الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخذ النتائج من المعاني
كما أن المنشئ قد يستطرد الشيء لمناسبةٍ وتعلُّقٍ بالغرض، كذلك يلزمه سَوْقُ معانٍ غير مقصودة بالذات، ولكنَّ المقصود هو ما تعطيه من النتيجة، وتسمَّى حينئذٍ بـ (المقدِّمَات)، وبيان هذا يأتي عند الكلام على الخَطَابة لكثرة وقوعه فيها، وإنما تعرضنا له هاهنا لأنه قد يقع في غيرها، بأن لا يُفضِي المتكلِّمُ إلى غَرَضِه من أول وَهْلَةٍ خشيةَ نفورِ النَّفْس، أو عدم اتضاح المقصود، وعندي أنَّ هذا من جملة ما يُفَرَّقُ به بين مقامات الإطناب والإيجاز، ومنه ما يسمَّى في فن البديع بـ (حُسْنِ التعليل)، وبـ (حُسْنِ الاعتذار)، ومن الاستنتاج ما وقع في كتابٍ كتب به الجاحظ إلى محمد بن عبد الملك يستعطفُه ويطلب عفوَه عن زَلَّةٍ، قال: "أما بعد، فإن كنتُ اجترأتُ عليك فلم أجترئ إلا لأنَّ دوامَ تغافلك عني شبيهٌ بالإهمال الذي يورث الإغفال، والعفو المتتابع يُؤمِنُ مِنَ المكافأة،
فإن كنتَ لا تَهَبُ عقابي لِخِدْمَةٍ فَهَبْهُ لأياديك عندي، وإلا تفعل ذلك فَعُدْ إلى حُسْنِ العادة، وإلا فافعل ذلك لحسن الأُحْدُوثَة، وإلا فأتِ ما أنت أهلُه من العَفْو، دون ما أنا أهلُه من استحقاق العقوبة
…
إلخ".
وقد تُقَدَّم النتيجة على مقدِّماتها، فَيُؤتَى بها حينئذٍ كالأدلة، وذلك إذا كان المخاطَب غير متوقَّعٍ نُفُورُه، إما لإنصافه أو لطاعته للمتكلِّم أو نحو ذلك، كما تراه في كتابٍ كتب به أبوبكر الخُوَارَزْمِيِّ لتلميذِه يُؤَنِّبُه على المكابَرة، وهو قوله:"بلغني أنك نَاظَرْتَ، فلمَّا تَوجَّهَتْ عليك الحُجَّةُ كَابَرْتَ، ولما وَقَعَ نِيرُ الحقِّ على عنقك ضَجِرْتَ، وكنت أحسَب أنك أعرفُ بالحقِّ مِنْ أن تَعُقَّه، وأَهْيَبُ لحجابِ العَدْلِ والإنصاف من أن تَشُقَّه، كأنك لم تعلم أن لسان الضَّجَر ناطقٌ بالعَجْز، وأن وجه الظلم مُبَرْقَعٌ بالقبح، وأنك إذا استدركتَ على نقد الصَّيَارِفَة، وتَتَبَّعْتَ غَلَط الحُكَماء والفلاسفة، فقد طَرَقْتَ إلى عَيْبِكَ لعائبك، ونَصَرْتَ عدوَّك على صاحبك، وقد عَجِبْتُ من حُسْنِ ظنِّك بك وأنت إنسانٌ". فحَسُنَ في هذا المقام إفضاؤُه إلى الغَرَض، ثم إتيانُه بما مِنْ شأنِه أن يكون مقدِّمَةً بمنزلة الدَّليل كما يظهر بالتأمُّل.