي
(3)
علومًا تحدث في النفوس الزكيَّة المطمئنَّة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:«إن مِن أُمتّي المحدَّثين والمكلَّمين، وإن عمر لمنهم»
(4)
. وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}
(1)
(2/ 1016 - 1020 - ت الأثري).
(2)
في الطبعة الجديدة: «إذ خبره
…
».
(3)
كذا في الأصل تبعًا للطبعة القديمة، وفي الجديدة:«الإلهام» .
(4)
لم أجده بهذا اللفظ، ومصدر الشوكاني «البحر المحيط» للزركشي:(6/ 104). وهو بمعناه في الصحيح كما سيأتي.
[الشمس: 7 - 8]، فأخبر أن النفوس مُلهَمَة.
قال الشوكاني: قلت: وهذا الحديث الذي ذكره هو ثابت في الصحيح
(1)
بمعناه، قال ابن وهب في تفسير الحديث: أي: مُلهَمون، ولهذا قال صاحب «نهاية الغريب»
(2)
: جاء في الحديث تفسيره أنهم الملهمون، والملهم: هو الذي يُلْقى في نفسه الشيء، فيخْبِر به حدسًا وفراسةً، وهو نوعٌ يخصّ به الله مَن يشاء من عباده، كأنهم حُدِّثوا بشيء فقالوه
(3)
.
وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «استفتِ قلبك، وإن أفتاك الناس»
(4)
، فذلك في الواقعة التي تتعارض فيها الأدلة. قال الغزالي: واستفتاء القلب إنما هو حيث أباح المفتي، أما حيث حَرَّم فيجب الامتناع
…
إلخ.
وقال الشوكاني في آخر الكلام: «ثم على تقدير الاستدلال لثبوت الإلهام بمثل ما تقدَّم من الأدلة، من أين لنا أن دعوى هذا الفرد لحصول
(1)
البخاري (3469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم (2398) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
(1/ 350).
(3)
الأصل: «قالوه» .
(4)
أخرجه أحمد (18006)، والدارمي (2575)، وأبو يعلى (1586) وغيرهم عن وابصة بن معبد رضي الله عنه. والحديث حسَّنه النووي في «رياض الصالحين» (ص 208) و «الأذكار» (ص 408). وضعَّفه الحافظ ابن رجب في «جامع العلوم والحكم»:(2/ 94) وأعلّه بالانقطاع، وبضعف الزبير بن عبد السلام. وانظر حاشية المسند:(29/ 528 - 529).
الإلهام له صحيحة، وما الدليل على أن قلبه من القلوب التي ليست بموسوسة ولا بمتساهلة؟ » ا? .
يقول عبد الله الفقير إليه: قد سبق في تضاعيف هذه الرسالة ما يُعلَم منه الجواب، ولكن ينبغي أن نعيده هنا موضَّحًا فأقول: أما وجود الإلهام فلا نزاع فيه، فأفراد العالَمِ كلّها تحت حكم الله تعالى يُلْهم كلًّا منها ما أراد، ومِنْ ذلك القلوب كما قال تعالى
(1)
:
وفي «الصحيح»
(2)
عن عبد الله بن عَمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحدٍ يصرّفه كيف يشاء» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم مصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك» .
فالباري جل جلاله كما يُلْهِم جميع الكائنات ما أراد، فهو يُلْهِم القلوبَ كلَّها [210] والأدلة على هذا أكثر من أن تُحْصَى، ولكن هذا الإلهام هو عبارة عن خاطرٍ من جنس هذه الخواطر التي يجدها الإنسان في نفسه، وهذا هو الذي وقع لأمّ موسى، فإنها لما وضعَتْه وخافت عليه فرعون، وقع في نفسها أن ترضعه كما ترضع الأمُّ ولدَها، فإذا خافت عليه جعلته في صندوق وألقتِ الصندوقَ في الماء. [و] لمّا أنّ الصندوق لا يرسب في الماء، فلابُدَّ أن تذهب به الأمواج، فيراه بعض الناس فيأخذه، فيحتمل حينئذٍ أنه من أبناء
(1)
كتب المؤلف: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا} [الشمس: 7 - 8] ثم ضرب عليها، وأبقى موضع الآية بياضًا. ولعل قوله:{الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} مما يصلح في هذا الموضع.
(2)
أخرجه مسلم (2654).
القِبْط وضَعَتْه أمُّه في التابوت لريبةٍ أو غيرها فيَسْلَم، ويحتمل أن يعلم أنه من بني إسرائيل، فَعَلَت به أمُّه ذلك خوفًا عليه من الذبح فيُذْبح، ويحتمل أن يقع في يد فرعون أو شخصٍ من أتباعه فيرحمه، ويحتمل أن تتدافعه الأمواج حتى يموت، فأنتَ ترى أن هذا الفعل كما يحتمل الهلاكَ يحتمل السلامةَ، بخلاف ما لو تركَتْه عندها فإنه لا يحتمل إلا الهلاك. ومع ذلك فهلاكه بعيدًا عنها أهون عليها من ذبحه في حجرها.
والحاصل أن المصلحة تقتضي وضعه في التابوت، فألْهَم الله تعالى أمَّ موسى هذا الفعل، فوجدت في نفسها خاطرًا يرشدها إلى ذلك، وتبيَّنت لها المصلحةُ المعقولةُ ففعلَتْه. وهذا الخاطر هو في الظاهر من جنس الخواطر التي يمكن عروضها لكلِّ أحدٍ. فالإلهام الذي لا نزاع في وجوده هو نحو هذا مما يلتبس بسائر الخواطر.
فمن ادّعى زيادةً على هذا فدعواه مردودة إلا ما كان من قبيل الرؤيا، وقد مرَّ الكلامُ عليها
(1)
. وقد ثبت في «صحيح البخاري»
(2)
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لم يبق من النبوّة إلا المبشِّرات» قالوا: وما المبشِّرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة» . وفي «صحيح مسلم»
(3)
زيارة أبي بكر وعمر لأمّ أيمن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما انتهيا إليها بكت، فقالا لها: ما يُبْكيك
…
الحديث إلى أن قالت: ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيّجَتْهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها. وقد مرَّ في هذا
(1)
(ص 328 وما بعدها).
(2)
(6990) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
(2454) من حديث أنسٍ رضي الله عنه.
الموضوع ما يُغني.
وأما حديث التحديث، فليس فيه أن التحديث أمر زائد على الخاطر، وإنما يمتاز المُحَدَّث عن غيره بكثرة الخواطر الحقّة
(1)
في خواطره، فيكون تفرّسه أكثر صوابًا من غيره.
وأما قوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، وقوله عز وجل:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، فليس فيهما أن الفرقان والمخرج هو إلهامُ نفسِ الحكم أو الدليل بطريق غيرِ عادية. وعليه فالحقُّ أن الفرقان والمخرج هو في حقِّ المجتهد أن يجعل الله تعالى في قلبه باعثًا على طلب الحق، وييسّر له النظر في الحجج الظاهرة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله بالطريق العادية، ويثبّته تعالى حتى لا يُقصِّر ولا يتَّبع الهوى، بل يؤدّي ما وجب عليه، بحيث يكون مُصيبًا مأجورًا أجرين، أو مخطئًا معذورًا، مأجورًا أجرًا واحدًا.
وفي حقّ العامّي أن يجعل الله تعالى في قلبه [211] باعثًا على طلب الحق، والحرص على استفتاء العلماء في كلِّ ما يعرض له، وييسّر له من يسأله من العلماء بالطريق العادية، ويثبّته تعالى حتى لا يُقصر ولا يتعدّى، بل يؤدي ما يجب عليه.
وإنما لم نقل: إن الفرقان والمخرج هو ما يكون فيه إصابة الصواب في نفس الأمر لأمرين:
(1)
غير محررة في الأصل، ولعلها ما أثبت.
الأول: أن الأجر والسعادة لا تتوقّف على ذلك، بل تتوقّف على أداء الواجب.
الثاني: أننا وجدنا الأنبياء عليهم السلام قد ينسون ويخطئون، كما وقع لداود عليه السلام في شأن الغنم، وفي شأن المرأتين، وغير ذلك مما قد مرَّ بعضُه
(1)
ــ وهم أتقى الناس ــ فإذا جاز عليهم الخطأ فغيرهم أولى بلا شكّ، وإنما يُذَكِّرهم الله تعالى لئلا يصير خطاؤهم شَرْعًا يُعمل به، وهذا منتفٍ في حقّ غيرهم.
وكذلك وجدنا الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا اختلافًا كثيرًا، ووقع منهم الخطأ، وهم أتقى الأمة بل أتقى الأمم، قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ
…
} الآية [الفتح: 29]. وقد نزل في أبي بكر رضي الله عنه قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى}
(2)
[الليل: 17]، فشهد له القرآن أنه الأتقى، وهذا يستلزم أن يكون أتقى بني آدم ما عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومع ذلك فقد كان يقع منه الخطأ، بدليل مخالفة أكابر الصحابة له في كثير من الأمور كما في المسألة الأولى
(3)
.
وكذلك التابعون وتابعوهم المشهود لهم بأنهم خير القرون، وفيهم أكابر الأئمة كالمجتهدين الأربعة وغيرهم. وهذا واضحٌ جدًّا.
(1)
لم نره فيما سبق.
(2)
انظر «الدر المنثور» : (15/ 477 - 478).
(3)
(ص 111 - 112).
ثم إن الفرقان والمخرج إنما يطَّرِد في حقّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لِعِصْمتهم من الإخلال بالتقوى مطلقًا، فأما غيرهم فلا يطّرد لعدم العصمة، إلا أن الظاهر أنه إذا استوى العالِمَان في العلم وامتاز أحدهما بزيادة التقوى كان قوله أرجح، وهذا إنما يتأتّى اعتباره في العامّي إذا استفتى العَالِمَين، ولم يظهر له رُجحان دليل أحدهما، فأما مَن عداه فإنه تَبَعٌ للدليل كما ورد: «الحكمةُ ضالةُ المؤمن
…
»
(1)
إلخ، وكما عُرف من حال الصحابة رضي الله عنهم ومَن بعدهم في مخالفة كل منهم للأفضل والأتقى إذا ظهر له رجحانُ دليل غيره.
وبهذا عُرِفت الميزة التي امتاز بها المتّقي عن غيره ودَلَّت عليها الآيتان، فالمتّقي إن كان نبيًّا فهو مصيب أبدًا، وإن كان غير نبيّ فهو مأجور غالبًا.
وأما غير المتّقي فإنه لا يستحقّ التثبيت، بل يغلب عليه الكسل عن أداء ما يلزمه من الاجتهاد أو سؤال المجتهد، فيقصّر في ذلك ويعمل برأيه، وقد يتّبع هواه ويتعصّب، ومع هذا فالحال غير مطّرِد وإنما يتأتّى الاعتبار بنحو ما سبق في التّقي والأتقى، والله أعلم.
وأما قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] فلا يتأتّى الاستدلال بها إلّا على تقدير معيَّة الواو، وهو غير متعيّن، ولو سُلِّم
(1)
أخرجه الترمذي (3687)، وابن ماجه (4169) وغيرهما من طريق إبراهيم بن الفضل عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي:«هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل المدني المخزومي يُضعّف في الحديث من قبل حفظه» . وضعّفه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (114)، وانظر «المقاصد الحسنة» (ص 191) للسخاوي.
فالتعليم في هذه الآية هو بمعنى الفرقان والمخرج في الأوليين، والله أعلم.
[212]
والحاصل أن الإلهام ليس إلا عبارة عن خاطرة من جنس هذه الخواطر التي تعرض لكلِّ إنسان، والخواطر تتنوّع إلى حديث النفس وإلى ما يكون بمجرَّد خلق الله تعالى، وإلى ما يكون بحديث الملك، ويزيد غيرُ الأنبياء بوسوسة الشياطين.
وحديثُ النفس قد يكون حقًّا وقد يكون باطلًا. وما كان بمجرَّد خلق الله تعالى قد يكون للهداية، وقد يكون للابتلاء، ونحوه ما يكون بتحديث الملك. وما يكون من الشيطان لا يكون إلا باطلًا، إلا أنه ربما وسوس بالأمر من الحق يتوصّل به إلى باطل أشدّ.
وحينئذٍ فنقول لمدّعي حجية الإلهام: بأيّ طريقٍ عرفتَ أنه حقّ؟
فإن قال: بإلهامٍ آخر.
قلنا له: والإلهام الآخر يحتمل ما احتمل الأول، وبتطرّق الاحتمال إلى الثاني يتطرّق الاحتمال إلى الأوّل.
وإن قال: لكون صاحب الخاطر متَيَقّنًا.
قلنا له: هل هو معصوم؟
قال: لا.
قلنا: فكيف قلتَ ما قلتَ؟
فإن قال: الغالب على المتَّقي خواطر الحقّ بدليل تلك الآيات المتقدّمة، وحديث التحديث.
قلنا: أَتْقى خَلْق الله تعالى أنبياؤه، وقد عرفتَ جواز السهو والخطأ عليهم، وتذكيرهم ليس لمجرّد التقوى، وإنما هو لأمر آخر. وهذا يدلّ أنّ اطّراد التقوى لا يستلزم اطراد صِدْق الخواطر، وأما إذا لم تَطَّرِد التقوى فالأمر أبْيَن، ومثل هذا لا يكون حجة، كما في الراوي إذا كذب مرّةً أو مرتين لم تُقبَل روايتُه مطلقًا، على أنه يحتمل أن يكون أكثر حديثه صدقًا. وبنحو هذا يُجاب عن حديث التحديث.
وإن قال مدّعي الحُجّية: عرفتُ أنه إلهام بانشراح صدري له، وانشراح الصدر إنما يكون لِمَا يكون من جهة الله تعالى. قال تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].
وقال تعالى في سورة أخرى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268].
وفي الحديث عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن للشيطان لَمَّة بابن آدم وللمَلَك لَمَّة، فأما لَمَّة الشيطان فإيعاد بالشرّ، وتكذيب بالحقّ، وأما لَمّة المَلَك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومَن وجد الأخرى فليتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم» . ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} . رواه الترمذي
(1)
، وقال: هذا حديث غريب.
(1)
(2988). وأخرجه النسائي في «الكبرى» (10985)، والبزّار (2027)، وأبو يعلى (4999)، وابن حبان (997). وفي سنده عطاء بن السائب اختلط بأخرة، والراوي عنه أبو الأحوص روى عنه بعد الاختلاط. انظر «الكواكب النيّرات» (ص 319 وما بعدها). ورجَّح الأئمة وقفه. «علل الترمذي» (654) و «علل ابن أبي حاتم» (2224).
[213]
وأخرج البيهقي في «شعب الإيمان»
(1)
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ النورَ إذا دخل الصدرَ انفسح» ، فقيل: يا رسول الله، هل لذلك من عَلَمٍ يُعْرَف به؟ قال: «نعم، التجافي من
(2)
دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله».
وقال ابن الصلاح
(3)
: ومِن علامته (أي: خاطر الحق): أن ينشرح له الصدرُ ولا يُعارضه معارض آخر. اهـ.
فالجواب: أن انشراح الصدر لأمرٍ ما هو خاطر آخر يحتمل ما احتمل الخاطر، وذلك أنه قد ينشرح للأمر لوجود هداية الله تعالى، أو إلقاء الملك، وقد ينشرح لموافقته لهواه، وقد ينشرح لوسوسة الشيطان.
فأما قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} فالذي فيها شَرْح الصدر للإسلام لا شَرْح الصدر مطلقًا. وكذا جَعْل الصّدْرِ ضيّقًا
(1)
(10068). وأخرجه ابن أبي الدنيا في «قصر الأمل» (129)، والحاكم في «المستدرك»:(4/ 311) وسكت عليه، وقال الذهبي في تلخيصه: عديّ ساقط. وله شواهد لكنها ضعيفة. انظر «العلل المتناهية» : (2/ 318) لابن الجوزي، و «شرح العلل»:(2/ 771 - 772) لابن رجب.
(2)
كذا في الأصل تبعًا للمشكاة: (3/ 133)، وفي المصادر:«التجافي عن» .
(3)
نقله عنه في «البحر المحيط» : (6/ 103) من «فتاويه» . ومصدر المؤلف «إرشاد الفحول» : (2/ 1016).
حَرَجًا، أي: عن الإسلام لا مطلقًا. والكفّار يفرحون كثيرًا بكفرهم كما فرح المشركون يومَ أُحد بما نالوه من المسلمين، وغير ذلك، قال عز وجل:{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 81]، وقال عز وجل:{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، وقال تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45]، والمتَّقي قد يفرح بالأمر يوافق هواه ما دام غير معصوم.
أما قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268]، فهذه الآية في الإنفاق كما يبينه السياق، يقول الله تعالى: إن الشيطان يَعِدُكم يا معشر الأغنياء بالفقر لئلَّا تنفقوا في سبيل الله، ويأمركم بالفحشاء من البخل وغيره، والله يَعِدُكم جزاء إنفاقكم في سبيله مغفرةً منه وفضلًا.
وما روي من الحديث
(1)
ــ إن صح ــ فهو قريب من هذا، فلَمَّة الشيطان إيعاد بالفقر لمريد الصدقة، وبالقتل لمريد الجهاد، ولَمَّة المَلك إيعاد بالجزاء في الدنيا والآخرة.
والحاصل أن الصدقة والجهاد والعبادة وتجنّب المحرّمات لا يكون إلا مع التصديق بوعد الله تعالى بحُسْن الجزاء في الدنيا والآخرة، فالله سبحانه وتعالى يدعو إلى هذا التصديق. وأما الشيطان ــ نعوذ بالله منه ــ فإنه بدعواه إلى التكذيب يَعِدُ بعدم حُسْن الجزاء، فيصوّر الصدقة بصورة مَغْرَم، ونحو ذلك، فإنه تعالى يَعِد المؤمنين بالخيرات إذا اتقوه ليزدادوا تقًى، والشيطان يَعِدهم بالشرور ليقصِّروا في التقوى، فلو كان الإنفاق معصيةً
(1)
تقدم نصه (ص 379).
حضّ عليه الشيطان ووعد بالغنى كما هو ظاهر، والله أعلم.
ثم إن الوعد إنما هو في جزاء التقوى، فلابدّ من معرفة التقوى بدليلٍ غير الخاطر. ومن ذلك أن يريد الإنسان أن ينفق فَخَطر له في نفسه خوف أن يؤدِّي الإنفاقُ إلى افتقاره، فإن هذا لا يدلّ على تعيين ذلك الخاطر؛ لأن الإنفاق قد يكون في مرضاة الله تعالى، وقد يكون في معصيته، والذي من الشيطان إنما هو فيما إذا كان الإنفاق في مرضاة الله تعالى، وحينئذٍ فلابدّ لمعرفة حكم الإنفاق [10] من النظر في الأدلة الظاهرة من الكتاب والسنة، فإن عيّن الدليلُ حكمَ الإنفاق لم يتعيّن الخاطر لاحتمال كونه من حديث النفس. إلا أنه على كلِّ حال ما كان من الخواطر مودّيًا لما يقتضيه حكم الكتاب والسنة فهو خاطرُ حقٍّ، ولكن الشيطان قد يوسوس للإنسان بفعل شيء مما ظاهره خير ليستجريه إلى الوقوع في شرٍّ، كما تراه يزعج كثيرًا من الجهال الفقراء إلى الحجّ، لمعرفته بطريق العادة أنهم يُضيّعون في سفرهم أكثر الصلوات، ويرتكبون غير ذلك من المنهيَّات.
وأما قوله: «وإيعاد بالحق» وقوله: «وتكذيب بالحق» فواضح أن الحقّ لابدّ أن يكون معروفًا بدليل آخر، ولا دليل إلا الكتاب والسنة. وأما حديث البيهقي ــ إن صح ــ فهو تفسير للآية، وقد علمتَ معناها، فقوله:«إن النور إذا دخل الصدر انفسح» أي: انفسح الصدر، أي: للحق، كما بيَّنه جوابه على قولهم: هل لذلك مِنْ علم؟
والحاصل أن النفس قد تفرح وتنشرح وتنفسح للحق وللباطل، ولكن الذي مِن الله سبحانه وتعالى هو ما كان فيه فرحٌ وانشراح وانفساح للحق، والذي من الشيطان هو ما كان فيه غمٌّ وضيق وحَرَج من الحقّ، فالكلام إنما هو في الحق، وإلَّا فمن فرح بالحق اغتمّ من الباطل، ومن اغتمّ من الحق
فرح بالباطل، إلا أن الفرح بالحق دائمٌ ثابتٌ مستقرٌّ، والفرح بالباطل متزلزل، فلذلك أطلقَ الانشراح ونحوه في جانب الحق، وأطلق الحرج ونحوه في جانب الشرّ، والله أعلم.
وبما تقرّر عرفتَ أنَّ مجرّد الانشراح بالخاطر لا يصلح دليلًا.
وأما قول ابن الصلاح: «ومن علامته أن ينشرح له الصدر ولا يُعارضه معارضٌ آخر» فهو غير بعيد، ومعناه أن صاحب الخاطر يجتهد في أدلّة الشرع الظاهرة، أو يستفتي عالمًا في تلك المسألة التي وقع له فيها الخاطر، فإن لم يقف على معارضٍ لِمَا خَطَر له فيه الخاطر وانشرح له صدرُه، دلّ ذلك على أن ذلك الخاطر من الحق.
وهذا يشتمل على قسمين:
الأول: أن يجد له مؤيدًا من الأدلة الظاهرة. وهذا هو ما نقوله وندعو إليه، وهو أن يُسْتَدلّ على الخاطر بالأدلة الشرعيّة، فما دلّت الأدلّةُ الشرعيةُ الظاهرة على أنه حق كان الظاهر أن الخاطر الموافق لها حقّ، فتُجْعَل الشريعة دليلًا على الخواطر، لا الخواطر دليلًا على الشريعة.
والثاني: أن لا يجد له مؤيدًا ولا معارضًا، وفي إمكان هذا نظر؛ لأنه ما من شيء من الأشياء إلا ويمكن المجتهد معرفة حكمه الشرعيّ بالاجتهاد.
فإن قيل: قد دلّ الحديث الصحيح: «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مُشْتَبِهات»
(1)
على وجود هذا القسم الذي هو المشتبهات [*ق]
(2)
المفسّرة
(1)
أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(2)
هذه الورقة من الفلم رقم (3584).
بقوله: «لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس» . وحينئذٍ فقد يخطر للإنسان خاطر يشرح له صدره، فإذا نظر في الكتاب والسنة اشتبه عليه حكمه، وكذا إذا سأل العلماء وأجابوه بما يوقِع في الاشتباه.
فالجواب: أن الشارع قد أرشدنا إلى الأخذ بالاحتياط في هذا، كما يدلّ عليه قوله في هذا الحديث: «فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه
…
» إلخ، فإن كان الخاطر يميل إلى الاحتياط فقد وُجِد ما يؤيّده من الشرع، وإن كان يميل إلى غيره فقد وجد ما يعارضه، فرجع إلى القسم الأول.
فإن قيل: يمكن وجود القسم الثاني فيما أدّى فيه الاجتهاد أو فتوى المجتهد إلى الإباحة، وانشرح القلبُ لعدم الأخذ بذلك.
فالجواب: أن ذلك المباح إن كان استعماله من التوسُّع والتبسُّط فالشرع قد أرشدنا إلى التخفيف، فانشراح الخاطر بذلك قد وجد من الشرع ما يؤيده، وانشراحه لغيره قد وجد ما يخالفه. وإن كان من غير التبسُّط فالشرع قد أرشدنا إلى العمل به، قال تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. وقد مرّ
(1)
حديث «الصحيحين» في الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصلّي الليل أبدًا، وقال الآخر: أنا أصوم النهار أبدًا ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل الناس فلا أتزوّج. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأُفْطِر، وأُصلي وأرقد، وأتزوّج النساء، فمن رَغِب عن سنتي فليس مني» .
(1)
سيأتي (ص 462).
نَعَم يمكن وجود القسم الثاني فيما لم يوقَفْ فيه على دليل يدلُّ على حُرمته ولا كراهته، فأُخذ به بأصل الإباحة، ولم يظهر في استعماله تبسُّط ولا تضييق إلى الحدّ الذي أرْشَدَنا الشارعُ إلى اجتنابه، ولا ظهرت مصلحة ولا مفسدة، ففي هذا إذا انشرح الصدرُ لعدم الأخذ به= كان ذلك علامة على أنه من الحق.
وذلك أن عدم الوقوف على دليل يدلّ على الحُرمة أو الكراهة لا يستلزم عدم الدليل في نفس الأمر، ولم يظهر من الشرع دليلٌ يرشد إلى العمل بذلك الشيء ولا تَرْكِه، فكان الأخذ به والترك على حدٍّ سواء من الشرع، فلمَّا وقع الخاطرُ بعدم الأخذ، وانشرح له الخاطر= كان ذلك مرجّحًا يجوز الأخْذُ به. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم :«استفت قلبك وإن أفتاك الناس» كما مرَّ
(1)
.
فإن قيل: فلعلّ الخاطر يكون من حديث النفس والشيطان، وانشراح الصدر يكون بوسوسة الشيطان لغرضٍ له في ذلك.
فالجواب: أن الظاهر من انشراح الصدر واطمئنانه كُونُه من جهة الله تعالى ما دام لم يعارِضْه دليلٌ آخر. وإن احتمل ما ذكرتم فهو احتمال مرجوح، وقد أخذ الإنسان بما هو أقرب إلى التقوى في اجتهاده. وهذا هو أقصى ما يمكنه. على أنه إذا استفتى قلبَه بعد التوجُّه إلى الله تعالى وإخلاص الدعاء والاستخارة فلم يَزْدَد إلّا
(2)
انشراحًا واطمئنانًا، فذلك كان أظهر، والله أعلم.
(1)
(ص 372).
(2)
جاءت كلمة في طرف الورقة المتآكلة فذهبت ببعضها، ولعلها ما أثبت.