الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترتيبُ المعاني وتنسيقُها وتهذيبُها
اعلم أنه لا سبيلَ إلى الاستنتاج إلا الترتيبُ، ولا يحصُل ترتيبُ المعاني إلا بتقريرها في الذِّهْن ابتداءً، ثم رَعْيُ التَّنَاسبِ بينها بتفكيكِها وتقسيمِها والموازنةِ بينها.
والخطيبُ أحوجُ إلى هذا من الكاتب -كما يأتي في الخطابة- لأنه يقولُ ولا يكتبُ، فلا يُعِينُه إلا الاعتمادُ على الترتيبِ الطبيعيِّ للكلام، حتى يعتاد ذهنُه ذلك، ويصير له دُرْبَةً وسَجِيَّةً، كي لا يُرتَجَ عليه إن لم يقرِّر المعاني في ذهنِه، ولئلا يلعنَ بعضُ كلامِه بعضًا إن لم يرتِّبْهَا ويقسِّمْهَا، ويشهدُ لهذا ما نُقِلَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن رواحة رضي الله عنه:"كيف تقولُ الشِّعْرَ؟ فقال: أنظرُ ثم أقول".
وأما التناسب بين المعاني ففيه يَبْحَثُ بابُ (الفَصْل والوَصْل) من علم البلاغة، وكذلك (المطابقة) المبحوث عنها في البديع، و (المزاوجة) أيضًا.
وأما التفكيك والتقسيم فهما متشابهان، إلا أنَّ التفكيك عبارةٌ عن استقلال كلِّ معنى بنفسه، وعدمِ تراكم المعاني المسمَّى بـ
(المعاظلة)
، المعدود قديمًا من عيوب الكلام. وقد مدح عمرُ رضي الله عنه زهيرًا بأنه:
"لا يعاظل بين الكلامَيْن"، وذلك أنَّ المتكلِّم قد يخطر بباله المعنيان فصاعدًا، فيحاول أن يمزجَهُمَا جميعًا، ويُنزِلَ السامع منزلة المطَّلِع على ضميرِه، كما قال أبوتمام:
سَبَقَ المشيبَ إليه حتى ابتَزَّه
…
وَطَنَ النُّهَى من مَفْرِقٍ وقَذَال
أراد أنَّ السَّيفَ سَبَقَ المشيبَ إلى رأس القَرْنِ فافتكَّ منه الرأس، ومراده: أنه لو لم يُقتَلوا لشَابوا من هَوْل الحَرْبِ، إلا أنَّ هذا لا يدُلُّ عليه لفظُه، ولكنَّه شيءٌ قدَّرَه في نفسِه وتراكم بعضُه على بعضٍ، فعَبَّر عن الصورة التي حَصَلت في ذِهْنِه دَفْعَةً واحدة.
وأما التقسيم فهو جمعُ طائفةٍ من المعاني في شِقٍّ من الكلام لارتباطٍ لها ببعضِها، واتفاقٍ في نَوْعٍ أو غايةٍ أو نحوِهما. وقد نُقِل عن بعض الحكماء أنه قال:"الخَطَابة: صِحَّةُ التَّقسِيم". وأكملُه ما استوعب الأقسام كلَّها، كقول علي رضي الله عنه:"الحقُّ ثقيلٌ مَرِيءٌ، والباطل خفيفٌ وبيءٌ، وأنت رجلٌ إن صُدِقْتَ سخطتَ، وإن كُذِبْتَ رَضِيتَ". لأنه إذا شَذَّت بعض الأقسام عُدَّ الكلام معيبًا، كما قيل: إنَّ ابن مَيَّادة هَرَب أحدُ عُمَّالِه من صَارِفِه، فكتب ابن ميادة إليه:"إنَّك لا تخلو في هروبك من صارفك: أن تكون قدَّمتَ إليه إساءةً خِفْتَه معها، أو خَشِيتَ في عملك خيانةً فلا بد من مطالبتك". فوقَّع العاملُ تحته: "في الأقسام ما لا يدخلُ فيما ذكرتَه، وهو أني خِفْتُ من ظلمِه