الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[118]
المقام الثاني
في تصرُّف بعض بني آدم في الكون
لا يخفاك أن تصرّف الآدمي في الكون على قسمين:
الأول: ما جرت به العادة، وهذا ثابت للأحياء بلا شك.
الثاني: ما لم تجرِ به العادة، وهذا قد [يكون] معجزةً لنبيّ أو كرامةً لوليّ. غير أنه إنما يكون في أشياء مخصوصة بحسب ما يتفق مع الحكمة الربانية، قال تعالى
(1)
وقال تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49].
والذي شاء الله تعالى أن يُمَلِّكه النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم هو ما يدخل تحت قدرة البشر، وأما فوق ذلك فإنه كان يملك الدعاء به في الدنيا، وقد يملك شيئًا منه على سبيل خَرْق العادة، كَنَظَره إلى الحوض وهو على المنبر. وسيملّكه الله تعالى الشفاعة في الآخرة كما تدلُّ عليه أحاديث الشفاعة
(2)
.
(1)
ترك المؤلف باقي الصفحة [118] بياضًا، وكتب الآيات وباقي الكلام في ورقة أخرى أعطيت رقم [127].
(2)
منها ما أخرجه البخاري (3340)، ومسلم (194) عن أبي هريرة، وما أخرجه البخاري (7510)، ومسلم (193) عن أنس رضي الله عنهما.
وإذا كان هذا حاله صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيِّد الخلق فما بالك بغيره؟
وفي «صحيح مسلم»
(1)
عن رافع بن خَديج قال: قَدِم نبيُّ الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وهم يؤبِّرون النخلَ، فقال:«ما تصنعون؟» قالوا: كنا نصنعه، قال:«لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا» فتركوه، فنقصت قال: فذكروا ذلك له، فقال:«إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر» .
[126]
ثم إنه من المعلوم ضرورةً من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن هو المتصرّف في الكون في حياته. وقد سُقتُ الأدلة على عدم علمه الغيب
(2)
إلا أنّ الله تعالى يطلعه على وقائع مخصوصة،
(1)
(2362).
(2)
(ص 316 وما بعدها).
وهذا يستلزم أنه لم يكن المتصرِّف في الكون؛ لأن التصرُّف يتوقّف على العلم، ولو كان صلى الله عليه وآله وسلم هو المتصرّف لكانت دعوتُه إلى الله تعالى وجهادُه ونَصَبُه وتعبُه وابتهالُه إلى الله تعالى بالدعاء ونحو ذلك عَبَثًا!
وإذا كان المعتزلةُ وغيرُهم لم يسلِّموا أن الله تعالى هو الذي يخلق أفعالَ العباد حين فِعْلِها لما يلزم على ذلك من جَعْل إنزال الكتب وإرسال الرسل عبثًا لغير حكمة، ففي مسألتنا أولى؛ لأن غاية ما أجاب به الأشعريةُ قولهم: إن الله تعالى لا يُسأل عما يفعل، وهذا الجواب لا يتأتّى في مسألتنا، فإن الآدميّ مكلّف على كلّ حال، وإذا كانت الأشعريةُ نفت نِسبة الأفعال إلى فاعلها المحسوس إلّا مجازًا، فما بالك بنسبة الفعل إلى مخلوق آخر غير فاعله المحسوس؟!
وأما قصة الخَضِر فليس فيها ما يُسْتغرب أصلًا؛ أمّا خَرْق السفينة فإن مثله في شرعنا يجوز للإنسان في مال موليّه. وأما قَتْل الغلام فإن مثله كان جائزًا في شريعة الخَضِر، بل رُوي عن ابن عبّاس
(1)
ما يدلّ أن مثله جائز في شَرْعِنا لولا أن شرطه ــ وهو العلم بأنه لو عاش لأرهق أبويه طُغيانًا وكفرًا ــ محال؛ إذ لا يُعلَم ذلك إلّا بإعلام الله تعالى، وقياسُ قول مَن يقول بالمصالح المرسلة لا يأباه. وأما إقامة الجدار فليس فيها شيء.
(1)
أخرجه مسلم (1812) في كتاب ابن عباس رضي الله عنهما إلى نجدة الحروري، وفيه:«وكتبتَ تسألني عن قتل الولدان، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتلهم وأنت فلا تقتلهم، إلا أن تعلم منهم ما علم صاحبُ موسى من الغلام الذي قتله .. » .
فإن قيل: فلماذا أنكرها الكليمُ عليه السلام؟
فالجواب: أنه لم يكن مطَّلعًا على السبب، وما مثله إلا مثل مَن يَعْمِد إلى رجلٍ معروف بالفضل فيقتله؛ لأنه يعلم أنه قَتَل أباه مثلًا، فإنّ كلَّ من رآه أو علم بأنه قتل هذا الفاضل ولم يعلم السبب ينكر عليه ويُشنّع ويستعظم هذا الفعل، مع أنه في الحقيقة حق، ولو اطلع على سببه لم ينكره.
وقد جاء في الحديث ــ ما معناه ــ أنّ رجلًا صلى الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قام يركع، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:«آلصبح أربعًا؟» فقال: يا رسول الله، إني لم أصلّ الركعتين قبل الصبح، فهما هاتان. فأقرّه على ذلك
(1)
. وفي معنى هذا كثير.
[124]
وانظر كيف أنكر موسى على الخضر ما ظنَّه منكرًا، وقال له أولًا:{أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71]. فنَسَب إليه أنه خرقها ليغرق أهلها، مع أن الواقع أن الخضر لم يخرقها ليُغرق أهلها وإنما خرقها لينفعهم، ولكن لما كان الظاهر أنه إنما خرقها ليغرق أهلها لم يتحاشَ موسى عليه السلام في نِسبته إليه بالاستفهام الإنكاري.
(1)
أخرجه أحمد (24161)، وأبو داود (1267)، والترمذي (422)، وابن ماجه (1154)، وابن خزيمة (1116). من حديث محمد بن إبراهيم عن قيس بن عمرو الأنصاري. قال الترمذي: «حديث محمد بن إبراهيم لا نعرفه مثل هذا إلا من حديث سعد بن سعيد. وقال سفيان بن عيينة: سمع عطاء بن أبي رباح من سعد بن سعيد هذا الحديث، وإنما يروى هذا الحديث مرسلا
…
وإسناد هذا الحديث ليس بمتصل، محمد بن إبراهيم التيمي لم يسمع من قيس». وضعفه النووي في شرح المهذب، وحسنه ابن القطان، وقواه ابن الملقن. انظر «البدر المنير»:(3/ 263 - 269).
ثم عقَّبه بقوله: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} أي: عظيمًا شنيعًا. فلم يمنعه عليه السلام علمه بفضل الخضر وعلمه بالوحي من الله تعالى، وإعلامه أنه سيرى منه ما ظاهره منكر، وشرطه عليه أن لا يسأله عن شيءٍ من ذلك= لم يمنعه هذا كلُّه وغيرُه أن ينكر عليه ما ظنَّه منكرًا، ولم يقل:«لعل لها عذرًا وأنت تلوم»
(1)
.
ثم أكّد عليه الخضر الشرطَ وأعْلَمه أن ذلك لأمرٍ ما من الأمور التي نبَّهه عليها، فلم يمنعه ذلك أن يُعاود الإنكار لمّا عاود الخضر مثل ذلك الفعل بقتل الغلام.
وقد يقال: إن قوله أولًا: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} استفهام على أصله، وقوله:{لَقَدْ جِئْتَ} إلخ أي: إن كان الأمر كذلك.
ولكن يَرِدُ عليه أنه لا يتأتَّى مثل هذا في قضية الغلام، فتأمل.
وقد علمتَ أن دلائل الكتاب والسنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عامة مطلقة، وقد كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يرمي بعضًا منهم بالنفاق إذا فلت منه عمل يُشبه عمل المنافقين، وقد تكرّر ذلك من عمر ابن الخطّاب رضي الله عنه بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينكره
(1)
صدر بيت لمنصور النمري، انظر «الزهرة»:(1/)، و «التمثيل والمحاضرة» (ص)، وهو بلا نسبة في أكثر نسخ «البيان والتبين»:(2/ 363)، و «البصائر والذخائر»:(9/ 153). وعجزه:
* وكم لائم قد لام وهو مليم *
عليه، وإنما بيّن له خطأه، كما في قصة حاطب وغيرها
(1)
.
ثم إن الواجب على المنكَرِ عليه أن يُبيّن عذرَه كما فعله الخَضِر. وقد ثبت في الحديث أنّ أم المؤمنين صفية زارت رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو معتكف في المسجد فقام معها يُشيّعها، وإذا برجلين مارّين، فناداهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «على رِسْلِكما إنما هي صفية بنت حُيي
…
»
(2)
الحديث.
ولم يزل الصحابةُ يُنكر بعضُهم على بعض والأئمة مِن بعدهم، [125] مع أن قصة الخضر إنما هي في أشياء مخصوصة، وأين هي من دعوى بعضهم التصرّف في جميع الكون حتى لا تتحرك ذرّة إلا
…
(3)
؟
ثم إن دعوى بعضهم التصرّف في أحوال الكون كلها خيرها وشرّها يستلزم ارتفاع التكليف؛ لأن أكثر أحوال الكون جارية على خلاف الشريعة، وهذا كله خرافات لا ينبغي لعاقل الالتفات إليها ولا الاشتغال بها لولا الضرورة الملجئة إلى ذلك، وإلى الله المشتكَى!
وأما الموتى فالأمر في حقهم أوضح، ومَن تأمل أدلّة العقل والنقل وجدَها صريحةً في إبطال ما يدّعيه بعضُ الناس لبعض الصالحين مِن التصرّف في الكون، وإنما غرّهم أمور:
(1)
أخرجه البخاري (3077)، ومسلم (2494) من حديث علي رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (2038)، ومسلم (2175) من حديث صفية رضي الله عنها.
(3)
بياض بقدر كلمة. ولعلها «بعلمه أو بأمره» .
أولها
(1)
: أن كثيرًا من الناس يلبس ثياب الزور، بانتحال الفضل والصلاح، ويتزَهَّد ويتقشّف ويتورّع= يتذرّع بذلك إلى اعتقاد الناس فيه، وإقبالهم عليه، وتعظيمهم له. وقد يستعين بما يحسنه من شعبذة ومخرقة واستعانة بالشياطين وغير ذلك.
وقد يكون الشيخ في نفسه صالحًا، ولكن يُبتلى بأصحاب سوء يحاولون أن يأكلوا به الدنيا، فهم لا يألون جهدًا في التقوّل عليه ولاسيَّما إذا مات؛ فإن أولاده وأتباعه يعرفون أنه بموته أدبرت عنهم الدنيا، فيسعون في حفظها بالأكاذيب والخُرَافات والإشاعات الباطلة، وربما ساعدتهم الشياطين لإضلال الخلق، كما كانت تفعل في الجاهلية عند الأصنام والأبداد، وكما روي مِن فعلها مع الأسود العنسي، وكما يقع من فعلها مع الدجّال.
[122]
ولا يخلو حالهم عن أحد أربعة أمور:
الأول: أن يكونوا من أهل الزيغ والإلحاد، تستّروا باسم التصوّف وإظهار الزهد والتقشّف؛ ليكيدوا الإسلام والمسلمين. وهذا هو الذي يقطع به كثيرٌ من أجلّة العلماء، بحجَّة أن جميع المذاهب التي جاء بها هؤلاء القوم هي مذاهب معروفة عن الأمم الزائغة من قدماء اليونانيين الفلاسفة وغيرهم، وكذلك العادات هي عادات أولئك، والأحوال أحوالهم، والأقوال أقوالهم. ومَن راجع كتب المقالات وعَرَف أقوالَ الفلاسفة وغيرهم من الطوائف الكفرية لم يستبعد هذا.
(1)
لم يذكر المؤلف غيره، إلا أن يكون قوله: «وقد يكون الشيخ
…
» هو الأمر الثاني ..
الثاني: أن يكونوا أناسًا من أهل الإسلام، ولكن تلاعَب بهم الشيطان، فصوّر، وزوَّر، وخيَّل، وهوّل؛ فأراهم الحق باطلًا والباطل حقًّا.
الثالث: أن يكونوا من أهل الخير والفضل والصلاح، ولكنهم أرادوا أن يتكلّموا بتلك الكلمات التي ظاهرها كفر وجحود وإلحاد في الدين استدعاءً لتكفير الناس لهم وذمّهم إياهم؛ ليكتسبوا بذلك كسرَ نفوسهم، والأجرَ باعتداءِ الناسِ عليهم. ولهم مثل ذلك حكايات ثابتة في كتبهم؛ كذلك الرجلِ الذي دخل بلادًا، فاعتقد أهلُها فيه، وأجلّوه وعظّموه، فَكِره ذلك، فاختار أن يذهب إلى الحمّام فيأخذ ثياب الناس منه ويخرج بها ليعتقدوا أنه سارق، فيضربوه ويشتموه ويسيئوا الظنَّ به، فكان ذلك.
الرابع: أن يكون لهم في كلامهم مرادات صحيحة، ولكنهم عمَّوها على الناس، فجعلوه من قبيل الإلغاز، كما هو شائع في كلامهم، كقول بعضهم:«إن الله لا يعلم الغيبَ» مستندًا إلى أنه لا غيبَ بالنسبة إلى الله تعالى. وكقول بعضهم: «بذكر الله تزداد الذنوب» . [121] يعني بالذّكر التذكُّر، وأن التذكُّر يستلزم النسيان، كأنه أخذه من قول الشاعر
(1)
:
حلفتُ بالله أني لست أذكره
…
وكيف يذكره مَن ليس ينساه؟
ومثل هذا في كلامهم كثير.
ومَن يحسن الظن بهم يختار هذا الأخير، ولكنه ليس كافيًا في الذبّ عنهم إلا أنه يخفف الأمر.
(1)
هو عبد الصمد بن المعذّل في أبيات له. انظر «عيون الأخبار» (3/ 27)، و «العقد»:(2/ 305). وغير منسوب في عدة مصادر. واختلفت المصادر في مطلعه عما في الأصل.
* حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض
(1)
*
فإنها تبقى عليهم اللائمة من حيث إنهم عرَّضوا أنفسهم للتهمة، وعرّضوا الناس للوقوع في أعراضهم، وأشدّ من ذلك أنهم عرّضوا من يعتقد فيهم إلى الضلال باعتقاد ظواهر تلك الأقوال.
والذي يظهر أنّ كلّ أمرٍ من هذه الأمور يوجد عند طائفة منهم، وقد نشأ بعدهم ناس ليسوا على شيء من ذلك، وإنما اغترّوا بكلام مَن سَبَقهم، فأخذوا يقلّدونه ويمثّلونه ليحرزوا لأنفسهم مثل منازل أولئك في قلوب الناس، ويجتلبوا بها الشهرة والحطام، وهذا فاشٍ في كل جهة.
وإذا طالعتَ كتاب الشَّعْراني الذي سماه «تنبيه المغترّين» علمت كثرةَ هؤلاء المقلدين المتشبّهين في زمانه وقبل زمانه.
والذي ندين الله تعالى به حُسْن الظن بأشخاصهم أنهم لا يعتقدون ما تدلّ عليه مقالاتهم، وإنما قالوها لغرضٍ من الأغراض التي ظنوها حَسَنة، أو كُذِبت عليهم أو غير ذلك.
ولا يمنعنا ذلك من انتقاد كلامهم، وإنكار المنكر منه، والتصريح بما تقتضيه الحال، مِن أنّ اعتقاد المعنى الظاهر منه كفر أو فسق أو خطأ أو جهل، أو سوء أدب، بحسب رُتْبَته في ذلك.
فهذا دين الله تعالى الذي لا سلامة إلا فيه، وننصح لجميع المسلمين بأن يعرضوا عن تلك الكتب والمؤلفات في أخبارهم وأحوالهم.
(1)
عجز بيت لطرفة بن العبد. «ديوانه» (ص 180). وصدره:
*أبا منذرٍ أفنيتَ فاستبقِ بعضنا*
[120]
والقومُ أنفسُهم مصرِّحون أنه قد تلبّس بطريقتهم مَن ليس من أهلها، وإنما قصد بذلك التستّر بجلبابها لإظهار دسائسه وتنفيذ أغراضه. وبذلك يتبين لك أنه إن كان في كلامهم حق فقد التبس بالباطل خصوصًا مع قول بعضهم كالشعراني: إن القوم ابتلوا بأعداء ينسبون إليهم ما لم يقولوه، ويزيدون في كتبهم وينقصون ويحرّفون ويبدّلون ويُغيّرون، وأنه نفسه فُعِل في كتبه ذلك كثيرًا. وبما ذُكِر تصير كتبهم أشبه بالكتب التي بأيدي النصارى واليهود، بل هي أضرّ منها؛ لأن المسلمين جميعًا عارفون بأن كتب النصارى واليهود محرَّفة مبدّلة، وقلوبهم نافرة عنها، ولا كذلك كتب هؤلاء القوم، فافهم.
[123]
وهذه من الشبهات التي رابتِ الناسَ في الصوفية؛ لأن الحق كله معروف واضح، وفي الحديث:«تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها»
(1)
. وإن كان هناك أمور قد تخفى عن الجُهّال، فلن تخفى على العلماء، والعلماء هم العارفون بكتاب الله تعالى وسنة رسوله، وإن لم يكونوا كثيري العبادات والمجاهدات.
وإن سُلِّم أن ثَمَّ أسرارًا غامضة تدِقّ عن فهم غالب الناس إلا مَن اختصه الله تعالى بالولاية، فالواجب كتمان مثل هذه الأمور، فمَن أبدى لنا صفحتَه أنكرنا عليه.
وكثير من المتأخرين ألَّفوا كتبًا فيها كلام يضادّ ظواهر الشريعة كلَّ المضادّة، وسَعوا في إماتة إنكار المنكر، وتحسين تحسين الظنّ بأقصى
(1)
قطعة من حديث العرباض بن سارية: «وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
» وتقدم تخريجه.
جهدهم، فأبدوا فصولًا طويلة في ذمِّ سوء الظن، وجمعوا أقاصيص فيما يلحق المنكِر على أمثالهم من الضرر!
وهب أن مثل ذلك يقع، فإنه محمول على السحر، وقد ثبت في «الصحيحين»
(1)
أن لبيد بن الأعصم اليهودي سَحَر رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان يُخيّل إليه أنه فَعَل الشيء ولم يفعله، أي من أمر دنياه، فأما أمر الدين فإنه معصومٌ فيه قطعًا.
وادّعوا أن لهم اصطلاحات وأذواقًا لا يعرفها غيرهم، وأن لهم شطحات وإطلاقات تجري على ألسنتهم حال الفَناء لا يُراد بها ظاهرها.
والحاصل أنهم بنوا خُطّتهم على نظام محكم، وأعَدّوا لكلِّ شيءٍ عُدَّته قائلين: إن مقالاتنا هذه لا تصادف إلا أحد رجلين؛ رجلًا مغفّلًا يتمسّك بها ويعتقدها، وهذا هو مرادنا. ورجلًا ثابتًا في دينه يعلم أنها منكر، فقد أعددنا له عدّته بما يمنعه عن قصدنا بالشرِّ. ثم لا تزال دعوتنا تفشوا وتشيع في الناس على هذا المنوال. وقد صدّقوا على الناسِ ظنَّهم، فإنه لما شاعت تلك الكتب بين الناس لم تَلْقَ إلا قليلًا من المنكرين، والجمهور على عدم الإنكار، منهم من حَسَّن الظن، ومنهم من خاف المضرّة، ومنهم من افتتن بها فعمل بظاهرها، حتى كان منهم من يدّعي ارتفاع التكليف، ومَن يزعم أن الولي قد يكون أفضل من النبي، إلى غير ذلك مما إن كنت سمعتَ به فقد سمعتَ، وإلا فخيرٌ لك أن لا تسمع.
ولا شك أن أوائل هؤلاء القوم كالجنيد وأصحابِه أئمةُ هدى وصلاح
(1)
البخاري (3268)، ومسلم (2189) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وتقى وعملٍ بدين الله الأعلى، واتباعٍ لسنة نبيّه المصطفى. وجاء بعدهم مَن علمتَ.
[119]
ومع هذا فإننا لا ننفي أن تكون لبعض الصالحين في حال حياتهم كرامات، وإن كثرت بعد القرون الأولى، بخلاف عهد الصحابة وما بعده؛ فإنه قد يُقال: لما كانت كرامات الأولياء تفارق معجزات الأنبياء من حيث إن المعجزات لا تشتبه بالباطل من السِّحْر وغيره بخلاف الكرامات= كانت المصلحة أن لا توجد الكرامات في الصحابة ومَن بعدهم بكثرة، إذ لو وُجدت فيهم بكثرة، وهي مشابهة لما يجري على أيدي السَّحَرة لقالت الأمم: إنْ هؤلاء إلا سَحَرة تعلّموا السحرَ مِن صاحبهم، وإذًا لارتاب المبطلون، ولكن لما رأت الأممُ الصحابةَ مِن أبعد الناس عن السِّحْر وما يُشاكله ويشابهه= علموا أن هذا الدين دين حقٍّ لا ريب فيه.
ولكني مع هذا لا أقول: إن كل ما يدّعيه القصاصون صحيح، كيف وأكثرها حكايات منقطعة عن مجاهيل لا يُدرَى ما حالهم؟ ومنها ما هو محال لا يمكن وقوعُه بحال، وإنما هو من وَضْع بعض أهل الضلال أو المغفّلين الجُهَّال، ومنها ما لم يقع وحكايته كذب محض، ومنها ما هو سِحْر وشعوذة، ومنها ما هو صحيح.
وعلى كل حال فإنه لا يتعلق به حكم من أحكام الإسلام غير حُسْن الظن أو سوئه. وهذا ينبغي وزنُه بميزان الاعتدال، فإن كان الشخصُ ملازمًا للطاعات، عاملًا بالكتاب والسنة، مُعظِّمًا لهما، وذلك أن الأحكام الشرعية ليس لها طريق إلا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بما يدلّان عليه دلالةً معتبرة، من جنس ما كان يستدلّ به الرسولُ صلى الله عليه
وآله وسلم، ثم أصحابه مِن بعده، ثم العلماء المجتهدون، كالأئمة الأربعة وغيرهم= فالظاهر أن الخارقَة الواقعة على يده كرامة فينبغي احترامُه القدرَ المشروع، وسؤالُ الدعاء منه. وإن كان بخلاف ذلك فالأمر بالعكس.
والمراد بأحكام كتاب الله تعالى وسنة رسوله: الأحكامُ الظاهرة منهما، المدلول عليها بإحدى الدلالات المعتبرة في اللسان العربي والشرع المحمدي، فلا عبرة بدعوى فهمٍ غامضٍ من الكتاب أو السنة بدلالةٍ غير معتبرة. نعم، إن كان ما ادّعوا فهمه لا يخالف شيئًا من الظاهر مع تصديقهم بالظاهر فالأمر سهل. والله الموفق لا ربّ غيره.