الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كنبيكم
…
» إلخ، وقد مرّ
(1)
. وذلك أنه اجتمع فيه مع الغرابة في المتن الغرابة في الباب؛ إذ لم يرد في الكتاب والسنة ما يُشعر بما دلّ عليه.
ولما نظرنا في حديث الأعمى وجدناه أشبه شيء بهذا الحديث، وليس في هذا غض ممن صححه أو حسّنه؛ لأن التصحيح والتحسين محمول على الإسناد ونحن لا ننكره. على أننا لم نأت بشيءٍ من عند أنفسنا، وإنما نقلناه عن الأئمة كما عرفت. وكم من حديث صححه أحدُ الأئمة وتعقّبه مَن بعده! وذلك كثير في «الصحيحين» فضلًا عن غيرهما.
نعم، إن ثبتت دعواكم أنه قد ورد في السنة الصحيحة ما يخرج حديث الأعمى عن كونه غريبًا في بابه بَطَل ما أشرنا إليه مِن إعلاله، وسيأتي البحث معكم في ذلك.
وأما حديث السؤال بحقّ السائلين، وتصحيحُ ابن خزيمة له، فابن خزيمة ممن يعبّر عن الحسن بالصحيح كما مرّ وذَكَره السيوطي في «شرح التقريب»
(2)
وغيره، ومع ذلك ففضيل بن مرزوق قد مرّ الكلام عليه، وهذه ترجمته في كتب أسماء الرجال فليراجعها الباحث، وكذلك عطية العوفي.
وأما
حديث «الصحيحين» في قصة الثلاثة أصحاب الغار
، فليس من التوسّل المتعارف في وِرْدٍ ولا صَدَر، [221] وهذا لفظه في «صحيح البخاري»
(3)
: «بينما ثلاثة نفرٍ ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا
(1)
(ص 266).
(2)
(1/ 174).
(3)
(3465).
إلى غار، فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصِّدْق، فليَدْعُ كل رجلٍ منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه
…
» إلخ.
قال في «الفتح»
(1)
: «وفي رواية موسى بن عقبة: «انظروا أعمالًا عملتموها صالحة لله» ومثله لمسلم. وفي رواية الكُشْمِيْهَني: «خالصة ادعوا الله بها» ، ومن طريقه في البيوع:«ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه» ، وفي رواية سالم:«إنه لا ينجيكم إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم» ، وفي حديث أبي هريرة وأنس جميعًا:«فقال بعضهم لبعض: عفا الأثر ووقع الحجر ولا يعلم بمكانكم إلا الله، ادعوا الله بأوثق أعمالكم» ، وفي حديث عليّ عند البزار:«تفكَّروا في أحسن أعمالكم فادعوا الله بها، لعلّ الله يفرج عنكم» ، وفي حديث النعمان بن بشير:«إنكم لن تجدوا شيئًا خيرًا من أن يدعو كلُّ امرئ منكم بخير عملٍ عَمِلَه قطّ» اهـ.
ولفظ دعاء الأول: «اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي
…
» وذَكَر عملَه ثم قال: «فإن كنت تعلم أني فعلتُ ذلك من خشيتك ففرّج عنّا» . وكذا الثاني والثالث.
فأين هذا من قول القائل: «اللهم إني أتوسّل إليك بحقّ صلاتي وصيامي، وأتوجّه إليك بفضلها لديك» ؟ ! فضلًا عن قوله: «اللهم إني أسألك بجاه فلان، وأتوجّه إليك بحقه عليك وفضله لديك» . فإن أهل الغار إنما ذكروا أعمالهم التي أخلصوا فيها لله تعالى؛ استنجازًا لوعده للمخلصين بتفريج كروبهم، وكشف همومهم وغمومهم، ومعنى دعائهم: اللهم إن كنت
(1)
(6/ 507).
تعلم أننا عَمِلنا هذه الأعمال مخلصين لك، فأنْجِزْنا وَعْدَك للمخلصين بتفريج كروبهم، وكشف ما نزل بهم، وإجابة دعائهم.
قال الحافظ في «الفتح»
(1)
: [222] «وفي هذا الحديث استحباب الدعاء في الكرب، والتقرب إلى الله تعالى بذكر صالح العمل، واستنجاز وعده بسؤاله. واستنبط منه بعضُ الفقهاء استحباب ذكر ذلك في الاستسقاء، واستشكله المحبُّ الطبري لما فيه من رؤية العمل، والاحتقارُ عند السؤال في الاستسقاء أولى؛ لأنه مقام التضرُّع. وأجاب عن قصة أصحاب الغار بأنهم لم يستشفعوا بأعمالهم، وإنما سألوا الله تعالى إن كانت أعمالهم خالصةً وقُبِلت، أن يجعل جزاءها الفرجَ عنهم، فتضمّن جوابه تسليم السؤال لكن بهذا القيد، وهو حسن.
وقد تعرّض النوويُّ لهذا فقال في «كتاب الأذكار»
(2)
في باب دعاء الإنسان وتوسّله بصالح عمله إلى الله، وذَكَر هذا الحديث، ونقل عن القاضي حسين وغيره استحباب ذلك في الاستسقاء، ثم قال: وقد يقال: إن فيه نوعًا من ترك الافتقار المطلق، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثنى عليهم بفعلهم، فدلّ على تصويب فعلهم.
وقال السبكيُّ الكبير: ظهر لي أن الضرورة قد تُلجئ إلى تعجيل جزاء بعض الأعمال في الدنيا، وأن هذا منه، ثم ظهر لي أنه ليس في الحديث رؤية عمل بالكلية، لقول كلٍّ منهم: «إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء
(1)
(6/ 509 - 510).
(2)
(ص 398).
وجهك». فلم يعتقد أحدٌ منهم في عمله الإخلاص، بل أحال أمرَه إلى الله، فإذا لم يجزموا بالإخلاص فيه مع كونه أصلح أعمالهم فغيره أولى، فيستفاد منه أن الذي يصلح في مثل هذا أن يعتقد الشخص تقصيره في نفسه ويسيء الظنّ بها، ويبحث على كل واحد من عمله يظن أنه أخلص فيه، فيفوّض أمرَه إلى الله، ويعلّق الدعاءَ على عِلْم الله به، فحينئذٍ يكون إذا دعا راجيًا للإجابة خائفًا من الردّ.
فإن لم يغلب على ظنّه إخلاصُه ولو في عملٍ واحد، [فليقف عند حدِّه]، ويستحيِ أن يسأل بعمل ليس بخالص. قال: وإنما قالوا: ادعوا الله بصالح أعمالكم في أول الأمر، ثم عند الدعاء لم يطلقوا ذلك، ولا قال واحد منهم: أدعوكَ بعملي، وإنما قال: إن كنتَ تعلم ثم ذكر عمله. انتهى ملخّصًا. وكأنه لم يقف على كلام المحبّ الطبري الذي ذكرته فهو السابق إلى التنبيه على ما ذكر، والله أعلم». اهـ.
والحق ما اختاره الحافظ وصدَّر به بقوله: «التقرب إلى الله تعالى بذكر صالح العمل، واستنجاز وعده بسؤاله» . [223] وقول المحبّ الطبري: إنهم لم يستشفعوا بأعمالهم، وإنما سألوا الله إن كانت أعمالهم خالصة وقُبِلت= حقّ لا شك فيه. وأما قوله:«أن يجعل جزاءها الفرج عنهم» ، فكأنه ظهر له ذلك من قولهم:«فلْيدْعُ كلّ رجلٍ منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه» وسائر الروايات موافقة لهذه في إطلاق الدعاء بالعمل، ولكن لا يخفى أن الدعاء إنما يكون حقيقة بالكلام ومِن المحال أن يكون بالأعمال التي انقضت بوقتها، فلابدّ من تقدير مضاف، فَلْنقدِّر (ذِكْر) كأنهم قالوا: فليدع كل رجلٍ منكم بذكر ما يعلم
…
إلخ. فقد دعوا الله بذكر أعمالهم.
ثم إما أن يكونوا قصدوا بذكرها استنجاز الوعد أو استعجال الجزاء، والأول أولى كما اختاره الحافظ، وقد يُحمل عليه كلام السبكي، فإنه قال: «ظهر لي
…
» إلخ فذكر ما يفيد أنهم دعوا بذكر أعمالهم استعجالًا لجزائها، ثم قال: «ثم ظهر لي
…
» إلخ فدلّ على أن الذي ظهر له أخيرًا غير الذي ظهر له أولًا، فتأمل.
والحقّ أنهم لم يطلبوا تعجيل جزائها وإنما ذكروها استنجازًا لوعد الله تعالى لعامليها بالإغاثة وإجابة الدعاء، ولذلك كان ظاهر الحديث الثناءَ عليهم، وهذا واضح جدًّا.
قال المانعون: فإن كنتم ترون أيها المجيزون في استنجاز الوعد دلالةً على التوسّل المدَّعى فما أكثر أدلّتكم! منها قوله تعالى حكايةً عن نوح: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45]، فإن الله تعالى أنكر عليه قوله:{إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} لما فيه من عدم المباينة للكافر، ولم ينكر عليه قوله:{وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} مع أن المقصود به استنجاز الوعد.
ومنها حديث «الصحيحين»
(1)
في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عريش بدر، ولفظه في البخاري:«اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك» . وفي رواية مسلم: «فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على مَنكِبيه، ثم التزمه مِن ورائه، فقال: يا نبيّ الله كفاك مناشدتك ربّك، فإنه سينجز لك ما وعدك» ، فأنزل الله عز وجل:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الآية [الأنفال: 9]
(1)
البخاري (2915)، ومسلم (1763).
فأمدّه الله بالملائكة. وفي رواية للبخاري
(1)
: «فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك قد ألْححتَ على ربك، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم عالمٌ بوعد الله تعالى، وعالم بأن الله لا يخلف وعدَه، ولكنَّه جوَّز أن يكون الوعد مشروطًا بشيء، كأن لا يصدر عن أحدٍ من المسلمين شيء من المخالفات، فلم يزل يدعو حتى ــ والله أعلم ــ أعْلَمَه الله أن النصر كائنٌ لا محالة، أي غير مشروط بشيء، فخرج يَثِبُ في الدرع ويقول:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]. وأبو بكر رضي الله عنه لم يلاحظ ما لاحظه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بل اطمأنّ بمطلق الوعد، فتأمّل.
والأدلة كثيرة، والعجب ممن يستدلّ بحديث أصحاب الغار على جواز قول القائل:«اللهم إني أسألك بحق فلان عليك وجاهه العظيم لديك» ، مع أنه لا يدلُّ على التوسّل بالأعمال إلا بمعنى ذِكرها في الدعاء استنجازًا لوعد الله تعالى لعاملها بالإغاثة.
[224]
والحاصل أن معنى حديث أصحاب الغار على ما قاله المحبّ الطبري: أن هؤلاء الثلاثة ذكروا أوثق أعمالهم، وسألوا الله تعالى أن يعجّل لهم ثوابها بالتفريج عنهم. وعلى المختار الذي قاله الحافظ واحتمله كلام السبكي: أنهم ذكروا أوثق أعمالهم استنجازًا لوعد الله تعالى لمن عمل مثلها بالإغاثة، وكشف الكروب.
وعلى كلٍّ فلا معنى لقولكم: «وإذا جاز توسّل الشخص بعمل من أعماله فجوازه بأحد الصالحين أولى
…
» إلخ، فإن أهل الغار سألوا حقًّا ثابتًا
(1)
(4877).