المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

.............................................................................. - أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - جـ ٣

[ناصر الدين الألباني]

الفصل: ..............................................................................

..............................................................................

النشاشيبي، وقد بيَّنا لك وجه ذلك.

فحذار أيها المسلم! أن تحاول فهم القرآن مستقلاً عن السنة؛ فإنك لن تستطيع ذلك

ولو كنت في اللغة سيبويه زمانك، وهاك المثال أمامك؛ فإن النشاشيبي هذا كان من كبار

علماء اللغة في القرن الحاضر، فأنت تراه قد ضلَّ حين اغترَّ بعلمه في اللغة، ولم يستعن

على فهم القرآن بالسنة؛ بل إنه أنكرها كما عرفت، والأمثلة على ما نقول كثيرة جداً لا

يتسع المقام لذكرها، وفيما سبق كفاية، والله الموفق} .

‌الفائدة الثالثة:

في حكم زيادة لفظة: (سيدنا) في الصلوات الإبراهيمية، أو في

التشهد.

{يرى القارئ أنه ليس في شيء منها لفظ: (السيادة) ، ولذلك اختلف المتأخرون

في مشروعية زيادتها في الصلوات الإبراهيمية

وأريد أن أنقل إلى القراء الكرام هنا

رأي الحافظ ابن حجر العسقلاني في ذلك؛ باعتباره أحد كبار علماء الشافعية الجامعين

بين الحديث والفقه؛ فقد شاع لدى متأخري الشافعية خلافُ هذا التعليم النبوي الكريم!

فقال الحافظ محمد بن محمد بن محمد الغرابيلي (796 - 835) - وكان ملازماً

لابن حجر، ومن خطه نقلت (1) -:

وسئل (أي: الحافظ ابن حجر) أمتع الله بحياته عن صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

في الصلاة أو خارج الصلاة، سواء قيل بوجوبها أو بندبيتها؛ هل يشترط فيها أن

يصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة؛ كأن يقول مثلاً: اللهم! صل على سيدنا محمد، أو على سيد

الخلق، أو على سيد ولد آدم. أو يقتصر على قوله: اللهم! صل على محمد؟ وأيهما

أفضل: الإتيان بلفظ السيادة لكونها صفة ثابتة له صلى الله عليه وسلم، أو عدم الإتيان به لعدم ورود

ذلك في الآثار؟

_________

(1)

وهو من محفوظات المكتبة الظاهرية.

ص: 938

..............................................................................

فأجاب رضي الله عنه:

نعم؛ اتباع الألفاظ المأثورة أرجح، ولا يقال: لعله ترك ذلك تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم؛ كما لم

يكن يقول عند ذكره صلى الله عليه وسلم: " صلى الله عليه وسلم "، وأمته مندوبة إلى أن تقول ذلك

كلما ذكر!

لأنا نقول: لو كان ذلك راجحاً؛ لجاء عن الصحابة ثم عن التابعين، ولم نقف في

شيء من الآثار عن أحد من الصحابة ولا التابعين لهم قال ذلك؛ مع كثرة ما ورد عنهم

من ذلك.

وهذا الإمام الشافعي - أعلى الله درجته، وهو من أكثر الناس تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم

قال في خطبة كتابه الذي هو عمدة أهل مذهبه:

" اللهم! صلِّ على محمد

" إلى آخر ما أداه إليه اجتهاده، وهو قوله:

" كلما ذكره الذاكرون، وكلما غفل عن ذكره الغافلون ".

وكأنه استنبط ذلك من الحديث الصحيح الذي فيه: " سبحان الله عدد خلقه "؛ فقد

ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لأم المؤمنين - ورآها قد أكثرت التسبيح وأطالته -:

" لقد قلتُ بعدكِ كلماتٍ؛ لو وُزِنَتْ بما قُلْتِ لوَزَنَتْهُن "، فذكر ذلك. وكان صلى الله عليه وسلم

يعجبه الجوامع من الدعاء.

وقد عقد القاضي عياض باباً في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب " الشفا "،

ونقل فيه آثاراً مرفوعة عن جماعة من الصحابة والتابعين؛ ليس في شيء منها عن أحد

من الصحابة وغيرهم لفظ: (سيدنا) .

منها: حديث علي: أنه كان يعلمهم كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول:

اللهم! داحي المَدْحُوَّات! وباري المسموكات! اجعل سوابق صلواتك، ونوامي

ص: 939

..............................................................................

بركاتك، وزائد تحيتك على محمد عبدك ورسولك، الفاتح لما أُغْلِق.

وعن علي أنه كان يقول:

صلوات الله البر الرحيم، والملائكة المقربين، والنبيين والصدِّيقين والشهداء الصالحين،

وما سبح لك من شاء يا رب العالمين! على محمد بن عبد الله خاتم النبيين وإمام

المتقين

الحديث (*) .

وعن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول:

اللهم! اجعل صلواتك، وبركاتك، ورحمتك على محمد عبدك ورسولك، إمام

الخير، ورسول الرحمة

الحديث (**) .

وعن الحسن البصري أنه كان يقول:

من أراد أن يشرب بالكأس الأروى من حوض المصطفى؛ فليقل: اللهم! صل على محمد

وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأولاده وذريته وأهل بيته وأصهاره وأنصاره وأشياعه ومحبيه.

فهذا ما أوثره من " الشفا "؛ مما يتعلق بهيئة الصلاة عليه عن الصحابة ومن بعدهم،

وذُكِرَ فيه غيرُ ذلك.

نعم؛ ورد في حديث ابن مسعود أنه كان يقول في صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم:

اللهم! اجعل فضائل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين

الحديث.

أخرجه ابن ماجه.

ولكن إسناده ضعيف (**) .

_________

(*) قال السخاوي في " القول البديع "(ص 70) : " لم أقف على أصله "، وذكر (ص 71) أثر

الحسن البصري الآتي؛ مكتفياً بعزوه للقاضي عياض؛ فكأنه لا أصل له!

(**) وكذا ضعفه الشيخ رحمه الله في " ضعيف الترغيب "(1/515)، ورد تحسين المنذري له بقوله:

" كلا؛ فإن فيه المسعودي المختلط ".

ص: 940

..............................................................................

وحديث علي المشار إليه أولاً: أخرجه الطبراني بإسناد ليس به بأس (*) ، وفيه ألفاظ

غريبة رُوِّيتُها مشروحة في كتاب " فضل النبي صلى الله عليه وسلم " لأبي الحسن بن فارس.

وقد ذكر الشافعية أن رجلاً لو حلف لَيُصَلِّيَنَّ على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة؛ فطريق

البر أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم! صلِّ على محمد كلما ذكره الذاكرون، وسها عن

ذكره الغافلون. وقال النووي:

والصواب الذي ينبغي الجزم به أن يقال: " اللهم! صلِّ على محمد وعلى آل

محمد؛ كما صليت على إبراهيم

" الحديث.

وقد تعقبه جماعة من المتأخرين؛ بأنه ليس في الكيفيتين المذكورتين ما يدل على

ثبوت الأفضلية فيهما من حيث النقل، وأما من حيث المعنى؛ فالأفضلية ظاهرة في الأول.

والمسألة مشهورة في كتب الفقه، والغرض منها أن كل من ذكر هذه المسألة من

الفقهاء قاطبة؛ لم يقع في كلام أحد منهم: (سيدنا) ، ولو كانت هذه الزيادة مندوبة؛ ما

خفيت عليهم كلهم حتى أغفلوها، والخير كله في الاتباع، والله أعلم ".

قلت: وما ذهب إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله من عدم مشروعية تسويده صلى الله عليه وسلم.

في الصلاة عليه اتباعاً للأمر الكريم، وهو الذي عليه الحنفية؛ - هو الذي ينبغي التمسك

به؛ لأنه الدليل الصادق على حبه صلى الله عليه وسلم؛ {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ

اللَّهُ} (آل عمران: 31) .

ولذلك قال الإمام النووي في " الروضة "(1/265) :

" وأكمل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم! صلِّ على محمد

" إلى آخر وفق

النوع الثالث المتقدم، فلم يذكر فيه (السيادة) !}

وقد أشار إلى المنع من ذلك أبو بكر بن العربي - كما سبق -. وصرح بذلك جمع،

وأباحه آخرون.

_________

(*) بل هو ضعيف؛ فيه جهالة وانقطاع؛ كما في " القول البديع "(ص 69 - 70) .

ص: 941

..............................................................................

والذي نعتقده ونَدين الله تعالى به أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم هو سيدنا؛ بل هو سيد كل

آدمي شاء أم أبى؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:

" أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع ".

رواه مسلم (7/59) ، وأبو داود (2/268) ، وأحمد (2/540) من حديث أبي هريرة.

وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وغيره.

والذي ينبغي البحث فيه هو النظر في جواز زيادة هذه اللفظة فيما شرعه صلى الله عليه وسلم لأمته

من صيغ التشهد، والصلوات الإبراهيمية؛ التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على كيفيات

مختلفة، وليس في شيء منها هذه اللفظة - كما رأيت -؛ ولذلك فإنا نقطع بأن الحق مع

المانعين من ذلك؛ لأننا نعتقد أن زيادة هذه اللفظة لو كانت مما يقربنا إلى الله زلفى؛

لأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أغفل أمرها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:

" ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله تعالى إلا وأمرتكم به

" الحديث.

رواه الطبراني بإسناد صحيح - كما في " الإبداع " -. وقوله صلى الله عليه وسلم:

" إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمُه لهم،

وينذرهم شر ما يعلمه لهم

" الحديث.

رواه مسلم (6/18) ، وأحمد (2/191) من حديث ابن عمرو.

وقد أورده ابن حزم في " الإحكام في أصول الأحكام "(1/90) جازماً به بلفظ:

" إن حقاً على كل نبي أن يدل أمته على أحسن ما يعلمه لهم ".

فإذا كان الأمر كذلك؛ فعدم أمره صلى الله عليه وسلم لنا بتسويده في الصلاة يدل على أنه لا يجوز

التقرب إلى الله تعالى بذلك، ومن فعل ذلك؛ فقد استدرك عليه صلى الله عليه وسلم، ونسبه إلى

القصور - كما قال ابن العربي فيما سبق -، ولا يخفى ما في ذلك من الكفر والضلال.

ص: 942

..............................................................................

وأيضا فإن الأذكار والأوراد توقيفية؛ لا يجوز الزيادة عليها، كما لا يجوز النقص

منها، أو تغيير شيء من ألفاظها، وقد دلَّ على ذلك السنة؛ كما في " الصحيحين " من

حديث البراء بن عازب قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" إذا أتيت مضجعك؛ فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن،

وقل: اللهم! أسلمت وجهي إليك

" الحديث، وفيه:

" آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت ".

قال البراء: فقلت أستذكرهن: وبرسولك الذي أرسلت. قال:

" لا، - وفي رواية الترمذي، وصححه (2/240 - طبع بولاق) ، والطحاوي في

" المشكل "(2/45) قال: فطعن بيده في صدري، ثم قال: - وبنبيك الذي أرسلت ".

قال الحافظ في " الفتح "(11/94) :

" وأولى ما قيل في الحكمة في رده صلى الله عليه وسلم على البراء: أن ألفاظ الأذكار توقيفية، ولها

خصائص وأسرار لا يدخلها القياس؛ فيجب المحافظة على اللفظ الذي وردت به، وهذا

اختيار المازري؛ قال: فيقتصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه، وقد يتعلق الجزاء بتلك

الحروف، ولعله أوحي إليه بهذه الكلمات؛ فيتعين أداؤها بحرفها ".

وهذه قاعدة عظيمة يجب مراعاتها في جميع الأذكار والأوراد المروية عنه صلى الله عليه وسلم؛ أن

لا يزاد فيها ولا ينقص، ولا يتصرف فيها بتغييرأي لفظ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد أنكر على من

غير لفظ: (النبي) بلفظ: (الرسول) ، مع أنه لم يغير شيئاً من المعنى؛ لما تقرر أن الرسول

أعم من النبي، فالرسول نبيٌّ وزيادة، فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد أنكر ذلك - وليس فيه إلا

استبدال لفظ بلفظ -؛ فلأن ينكر على من زاد زيادة باللفظ والمعنى من باب أولى، وعليه

يدل أيضاً عمل الصحابة:

ص: 943

..............................................................................

فقد أنكر ابن عمر رضي الله عنه على رجل قال بعد أن عطس: الحمد لله، والصلاة

على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له: وأنا أقول: الحمد لله، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم،

ولكن ما هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أخرجه الترمذي.

هذا، ونحن نعلم أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين لم يكونوا يتعبدون

الله تعالى بتسويده صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وهم قطعاً أشد تعظيماً له صلى الله عليه وسلم منا، وأكثر له

حباً، ولكن الفرق بينهم وبيننا أن حبهم وتعظيمهم عملي باتباعه صلى الله عليه وسلم؛ كما هو نص

قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . وأما حبنا؛ فلفظي

شكلي.

فإذا كان السلف لم يتعبدوا بذلك؛ فليس لنا أن نفعل. وقد قال حذيفة بن اليمان

رضي الله عنه:

كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلا تَعبدوها.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه:

اتبعوا، ولا تبتدعوا؛ فقد كُفِيْتُم، عليكم بالأمر العتيق.

والأمر العتيق: هو الاقتصار على ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الأوراد والأذكار؛ بدون أدنى

زيادة، مهما كان نوعها؛ ولذلك قال الحافظ:

" اتباع الآثار الواردة أرجح، ولم تنقل - يعني: لفظة السيادة - عن الصحابة

والتابعين، ولم تُرو إلا في حديث ضعيف عن ابن مسعود، ولو كان مندوباً؛ لما خفي

عليهم ". قال:

ص: 944

..............................................................................

" وهذا يقرب من مسألة أصولية؛ وهي: أن الأدب أحسن، أم الاتباع والامتثال؟

ورجح الثاني؛ بل قيل: إنه الأدب ".

قلت: وهذا القيلُ نقله الشيخ الطحطاوي في " مراقي الفلاح "(158) عن

" شرح الشفا " للشهاب. وقد ذكر السيوطي نحوه في " الحرز المنيع "(66) عن المجد

اللغوي.

وأنا أستغرب وقوع مثل هذا الاختلاف بين العلماء؛ فإني لا أعقل أن يكون الأدب

خيراً من الامتثال؛ لأن معنى ذلك أن الامتثال ليس فيه من الأدب ما يليق به صلى الله عليه وسلم!

ولا يخفى ما فيه، ولأن في هذا القول محاذيرَ كثيرة تؤدي إلى تغير الشريعة!

فخذ مثلاً: الشهادة في الأذان، والإقامة، وفي التشهد في الصلاة.

فإن الأفضل - على هذا القول - أن يقول المتشهد: (وأشهد أن سيدنا محمداً رسولُ

الله) .

وإذا كان الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من امتثال أمره؛ فكذلك يقال أيضاً: إن

الأدب مع الله تعالى أولى من امتثال أمره من باب أولى! فينبغي أن يقال مثلاً: (أشهد

أن لا إله إلا الله سبحانه وتعالى ؛ وغيرها من العبارات التي تدل على تعظيم الله تعالى

وتنزيهه!

وما أعتقد أن عاقلاً من علماء المسلمين يستجيز هذا التصرف، والتغيير في دين الله

تعالى، وسَدُّ ذلك إنما يكون برد ذلك القول، والأخذ بمعارضه: الامتثال خير من الأدب؛

بل هو الأدب. ورحم الله ابن مسعود حيث قال:

اقتصادٌ في سُنَّةٍ خيرٌ من اجتهاد في بدعة.

وكل خير في اتباع من سلف

وكل شر في ابتداع من خلف

ص: 945