المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌صِيَغُ التشهد وعلمهم صلى الله عليه وسلم أنواعاً من صيغ التشهد: 1- - أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - جـ ٣

[ناصر الدين الألباني]

الفصل: ‌ ‌صِيَغُ التشهد وعلمهم صلى الله عليه وسلم أنواعاً من صيغ التشهد: 1-

‌صِيَغُ التشهد

وعلمهم صلى الله عليه وسلم أنواعاً من صيغ التشهد:

1-

تشهد ابن مسعود: قال:

1- وهو أصح التشهدات الواردة عنه صلى الله عليه وسلم باتفاق المحدثين؛ قال الترمذي - بعد أن

ساقه -:

" حديث ابن مسعود قد رُوي عنه من غير وجه، وهو أصح حديث روي عن

النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومَن

بعدهم من التابعين، وهو قول سفيان الثوري، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق ". قال

الحافظ في " الفتح "(2/251) :

" وقال البزار - لما سئل عن أصح حديث في التشهد؟ قال -: هو عندي حديث ابن

مسعود، وروي من نيف وعشرين طريقاً. ثم سرد أكثرها، وقال: لا أعلم في التشهد

أثبت منه ولا أصح أسانيدَ ولا أشهر رجالاً. اهـ.

ولا خلاف بين أهل الحديث في ذلك، وممن جزم بذلك البغوي في " شرح السنة ".

ومن رجحانه أنه متفق عليه دون غيره، وأن الرواة عنه من الثقات لم يختلفوا في

ألفاظه؛ بخلاف غيره، وأنه تلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم تلقيناً ".

والحديث أخرجه الإمام أحمد (1/414) قال: ثنا أبو نُعيم: ثنا سَيف قال:

سمعت مجاهداً يقول: ثني عبد الله بن سَخْبَرة أبو مَعْمَر قال: سمعت ابن مسعود

يقول:

فذكره.

وهذا إسناد صحيح جداً؛ مسلسل بالتحديث والسماع، وهو على شرط الشيخين.

وهكذا، وبهذا الإسناد أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في " مسنده " وفي " مصنفه "

ص: 870

..............................................................................

{ (1/90/2) } ، وعنه أخرجه الإسماعيلي، وأبو نعيم - كما في " الفتح "(11/47)

ومن طريقه أيضاً رواه مسلم (2/14) ؛ إلا أنه لم يسق لفظه، {وأبو يعلى في " مسنده "

(258/2) = [4/464/5326] . وهو مخرج في " الإرواء "(321) } .

ورواه البخاري (11/47) بسند أحمد، لكنه قال:

قلنا: السلام - يعني: - على النبي صلى الله عليه وسلم. فزاد لفظة: (يعني) . وقائلها هو البخاري؛

كما جزم به الحافظ؛ لرواية أحمد وابن أبي شيبة بدون هذه الزيادة، وطريقهما واحد.

وكذلك أخرجه البيهقي (2/138) ، وكذا أبو عوانة في " صحيحه "، والسراج،

والجَوْزَقي، وأبو نعيم الأصبهاني من طرق متعددة إلى أبي نُعيم شيخ البخاري فيه بلفظ:

فلما قُبِضَ؛ قلنا: السلام على النبي. بحذف لفظة: (يعني) . كما في " الفتح "

أيضاً (2/250) .

وأخرجه النسائي (1/174 - 175) من طريق إسحاق بن إبراهيم - وهو ابن راهويه -

قال: أنبأنا الفَضْل بن دُكَين - وهو أبو نُعيم - به نحوه دون هذه الزيادة. والزيادة الأولى

عنده، وكذا البخاري.

وللحديث طرق أخرى، جاء في بعضها مسلسلاً بالأخذ باليد:

، فقال الإمام أحمد (1/450) : ثنا حسين بن علي عن الحسن بن الحُرّ عن القاسم

ابن مُخَيْمِرة قال: أخذ علقمةُ بيدي قال: أخذ عبد الله بيدي قال:

أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي؛ فعلمني التشهد في الصلاة: " التحيات

" إلخ.

وهذا سند صحيح.

وهكذا أخرجه الدارقطني (134) من طرق عن الحسين بن علي.

ص: 871

..............................................................................

وقد تابعه زهير بن معاوية عن الحسن بن الحُرّ به. وزاد في آخره:

إذا قلتَ هذا - أو قضيتَ هذا -؛ فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم؛ فقم، وإن

شئت أن تقعد؛ فاقعد.

أخرجه أبو داود (1/153) ، والدارمي (1/309) ، والطحاوي (1/162) ، والدارقطني

(135)

، والطيالسي (36) ، وأحمد (1/422) من طرق عنه به.

لكن هذه الزيادة رفعها ضعيف، والصواب - كما بينه الدارقطني وغيره - أنها

مدرجة، وأنها من قول ابن مسعود نفسه؛ فقد رواه شبابة بن سوّار: ثنا زهير بن معاوية

به بلفظ: قال عبد الله: فإذا قلت هذا

إلخ.

أخرجه الدارقطني (135)، والبيهقي (2/174) عنه. ثم قال الدارقطني:

" شبابة: ثقة، وقد فصل آخر الحديث؛ جَعَلَه من قول ابن مسعود، وهو أصح من

رواية من أدرج آخره في كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد تابعه غسان بن الربيع وغيره؛ فرووه عن ابن ثوبان عن الحسن بن الحُرّ كذلك،

وجعل آخر الحديث من كلام ابن مسعود، ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ".

ثم ساق حديث غسان في ذلك. وقد ذكر النووي (3/481) اتفاق الحفاظ على أن

هذه الزيادة مدرجة؛ ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وتبعه على ذلك الحافظ في " الدراية "

(88)

، ونص كلامه:

" واتفق الحفاظ على أن هذه الزيادة مدرجة من كلام ابن مسعود؛ منهم: ابن

حبان، والدارقطني، والبيهقي، والخطيب، وأوضحوا الحجة في ذلك ".

وقد ذكر كلماتهم الإمامُ الزيلعي في " نصب الراية "(1/424 - 425) . فليراجعها

من شاء.

ص: 872

..............................................................................

وقد أخرج الحديث النسائي (1/174) ، والطحاوي (1/162) من طرق عن إبراهيم

عن علقمة به بلفظ:

كنا لا ندري ما نقول إذا صلينا، فعلمنا نبي الله صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم؛ فقال لنا:

" قولوا: التحيات

". الحديث. واللفظ للنسائي وزاد:

قال علقمة: لقد رأيت ابن مسعود يعلمنا هؤلاء الكلمات؛ كما يعلمنا القرآن.

وسنده جيد. وزاد الطحاوي: وقال:

" لا صلاة إلا بتشهد ". وروى هذه الزيادة الطبراني - كما مضى قريباً -.

رواها الطحاوي من طريق أبي معشر البَراء عن أبي جمرة - بالجيم والراء، وفي

نسخة: حمزة؛ بالحاء المهملة والزاي - عن إبراهيم. ويراجع " تهذيب التهذيب " لمعرفة

الصواب من النسختين (*) .

وتابعه أبو إسحاق عن علقمة - وقد سبق لفظه -.

ومن طرق الحديث ما في " المسند "(1/376) عن خُصَيف الجَزَري قال: ثني أبو

عُبيدة بن عبد الله عن عبد الله قال:

علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد، وأمره أن يعلمه الناس: " التحيات

" إلخ.

وهذا إسناد فيه ضعف وانقطاع. وسكت عليه الحافظ في " الفتح "(2/252) ،

وليس بجيد.

وبقية طرق الحديث تراجع فيه (1/393 و 408 و 413 و 440) ، والنسائي، وابن

ماجه، والطحاوي، و " المعجم الكبير " للطبراني. و " الأدب المفرد "(144)[للبخاري] .

_________

(*) هو أبو حمزة كما في " تراجم الأحبار من رجال شرح معاني الآثار "(4/377) .

ص: 873

علَّمني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم التشهد -، [و] كَفِّي بين كَفَّيْه (1) -؛ كما يعلمني

السورة من القرآن (2) :

(1) ترجم له البخاري بقوله: (باب الأخذ باليدين. وصافح حمادُ بن زيد ابنَ

المبارك بيديه) . قال ابن بطال:

" الأخذ باليد هو مبالغة المصافحة، وذلك مستحب عند العلماء ".

قلت: والحديث ليس نصاً في ذلك؛ لأنه لم يرد في المصافحة عند اللقاء؛

فالدعوى أعم من الدليل، والظاهر عندي أنه صلى الله عليه وسلم إنما أخذ بكفيه كفَّ ابن مسعود زيادة

اعتناء بتعليمه، ولَفْتَ اهتمامه إلى ذلك. فيستحب ذلك في مثل هذا الموضع.

وأما المصافحة المسنونة عند اللقاء؛ فإنما هي باليد الواحدة - كما تقتضيه اللغة -؛

ففي " النهاية ":

" المصافحة هي: مفاعلة؛ من إلصاق صفح الكف بالكف، وإقبال الوجه على الوجه ".

ويشهد لذلك الأحاديث الواردة في فضل المصافحة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:

" إن المسلم إذا لقي أخاه، فأخذ بيده؛ تَحَاتَّتْ عنهما ذنوبهما؛ كما يَتَحَاتُّ الورق

عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف، وإلا؛ غفر لهما ولو كانت ذنوبهما مثل زبد البحر ".

رواه الطبراني بإسناد حسن (*) عن سلمان الفارسي. ورواه أحمد وغيره عن أنس بلفظ:

" ما من مسلمين التقيا، فأخذ أحدهما بيد صاحبه

". الحديث نحوه.

وفي الباب عن البراء.

رواه أحمد (4/289) وغيره.

وانظر " الترغيب "؛ فقد ذكر صلى الله عليه وسلم الأخذ باليد الواحدة؛ فينبغي الوقوف عنده، وعدم

الزيادة عليه إلا بنص من عنده.

(2)

قال في " المرقاة "(1/557) :

_________

(*) وهو في " ضعيف الترغيب والترهيب "(1628) ، ويغني عنه أحاديث أخرى في " صحيح

الترغيب " (3/32 - 33) .

ص: 874

" التحيات (1) لله، والصلوات (2) ، والطيبات (3) ، السلام عليك (4) أيها النبي!

" فيه دلالة على اهتمامه، وإشارة إلى وجوبه ".

(1)

هي: جمع (تحية) . قيل: أراد بها السلام؛ يقال: حَيَّاك الله؛ أي: سلَّم

عليك. وقيل: (التحية) : الملك. وقيل: البقاء.

وإنما جمع التحية؛ لأن ملوك الأرض يُحَيَّوْن بتحيات مختلفة، فيقال لبعضهم:

أبيت اللعن. ولبعضهم: أنعم صباحاً. ولبعضهم: اسلم كثيراً. ولبعضهم: عش ألف

سنة. فقيل للمسلمين: قولوا: " التحيات لله

"؛ أي: الألفاظ التي تدل على

السلام، والملك، والبقاء هي لله تعالى. والتحية: تَفْعِلة من (الحياة) ، وإنما أدغمت؛

لاجتماع الأمثال، والهاء لازمة، والتاء زائدة. كذا في " النهاية ".

(2)

أي: الأدعية التي يراد بها تعظيم الله تعالى، هو مستحقها، لا تليق بأحد

سواه. اهـ. منه.

وقد قيل في تفسيرها غيرُ ذلك، فإن شئت؛ فراجعها في المطولات؛ كـ " فتح

الباري "، و " مرقاة المفاتيح " وغيرها.

(3)

أي: ما طاب من الكلام، وحسن أن يُثنى به على الله، دون ما لا يليق

بصفاته؛ مما كان الملوك يُحَيَّوْن به. وقيل: الطيبات: ذكر الله. وقيل: الأقوال الصالحة؛

كالدعاء والثناء. وقيل: الأعمال الصالحة. وهو أعم. قال ابن دقيق العيد: ولعل

تفسيرها بما هو أعم أولى. ذكره في " الفتح "(2/249) .

(4)

قيل: معناه: التعويذ بالله، والتحصين به؛ فإن السلام اسم له سبحانه، تقديره:

الله عليك حفيظ وكفيل. كما يقال: " الله معك "؛ أي: بالحفظ والمعونة واللطف (*) .

_________

(*) رجح هذا المعنى الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع.

ص: 875

ورحمة الله وبركاته (1) ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (2) -[فإنه إذا

وقيل: معناه السلام والنجاة لكم. ويكون مصدراً؛ كاللذاذة واللذاذ؛ كما قال الله

تعالى: {فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ} . كذا في " شرح مسلم " للنووي، ثم قال:

" واعلم أنه يجوز فيه حذف الألف واللام؛ فيقال: سلامٌ عليك أيها النبي!

و: سلام علينا. ولا خلاف في جواز الأمرين هنا، ولكن الألف واللام أفضل، وهو

الموجود في روايات " الصحيحين " ". قال الحافظ (2/249) :

" لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام، وإنما اختلف ذلك في

حديث ابن عباس، وهو من أفراد مسلم ".

(1)

هو اسم لكل خير فائض منه تعالى على الدوام. وقيل: (البركات) : الزيادة

في الخير. " مرقاة ".

(2)

الأشهر في تفسير (الصالح) : أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله، وحقوق

عباده، وتتفاوت درجاته. قال الترمذي الحكيم:

" من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلِّمُه الخلقُ في الصلاة؛ فليكن عبداً

صالحاً، وإلا؛ حُرم هذا الفضل العظيم ".

قال القفال في " فتاويه ":

" ترك الصلاة يضر بجميع المسلمين؛ لأن المصلي يقول: اللهم! اغفر لي وللمؤمنين

والمؤمنات، ولا بد أن يقول في التشهد:" السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ".

فيكون مقصراً بخدمة الله، وفي حق رسوله، وفي حق نفسه، وفي حق كافة المسلمين؛

ولذلك عظمت المعصية بتركها ". كذا في " الفتح ".

(فائدة) : اشتهر أنه صلى الله عليه وسلم لما عُرج به؛ أثنى على الله تعالى بهذه الكلمات؛ فقال الله

تعالى:

ص: 876

قال ذلك؛ أصاب كُلَّ عبدٍ صالح في السماء والأرض] (*) -، أشهد أن لا اله

إلا الله (1) ،.................................................................

" السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته ". فقال صلى الله عليه وسلم:

" السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين ".

فقال جبريل: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ".

ولكني لم أقف على هذه الرواية في شيء من كتب السنة المعتبرة، وقد أوردها

الشيخ علي القاري في " المرقاة "(1/556) نقلاً عن ابن الملك، مشيراً إلى ضعفها بقوله:

" رُوي أنه صلى الله عليه وسلم

".

(*) زيادة من " صفة الصلاة "، وهي في سياق الحديث الآتي (ص 894) .

(1)

أي: لا معبود بحق في الوجود إلا الله الواجب الوجود لذاته تعالى. ذكره

القاري وغيره.

هذا هو معنى هذه الشهادة التي تحقن دم قائلها، وتنجيه يوم لقائه الله تعالى؛ إذا

عمل بمقتضاها، ولم يقتصرعلى التلفظ بها.

ولقد ضل كثير من المسلمين حين فهموا منها: أنه لا رب ولا خالق إلا الله تعالى.

وبنوا على ذلك: أن من عَبَدَ غيره تعالى بنوع من أنواع العبادات؛ كالاستغاثة بغيره

سبحانه، والذبح لغيره، وما شابه ذلك أنه صحيح الاعتقاد، سليم الإيمان! مع أن

حقيقة هذه الشهادة: توحيد الإله في هذه العبادات، وغيرها؛ فإنه هو الفارق بين المؤمن

الموحد، وبين الكافر المشرك؛ ذلك لأن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا

يعتقدون هذا المعنى الخاطئ لهذه الشهادة، ولكنهم كانوا يقتصرون على ذلك؛ فلا

يؤمنون بأن لا معبود بحق في الوجود إلا الله تعالى. فهم موحدون من ناحية، مشركون

من ناحية أخرى؛ موحدون في توحيد الربوبية، كافرون بتوحيد الألوهية. هذا هو الذي

ص: 877

..............................................................................

دل عليه القرآن الكريم بنصوصه الصريحة.

أما إيمانهم بتوحيد الربوبية وأنه: المتفرد بالخلق والرزق؛ فقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم

مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ

خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} . وقال تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ.

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ.

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن

كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . وقال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ

السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ

الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} .

وأما كفرهم بتوحيد الألوهية - الذي هو المراد من هذه الشهادة -؛ فاقرأ قوله تعالى:

{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} . وكانوا إذا دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان

بهذه الشهادة؛ يقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة {ص} ] .

وكذلك كان كفر من قبلهم من المشركين؛ كانوا يكفرون بتوحيد الألوهية، وإلى هذا

التوحيد كان يدعوهم أنبياؤهم صلى الله عليهم وسلم؛ كما قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ

أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [7: 65] . {قَالُوا

أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [7: 70] . وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ

أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} الآية [11: 61] . {قَالُوا يَا

صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا

تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [11: 62] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا

اللَّهَ} أي قائلين لأممهم: أنِ اعبدوا الله وحده. فأفاد بقوله: في كل أمة: أن جميع

الأمم لم تُرسل إليهم الرسل إلا لطلب توحيد العبادة، لا للتعريف بأنه هو الخالق للعالَم،

ص: 878

..............................................................................

وأنه رب السماوات والأرض؛ فإنهم كانوا مُقِرّين بهذا بباعث الفطرة - كما سبق عن

الجاهليين -؛ ولهذا لم ترد الآيات في ذلك في الغالب؛ إلا بصيغة استفهام التقرير؛

نحو: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} . {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ} .

{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} .

ومما سبق تعلم أن المشركين لم يتخذوا الأصنام والأوثان شركاء لله تعالى في

الربوبية؛ أي: أنهم [ما] اعتقدوا فيهم أنهم شركاء لله في الخلق، والرزق، والإحياء،

والإماتة، كلا؛ فإنهم نفوا ذلك بأنفسهم، وإنما اتخذوهم شركاء لله سبحانه في العبودية

والألوهية؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى

اللَّهِ زُلْفَى} [38: 3] . فهم مقِرّون بأن المقصود بالذات هو الله تعالى، وأنهم إنما عبدوا

أوثانهم؛ وسيلة توصلهم إلى الله.

وفي " صحيح مسلم "(4/8)، و " المختارة " للضياء المقدسي عن ابن عباس:

كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك. قال. فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" ويلكم قَدْ قَدْ ". فيقولون: إلا شريكاً هو لك، تملِكه، وما ملك. يقولون هذا، وهم

يطوفون بالبيت!

ومعنى عبادة المشركين لأوليائهم وأصنامهم هو: أنهم خَصُّوهم بنوع من العبادات:

كالاستغاثة بهم، والنذر، والنحر لهم، وغيرها؛ مما يدل على منتهى الخشوع والخضوع،

وهم لم يفعلوا ذلك إلا لاعتقادهم أنها تقربهم إلى الله تعالى، وتشفع لهم لديه. فأرسل

الله الرسل تأمر بترك عبادة كل ما سواه. وأن هذا الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد

باطل، والتقرب إليهم باطل، وأن ذلك لا يكون إلا لله وحده، وهو توحيد العبادة.

وقد كان المشركون، منهم: من يعبد الملائكة، وينادونهم عند الشدائد، ومنهم: من

يعبد تماثيل لبعض الصالحين، ويهتف بها عند الشدائد، فبعث الله إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم؛

ص: 879

..............................................................................

يدعوهم إلى الله وحده بأن يفردوه بالعبادة - كما أفردوه بالربوبية -، وأن لا يدعوا مع الله

أحداً؛ قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} .

وأمر عباده أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . ولا يصدق قائل هذا إلا إذا أفرد

العبادة لله تعالى؛ وإلا كان كاذباً، منهياً عن أن يقول هذه الكلمة؛ إذ معناها: نخصك

بالعبادة ونفردك بها، وهو معنى قوله:{فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} . {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} . كما

عرف من علم البيان: أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر؛ أي: اعبدوا الله، ولا تعبدوا

غيره. واتقوه ولا تتقوا غيره.

فإفراد الله تعالى بتوحيد العبادة لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله له، والنداء في

الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستعانة بالله وحده، واللجوء إلى الله، والنذر

والنحر له تعالى، وجميع أنواع العبادات من الخضوع، والقيام لله تعالى، والركوع،

والسجود، والطواف، والتجرد عن الثياب، والحلق، والقصر كله لا يكون إلا لله عز

وجل، ومن فعل ذلك لمخلوق حي، أو ميت، أو جماد، أو غيره؛ فهذا شرك في العبادة

والألوهية، وفي النهي عن ذلك نزل قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ

أَحَدًا} . وصار من يُفعل له هذه الأمور إلهاً لعابده سواء كان ملكاً، أو نبياً، أو ولياً، أو

قبراً، أو غير ذلك، وصار بهذه العبادة، أو بأي نوع منها عابداً لذلك المخلوق، وإن أقر بالله

وحده وعبده؛ فإن إقرار المشركين بالله، وتقربهم إليه؛ لم يخرجهم عن الشرك؛ قال الله

عز وجل في الحديث القدسي:

" أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً، وأشرك فيه معي غيري؛ تركته

وشركه ".

أخرجه مسلم وغيره.

ص: 880

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " (1) ..........................................

فمن علم ما ذكر من الفرق بين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وجمع بينهما في

اعتقاده وعمله؛ فهو الذي تحقق بمعنى لا إله إلا الله، وهو الذي يستحق أجر قائلها،

وتنفعه من دهره يوماً ما - كما جاء في الأحاديث النبوية -.

وهذا بحث عظيم قد أُلِّفَتْ فيه كتب، ورسائل شتى؛ لأهميته، وخطورة شأنه،

فمن شاء التوسع في ذلك؛ فليراجع " تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد " للإمام الصنعاني

- وغالب ما كتبناه مأخوذ عنه -، و " تجريد التوحيد " للمقريزي، و " حجة الله البالغة "،

وكتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم.

(1)

اعلم أن هذه الشهادة قد جمعت له صلى الله عليه وسلم صفتين لا يتم إيمان المرء به صلى الله عليه وسلم إِلا إذا

تحقق بمعناهما.

الأولى: كونه صلى الله عليه وسلم عبداً لله تعالى، كغيره من عباده تعالى، فهو مثلهم من هذه

الناحية، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} . وقال صلى الله عليه وسلم:

" إنما أنا بشر مثلكم؛ أنسى كما تنسون، فإذا نسيت؛ فذكروني "(1) . وقال صلى الله عليه وسلم:

" لا تُطْروني، كما أَطْرَتِ النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد. فقولوا: عبد الله

ورسوله " (2) .

ولذلك فلا يجوز لمسلم يشهد هذه الشهادة أن ينزله صلى الله عليه وسلم منزلة فوق التي أنزله الله

تعالى فيها؛ فإن ذلك مما لا يرضاه صلى الله عليه وسلم، كما قال في الحديث:

" أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله! ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي

التي أنزلني الله عز وجل " (3) . ولا أن يمدحه إلا بما مدحه الله به، أو بما صحت به

_________

(1 و 2) متفق عليهما.

(3)

رواه أحمد في " المسند "(3/153 و 241 و 249) بسند صحيح على شرط مسلم.

ص: 881

..............................................................................

الأحاديث والأخبار، فمدحه صلى الله عليه وسلم بمثل قول بعضهم:

فإن من جودك الدنيا وضَرّتها

ومن علومك علم اللوح والقلم

فهذا القول مما يتنافى مع الشهادة بالعبودية لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو القائل - كما حكاه الله

تعالى في القرآن الكريم -: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ

السُّوءُ} . وهو القائل للجارية التي كانت تندب من قتل يوم [بدر]، ثم قالت: وفينا نبي

يعلم ما في غد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

" لا تقولي هكذا، وقولي كما كنت تقولين "(1) .

ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حديث لها في " الصحيحين ":

" ومن حدثكم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يعلم ما في غد؛ فقد أعظم على الله الفرية ".

فإذا كان هذا شأن من قال عنه صلى الله عليه وسلم: إنه يعلم ما في غد؛ فما بال من يقول: إن من

بعض علومه علمَ اللوح والقلم؟! فلا جَرَم أن حَذَّرَنا صلى الله عليه وسلم من الغلو في مدحه وتعظيمه؛

فإنه سبب هلاك الأمم قبلنا كما قال صلى الله عليه وسلم:

" إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك الذين من قبلكم غلوهم في دينهم "(2) .

وأما الصفة الأخرى: فهي كونه صلى الله عليه وسلم رسولاً اصطفاه الله تعالى، وخصه بالوحي

وأطلعه على بعض المغيبات، وذلك يستلزم الإيمان بكل ما قاله صلى الله عليه وسلم، وصح عنه من

التشريعات والإخبار بالمغيبات، سواء كان ذلك موافقاً لعقلك، أو بعيداً عن فهمك

وعقلك، يجب الإيمان بذلك كله، فمن لم يكن هذا موقفه معه صلى الله عليه وسلم؛ فهو لم يؤمن حق

الإيمان بأن محمداً رسول الله، فما تنفعه هذه الشهادة، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم،

_________

(1)

رواه البخاري.

(2)

رواه مسلم.

ص: 882

[وهو بين ظهرانَيْنَا (1) ، فلما قُبِضَ؛ قلنا: السلام على النبي](2) .

وذلك ما يفيده قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ

لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ

وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . ولا شك أن إيمانك

وتصديقك بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الأمور التشريعية والغيبية - ولو كانت بعيدة عن

متناول عقلك -؛ إنما هو من الإيمان بالغيب الذي هو من صفات المتقين في القرآن:

{الم. ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ} . فقف أيها

المؤمن! عند نص الشارع الحكيم، ولا تُغالِ فيه، ولا تفرط؛ بل وسطاً بين ذلك؛ لتكون

من الناجين عند رب العالمين.

(فائدة) : قال الشيخ علي القاري في " المرقاة "(1/557) :

" والمنقول أن تَشَهُّدَه عليه الصلاة والسلام، كتَشَهُّدِنا. وأما قول الرافعي: المنقول

أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في تشهده: وأشهد أني رسول الله. فمردود؛ بأنه لا أصل له ".

(1)

بفتح النون، وسكون التحتانية، ثم نون. أصله:(ظهرنا) . والتثنية باعتبار

المتقدم عنه والمتأخر؛ أي: كائن بيننا. والألف والنون زيادة للتأكيد، ولا يجوز كسر النون

الأولى. قاله الجوهري وغيره. كذا في " الفتح ".

(2)

قال الحافظ رحمه الله تعالى (11/47) :

" هذه الزيادة، ظاهرها أنهم كانوا يقولون: السلام عليك أيها النبي! - بكاف الخطاب -

في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم؛ تركوا الخطاب، وذكروه بلفظ الغَيْبة؛ فصاروا

يقولون: السلام على النبي ". وقال في موضع آخر (2/250) :

" قال السبكي في " شرح المنهاج " - بعد أن ذكر هذه الرواية من عند أبي عوانة

وحده -: " إن صح هذا عن الصحابة؛ دلَّ على أن الخطاب في السلام بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 883

..............................................................................

غير واجب، فيقال: السلام على النبي ".

قلت: قد صح بلا ريب، وقد وجدت له متابعاً قوياً؛ قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن

جريج: أخبرني عطاء:

أن الصحابة كانوا يقولون والنبي صلى الله عليه وسلم حي: (السلام عليك أيها النبي!) ، فلما

مات؛ قالوا: (السلام على النبي) .

وهذا إسناد صحيح.

وأما ما روى سعيد بن منصور من طريق أبي عُبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه:

أن النبي صلى الله عليه وسلم علّمهم التشهد

فذكره. قال: فقال ابن عباس:

إنما كنا نقول: السلام عليك أيها النبي! إذ كان حياً. فقال ابن مسعود:

هكذا عُلِّمْنا، وهكذا نُعَلِّم.

فظاهرٌ أن ابن عباس قاله بحثاً، وأن ابن مسعود لم يرجع إليه، لكن رواية أبي معمر

أصح { (يعني: رواية البخاري) } ؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، والأسناد إليه - مع

ذلك - ضعيف ".

وقد نقل كلامَ الحافظ هذا جماعةٌ من العلماء المحققين؛ أمثال: القسطلاني في

شرحه على البخاري، والزرقاني في " المواهب اللَّدُنِّية " وفي شرحه على " الموطأ "،

وعبد الحي اللكنوي في " التعليق الممجد "، وارتضوه؛ حيث إنهم أقروه {ولم يتعقّبوه

بشيء} .

هذا؛ والظاهر أن الصحابة رضي الله عنهم لم يصيروا إلى القول: (السلام على

النبي) - بلفظ الغَيْبَةِ - إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا مجال للاجتهاد أو القياس في

مثل هذا المقام؛ بل هو عين الابتداع في الدين، وحاشا الصحابة من ذلك، لا سيما ابن

ص: 884

..............................................................................

مسعود رضي الله عنه، الذي اشتهر من بينهم بشدة محاربته للبدع - مهما كان نوعها -،

وقصته في إنكاره على الذين كانوا يذكرون الله مجتمعين، ويعدون التسبيح والتحميد

بالحصى أشهر من أن تذكر، وهو القائل رضي الله عنه:

اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كُفِيْتُم، عليكم بالأمر العتيق.

ولذا كان يأخذ على أصحابه الواو في التشهد. كما رواه الطحاوي (1/157) ،

والبزار في " مسنده " بإسناد صحيح.

فمن كان هذا شأنه من التحري في الاتباع؛ كيف يعقل أن يتصرف فيما عَلَّمه

رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه من التشهد بدون إذن منه؟! هذا غير معقول.

أضف إلى ذلك أنه ليس منفرداً بذلك عن الصحابة؛ بل قد نقل هو نفسه - وهو

الثقة العدل - ذلك عن الصحابة بدون خلاف بينهم، فمن تبعهم على ذلك؛ فـ {أُوْلَئِكَ

عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} .

{ويؤيده: أن عائشة رضي الله عنها كذلك كانت تعلمهم التشهد في الصلاة:

" السلام على النبي ".

رواه السراج في " مسنده "(ج 9/1/2) ، والمخلص في " الفوائد "(ج 11/54/1)

بسندين صحيحين عنها} (*) .

_________

(*) قال الشيخ رحمه الله في مقدمة " صفة الصلاة " المطبوع (ص 17 - 25/ ط المعارف) :

" وقد كنت وقفت على رسالة صغيرة للشيخ عبد الله الغماري، أسماها: " القول المقنع في الرد

على الألباني المبتدع "! لا تتجاوز صفحاتها أربعاً وعشرين صفحة من الحجم الصغير! تعرض فيها للرد

عليَّ في بعض ما كنت رددت عليه بالحق، وبالتي هي أحسن؛ ما وقع له من أخطاء حديثية في =

ص: 885

..............................................................................

...........................................

_________

= تعليقاته على رسالة الشيخ العلامة العز بن عبد السلام: " بداية السول في تفضيل الرسول "؛ التي

حققتها من بعده، وعلقت عليها تعليقات مفيدة، بينت في بعضها جهل الشيخ الغماري بهذا العلم،

وتقصيره في تخريج الأحاديث، وبيان مراتبها صحةً أو ضعفاً، وتقليده للترمذي في التحسين؛ لعجزه

عن التحقيق، وتجويده لبعض الأحاديث الضعيفة، فألف هو رسالته المذكورة تشفياً وانتقاماً بالباطل،

والتي يليق بها أن تسمى بـ: (القول المقذع) ؛ لكثرة ما فيها من السباب والشتائم والنبز بالألقاب مع

البهت والافتراء؛ مما كنت بينت بعض ذلك في مقدمة المجلد الثالث من " الأحاديث الضعيفة " (ص 8

- 44)

وكان مما تعرض لإنكاره علي - في ذلك (القول المقذع) ! - وشغب به علي ونسبني بسببه إلى

قلة الفهم، والضعف في الاستنباط؛ ما سيأتي في الكتاب (ص 161)[هو هنا (ص 884 - 885) ]

من حمل قول ابن مسعود في التشهد:

فلما قُبض (يعني: النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قلنا: السلام على النبي؛ أن هذا كان بتوقيف منه صلى الله عليه وسلم.

فسود الغماري خمس صفحات (ص 13 - 18) ؛ ليثبت - بزعمه - من وجوه كثيرة أن ذلك كان

اجتهاداً من ابن مسعود ومن وافقه!!

ولما كانت هذه المقدمة لا تتسع لمناقشتها واحدة واحدة؛ فلا بد من إيجاز الكلام عليها ببيان

يجتثها من أصولها كلها، ويجعلها هباءً منثوراً بإذنه تعالى، وفي الوقت نفسه فيه فائدة هادية - إن شاء

الله تعالى - لكل حريص على اتباع الحق، وإيثاره على ما وجد عليه الآباء، أو الجمهور من الناس،

فأقول:

من الواضح جداً أنه لا يعقل أن يتوجه من كان دون الصحابة علماً وتُقىً وخوفاً من الله تعالى،

وإيماناً بقوله تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ؛ لا يعقل أبداً

أن يتوجه إلى تعليم من تعاليمه صلى الله عليه وسلم:

كقوله: " السلام عليك أيها النبي! ". فيغيره؛ فيجعله: "السلام على النبي "!

أو إلى تعليمه صلى الله عليه وسلم السلام على أهل القبور: " السلام عليكم أهل الديار

". فيجعله: " السلام

على أهل القبور

"!

فكيف يعقل أن يرتكب مثل هذا التغييرأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبخاصة منهم عبد الله بن مسعود

الذي اشتهر من بينهم بشدة محاربته للبدع - مهما كان نوعها -؛ وقصة إنكاره على الذين كانوا

يجتمعون في المسجد حلقات، وفي وسط كل حلقة رجل يقول لمن حوله: سبحوا كذا، كبروا =

ص: 886

..............................................................................

...........................................

_________

= كذا

إلخ، وأمام كل واحد منهم حصى يعد به التسبيح والتكبير

إلخ؛ أشهر من أن تذكر.

(انظر " ردي على الشيخ الحبشي ") .

وقوله رضي الله عنه:

اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، عليكم بالأمر العتيق.

ونحو ذلك مما هو مأثور عنه، ومذكور في محله، وبخاصة أنه ثبت عنه رضي الله عنه أنه:

كان يأخذ على أصحابه الألف والواو في التشهد إذا علمهم.

كما رواه ابن أبي شيبة (1/294) ، والطحاوي (1/157) ؛ بسند صحيح عنه.

ثم إن الصحابة الذين هم على علم بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم صيغة السلام عليه في التشهد؛ قد قالوا

بعد أن مات صلى الله عليه وسلم:

" السلام على النبي ".

كما رواه عبد الرزاق بسنده الصحيح عن عطاء بن أبي رباح - كما قال الحافظ ابن حجر على ما

سيأتي في الكتاب (ص 162)[وقد تقدّم هنا (ص 884) ]-.

ولما كان مثل هذا النص قاصمة ظهر الغماري ومن كان على شاكلته من أهل الأهواء؛ فقد كابر

على عادته وأعله بقوله (ص 14) :

" عنعنه ابن جريج كما في " مصنف عبد الرزاق " (ج 2 ص 204) ، وابن جريج مدلس؛ فلا يقبل

ما عنعنه ".

والجواب من وجهين:

الأول: نعم؛ ابن جريج مدلس، ولكن قد صح عنه أنه قال:

" إذا قلتُ: قال عطاء؛ فأنا سمعتهُ منه، وإن لم أقل: (سمعتُ) ".

فإذا قيل: في قوله: " عن عطاء " أنه كقوله: " قال عطاء؛ فلا يضر عدم تصريحه بالسماع

- كما هو الظاهر -، ولعل هذا من الأعذار في إخراج الشيخين لحديثه المعنعن عن عطاء.

والآخر: أن الغماري تجاهل - كما هي عادته في طمس الحقائق - أن ابن جريج قال في رواية

الحافظ عن عبد الرزاق: " أخبرني عطاء ". فزالت شبهة تدليسه؛ ولذلك صححه الحافظ.

فكان على الغماري: إما أن يسلم بهذا كله، وإمأ أن يجيب عن ذلك بما يدفع التصحيح، ولكنه

لم يصنع شيئاً من ذلك؛ بل لجأ إلى المثل العامي (الهرب نصف الشجاعة) ! =

ص: 887

..............................................................................

...........................................

_________

= والظاهر أن العنعنة في " المصنف " هي من الأخطاء الكثيرة التي وقعت في أصله؛ كما يبدو لمن

يدقق في تعليقات محققه الشيخ الأعظمي عليه. ومن الغرائب أن محققه علق عليه بقوله:

" كنز العمال 4/4668 ". كذا قال، ولم يزد. وذلك هو التحقيق!

وبالرجوع إلى هذا الرقم وجدت الأثر فيه كما في " الفتح ": عن ابن جريج: أخبرني عطاء

من رواية عبد الرزاق؛ فكان على الأعظمي أن ينبه على هذه الفائدة؛ ليسد الطريق على من قد يستغل

هذه العنعنة، كما فعل الغماري! ولكن ما يدريني.. لعل الأعظمي تعمد ذلك؛ لأنه خلاف مذهبه!

ويشترك مع الغماري في اتباع الهوى والإعراض عن الحجة والدليل عند مخالفة المذهب!

ثم رجعت إلى " الجامع الكبير " للسيوطي الذي هو أصل " الكنز "؛ فوجدته مطابقاً له. وبذلك

ثبت هذا الأثر، وقامت الحجة على الغماري المغمور بالهوى، والعياذ بالله تعالى.

ومن كبره وبطره للحق - وحكمه معروف عند أهل الحديث! - أنني لما أيدت قول ابن مسعود وأنه

بتوقيف منه صلى الله عليه وسلم بأثر عائشة أنها كانت تعلمهم التشهد في الصلاة:

السلام على النبي. كما يأتي معزواً لمصدرين مخطوطين ما رآهما الغماري ولا في المنام! لم يزد

على قوله (ص 15) :

" وهذا الكلام يدل على جهل عريض (!) وقد أغرب بعزو أثر عائشة إلى (السراج) و (المخلص)

خلص الله الألباني من جهله، مع أنه في (مصنف ابن أبي شيبة) و (مصنف عبد الرزاق) ".

قلت: فليتأمل القارئ المنصف وقاحة هذا المغمور؛ كيف يرميني بالجهل لمجرد أَنْ جئته من

مصدرين لا يعرفهما، ثم يخرس عن الجواب عن التأييد الذي كان الواجب عليه أن يقبله، ويخضع

للحق الذي معي، أو يجيب عنه بجواب علمي ان كان عنده؟! وهيهات هيهات؛ إذ لو كان؛ لما وقع

في مثل هذه الجهالة التي يترفع عنها حتى السُّوقة! فالله المستعان.

ومن خباثته وتدليساته على قرائه قوله (ص 15) :

" روى الطبراني بإسناد صحيح عن الشعبي قال: كان ابن مسعود يقول بعد " السلام عليك أيها

النبي! ورحمة الله وبركاته ": " السلام علينا من ربنا ". [قال:]

" فهذه الجملة زادها ابن مسعود اجتهاداً منه، فكلذلك تغيير صيغة السلام من الخطاب إلى الغيبة

اجتهاداً (!) منه ".

قلت: والجواب من ستة وجوه: =

ص: 888

..............................................................................

...........................................

_________

الأول: أن يقال لك: أثبت العرش ثم انقش؛ فإن هذا الأثر لا يصح عن ابن مسعود رضي الله

عنه! بل هو محكي عنه - كما يأتي -.

وقولك: " بإسناد صحيح عن الشعبي ".

فيه تدليس خبيث على عامة القراء الذين لا ينتبهون لما في قولك هذا من التدليس؛ فهلا قلت:

إسناده صحيح عن ابن مسعود؟! لم تقل ذلك؛ لأنك تعلم - إن شاء الله - أن الشعبي - واسمه: عامر

ابن شراحيل - لم يسمع من ابن مسعود - كما قال ابن أبي حاتم، والدارقطني، والحاكم، والمزي

والعلائي، وابن حجر، وغيرهم - وهذا هو السر في اقتصار الهيثمي في " مجمع الزوائد "(2/143) -

بعد أن عزاه للطبراني (وهو فيه 9/276/9184)[على قوله]-:

" ورجاله رجال " الصحيح " ".

فلم يصححه؛ لأن هذا القول منه ومن غيره لا يعني أنه صحيح - كما نبهت عليه في غير ما

موضع من كتبي -؛ لهذا لجأتَ إلى التدليس على القراء، ولم تقل: إسناده صحيح عن ابن مسعود.

ولو فعلتَ؛ لافْتَضَحْتَ!

الثاني: هب - جدلاً - أنه صح عن ابن مسعود؛ فهذا قد يفيدك - لو كان وحده - في سلام

الغيبة؛ فيكون اجتهاداً منه، فأين أنت من سائر الصحابة الذين وافقوه وفيهم السيدة عائشة؟! أفكلهم

اجتهدوا وتجرأوا على تغيير النص؟! وأنت وحدك عرفت النص ولزمته؟! مع أنك خالفت نصوصاً

كثيرة، منها زيادتك (السيادة) في الصلاة الإبرإهيمية!

لا شك أن الذي يحملك على مثل هذا التناقض إنما هو الهوى! والله المستعان.

الثالث: هب أنهم كلهم اجتهدوا؛ أفكلهم أخطأوا، وأنت ومن على شاكلتك أصابوا؟!

الرابع: قولك: " فهذه الجملة زادها

".

خطأ محض؛ لأن الجملة - عند البلاغيين والنحويين - كل كلام اشتمل على مُسْنَدٍ ومُسْنَد إليه،

وهنا لا شيء من ذلك سوى:

" من ربنا ".

فهل هذه جملة عند (العلامة الغماري) الذي رشح نفسه - بل فرض نفسه - مجدد هذا القرن

في بعض رسائله الأخيرة؟! أم هو من باب التدليس أيضاً على القراء، وإيهامهم أن ابن مسعود زاد في

التشهد جملة تامة! وحاشاه من أن يزيد في تعليمه صلى الله عليه وسلم ولو حرفاً واحداً -، كيف وهو ينكره على

أصحابه - كما سبق -؟! =

ص: 889

..............................................................................

...........................................

_________

= الخامس: لا شك أن هذه الزيادة منكرة لا يجوز نسبتها إلى ابن مسعود رضي الله عنه؛ لما تقدم

بيانه من انقطاع إسنادها، ولمنافاتها لما عرف عنه من الحرص على الاتباع، ونهيه الشديد عن

الابتداع، ومن ذلك إنكاره على من زاد في التشهد:

" وحده لا شريك له " - كما سيأتي [هنا (ص 903) ]-. وقوله رضي الله عنه:

اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة.

السادس: ذكر الغماري أن البيهقي روى في " سننه " عن عائشة قالت:

هذا تشهد النبي صلى الله عليه وسلم: التحيات لله

إلى آخره. ونقل عن النووي أنه قال:

" إسناده جيد، وهو يفيد أن تشهد النبي صلى الله عليه وسلم مثل تشهدنا، وهي فائدة حسنة ".

وأقول: أما أن إسناده جيد؛ فليس بجيد؛ لأن فيه صالح بن محمد بن صالح التمَّار، وهو غير

معروف العدالة، أورده البخاري في " التاريخ "(2/2/291) ، وساق له إسناداً من روايته عن أبيه عن

سعد بن إبراهيم عن عامر بن سعد عن أبيه: قال النبي في سعد بن معاذ:

قال البخاري:

" وخالفه شعبة عن سعد عن أبي أمامة بن سهل عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم

وهذا

أصح ".

ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، على أن المخالفة المرجوحة تتردد بينه وبين أبيه محمد بن صالح،

وهو ثقة، في حفظه كلام؛ فيمكن أن تكون المخالفة منه، ويمكن أن تكون من ابنه صالح.

وعلى كل حال فهو مجهول، لا ينبغي تجويد إسناد مثله، وبخاصة أن الحافظ ابن حجر قد أعلَّ

حديث عائشة هذا بالوقف؛ تبعاً للدارقطني. فانظر " التلخيص "(3/514) .

وقول النووي:

"

مثل تشهدنا ". يعني: تشهد الشافعية الذي اختاروه من رواية ابن عباس، وليس كما قال؟ لأن تشهدهم فيه:

" المباركات ".

وهذا غير موجود في حديث عائشة هذا؛ بل هو كحديث ابن مسعود بالحرف الواحد.

نعم؛ قبل هذه الرواية عند البيهقي رواية أخرى عن عائشة موقوفة فيها:

" الزاكيات ".. مكان: " المباركات ". وفيها أيضاً:

" السلام على النبي "؛ بصيغة الغَيْبة! =

ص: 890

..............................................................................

...........................................

_________

= ففيها ردٌّ لشغب الغماري ومرواغته - لو كان فيه بقية من إنصاف واعتراف بالحق -.

ومما ذكرنا يتبين للقراء تدليس آخر للشيخ الغماري؛ إذ لا علاقة لكلام النووي بما نحن فيه؛ لأن

النووي رحمه الله على ما في كلامه من الخطأ - لم يكن في صدد ترجيح لفظ: " السلام عليك " في

(التشهد) على لفظ: " السلام على النبي "، كما يلبّس الغماري على قرائه؛ وإنما هو في صدد ترجيح

تشهد ابن عباس على تشهد ابن مسعود.

والأمر عندي في هذا واسع، فبأي صيغة من الصيغ الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تشهد المصلي؛ فقد

أصاب السنة، وإن كان تشهدُ ابن مسعود أصحَّ روايةً باتفاق العلماء؛ لاتفاق الرواة له على روايته بلفظ

واحد دون زيادة حرف أو نقص، ومن ذلك تفصيله رضي الله عنه بين ما كان الصحابة يقولونه في

حال حياته في السلام عليه بلفظ الخطاب، وما كانها يقولونه بعد وفاته بلفظ الغيبة؛ بتوقيف

منه صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك كانت السيدة عائشة تعلمهم التشهد بلفظ الغيبة - كما تقدم -.

وهذه المسألة ونحوها مما لا يمكن معرفة الصواب فيها إلا بالرجوع إلى ما كان عليه السلف

الصالح، وبخاصة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم؛ نُلِحُّ دائماً في دروسنا ومحاضراتنا أنه لا يكفي إذا دعَونا

الناس إلى العمل بالكتاب والسنة أن نقتصر على هذا فقط في الدعوة؛ بل لا بد من أن نضم إلى ذلك

جملة: (على منهج السلف الصالح) أو نحوها؛ لقيام الأدلة الشرعية على ذلك، وهي مذكورة في غير

هذا الموضع.

لا بد من ذلك، وخصوصاً في هذا العصر، حيث صارت الدعوة إلى الكتاب والسنة (موضة)

العصر الحاضر، ودعوة كل الجماعات الإسلامية، والدعاة الإسلاميين - على ما بينهم من اختلافات

أساسية أو فرعية -، وقد يكون فيهم من هو من أعداء السنة عملياً، ومن يزعم أن الدعوة إليها يفرق

الصف! عياذاً بالله منهم.

أسأل الله تعالى أن يحيينا على السنة، وأن يميتنا عليها؛ متبعين لمن أثنى الله تبارك وتعالى عليهم

بقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا

عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} .

وأن يجعلنا ممن قال فيهم: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ

سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} .

ص: 891

وكانوا قبل ذلك 1 [قبل أن يفرض التشهد (1) ] يقولون:

(1) قال في " التلخيص "(3/503) :

" واستدل به على فرضية التشهد الأخير، ولقوله: " قولوا ". وبوب عليه النسائي

(إيجاب التشهد) ، وساقه من طريق سفيان عن الأعمش ومنصور عن شَقِيق عن ابن

مسعود. قال ابن عبد البر في " الاستذكار ":

تفرد ابن عيينة بقوله: قبل أن يفرض ".

قلت: ابن عيينة: ثقة حافظ؛ فلا يضر تفرده. ولذلك صححه الحافظ، وكذا

الدارقطني - كما يأتي -.

ويشهد لها ماتقدم مرفوعاً:

" لا صلاة إلا بتشهد ".

ورواه الطبراني في " الأوسط " من حديث علي بنحوه بلفظ:

" لا صلاة لمن لا تشهد له ". قال الهيثمي (2/140) :

" وفيه الحارث، وهو ضعيف ".

ورواه البيهقي (2/139) موقوفاً على عمر.

وسنده صحيح.

ثم إن الحديث لم يقيد التشهدَ بالأخير؛ فحصرُ دلالته على فرضية الأخير - كما

فعل الحافظ -؛ ليس كما ينبغي.

ص: 892

السلام على الله قَبْلَ (1) عباده، 2 [السلام علينا من ربنا] ، السلام على

جبريل، السلام على ميكائيل (2) ، السلام على فلان 3 [فلان]- 4 [يعنون (3)

الملائكة]-، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم 5 [ذات يوم] ؛ أقبل علينا بوجهه، فقال:

" 6 [لا تقولوا: السلام على الله. فـ] إن الله هو السلام (4) ، فإذا جلس

أحدكم في الصلاة؛ فليقل:

" التحيات

" فذكره إلى آخره (5) .

وقال بعد قوله: " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ":

(1) في " صحيح البخاري ": بفتح القاف، وسكون الموحدة. ووقع في بعض النسخ

منه: بكسر القاف، وفتح الموحدة. ويؤيده - كما قال الشيخ علي القاري - ما وقع في

رواية للبخاري بلفظ: السلام على الله من عباده.

(2)

زاد الدارمي: السلام على إسرافيل. ولكني في شك من ثبوت هذه الزيادة،

وأخشى أن تكون غير محفوظة.

(3)

وللإسماعيلي من رواية علي بن مسهر: فَنَعدُّ الملائكة. ومثله للسراج من رواية

محمد بن فضيل عن الأعمش بلفظ: فنعدُّ من الملائكة ما شاء الله. كذا في " الفتح ".

(4)

قال الشيخ علي القاري: " لأن معنى السلام عليك هو: الدعاء بالسلامة من

الآفات؛ أي: سلمت من المكاره أو من العذاب، وهذا لا يجوز لله تعالى؛ فإن الله هو

السلام؛ أي: هو الذي يعطي السلامة لعباده، فَأَنَّى يدعى له، وهو المدعو على الحالات؟! ".

(5)

هو من حديث ابن مسعود أيضاً، ولفظه:

كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ قلنا:

فذكره بزيادة:

" ثم يتخير من الكلام ما شاء ". وسيأتي الكلام على هذه الزيادة في آخر الصلاة

إن شاء الله تعالى [ص 998 - 1000، 1002 - 1003] .

ص: 893

" فإنه إذا قال ذلك؛ أصابَ كلَّ عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض "(1) .

أخرجه البخاري (2/248 و 255 و 11/11) والسياق له في رواية، ومسلم (2/14) ،

وأبو داود (1/152) ، والنسائي (1/187) ، والدارمي (1/308) ، وابن ماجه (1/290 -

291) ، والطحاوي (1/154 - 155) ، والبيهقي (2/138) ، وأحمد (1/382 و 413

و427 و 431) من طرق عن الأعمش: ثني شقيق عنه.

والزيادة الثانية: تفرد بها أحمد في رواية.

وإسنادها صحيح على شرط البخاري.

والزيادة الثالثة: عند البخاري، والدارمي، وأبي داود، وغيرهم.

والرابعة: عند ابن ماجه.

وإسنادها صحيح على شرطهما.

والزيادة السادسة: هي عند البخاري في رواية، وكذا أبو داود، وابن ماجه، وأحمد.

وأما الزيادة الخامسة: فهي من رواية منصور عن شقيق.

أخرجها مسلم، وأحمد (1/413) .

وأما الزيادة الأولى: فهي من رواية سفيان بن عيينة عن منصور.

أخرجها النسائي (1/187) ، والدارقطني (133) ، وعنه البيهقي (2/138) . وقال

الد ارقطني:

" هذا إسناد صحيح ". وكذا قال الحافظ في " الفتح "(2/249) . وهو على شرط الشيخين.

ثم الحديث له طرق أخرى عن أبي وائل: عند النسائي، وأحمد، وله عنده

(1/413) طريق آخر عن ابن مسعود نحوه.

(1)

استدل به على أن الجمع المضاف، والجمع المحلى بالألف واللام يعم؛ لقوله

أولاً:

ص: 894

2-

تشهد ابن عباس قال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد، كما يعلمنا [السورة من] القرآن؛

فكان يقول:

" عباد الله الصالحين ". ثم قال:

" أصاب كل عبد صالح ". واستدل به على أن للعموم صيغة، قال ابن دقيق العيد:

وهو مقطوع به عندنا في لسان العرب، وتصرفات ألفاظ الكتاب والسنة. قال:

والاستدلال بهذا فرد من أفراد لا تحصى، لا للاقتصار عليه. كذا في " الفتح ".

2-

وبه أخذ الشافعي وأتباعه. وفي " الفتح "(2/252) :

" وقال الشافعي - بعد أن أخرج الحديث -: رويت أحاديث في التشهد مختلفة،

وكان هذا أحب إليَّ؛ لأنه أكملها. وقال في موضع آخر - وقد سئل عن اختياره تشهد

ابن عباس؟ -: لما رأيته واسعاً، وسمعته عن ابن عباس صحيحاً؛ كان عندي أجمع،

وأكثر لفظاً من غيره، وأخذت به غير معنّفٍ لمن يأخذ بغيره مما صح ".

والحديث أخرجه مسلم (2/14) ، {وأبو عوانة [2/227 و 228] } ، وأبو داود

(1/154) ، والنسائي (1/175) ، والترمذي (2/83) ، وابن ماجه (1/291 - 292) ،

والطحاوي (1/155) ، والدارقطني (133) ، والبيهقي (2/140) ، وأحمد (1/292) من

طرق عن الليث بن سعد عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير وطاوس عنه.

والزيادة الأولى: هي عند مسلم، وابن ماجه. وهي عند مسلم، {وأبي عوانة

[2/228] } وغيرهما من طريق آخر عن أبي الزبير - وقد مضى [ص 867]-.

والزيادة الأخرى: هي عند الجميع؛ حاشا أحمد، وكذا الطحاوي.

وأما الرواية الأولى: في تنكير " السلام " في الموضعين؛ فهي عند الشافعي في

ص: 895

" التحيات، المباركات، الصلوات، الطيبات لله (1) ، السلام (وفي

رواية: سلام) (2) عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام (وفي

رواية: سلام) علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله،

و [أشهد] أن محمداً رسول الله (وفي رواية: عبده ورسوله) ".

" الأم "(1/101) ، والنسائي، والترمذي، والدارقطني، والبيهقي، وهي رواية

لأحمد.

وأما الرواية الأخيرة: فهي رواية النسائي، وابن ماجه.

وإسنادهما صحيح؛ إسناد مسلم.

والحديث صححه الترمذي، والدارقطني.

(1)

قال النووي في " شرح مسلم ":

" تقديره: والمباركات، والصلوات، والطيبات - كما في حديث ابن مسعود وغيره -،

ولكن حذفت الواو اختصاراً، وهو جائز معروف في اللغة.

ومعنى الحديث: إن التحيات وما بعدها مستحقة لله تعالى، ولا تصلح حقيقتها

لغيره ".

(2)

قال في " المجموع " - بعد أن ذكر الروايتين (3/460) -:

" واتفق أصحابنا على أن جميع هذا جائز، لكن الألف واللام أفضل؛ لكثرته في

الأحاديث، وكلام الشافعي، ولزيادته؛ فيكون أحوط، ولموافقته سلام التحلل من

الصلاة ".

ص: 896

3-

تشهد ابن عمر:

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في التشهد:

" التحيات لله، [و] الصلوات، [و] الطيبات، السلام عليك أيها النبي

3- أخرجه أبو داود (1/153) ، والطحاوي (1/154) ، والدارقطني (134) ،

والبيهقي (2/139) ، والضياء المقدسي في " المختارة "؛ كلهم من طريق نصر بن

علي: ثني شعبة عن أبي بشر سمعت مجاهداً يحدث عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به.

وهذا إسناد صحيح - كما قال الدارقطني، وكذا الحافظ في " الفتح "(2/251)

وهو على شرط مسلم. والزيادتان عند الدارقطني، والمقدسي، وكذا البيهقي في نسخة.

ثم قال الدارقطني:

" وقد تابعه على رفعه ابن أبي عدي عن شعبة، ووقفه غيرهما ". كذا قال. وخالفه

البيهقي؛ حيث يقول:

" ورواه ابن أبي عدي عن شعبة؛ فوقفه، إلا أنه رده إلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال:

كنا نقولها في حياته، فلما مات؛ قلنا: السلام على النبي ورحمة الله. وكان محمد بن

إسماعيل البخاري يرى رواية سيف عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود هي

المحفوظة؛ دون رواية أبي بشر. والله تعالى أعلم ".

قلت: يحتمل أن يكون لمجاهد روايتان:

إحداهما: عن أبي معمر عن ابن مسعود. وقد مضت.

والأخرى: عن عبد الله بن عمر.

أقول هذا؛ لأن أبا بشر هذا: ثقة، قد أخرجا له في " الصحيحين " عن مجاهد،

واسمه: جعفر بن إياس؛ فتوهيمه ليس بالهين، لا سيما وقد ثبت في " الموطأ "

ص: 897

ورحمة الله - قال ابن عمر: زدت فيها (1) : وبركاته -، السلام علينا، وعلى

عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله - قال ابن عمر: وزدت فيها (1) :

وحده لا شريك له -، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ".

(1/113) أن تشهد ابن عمر كان بلفظ:

" السلام على النبي ".

وإسناده صحيح غاية. فهو شاهد آخر لحديث ابن مسعود المتقدم.

هذا، ويؤيد قول البيهقي - أن ابن أبي عدي رواه عن شعبة موقوفاً - ما في

" التلخيص "(3/514) :

" ورواه البزار عن نصر بن علي أيضاً، وقال: رواه غير واحد عن ابن عمر، ولا

أعلم أحداً رفعه عن شعبة إلا علي بن نصر. كذا قال! وقول الدارقطني السابق يرد

عليه ".

قلت: قد علمت أن البيهقي موافق للبزار في هذا القول، وهو - أعني: البيهقي -

متأخر عن الدارقطني، ولا بد أنه قد اطلع على كلامه، فمخالفته له يدل على أن فيه

شيئاً، فلعل الدارقطني وهم في ذلك، أو أنه قد اختلفت الرواية في ذلك على ابن أبي

عدي؛ رفعاً ووقفاً؛ فوقف الدارقطني على الرواية المرفوعة من حيث فاتت البزار

والبيهقي، وفيه بعد. والله أعلم.

(1)

الظاهر أن هذه الزيادة لم يكن تلقاها ابن عمر منه صلى الله عليه وسلم مباشرة؛ فزادها، ليس

اختراعاً وابتداعاً لها من عند نفسه، بل نقلاً عن غيره من الصحابة، الذين رووا التشهد

عنه صلى الله عليه وسلم بهذه الزيادة الأولى.

وأما الأخرى: فهي ثابتة في تشهد أبي موسى الآتي بعده، ويشهد لهذا الاحتمال

ص: 898

..............................................................................

ما رواه الإمام أحمد (2/68) قال: ثنا عَفان: ثنا أَبَان بن يزيد: ثنا قتادة: ثني عبد الله

ابن بابي المكي قال:

صليت إلى جنب عبد الله بن عمر، فلما قضى الصلاة؛ ضرب بيده على فخذه،

فقال:

ألا أعلمك تحية الصلاة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا؛ فتلا عليَّ هؤلاء الكلمات.

يعني: قول أبي موسى الأشعري في التشهد.

هكذا أخرجه أحمد.

وإسناده صحيح على شرط مسلم.

وقد رواه الطحاوي (1/155) عن ابن مرزوق قال: ثنا عفان بن مسلم به. إلا أنه

قال: فتلا هؤلاء الكلمات. مثل ما في حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواية أحمد أصح عندي من رواية ابن مرزوق. فقد رجع أمر هاتين الزيادتين إلى

كونهما مرفوعتين إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر، لكنه لم يسمعهما منه صلى الله عليه وسلم

مباشرة؛ بل بواسطة أبي موسى. هذا ما يقتضيه الجمع بين روايتي حديث ابن عمر.

والله أعلم.

ص: 899

4-

تشهد أبي موسى الأشعري قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"

وإذا كان عند القعدة؛ فليكن من أول قول أحدكم: التحيات،

الطيبات، الصلوات (1) لله، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته،

السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله [وحده لا

شريك له] ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، [سبع كلمات هن تحية

الصلاة] ".

4- أخرجه مسلم، {وأبو عوانة [2/227] } ، وأبو داود، والنسائي، والدارمي،

والطحاوي، والدارقطني، والبيهقي، وأحمد من طرق عن قتادة عن يونُس بن جُبَير عن

حِطّان بن عبد الله الرَّقَاشي عنه. وهو قطعة من حديث سبق ذكره بطوله في (التأمين) .

والزيادة الأولى: هي عند أبي داود، والنسائي في رواية لهما، من طريق المعتمر بن

سليمان التيمي قال: سمعت أبي يحدث عن قتادة به.

وهذا سند صحيح على شرط مسلم. وكذلك أخرجها الدارقطني، وقال:

" إسناد متصل حسن ". وقول الحافظ في " الفتح "(2/251) :

" ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى عند مسلم ". وَهَمٌ.

وأما الزيادة الأخرى: فهي عند ابن ماجه (1/292) من طريق ابن أبي عدي: ثنا

سعيد بن أبي عَرُوبة وهشام بن عبد الله عن قتادة به.

وهي عند النسائي أيضاً من طريق خالد قال: ثنا سعيد عن قتادة به.

وهذا سند صحيح أيضاً على شرط مسلم.

(1)

وفي لفظ: " الزاكيات ".. بدل: " الصلوات ".

ص: 900

5-

تشهد عمر بن الخطاب:

كان رضي الله عنه يعلِّم الناس التشهد وهو على المنبر؛ يقول:

" قولوا:

التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات [لله] ، السلام عليك

(والباقي

مثل تشهد ابن مسعود) ".

أخرجه البيهقي (2/140 - 141 و 377) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة.

وقد رواه مسلم بهذا السند، لكنه لم يسق لفظه.

وأخشى أن تكون هذه الرواية وهماً؛ لأنه تفرد بها معمر دون أصحاب قتادة. ومعمر

وإن كان أحد الثقات الأعلام؛ فإن له أوهاماً معروفة - كما قال الذهبي -؛ احتملت له

في سعة ما أتقن.

5-

أخرجه الإمام مالك (1/113) ، وعنه الإمام محمد (107) .

والطحاوي (1/154) ، والبيهقي (2/144) عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن

الزبير عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري:

أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر، يعلم الناس

إلخ.

وهذا سند صحيح - كما قال الزيلعي (1/422) -، ورجاله رجال الستة. والزيادة

للبيهقي.

ثم أخرجه من طريق معمر عن الزهري به دونها. قال معمر:

كأن الزهري يأخذ به، ويقول: علَّمه الناسَ على المنبر، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

متوافرون لا ينكرونه. قال معمر: وأنا آخذ به.

ثم رواه مالك وغيره عن عائشة بنحوه؛ موقوفاً بتقديم وتأخير.

ص: 901

6-

{تشهد عائشة:

قال القاسم بن محمد: كانت عائشة تعلِّمنا التشهد، وتشيرُ بيدها

تقول:

" التحيات، الطيبات، الصلوات، الزاكيات لله، السلام على

النبي

" إلى آخر تشهد ابن مسعود} .

فإن قيل: هذا موقوف. فكيف أخرجته في كتابك، وقد اشترطت فيه ألا تذكر فيه

إلا المرفوع؟! فالجواب أني إنما أوردته لأمرين:

الأول - وهو الأقوى -: أن حكمه الرفع؛ كما قال ابن عبد البر؛ قال:

" لأنه من المعلوم أنه لا يقال بالرأي، ولو كان رأياً؛ لم يكن هذا القول من الذكر

أولى من غيره من سائر الذكر ".

والآخر: هو أنه قد أخذ به أحد الأئمة الأربعة واختاره؛ وهو الإمام مالك رحمه

الله، فكان من اللائق إيراده.

6-

{أخرجه ابن أبي شيبة (1/293) ، والسَّراج، والمخلِّص - كما تقدم

[ص 885]-، والبيهقي (2/144) والسياق له} .

واعلم أن للمصلي أن يختار من هذه التشهدات ما شاء منها، فكلها صحيحة

ثابتة وإن كان العلماء قد اختلفوا في أفضلها - كما سبق -؛ فقد اتفقوا - أو كادوا - على

أنه بأيها تشهد أجزأه؛ قال في " المجموع "(3/457) - بعد أن ساق التشهدات المذكورة؛

حاشا تشهد ابن عمر -:

" فهذه الأحاديث الواردة في التشهد كلها صحيحة، وأشدها صحة باتفاق المحدثين:

حديث ابن مسعود، ثم حديث ابن عباس. قال الشافعي والأصحاب: وبأيها تشهد؛

ص: 902

..............................................................................

أجزأه؛ لكن تشهد ابن عباس أفضل ". قال:

" وقد أجمع العلماء على جواز كل واحد منها، وممن نقل الإجماع القاضي أبو

الطيب ". قال أبو الحسنات اللكنوي في " التعليق الممجد على موطأ محمد " (109) :

" ولكلٍّ وجوهٌ توجب ترجيح ما ذهب إليه، والخلاف إنما هو في الأفضلية، كما صرح

به جماعة من أصحابنا، ويشير إليه كلام محمد هاهنا (وهو قوله: التشهد الذي ذكر كله

حسن، وليس يشبه تشهد ابن مسعود) ، فما اختاره صاحب " البحر " من تعيين

تشهد ابن مسعود وجوباً، وكون غيره مكروهاً تحريماً؛ مخالف للدراية والرواية؛ فلا يعول

عليه ".

{ [تنبيه] : ليس في كل الصيغ المتقدمة زيادة: " ومغفرته ". فلا يعتد بها، ولذلك

أنكرها بعض السلف:

فروى الطبراني (3/56/1) بسند صحيح عن طلحة بن مصَرِّف قال: زاد ربيع بن

خُثَيْم في التشهد [بعد] وبركاته: " ومغفرته "! فقال علقمة:

نقف حيث عُلِّمنا: السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته.

وعلقمة تلقى هذا الاتباع من أستاذه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ فقد روي

عنه.

أنه كان يعلم رجلاً التشهد، فلما وصل إلى قوله:" أشهد أن لا إله إلا الله "؛ قال

الرجل: وحده لا شريك له. فقال عبد الله: هو كذلك، ولكن ننتهي إلى ما عُلِّمنا.

أخرجه الطبراني في " الأوسط "(رقم 2848 - مصورتي) بسند صحيح؛ إن كان

المُسَيَّب الكاهلي سمع من ابن مسعود} .

ص: 903