الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثانية: العلم الذاتي بالأشياء التي تختلف باختلاف الخلق.
الثالثة: العلم الخارق بما هو غيب عن جميع الخلق عادةً.
الرابعة: العلم الخارق بالأشياء التي تختلف باختلاف الخلق.
الخامسة:
العلم الخبري بما هو غيب عن جميع الخلق
عادة.
السادسة: العلم الخبري بالأشياء التي تختلف باختلاف الخلق.
فأقول مستعينًا بالله عز وجل
(1)
:
[*2] الصورة الخامسة: العلم الخبريّ بما هو غيب عن جميع الخلق.
لا يخفى أن العلم الخبري إنما يحصل بأحد خمسة أمور:
الأول: بخطاب الله جل جلاله للمخلوق مباشرةً من وراء حجاب.
الثاني: بخَلْقه العلمَ الضروريَّ في القلب.
الثالث: بخطاب المَلَك المعلومُ أنه مَلَك.
وهذه الثلاثة هي الواردة في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51].
الرابع: بخطاب النبيّ.
الخامس: بإخبار عدد التواتر.
(1)
لم نجد الكلام على الصور الأربع الأولى، وما وجدناه يبدأ بالكلام على الصورة الخامسة.
أما الأول والثاني، فإنه في الدنيا كالصورة الرابعة يعمّ وقوعه للأنبياء جميعهم، ولبعض الملائكة، ويدّعيه بعضُهم لبعض الأولياء، وفي الآخرة لجميع المؤمنين. والله أعلم.
وأما الثالث، فإنه يقع في الدنيا للأنبياء جميعهم وللملائكة؛ بأن يخبر بعضُهم بعضًا، وليس فيه ما يقع للشياطين التي تسترق السمع كما سيأتي
(1)
، ويدّعي بعضُهم وقوعَه للأولياء، وسيأتي الكلامُ فيه إن شاء الله تعالى
(2)
. وأما في الآخرة فإنه يقع لجميع الناس.
فإن قيل: فظاهر القرآن وقوعه؛ وقع لحوّاء إذ كانت في الجنة، ولإبليس إذ كان في الجنة.
قلت: الله أعلم هل كان خطاب حوّاء مباشرة أو بواسطة آدم؟ وهل كان خطاب إبليس مباشرة أو بواسطة بعض الملائكة؟ فإن ثبت وقوعُه مباشرةً فهما حينئذٍ في الجنة، وقد تقدّم أنه يقع في الآخرة لجميع أهل الجنة. والله أعلم.
وأما الرابع، فإنه ممكن لكلّ مَن لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، سواء في الدنيا أو في الآخرة، فأمّا مَن لقيه في الرُّؤيا فإن إخباره حينئذٍ لا يحصِّل العلم كما سيأتي إن شاء الله تعالى
(3)
.
ويدّعي بعضُ الأولياء الاجتماع بالنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد
(1)
(ص 344 - 348).
(2)
(ص 341 - 344).
(3)
(ص 328 وما بعدها).
موته يقظةً، وهذا إن صحّ فهو في حكم الرؤيا، فلا يحصُل بإخباره العلم كما سيأتي إن شاء الله تعالى
(1)
.
وأما الخامس، فهو ممكن لكل أحدٍ.
وأما ما قد يقع بواسطة الخارقة، كإخبار الطفل الذي لم يبلغ حدَّ النُّطق، وإخبار الحيوانات غير الناطقة، وإخبار الجمادات= فإنّ ذلك لا يحصّل للمُخْبَر العلم القطعيّ بصدق الخبر، لتطرّق الاحتمالات إلى جميع ذلك فتأمّل.
وكذا ما يقع من إخبار الجن للكُهّان ومَن في معناهم، وما يقع من إخبار النائم في التنويم المغناطيسي، فإنه لا يحصِّل القطع أيضًا.
* * * *
(1)
(ص 328 وما بعدها).
[فصل في أنه لا يعلم الغيب إلا الله، ولا يعلمه لا نبي ولا ولي]
[*3]
(1)
قال الله تعالى لرسوله: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50]، وقال له:{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} الآية [الأنعام: 57 - 59].
وقال له: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188]. والعلمُ المنفيُّ في هذه الآية يتناول العلمَ الذاتيّ، ويتناول الإظهار على جميع الغيب؛ بدليل قوله:{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} . واستكثارُ الخير وعدمُ مسّ السوء لا يتوقّف إلّا على مطلق المعرفة بالغيب، سواء بالعلم أو بالاطلاع، فتأمَّل.
وحكى سبحانه وتعالى عن نبيه نوح مثل ذلك، وذلك قوله تعالى:{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} [هود: 31].
(1)
من هنا وجدنا هذا المبحث في اختصاص علم الغيب بالله تعالى في المجموع المشار إليه سالفًا رقم [4707].
وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الآية [الإسراء: 36].
دلّت هذه الآية أنه سبحانه وتعالى وحدَه عالمُ الغيب فلا يُظهر على غيبه أحدًا إلا مَن ارتضى من رسله فإنه يطلعه على ما لا بدّ منه لأداء الرسالة، بعد أن يسلك من بين يديه ومن خلفه رَصَدًا من الملائكة يحفظونه من تلبيس الشياطين وتخييلهم، وهي مُبيّنة لقوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179].
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]، وقال تعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65]، وقال تعالى:{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101]. والآيات في هذا كثيرة.
وانظر قصة نبيِّ الله يعقوب ومُكْثه تلك السنين العديدة لا يعلم أين ابنُه ــ عليهما السلام ــ وإن كان قد أُعْلِم أنه حيّ.
[فصل في علم النبي صلى الله عليه وسلم بالغيب]
[فإن قيل: إن الله قد أظهر نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم على جميع الموجودات، فقد روى معاذ بن جبل قال: احتبس عنّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات غداةٍ عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعًا، فثُوّب بالصلاة، فصلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتجوَّز في صلاته، فلما سلّم دعا بصوته قال لنا: «على مصافّكم كما أنتم»، ثم انفتل إلينا، ثم قال: «أما إني سأحدثكم ما حبسني]
(1)
[*4] عنكم الغداة: أني قمت من الليل فتوضأتُ وصليتُ ما قُدِّر لي، فنعستُ في صلاتي حتى استثقلتُ، فإذا أنا بربّي في أحسن صورة، فقال: يا محمد! قلت: لبيك ربّ، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري، قالها ثلاثًا.
قال: فرأيته وضع كفّه بين كتفي حتى وجدت بَرْد أنامله بين ثديي، فتجلّى لي كل شيءٍ وعرفتُ، فقال: يا محمد، قلت: لبيك ربّ، قال: فيمَ يختصمُ الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفَّارات .... » الحديث.
رواه أحمد والترمذي
(2)
وقال: «حسن صحيح، وسألتُ محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث صحيح» .
(1)
ما بين المعكوفين إضافة يكتمل بها السياق، وبقية نص الحديث سقته من كتاب «المشكاة» لأنها مصدر المؤلف في نقل الحديث كما مرّ التنبيه عليه مرارًا.
(2)
أخرجه أحمد (22109)، والترمذي (3235)، والذي فيه عن البخاري «حسن صحيح
…
». وروي من حديث عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه أحمد (23210)، وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الترمذي (3233) وأحمد (3484).
فيقال: إن ظاهر قوله: «فتجلّى لي كلُّ شيء» العموم في سائر الموجودات، فيكون الله تعالى أظهره حينئذٍ على جميع الكائنات.
والجواب: أن المراد ــ والله أعلم ــ كلّ شيء مما يختصم فيه الملأ الأعلى، كما يدلّ عليه السياق، فإن السؤال إنما وقع على ذلك، والإظهار إنما وقع ليعلم ذلك كما هو ظاهر من السياق.
فإن قيل: فإن في بعض روايات الحديث: «فتجلّى لي ما في السموات والأرض، وتلا: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]»
(1)
.
قلت: إن صحّ بهذا اللفظ فيحتمل أن يكون مِن تصرُّف بعض الرواة، فَهِمه من قوله:«فتجلّى لي كلُّ شيء وعرفتُ» أن المراد كلّ شيءٍ في السموات والأرض، فروى بالمعنى الذي فهمَه، ويُبْعِد هذا تلاوة الآية.
وعلى كل حال فلا أظنَّ هذا اللفظ يصح؛ لأن الظاهر من معنى الآية،
(1)
أخرج هذه الرواية أحمد (16621 و 23210) عن عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخرجها ابن خزيمة في «التوحيد» (318)، والدارمي في «مسنده» (2195) عن عبد الرحمن بن عائش سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم .
قال البخاري فيما نقله عنه الترمذي: «وهذا غير محفوظ، ذكر الوليد في حديثه عن عبد الرحمن بن عائش قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروى بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر هذا الحديث بهذا الإسناد عن عبد الرحمن بن عائش عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أصح، وعبد الرحمن بن عائش لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم » . «جامع الترمذي» (5/ 368)، و «العلل الكبير»:(2/ 894).
ونحوه ذكر ابن خزيمة. وانظر حاشية «المسند» : (27/ 172 - 174).
كما يدلّ عليه ما بعدها، أن المراد ــ والله أعلم ــ بقوله:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} أي: نوجّه نظرَه إلى أشياء من آيات مُلْكنا في السماوات والأرض، ونفتح له بسببها فهمًا واستدلالًا يؤكّد يقينه في نفسه، ويكون له حجةً على قومه. فإنّ عقب هذه الآية:{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} الآيات، وظاهر ترتيبها بالفاء أنها من ثمرة قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ نُرِي} وهذا ظاهر فيما قلناه.
وقوله: {هَذَا رَبِّي} استفهام بِحَذْف أداته لتكون على صورة الإخبار، فيظن قومه أن ذلك منه إخبار، وأنه موافق لهم في دينهم، ليكون ذلك أدعى إلى نظرهم وتأمّلهم وعَقْلِهم الحجة فيه
(1)
، والله أعلم.
[*5] ومما يدلّ على أنه ليس المراد من الآية أن الله تعالى أظهر إبراهيم على جميع الغيب قولُه بعد هذه الآيات: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام: 80]. ولما جاءه الملائكة لم يعرف أنهم ملائكة، بل ذهب فجاءهم بعجلٍ حنيذٍ، فلما رأى أيديهم لا تَصِل إليه نَكِرَهم وأوجس منهم خيفة.
وفي حديث «الصحيحين»
(2)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لم يكذب إبراهيم
…
» الحديث «بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبارٍ من الجبابرة، فقيل له: إن ههنا رجلًا
…
» الحديث،
(1)
غير واضحة ولعلها ما أثبتّ.
(2)
البخاري (3358)، ومسلم (2371).
وفي آخره: «فأتته ــ أي إبراهيم ــ وهو قائم يصلي فقال: مَهْيَم
…
» الحديث.
والحاصل أنه من أَمْحَل المحال أن يُظهر الله عبدًا من عبيده على جميع غيبه، وحسبك أن الله تعالى متعبِّد عبيدَه بالدعاء، فكيف يدعو العبد فيما قد عُلِم أنه واقع أو غير واقع، وقد قال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 187 - 188].
ومرّ
(1)
أن قوله: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} كما يدلُّ على عدم العلم الذاتيّ يدلّ على عدم الإظهار على جميع الغيب، لأن استكثاره الخير وعدم مسّ السوء له لازمٌ لإظهاره على جميع الغيب، كما هو لازم للذّاتي، فلا يتمّ المنع إلا بامتناعهما معًا.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} وما بعده يدلّ على أن الساعة لم يُظْهِر اللهُ على وقتها أحدًا من خلقه، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
[*6] وأما الأحاديث الدالة على ما قدمنا فهي كثيرة لا تُحصى، ففي حديث جبريل الثابت في «الصحيحين»
(2)
: «متى الساعة؟ فقال: ما
(1)
(ص 316).
(2)
البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
المسؤول عنها بأعلمَ مِن السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمةُ ربَّتها، وإذا تطاولت رُعاة الإبل البهم في البنيان، في خمسٍ لا يعلمهنَّ إلا الله، ثم تلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]» الحديث.
وفي «الصحيحين»
(1)
أيضًا عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهنَّ إلّا الله، فقال: لا يعلم أحدٌ ما يكون في غدٍ، ولا يعلم أحدٌ ما يكون في الأرحام، ولا تعلم نفسٌ ماذا تَكْسِب غدًا، ولا تدري نفسٌ بأيّ أرضٍ تموت، وما يدري أحدٌ متى يجيء المطر» .
وأخرج الإمام أحمد والبزَّار والضياء المقدسي في «المختارة»
(2)
وغيرهم عن بُريدة قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «خمسٌ لا يعلمهنّ إلا الله: إن الله عنده علم الساعة
…
»
(3)
[الحديث.
وأخرج]
(4)
الشيخان والترمذيّ والنسائيّ وأحمد وغيرهم عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: مَن زعم أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم يخبر الناسَ بما يكون في غدٍ ــ وفي رواية: يعلم ما في غدٍ ــ فقد أَعْظَم
(1)
البخاري (4697) ولم أجده في مسلم من حديث ابن عمر.
(2)
ليس في المطبوع منها.
(3)
أخرجه أحمد (22986)، والبزار (4409)، والضياء كما في «جمع الجوامع» (12287).
(4)
ما بين المعكوفين مطموس، ولعله ما قدّرتُه.
على الله الفِرْيَةَ، والله تعالى يقول:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}
(1)
[النمل: 65].
والعلم المنفيّ في الآية والأحاديث هو العلم الذاتيّ، فلا يُنافي أنّ الله تعالى قد يُظهر الرسلَ على شيءٍ من الخَمْس وغيرها، فهذا القرآن مَلْآنُ بالإخبار عما سيكون يوم القيامة، وهو داخلٌ فيما سيكون في غدٍ.
وأحاديثُ الشفاعة نصٌّ على أنه صلى الله عليه وآله وسلم أُعْلِم ببعض ما سيكون له يوم القيامة، وذلك داخل في قوله تعالى:{مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} . والمراد بالعلم فيها العلم القطعيّ، فلا يُنافي هذا ظنّ نزول المطر وغيره، وظنّ صاحب الرؤيا والمحدَّث، وظنّ المنجّم والكاهن ومَن في معناهما.
نعم إن الله تعالى لا يظهر أحدًا كائنًا مَن كان على كل شيءٍ من غيبه، بل الثابت إظهار الرسل على بعض الجزئيات بحسب ما تقتضيه الحكمة.
[*7] والحاصل أن الأدلة على أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن مُظْهَرًا على جميع الغيب لا تُحصَى من الكتاب والسنة، وبذلك يتعيّن حمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فتجلّى لي كلُّ شيء وعرفتُ
…
» على الأشياء التي يختصم فيها الملأ الأعلى، كما يدلّ عليه السياق
(2)
.
(1)
البخاري (3234) من طريق القاسم عن عائشة وليس فيه هذا اللفظ، ومسلم (177)، والترمذي (3068)، والنسائي في «الكبرى» (11468)، وأحمد (24227) كلهم من طريق مسروق عن عائشة.
(2)
انظر ما سبق (ص 318).
وهذا أولى من أن يقال: إن الله تعالى أظهره حينئذٍ على ما في السموات وما في الأرض ثم سَتَر ذلك عنه. وأولى من أن يُقال: إن هذا الإظهار كان في آخر عمره صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يلزم عليه عدم الاحتياج إلى الوحي، ولا عدم التكليف بالدعاء، ولا غير ذلك من الأشياء؛ لأن راويه معاذ بن جبل رضي الله عنه خرج إلى اليمن قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكثير.
وسيأتي قريبًا ما يدلّ على أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يُظْهَر على جميع الغيب بعد موته، ومنه حديث «الصحيحين»
(1)
في ذكر الحوض، وفيه: أنه يقال له صلى الله عليه وآله وسلم: «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» .
[*8] وقد بقي حديثٌ آخر أخرجاه في «الصحيحين»
(2)
والجواب عنه: أنَّ المراد ما ترك شيئًا من الأمور العظيمة والفتن الجسيمة، كما يدلُّ عليه حديث أبي داود
(3)
عن حذيفة قال: «والله ما أدري،
(1)
البخاري (4625)، ومسلم (2860) من حديث ابن عباس، وجاء من حديث أبي هريرة وأنس وابن مسعود رضي الله عنهم في الصحيحين وغيرهما.
(2)
مسلم (2891) وليس عند البخاري من حديث حذيفة، وهو عنده بنحوه من حديث عمر (3192).
(3)
(4243). وفي إسناده ضعف.
أنسي أصحابي أم تناسَوا؟ والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مِن قائدِ فتنةٍ إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ مَن معه ثلثمائة فصاعدًا إلا قد سمَّاه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته».
والحديث على كلِّ حال مشكل؛ أمَّا أولًا: فلأنَّ المقامَ الواحد، بل الأشْهُر لا تسع ذِكرَ كلِّ رئيس ثلثمائة فصاعدًا، فضلًا عن كلِّ شيء. والمعجزة ممكنة، والله على كل شيء قدير، ولكن ظاهر الأحاديث أنَّ ذلك جارٍ على مقتضى العادة.
وأمَّا ثانيًا: فلأن الصحابة رضي الله عنهم وقعوا في فتن بعده صلى الله عليه وآله وسلم [*9] فما لهم لم يحفظوا ما قال صلى الله عليه وآله وسلم فيها، وربما حفظوا القليل.
فإن قيل: لعلّ الله تعالى أنساهم عامَّةَ ذلك لِمَا سبق في حكمته، فقد بقي إشكال آخر، وهو أنه لا يظهر فائدة عظيمة للإخبار ثم الإنساء. فأما الإخبار ببعض الفتن وعدم إنسائه، ففيه فائدة لمن أدركها؛ يَسْتدلّ على الحقّ من الباطل.
ثم إن إظهارهم على ما سيكون بهم تفصيلًا منافٍ للتكليف، كما دلّ عليه:{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188] كما مرَّ بيانه
(1)
.
والذي يترجَّح في معنى الحديث ــ والله أعلم ــ ما قدَّمناه: أن المراد من الأمور العِظام والفتن الجسام التي تهمُّ الإسلام، ويفزع لها الخاص والعام.
(1)
(ص 321).
وأما تقييده في حديث أبي داود برئيس ثلثمائة فصاعدًا، فلعلَّه قاله بناء على ظنِّه، كأنه ــ والله أعلم ــ رأى جماعةً كلَّهم رئيس ثلثمائة قد ذكرهم النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فقاس على ذلك المذكورين إلى يوم القيامة.
وفي هذا القياس نظر، فإن مقتضى الحكمة أن يذكر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم الفتنَ الصغارَ التي تلي موته لأهميتها، ولا يقتضي أن يستقصي ذلك إلى يوم القيامة، بل يُكتفى بالأمور العامة.
وقد روى مسلم
(1)
عن عَمرو بن أخْطَب الأنصاري، قال:«صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومًا الفجر، وصعد على المنبر، فخَطَبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلَّى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر حتى غربت الشمس فأخبرنا بما هو كائن إلى يوم القيامة» . قال: «فأعلمُنا أحفظُنا» . وهو في معنى حديث حذيفة، والكلام عليه مثلُه.
وأنا مؤمن بأن الله عز وجل على كلِّ شيء قدير، وأن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أهلٌ لأن يكرمه الله بكل كرامة يمكن أن يُكرَم بها أحدٌ من عباد الله تعالى، فيُظهره على ما شاء من الغيب، ويطوي له الزمان حتَّى يتكلم في الساعة الكلامَ الذي لا تسعه إلا السنون العديدة وغير ذلك.
وإنما اضطرَّني إلى التأويل الجمعُ بين الأدلة كما علمتَ، مع أن اتِّساع المعلومات الكونية ليس من الفضل المقصود للأنبياء عليهم السلام، فنفيُ شيء منه عنهم لا يُوهم نقصًا.
(1)
(2892).
وعلى كلِّ حال، فالحديثان لا يدلَّان على أنه صلى الله عليه وآله وسلم أُظهر على جميع الغيب؛ كيف والدنيا بما فيها ليست بالنسبة إلى الآخرة شيئًا ....
(1)
، والله أعلم، وهو حسبي ونعم الوكيل.
* * * *
(1)
نحو ثلاث كلمات ذهب بأكثرها قطع في طرف الورقة.
[القسم الأول من الغيب]
[ومما يَستدلّ به أهلُ الأرض على بعض الغيب من القسم الأول ولا يحصّل إلا الظن: الرؤيا. وفي «صحيح البخاري»
(1)
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله]
(2)
[185] صلى الله عليه وآله وسلم: «الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءً من النبوّة» . ولهما
(3)
[عن]
(4)
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا اقترب الزمان لم تَكَد تكذب رؤيا المؤمن، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوّة
…
» الحديث.
فيقال: إن تلك الطرق التي ذكرناها آنفًا ستٌّ وأربعون طريقًا، خمسٌ وأربعون منها خاصة بالأنبياء، وواحد يكون لغيرهم، وهي الرؤيا. والمراد برؤيا المؤمن في حديث أبي هريرة: رؤياه الصالحة، فقد تكون رؤياه غير صالحة، كما يُشير إليه قوله في أول الحديث:«لم تكد» . وهذا يدل أن رؤيا المؤمن قد تكذب ولكن الغالب صدقها.
ومما يصرّح بهذا: حديث «الصحيحين»
(5)
عن أبي قتادة قال: قال
(1)
(6989).
(2)
لم نعثر على أول الكلام في هذا المبحث المتعلّق بالرؤيا، فأضفت ما بين المعكوفين ليتم به السياق. وانظر (ص 341) وساق المؤلف هذا الحديث ضمن حُجج مَن يرى أن في الرؤيا دليلًا على علم الغيب، ويأتي جواب المؤلف بعده.
تنبيه: في مجموع [4707] كلام على الرؤيا وتأويلها لكنه ناقص أصيبت بعض أوراقه بتلف بالغ، فأثبت ما ظهر منه في ملحق آخر الكتاب.
(3)
البخاري (7017)، ومسلم (2263).
(4)
خرم في طرف الورقة أتى على هذا الحرف.
(5)
البخاري (3292)، ومسلم (2261). واللفظ ساقه المؤلف من «المشكاة» (2/ 544).
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الرؤيا الصالحة مِن الله، والحُلُم من الشيطان، فإن رأى أحدُكم ما يحبّ فلا يحدِّث به إلا مَن يحبّ، وإذا رأى ما يكره فليتعوّذ بالله من شرِّها ومن شرِّ الشيطان، ولْيتفُل ثلاثًا، ولا يحدّث بها أحدًا فإنها لن تضرّه» ا? .
وقد قال قومٌ في معنى الستة والأربعين: أن مدّة نبوّة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كانت ثلاثًا وعشرين عامًا، فمنها ستة أشهر كان يرى الرؤيا الصالحة، ثم جاء الوحي فيما بعدها. ونِسْبةُ الستة الأشهر إلى الثلاثة وعشرين عامًا جزءٌ من ستة وأربعين.
وهذه مناسبةٌ ظاهرُها حَسَن، ولكن عند التحقيق يترجّح ما بينّاه أولًا؛ وذلك أن مُدّة نبوّته صلى الله عليه وآله وسلم مختلَف فيها، ومدّة الرؤيا منها غير معلومة، ومع ذلك فلم تنقطع الرؤيا عنه صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن جاءه صريحُ الوحي، بل مكثت إلى أن توفَّاه الله تعالى وهو يرى في نومه.
وأيضًا الحديث جعل الرؤيا ظاهرةً بتقسيم أجزاء النبوة إلى ستة وأربعين، فما بينّاه سابقًا أقرب إلى لفظه.
ثم رأيتُ بعضَهم
(1)
(1)
هو الآلوسي في «روح المعاني» : (12/ 182). وكلام الحليمي في كتابه «شعب الإيمان» ، ونقله الحافظ في «الفتح»:(1/ 20).
قلت: وهذا ــ والحمد لله ــ هو الذي ظهر لي. ويؤيِّده أنه ورد في بعض الروايات: «من خمسة وأربعين»
(1)
، وفي أخرى:«من سبعين جزءًا»
(2)
.
ونَقَل
(3)
عن الحافظ ابن حجر أنه قال: إن كون الرؤيا الصالحة جزءًا من كذا من النبوّة= إنما هو باعتبار صِدْقها لا غير، وإلّا لساغ لصاحبها أن يسمّى نبيًّا، وليس كذلك.
أقول: بتأمل ما تقدم يظهر أن المراد بالأجزاء: العلوم، لأن النبوّة [من]
(4)
حيث هي لا تتجزَّأ، [فلا] يقال:[بُعِث نبيّ وربع]
…
، فالأجزاء عبارة عن العلوم لا غير، والمعنى: أن الرؤيا عِلْمٌ من جُملة علوم النبوة. والله أعلم.
[186]
ثم اعْلَم أن الرؤيا تنقسم ــ كما قال ابن سيرين ــ إلى أقسام: حديث النفس، وتخويف الشيطان، وبُشرى من الله تعالى
(5)
.
وهذا الذي قاله ابنُ سيرين حقّ. أما حديث النفس، فلأننا نجد من أنفسنا كثيرًا أنّنا نكون في بعض الأيام نتكلّم في شيء أو نتفكّر أو نهتمّ في
(1)
في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في «صحيح مسلم» (2263).
(2)
في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في «صحيح مسلم» (2265).
(3)
يعني الآلوسي في «روح المعاني» . وكلام الحافظ في «فتح الباري» : (1/ 20).
(4)
ما بين المعكوفات في هذه الفقرة تقدير لكلمات في طرف الورقة لم تظهر بتمامها وبقيت بعض آثارها.
(5)
هذا التقسيم لأنواع الرؤيا مذكور في حديث أبي هريرة في البخاري (7017)، ومسلم (2263)، وقد اختلف في رفعه ووقفه، ورجَّح البخاري الوقف. وقائلها هو أبو هريرة رضي الله عنه نقلها عنه محمد بن سيرين. وانظر «فتح الباري»:(12/ 407).
شأنه، فإذا نمنا عقِب ذلك حلمنا بما يتعلّق به.
أما تخويف الشيطان، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة؛ ففي «الصحيحين»
(1)
عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان .. » الحديث.
وإنما سكت عن القسم الثالث وهو حديث النفس؛ لأنه لا بد أن يحضره إما الشيطان وإما الملك، فإن حضره الشيطان التحق بقسمه، وإن حضره الملك التحق بقسمه.
وإذا كان كذلك فالرائي لا يقطع برؤياه أنها من قسم بعينه، ولاسيّما والرؤيا التي هي من الله تعالى قد تكون مُنْذرة، وإنما أُطلق عليها «المبشّرات» في الحديث السابق تغليبًا كما نُقل عن السيوطي؛ وعليه فلا سبيل للرائي إلى القطع بأنّ رؤياه من الله تعالى، وإنما معه الظن فقط، ومع ذلك فالرؤيا التي من الله تعالى تحتاج إلى تأويل وتعبير.
وقد تقدم في المسألة الثانية
(2)
في الكلام على رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ} [الأنفال: 43] فارجع إليها.
وقصّ الله تعالى في كتابه رؤيا يوسف عليه السلام، وهي حقّ، وهي محتاجة إلى التعبير كما لا يخفى.
(1)
أخرجه البخاري (3292)، ومسلم (2261).
(2)
لم يتقدم شيء هنا، فهو مما فُقِد من هذه الرسالة. انظر أول هذا المبحث (ص 308)، ومقدمة التحقيق.
والأحاديث الصحيحة كثيرة في مرائي نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وأكثرها مؤوَّلة، منها: رؤياه الناس يُعْرَضون عليه وعليهم قُمُص، منها ما يبلغ الثُّديّ، ومنها ما دون ذلك، وعُرِض عليه عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرُّه. وأوّل ذلك بالدِّين
(1)
. وإذا كان في حقه صلى الله عليه وآله وسلم فكيف بغيره.
وقد يكون التأويل بعيدًا، كمن رأى نفسه فرِحًا يُؤوّل بالحزن، لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]. وكمن رأى نفسه ذليلًا يؤوَّل بالعز؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]. ولا سبيل إلى القطع في التأويل وإنما هو الظن.
وهذا بالنسبة إلى ما تدل عليه الرؤيا من الإخبار عن الغيب، وأما بالنسبة إلى الصورة المرئية، فإن المرئي ليس هو عين الصورة الحقيقية، وإنما المرئي مثال تستخرجه المخيِّلة من الحافظة أو يصوّره الشيطان أو يمثِّله المَلَك، والمثال حينئذٍ حاضر بالنسبة إلى الروح، فإدراكها له من الإدراك للحاضر لا للغيب؛ لأن الغيب إنما هو عين الصورة الحقيقية، والمرئي إنما هو مثالها.
فإن قلتَ: فقد ثبت في «الصحيحين»
(2)
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثَّل في صورتي» . ومنها عن أبي قتادة قال: قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ رآني فقد رأى الحقّ»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (23، 7008)، ومسلم (2390) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
البخاري (110)، ومسلم (2266).
(3)
أخرجه البخاري (6996)، ومسلم (2267).
[187]
قلت: تمثيل الصُّوَر في النوم قد يكون من حديث النفس، وقد يكون من الشيطان، وقد يكون من الملك. وحديث النفس لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يحضره الشيطان فيلتحق بقِسْمِه، وإما أن يحضره المَلك فيلتحق بقِسْمِه، فانحصر الحال في الاثنين.
والدليل على أنه قد يكون من الشيطان قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ولا يتمثَّل بي الشيطان» . وكما أنه لا يتمثل به فإنه لا يحضر تحديث النفس بصورته، فما بقي إلا ما يكون بتمثيل الملك أو حضوره، وكلّه حقّ.
ومما يدلُّ على تمثيل المَلَك: حديث «الصحيحين»
(1)
عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أُريتك في المنام ثلاث ليالي، يجيء بك الملك في سَرَقةٍ من حرير، فقال لي: هذه امرأتك، فكشفتُ عن وجهك الثوبَ، فإذا أنتِ هي، فقلت: إن يكن هذا من عند الله يُمْضِه» .
وفي الكلام تقدير والتفات، والتقدير ــ والله أعلم ــ: أُريتُ صورتَك في المنام ثلاث ليالي، يجيء بها المَلكُ في سَرَقةٍ من حرير، فقال لي: هذه امرأتك، فكشفتُ عن وجهِ تلك الصورةِ الثوبَ، فإذا هي صورتك، أي التي أعرفها في اليقظة. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعرفها في بيت أبيها وهي صبيّة، ولهذا قال:«إن يكن هذا من عند الله يُمْضِه» . والله أعلم.
وعلى هذا [188] فإن رؤياه صلى الله عليه وآله وسلم لا تكون بتصوير الشيطان ولا حضوره، وإذا لم تكن كذلك فهي بتمثيل الملك بإذن الله تعالى
(1)
البخاري (3895)، ومسلم (2438).
أو حضوره. وهذا القسم هو الحق ليكون معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن رآني في المنام فقد رآني» : مَن رأى صورتي في المنام فقد رأى مثالي الحقّ، كما يدلّ عليه قوله في حديث أبي قتادة:«من رآني فقد رأى الحق» .
ويحتمل أن يكون المراد بقوله: «فقد رآني» أنه سيراه يقَظَة يوم القيامة، كما يدل عليه حديث «الصحيحين»
(1)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثّل الشيطانُ بي» .
وبما قرّرْناه يتبيّن أن رؤياه صلى الله عليه وآله وسلم ليست من علم الغيب؛ لأن علم الغيب إنما هو ذاته صلى الله عليه وآله وسلم، فأمّا مثاله الذي يراه النائم فليس غيبًا، بل حاضر مُشاهَد للروح. ومثلُه رؤيا بعض المؤمنين لبعض، فإنها قد تكون حقًّا مع كونها ليست مِن علم الغيب في شيء
(2)
.
ومع كون رؤيانا له صلى الله عليه وآله وسلم حقًّا، فليس ما رأيناه يقولُه أو يفعلُه أو يُقرّ عليه حجة، واسْتُشْكِل هذا فقيل وقيل، والذي فتح الله به عليَّ هو: أن ذلك القول أو الفعل يحتاج إلى تعبير وتأويل، والتعبير والتأويل يحتمل وجوهًا كثيرة، حتى قد يكون تعبير الشيء ضدّه كما مرّ تمثيله
(3)
.
(1)
البخاري (6993)، ومسلم (2266).
(2)
وضع المؤلف هنا علامة اللحق المعتادة لكنه لم يلحق شيئًا في الورقة.
(3)
(ص 332).
فإذا رأيتَه صلى الله عليه وآله وسلم يأمرك بشيء، فقد يكون تأويلُ الأمرِ النهيَ أو الإخبارَ بوقوعه، أو الأمرَ بشيء يعبّر به الشيء المرئيّ، أو غير ذلك من الاحتمالات التي لا تنحصر= لا جَرَمَ لم يصلح ذلك لاعتباره حجة.
نعم، إذا رأيتَه يأمرك بشيء قد ثبت في كتاب الله تعالى أو السنةِ الصحيحة استحبابُه، فإنه يتأكّد لك استحباب ذلك الشيء، لترجُّح أن الأمر المرئيّ في النوم على ظاهره، ويشهد لهذا واقعة لابن عباس بسبب مذهبه في التمتع
(1)
.
[189]
وهل المراد برؤياه صلى الله عليه وآله وسلم التي هي الحقّ رؤيا شخصٍ يتسمّى باسمه، أو يخبرَ الرائي بأنه هو، أو يقع في نفسه ذلك وإن لم يكن على صورته التي كان عليها في الدنيا؟ أو لابد أن يكون على صورته التي كان عليها في الدنيا؟
أقول: ظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فإن الشيطان لا يتمثّل في صورتي» ، وقوله:«ولا يتمثل الشيطان بي» أنه لابدَّ في تعيّن كون الرُّؤيا حقًّا أن يكون المرئي على صورته التي كان عليها في الدنيا صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الشيطان إنما مُنِع من التمثّل به، ولم يُمنَع من انتحال اسمه.
(1)
«واقعة
…
التمتع» كتبها المؤلف في طرة الورقة، والواقعة التي يشير إليها هي ما في «صحيح مسلم» (1242) عن أبي جمرة الضبعي قال: تمتّعتُ، فنهاني ناس عن ذلك فأتيت ابن عباس فسألته عن ذلك؟ فأمرني بها. ثم انطلقتُ إلى البيت فنمتُ، فأتاني آتٍ في منامي فقال:«عمرة متقبَّلة وحجٌّ مبرور» . قال: فأتيت ابن عباس فأخبرته بالذي رأيت، فقال:«الله أكبر الله أكبر! سنّة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم » .
فصل
قد فهمت مما قدمناه أن الرؤيا إنما هي بحديث النفس أو تصوير الشيطان أو تمثيل المَلَك، وأن ذلك واقع لروح الرائي بدون مفارقتها الجسد.
وفي المسألة مذهب آخر وهو أن الروح تفارق الجسد عند النوم، ثم تذهب حيث شاء الله تعالى من الكون، فربما شاهَدَتْ بعضَ الأشياء حقيقةً، وربما وقع لها التخييل والتمثيل من الشيطان أو من المَلَك.
ويُستَدَلّ لهذا المذهب بقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]. قالوا: فدلّت الآيةُ على أن الله تعالى يتوفّى نفسَ النائم كما يتوفّى نفسَ الميت، ثم يمسك ما قَضى عليها الموتَ من نفوس النائمين، ويرسل التي لما يَقْض عليها الموتَ عند إرادة اليقظة.
هذا على كون ما بعد الفاء تفسيرًا للنائمة، فمعنى الآية {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا و} يتوفى {الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} أي: يتوفاها في منامها، ثم يقضي سبحانه وتعالى في النائمة بما أراد {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} أي: يحبسها عن العَود إلى الجسد فيموت {وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} التي لم يَقْض عليها الموتَ بإعادتها إلى جسدها عند إرادة يقظته {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وهو أجل انتهاء العمر، فإذا جاء الأجلُ توفّاها وأمسكها. والله أعلم
(1)
.
(1)
انظر «الروح» : (1/ 56 - 59)، و «مجموع الفتاوى»:(5/ 451 - 453).
[190]
وهذا التفسير هو الذي يؤيده حديث «الصحيحين»
(1)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا أوى أحدُكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخِلَةِ إزاره فإنه لا يدري ما خَلَفَه علىه، ثم يقول: باسمك ربي وضعتُ جنبي وبكَ أرفعُه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» .
واستشْكِل هذا بأنّ الناعس لا يجد الألم الذي يجده المحتضِر، وأن النائم يبقى فيه النَّفَسُ والدمُ والحركة، وإذا حُرِّك أو سمع صوتًا انتبه، إلى غير ذلك.
وأقرب الأجوبة من هذا: أن للروح بالجسد تعلُّقَين:
الأول: تعلّقها به في اليقظة، وهو بوجودها فيه.
الثاني: تعلّقها به عند النوم، وهو بقاء اتصالها به بآثار وأشعّة تتصل به منها، فبهذه الأشعة تبقى الحياة في الجسد، ثم إذا أراد الله تعالى إرسالها ردّها إلى جسدها فاستيقظ. وإذا أراد إمساكها أبْطَل تلك الصِّلة التي بينها وبين الجسد فمات. والألمُ الذي ينال المريض عند النَّزْع إنما هو لنزع الروح بجميع آثارها.
وزعم بعضُهم أن الله تعالى جعل السبب في ذلك صلاح الجسد، فما دام الجسدُ صالحًا فهو لا يزال منتفعًا بالروح، إن حلَّت فيه حصل له الحياة واليقظة، وإن فارقته حصلت له الحياة بما يتصل به من أشعتها. فإذا أراد الله تعالى موت أحدٍ أفسد الجسدَ عن قبول الانتفاع بالروح، وإذا شرع الجسد في الفساد نشأ من ذلك المرضُ والنزاع، فإذا تمّ فسادُه فارقَتْه الروحُ ولايزال
(1)
البخاري (6320)، ومسلم (2714).
لها اتصالٌ به، ولكن لا ينفعه ذلك بعد تمام فساده. فإذا أراد الله تعالى حياةَ ميتٍ أصلح جسدَه، فيصير قابلًا للانتفاع، فتُرَدُّ عليه روحُه.
[191]
والخلاف في هذا متشعّب، والذي أختارُه الوقفَ، وردّ العلم إلى الله تعالى، ولا سيما وهذا البحث متعلِّق بشؤون الروح، وقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].
ولا دلالة فيما هو معروف في هذه الأعصار من التنويم المغناطيسي، وهو كما أخبرني بعضُهم: أن بعض السّحَرة يتسلّط على شخص يكون عنده حتى ينوّمه، ثم يقول: اذهب إلى محلّ كذا فانظر ما ثمّ هناك، ثم يصبر قليلًا فيتكلَّم النائمُ ويقول: هناك كذا وكذا إلخ= لاحتمال أن يكون الذاهب إلى ذلك المحلّ هو شيطان من الشياطين، ثم يرجع فيتكلّم على لسان النائم كما يتكلّم الشيطان على لسان المصروع. والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. أعاذنا الله منه، وحفظنا من نزغاته.
وقِس على هذا ما لعلّك تسمع به من أنواع السحر في التنويم المغناطيسي وغيره، كتحضير الأرواح والاجتماع لها، كما هو معروف في أخبار الصوفية، وقد شاع الآن في الرياضيين من النصارى وغيرهم، ولا يبعد أن يكون الحاضر إليهم هو قرين صاحب الروح؛ إذ مع كل إنسان قرين من الشياطين كما هو ثابت في «الصحيح»
(1)
وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى
(2)
.
(1)
كما في حديث ابن مسعود في «صحيح مسلم» (2814): «ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِل به قرينه من الجن
…
» الحديث. في أحاديث أخرى.
(2)
(ص 425).
نعم، لو سُلِّم أن الروح تفارق الجسد في النوم وفي التنويم المغناطيسي وتذهب حتى تشاهد بعض الأشياء بحقائقها، فهذا لا يكون من الإظهار على الغيب، أما أوّلًا فلأنه ليس من الغيب بالنسبة إلى الروح. وأما ثانيًا فلأنه لا يحصل اليقين بأنها شاهَدَتْ ذلك الشيء حقيقةً؛ لاحتمال أن يكون اعترَضَها بعضُ الشياطين فخيّل لها.
والوجه الأول متعيّن في رؤيانا لذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا سلّمنا أنها قد تكون برؤية أرواحنا لروحه الشريفة مباشرةً، أي لا لمثالها فقط. والله أعلم.
والروح في التنويم المغناطيسي كهي في النوم معرّضةٌ لتلاعب الشيطان بخلاف الإنسان في يقظته، فإنه محجوب عن الشياطين غالبًا، وإنما قلنا: غالبًا؛ لأنه قد يقع تصوّرهم له، ففي «صحيح مسلم»
(1)
عن ابن مسعود قال: إن الشيطان ليتمثَّل في صورة الرجل، فيأتي القومَ فيحدّثهم بالحديث من الكذب، فيتفرّقون فيقول الرجل منهم: سمعتُ رجلًا أعرفُ وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث.
[192]
وفي «صحيح البخاري»
(2)
عن أبي هريرة قال: «وكَلَني رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلتُ: لأرفعنّك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: إني محتاج وعَلَيَّ عِيال ولي حاجة شديدة، قال: فخلّيتُ عنه،
(1)
(7).
(2)
(2311).
فأصبحتُ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«يا أبا هريرة ما فعل أسيرُكَ البارحة؟ » قلت: يا رسول الله شكا حاجةً شديدةً وعيالًا، فرحمتُه فخلّيتُ سبيلَه، قال:«أما إنه قد كذَبَك وسيعود .. » الحديث. فذكر أنه عاد الليلة الثانية والليلة الثالثة، وقال له في الثالثة: دعني أعلّمك كلمات ينفعك الله بها، إذا أويتَ إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية، فإنك لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنّك شيطان حتى تصبح، قال: فخلّيتُ سبيلَه، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«ما فعل أسيرك البارحة؟ » قلت: زعم أنه يعلمني كلماتٍ ينفعني الله بها، [فخلّيتُ سبيلَه]، قال:«أمَا إنّه قد صَدَقك وهو كذوب. تعلمُ مَن تخاطب منذ ثلاث ليال؟ » قلت: لا، قال:«ذاك شيطان» .
ووقفتُ في اليمن في بعض كتب الزيدية على قصّة: أنه بعد أن توفي الإمام القاسم
(1)
ــ مؤسس الدولة القاسمية في اليمن ــ بمُدّة، خرج فقيهٌ من أصحابه فإذا هو بالإمام القاسم بعينه لا يشكّ فيه، ثم ذهب في البريّة وهو يراه في حالة اليقظة. وذلك الفقيه عاقلٌ لم يُجرّب عليه كذب، ولا عُرف في عقله شيء، فذهب وأخبر علماء الزيدية حينئذٍ، فأجابوا بأن ذلك شيطان تصوّر بصورة الإمام.
والذي يظهر أن الله تعالى مانع الشياطين من التمثل بمثال الأحياء المعيّنين لئلّا تفسد المصالح، فأما التمثُّل بمثال إنسان مجهول كما في الحديثين، أو ميّت كما في القصة، فمن الممكن، إلّا النبي صلى الله عليه
(1)
هو القاسم بن محمد بن علي بن محمد المنصور بالله، من أئمة الزيدية (ت 1029). ترجمته في «البدر الطالع»:(2/ 47 - 51)، و «الأعلام»:(5/ 182).
وآله وسلم فإنه معصوم مِن تمثّل الشيطان به، ومثلُه في ذلك جميع الأنبياء. والله أعلم.
[193]
ومما يَستدلُّ به أهل الأرض على بعض الغيب من القسم الأول ولا يُحصِّل إلا الظن: التحديث.
ففي «الصحيحين»
(1)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ولقد كان فيما قبلكم من الأمم محدَّثون، فإن يك في أمتي أحدٌ فإنه عمر» .
والمحدَّث هو الذي يُلقي المَلكُ في رُوعه بعض الخواطر، فيحصل له بذلك ظنُّ وقوع ذلك. وهذه الخواطر قد تكون من المَلَك، وقد تكون من الشيطان، ولكن المحدَّث يغلب في خواطره كونها من المَلَك، فتكون غالب ظنونه صادقة، ومع ذلك فهو لا يرتقي عن الظن في شيء من ذلك، أما في نفسه، فلأنَّه لا يزال عنده احتمال ما يخالف ذلك، وأما بالتجربة، فلأنّه لا يطّرِد الصدق، ولا يزال هناك احتمال أن يكون الخاطر من الشيطان؛ ولهذا لم يكن الصحابةُ يتخذون ظنَّ عمرَ حجةً ولا هو نفسُه، وقد ثبت تردّدُه في أشياء كثيرة، وخطؤه في مواضع:
منها: قوله حين توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قال
(2)
.
ومنها: نهيه الناسَ عن التغالي في الصَداق ووعيده لمن زاد على خمسمائة
(1)
البخاري (3669 و 3689) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ومسلم (2398) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
يعني قول عمر رضي الله عنه: «والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم» كما في «صحيح البخاري» (3667).
درهم ــ فيما أظن ــ حتى ذكّرته إحدى المسلمات بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20]، فقال: أصابت امرأةٌ وأخطأ عمر
(1)
.
ومنها: ما مرّ في الرسالة الأولى في كلام الشافعي رحمه الله
(2)
.
ومنها: نسيانه لقصّته مع عمّار في التيمّم، فذكّره عمار فلم يذكر
(3)
.
وإذا كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم جائزٌ عليه النسيان والخطأ في الاجتهاد فما بالك بغيره؟ إلا أنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يُقرّ على الخطأ كما هو مقرَّر في أصول الفقه، وقد سبق ما يتعلّق به
(4)
. ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتخذ مجرَّد خاطرٍ يخطر له حجّةً، بل إذا اجتهد استند إلى دليل من كتاب الله تعالى أو مما سَبَق من الوحي.
وقد سَبَق
(5)
حديث مسلم عن رافع بن خديج في تأبير النخل، وهو صريح في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظن النخل كبقيّة الشجر لا تحتاج إلى لقاح، فأخبرهم بأنه يظن ذلك قائلًا: «لعلكم
…
» إلخ، ولم يأمرهم بتركه، وإنما تركوه من جهة أنفسهم، فلما نقصت وأخبروه قال لهم:
(1)
القصة أخرجها عبد الرزاق (6/ 180) من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن عمر رضي الله عنه، وأخرجها سعيد بن منصور:(1/ 166)، ومن طريقه البيهقي في «الكبرى»:(7/ 233) من طريق مجالد عن الشعبي عن عمر. قال البيهقي: هذا منقطع.
(2)
(ص 100 - 101، 113).
(3)
أخرجه البخاري (338)، ومسلم (368).
(4)
لم نره فيما سبق.
(5)
لم نره فيما سبق، وسيأتي (ص 387) مع تخريجه.
«إنما أنا بشر
…
» إلخ.
والحاصل أن المَلك قد يتلقَّى الخبرَ من السماء بالصفة المذكورة آنفًا، أو يكون في الأرض فيخبره بعض الملائكة النازلين في السماء، فيذهب فيُلقي خاطرها في قلب المؤمن إلى آخر ما تقدّم.
[194]
والتحديث أضعف من الرؤيا الصادقة، ولذلك استثناها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله:«لم يبق من النبوة إلا المبشّرات»
(1)
ولم يستثنه. وسبب ذلك ــ والله أعلم ــ أن الرؤيا الصادقة قريبة من المشاهدة لما فيها من قوة الإدراك بخلاف التحديث.
ومما يستدلّ به أهل الأرض على بعض الغيب من القسم الأول، ولا يحصِّل إلا الظن الضعيف: الكهانة.
قال الله سبحانه وتعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 221 - 223].
وقد مرّ حديث مسلم عن ابن عباس، ويفسِّره حديث البخاري
(2)
عن أبي هريرة أن نبيَّ الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا قضى الله الأمرَ في السماء ضربت الملائكةُ بأجنحتها خَضَعانًا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحقَّ، وهو العليّ الكبير، فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا بعضه فوق
(1)
أخرجه البخاري (6990) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
(4800). أما حديث مسلم (2229) عن ابن عباس فلم يتقدم فيما وقفنا عليه من الرسالة.
بعض ــ ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدَّد بين أصابعه ــ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى مَن تحته، ثم يلقيها الآخر إلى مَن تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهابُ قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مئة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا، فيُصدَّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء».
وفي «الصحيحين»
(1)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل أناسٌ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكُهَّان؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنهم ليسوا بشيء» ، قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدِّثون أحيانًا بالشيء يكون حقًّا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنّي فيقرّها في أذن وليه قرَّ الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة» .
فإن قلت: قد قررتم سابقًا
(2)
أنّ إخبار المَلك للبشر بالغيب من الإظهار على الغيب، وقرَّرتم أنه خاصّ بالرُّسُل، فما تقولون في سماع الجني لكلام الملائكة بالغيب؟
فالجواب: أننا قرّرنا فيما قرّرناه أن سماع بعضِ الملائكة من بعضٍ ليس من الإظهار على الغيب، بل هو كسماع عامة البشر من الأنبياء، بخلاف سماع البشر لخبر الغيب من الملائكة مع القَطْع بكونهم ملائكة، فإنه من الإظهار على الغيب الخاص بالأنبياء.
وبقي الجنّ لم نبيِّن حكمهم فيما سبق، فقد يقال: إنهم أولى من عامّة
(1)
البخاري (6213)، ومسلم (2228).
(2)
(ص 324).
الإنس بعدم تلقّي الغيب من الملائكة؛ لأن الإنس أشرف منهم. وقد يُقَال بخلاف ذلك [195] بحُجّة أنهم من حيث الخِلْقة أقرب إلى الملائكة، فإنهم يرون الملائكة بدليل قوله تعالى:{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} الآية [الأنفال: 48]، والملائكة يرونهم فلا يبعد أن يكون سماعهم لكلام الملائكة مما جرت به عادتهم، بل هذه الأحاديث حجة في كونهم يسمعون كلام الملائكة على مقتضى العادة والخِلْقة؛ فإن فيها أنهم يسمعون كلام الملائكة في السماء الدنيا، ونحن معشر البشر لا نسمع كلام الملائكة إلا إذا تمثلوا (لنا)، ومع هذا فقد دلّت الآيات والأحاديث على أن الله تعالى لا يمكِّنهم من سماع كلام الملائكة في السماء الدنيا، قال تعالى:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 210 - 212]. وقال تعالى: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 8 - 10]. إلا أنهم قد يسمعون الكلمة الواحدة، أي: بدون تمام المعنى، فيتخرّصون هم وأولياؤهم في المعنى المراد بها، ويركّبون من ذلك كلامًا طويلًا، والغالبُ كذبُه، وقد يوافق على سبيل الاتفاق.
وإذا كَذَب وحَدَث حادثٌ يتعلّق بتلك الكلمة يخالف إخبار الكاهن تأوّل الناسُ خبره الأول بأنه رمز وإشارة إلى هذا الحادث وصدّقوه!
والحاصل أنّ الجنّي إنما يسمع من الملائكة كلمة أو كلمتين لا يتمّ بهما
المعنى، فيتخرّص هو ووليُّه لتكميل المعنى، والغيبُ إنما هو المعنى التامّ لا الكلمة أو الكلمتين التي تتعلّق به من دون وفائها به، كما يُشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم لابن صيّاد:«قد خبَأْتُ لك خبيئًا فما هو؟ » وكان خبأ له قولَه تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10]، فقال ابن صياد: هو الدُّخ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«اخسأ فلن تعدوَ قدرَك»
(1)
. مع أن هذا [إنما] يتعلق بالقسم الثاني [من أقسام العلم بالغيب]
(2)
. وبهذا لم يصدق على ذلك الجني أنه تلقى عن الملائكة خبرًا من أخبار الغيب.
ولو سلَّمنا جَدَلًا أنه قد يتلقَّى خبرًا تامًّا في النادر لَمَا كان مِنْ عِلْم الغيب، فإن الملائكة ليسوا غيبًا عن الجنّ، فإنهم يرونهم ويسمعون منهم بحسب خِلْقتهم، فلا يكون سماعهم لكلامهم بالغيب إظهارًا على الغيب كما في سماع عامة الملائكة لكلام الرسل منهم، فإن رُسُل الملائكة ليسوا غيبًا بالنسبة إلى الملائكة، وكما في سماع عامة الإنس لكلام رسلهم، فإن رسل الإنس ليسوا غيبًا بالنسبة إلى عامة الإنس، وكما في سماع الجن كلام الإنس، فإن الإنس ليسوا غيبًا بالنسبة إلى الجن [196] وكما في سماع الإنس لكلام الجن إذا تمثَّلوا بصورهم، وكما في سماع الإنس لكلام الملائكة إذا تمثَّلوا بهم.
ولكن هذا الأخير لا يمكن بواسطته الاطلاع على الغيب [لأن] الملائكة لا تخبر غير الرسل بالغيب إلا بالتمثيل في الرؤيا والتحديث في القلب، بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«لم يبق من النبوّة إلا المبشرات» قالوا:
(1)
أخرجه البخاري (1354)، ومسلم (2924) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
ما بين المعكوفات غير واضح في الأصل فلعله ما أثبت.
وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصادقة
…
». ومرّ سابقًا
(1)
أن هذا لا ينافي حديث التحديث؛ لأن التحديث أضعف من الرؤيا فلم يَسْتَثْنِه.
فأما مشافهة الملائكة للإنسان بالغيب يقظةً فإنه أقوى من الرؤيا، فالحديث المذكور دليل على عدمه أيضًا، فإن وقع لأحدٍ غير الأنبياء شيءٌ مما يشبه ذلك فليحذر، فإنما المخاطِبُ له شيطان. والله أعلم.
وذلك أن الرائي لا يثق بكون الشخص المتمثِّل له ملكًا إلا أن يكون الرائي نبيًّا، فإن الله يسلك من بين يديه ومن خلفه رَصدًا، ويعصمه من تلبيس الشياطين عليه.
وأما غير النبي فالظاهر إذا تمثَّل له شخصٌ على أنه مَلَك وخاطبه بالغيب، فهو شيطان كما مرّ دفع هذا
(2)
، فالأولى إطلاق الجواب الأول، وهو أنَّ الجنّ لا يُمَكَّنون من استيفاء خبرٍ تامٍّ عن الملائكة. وهكذا يقال في سماعهم لخبر الملائكة في الأرض: إن الله عز وجل لا يُمكِّنهم منه إلّا ما كان من كلمة أو كلمتين، وذلك أن الملائكة إذا أرادوا أن يتكلّموا في الأرض بدأوا بطرد الشياطين حتى لا تسمع كلامهم أو غير ذلك مما لا نعلمه، والله على كل شيء قدير.
(3)
وكما أن الجني قد يتلقَّى تلك الكلمة باختطاف السمع من السماء فقد يتلقّاها باختطاف السمع من الملائكة في الأرض كما مرّ، وقد يتلقّاها
(1)
(ص 343).
(2)
(ص 345).
(3)
كتب المؤلف قبلها «رجع» يعني رجوعه إلى أصل البحث بعد الاستطراد.
من شيطانٍ آخر كما مرَّ في حديث البخاري
(1)
، وقد يتلقاها من كاهن أو منجِّم، أو طارق من الجنّ أو الإنس، وكل هذا إنما يكون في الكلمة التي لا تُفْهِم معنًى تامًّا، وإنما يقعُ التخرُّص من الجن وأوليائهم. والتخرُّصُ أكْذَب الظن. فليس في ذلك رائحة من الإظهار على الغيب. والله أعلم.
وقد يتلقّى الجنيُّ الخبرَ التامَّ من القسم الأول من الغيب عن الإنس، بعد أن يصل إلى الإنسيّ بإحدى الطرق السابقة، والجنّي حينئذٍ كأحد عامة الإنس، فما أمْكَنَ أن يسمعه أحدُ عامة الإنس أمكن أن يسمعه الجنيُّ، فيحصل للجني العلمُ بسماع النبي من الإنس، وبسماع عدد التواتر منهم، وبقراءته لذلك الخبر في كتاب الله تعالى، ويحصل له الظن في غير ذلك، والتفصيل لا يخفى، ثم يتلقى الجنُّ بعضُهم عن بعض، وقد ينقل بعضُهم ذلك الخبر إلى بعض الإنس، وهلمّ جرًّا، والله أعلم.
* * * *
[197]
ومما يستدلّ به أهلُ الأرض على بعض الغيب من القسم الأول، ولا يحصِّل إلا الظنَّ الضعيف: النظر في النجوم.
وذلك أن بعض الناس يرصد هذه الكواكب وأوقات طلوعها وغروبها واقترانها ومقادير سيرها، ويحكمون على بعضها بالسعادة وبعضها بالنحس، وينسبون لكلِّ كوكب محلًّا مخصوصًا من الأرض والأيام والساعات والمعادن والأعضاء والحروف والأحوال، كالحرب والنصر والهزيمة، والغنى والفقر، والزواج والفراق، والرُّخص والغَلاء، وغير ذلك. ويسندون
(1)
تقدم (ص 343 - 344).
ذلك للتجربة أو لمناسباتٍ وهمية، ويربطون ذلك باسم السائل واسم أمه والوقت الذي ولد فيه، إلى غير ذلك.
ثم منهم مَن يزعم أن هذه الكواكب هي المدبِّرة للعالم، فكلّ جوهر أو عَرَض في الأرض مربوط بالكواكب، ويزعمون لها الحياة والعلم وغير ذلك من الصفات، وهؤلاء قسمان:
قسم ينكر وجود الخالق جلّ وعلا، ويزعم أن هذه الكواكب هي المدبِّرة بمشيئتها، وهذا من أفحش أنواع الكفر، والعياذ بالله.
والثاني: يعترف بوجود الخالق جلّ وعلا، ويزعمون أن هذه الكواكب مدبِّرة للعالم بإذنه تعالى، أي يجعلون لها قدرةً كقدرة الإنسان على ما يَقْدِر عليه من الأفعال. ومنهم مَن لا يعتقد للكواكب تدبيرًا ولا تصرفًا ولكنه يزعم أن الله تعالى أجرى العادةَ بوقوع الحوادث الأرضية على قاعدةٍ نسبية بينها وبين الكواكب. فإذا جاء السائل ــ مثلًا ــ في ساعة كذا من يوم كذا في إقليم كذا، وسأل عن كذا، وكان كوكب كذا في برج كذا، وكوكب كذا في برج كذا، وكان اسم السائل كذا واسمه أمه كذا ومولده كذا= فإنّ جوابه كذا. فيقولون: أجرى الله تعالى العادةَ أنه إذا اتفقت هذه الأشياء على هذه الكيفية كان ما أجابوا به.
ولا نُطيل الكلامَ في هذا، فإن العاقل إذا تأمّل ما ذكروه من المناسبات علم أنها أمور خرافية! وإذا بحث في التاريخ عَلِم أن ما يدّعونه من التجربة وجَرَيان العادة باطل، وعَلِم أن الغالب في كلامهم الكذب [198] وإن فُرِض أنَّ كلامَ بعضهم صدق في واقعةٍ، فهي بالنسبة إلى الوقائع التي أُخْلِف قوله فيها كَلَا شيء. ولو أنّ إنسانًا جعل يحكي وقائع ستقع على سبيل الكذب
بدون نظرٍ في نجوم أو غيرها= لَمَا بَعُد أن يتفق وقوع بعض ما ذكره على سبيل الاتفاق و «مع الخواطئ سهم صائب»
(1)
!
وقد أثبت أهل الأرصاد في هذه الأعصار اكتشافَ كواكبَ لم تُعْرَف من قبل، وأنه لا يزال يتجدَّد لهم الاكتشاف، بما يُعلَم معه أن ثَمَّ كواكب لا تزال مجهولة.
فيقال للمنجّمين: إن هذه الكواكب التي اكتُشفت حديثًا وبعضها أكبر من الشمس ــ فيما يقول أهلُ الأرصاد ــ ما هو حكمها؟ والكواكبُ التي لا تزال مجهولة ما يدريكم ما حكمها؟ فقد يكون بعضها ــ على ما تزعمون ــ كونه نحسًا، فإذا اقْتَرَن بالسَّعْد قَلَبه نحسًا. وعلى هذا فربّما حكمتم بالسعد على ما نظرتم في الكواكب، ويكون هناك كوكب من المجهولة مقترنًا بها!
والحاصل أن النظر في النجوم من أكذب الظن ولا يحصل به إلّا مجرد الاحتمال، وقد رُوي عن قتادة قال: خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، فمَن تأوّل فيها بغير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلَّف ما لا يعنيه، وما لا علم له به، وما عَجَز عن علمه الأنبياء والملائكة
(2)
.
(1)
انظر «فصل المقال» (ص 43)، و «مجمع الأمثال»:(3/ 273).
(2)
أثر قتادة أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب في النجوم، معلّقًا مجزومًا به، ووصله ابنُ جرير في «تفسيره»:(14/ 193)، وابن أبي حاتم:(9/ 2913) وغيرهما، وفي ألفاظها اختلاف وزيادات، والنص الذي ذكره المؤلف نقله من «روح المعاني»:(27/ 3)، وقد عزا الآلوسي لفظ «ما لا علم .... » إلى رزين. وانظر «جامع الأصول»:(4/ 29).