الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحوال الألفاظ المفردة
وهي: الفَصَاحة والصَّرَاحة والعِزَّة والرَّشَاقة.
أما الفصاحة: فهي وصفُ الكلمة، وهي خُلوصُهَا مما يُكَدِّرُها ويثقلها في السَّمْع ويبعدها عن سلامة الذَّوْقِ العربي، وقد تكَفَّل ببيانها أئمة علم المعاني.
وأما الصَّرَاحة: فهي دلالة اللفظ على كمال المعنى المراد، بأن يتعيَّن المرادُ منه. قال الجاحظ في كتاب البيان:"حسن البيان هو الإبانة عما في النَّفْس بكلامٍ بليغٍ بعيدٍ عن اللَّبْس". ويحصل ذلك بأمور كثيرة:
منها: توخِّي الألفاظ الموضوعة للمقيَّدات، نحو:(الخِوَان) للمائدة قبل أن يوضَع عليها الطعام، و (الرَّسْف) لمشي الرَّجُل المُقَيَّد، و (القاني) لشديد الحُمْرَة، و (الصَّبَاحَةُ) للوجه، و (الوضَاءَةُ) للبَشَرة، و (اللَّبَاقَة) للشَّمَائل، و (الرَّشَاقَة) للقَدِّ، و (الظَّرْف) في النطق، ونحو ذلك، ولذا تجب معرفة المترادفات؛ لأنها لا تخلو عن تقييد أو إطلاق.
ومنها: تجنُّب استعمال المشترَك بدون قرينة، مثل كلمة (مُسَرَّج) في قول رؤبة بن العَجَّاج:
وفَاحِمًا ومَرْسِنًا مُسَرَّجَا
فلم يُعرَف هل أراد أنه كالسِّرَاج أم كالسَّيْفِ السُّرَيْجِي في الدِّقْةِ والاستواء.
وقولنا: (بلا قرينة) يُخرِج نحو قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} الأعراف: 157. فإنَّ عَطْف {وَنَصَرُوهُ} يُبَيِّن أنَّ التَّعْزِيرَ هنا هو النَّصْر لا ضَرْبُ الحَدِّ، ونحو قول الحريري: "فيدعي تارةً أنه من آل سَاسَان" حيث عُلِمَ أنه يريد ملوك الفُرْسِ لمقابلته بقوله: "يعتزي مرَّةً إلى أَقْيَالِ غَسَّان" فانتفى احتمال أن يكون المراد (الشَّحَّاذين) الذين أَطْلَقَ عليهم هذا اللفظَ في موضع آخر.
وقد يدعو المَقَامُ للعدول عن الصَّرَاحة لأغراضٍ، مثل التَّوْرِيَة، والتَّوجِيه، والمُوَارَبة، ويحسن ذلك في التخلُّص من المضايق، كقول بعضهم -وقد سُئِل في مجلسِ جماعةٍ من الشِّيعَة عن الأفضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال-:"الذي كانت ابنتُه تحتَه" فاحتمل أن يريد أبابكر وعليًّا رضي الله عنهما، بحسب الترتيب في الضميرين.
تنبيه: مما يدخل تحت هذا الشرط التنبيه إلى كلماتٍ كثيرةٍ يستعملُها الكُتَّاب والمنشئون غَلَطًا، إما في معناها وإما في اشتقاقها، وقد ألَّف في ذلك الحريريُّ:(دُرَّة الغَوَّاص)، وألَّف فيه بعضُهم:
(لَفَّ القِمَاط، فيما يُستعمَل من الأغلاط)، وقد أكثر الكُتَّاب المتأخرون من ذلك، وألف في ذلك الشيخ إبراهيم اليازجي كتابًا سماه:(لُغَةُ الجَرَائد) إلا أنه قليل الفائدة، كثير الغلط في كثيرٍ مما عَدَّه غلطًا.
فعلى المنشئ أن لا يتابعَهم في استعمال لفظٍ إلا بعد تحقيقِ معناه لغةً. فمن أغلاطهم: (رَدَحٌ من الزَّمَن) يريدون حِصَّة قليلة، وإنما هو المدة الطويلة جِدًّا. وقولهم:(باهِظ) بمعنى كثير، وإنما هو الأمر المنتقل. وقولهم:(تَوًّا) بمعنى الآن، أو الوقت الحاضر، وهو غلط؛ إذ التَّوُّ الذهابُ على سَوَاءٍ واستقامة، بحيث لا يُعَرِّجُ على شيء، تقول: سار تَوًّا، أي لم يقف ولم يعرِّج. وقولهم:(نَاهَزَ) يريدون تَجَاوَزَ، وصوابه: قَارَبَ، إلى غير ذلك.
وأما العِزَّة: فهي سلامة الكلمة من الابتذال. والابتذال يقع على وجوه:
أحدها: نَقْلُ العامَّة الكلمةَ من معنى، واستعمالها في معنى غيرِ حَسَن، كـ (البُهْلُول) فأصله السَّيِّدُ الجامع لصفات الكمال، فأخرجه عَامَّتُنَا للمغفَّل، و (الخِرِّيت) أصله البصير بالطُّرُقَات، كما روي في حديث الهجرة، فاستعملوه للجبان. وكثيرٌ من أسماء الأضداد نَشَأ من مثل هذا.
الثاني: أن تكون الكلمة من موضوعات العامة المفقودة أو المَنْسِيَّة في فصيح الكلام، مثل (الخازَ بازَ) لذباب الرِّيَاض، ومثل (اللَّقالِق) جمع لَقْلَق، وهو طائرٌ له مِنْقَارٌ طويل دقيقٌ، ورِجْلاه طويلتان.
الثالث: أن يحصل من بعضِ صِيَغِ الاشتقاق ما يُوهِمُ معنًى مُسْتَبْشَعًا، مثل أن يُشْتَقَّ مِنْ (هَمَّهُ الأمرُ) وَزْنُ فَاعِلَة، فيقال:(عَرَضتْ له نَازِلةٌ هَامَّةٌ) أي مُهِمَّةٌ، فيُتَوَهَّمُ أنها الهَامَّة بمعنى الدَّاهِيَة.
الرابع: أن يكون معنى الكلمةِ سخيفًا، فيجب على الكاتب إن اضطُرَّ إلى التعبير عن مدلولها أن يتَنكَّبَ عنها إلى مسالك الكناية تنزيهًا للِّسان، كما جاء القرآن العظيم:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} النساء: 43، {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} البقرة:235. ويُغتفَرُ استعمال المبتذل في مقام الهَزْل أو الحِكَاية أو المشاتَمة، مثل ما وقع في أوائل رسالة ابنِ زيدون المشهورة برسالة وَلَاّدَة.
وأما الرَّشَاقة: فهي مناسبةُ حالِ اللفظ لمقام الكلام، فإنَّ الألفاظ منها جَزْلٌ ومنها سَهْلٌ، فالجَزْل يُستعمَل في ذكر الحروب والحَمَاسة والتوبيخ ونحوها، والسَّهْلُ في مقام الملاطَفَة والغَزَل والمديح، ومنها ما لا يوجِبُ شيئًا من الأمرين، والتحقيق أنَّ كُلَّ هذا لا يَتبَعُ وَصْفَ الألفاظ في ذاتِها؛ إذ ليس وصفُها مختلفًا، ولكنه يتبع جَلْبَ بعض الألفاظ وتركَ البعض بحسب المقام، كما حَسُنَ استعمال (سَيِّدتي) في قول أبي العتاهية:
ألا ما لِسيِّدتي مَالَهَا
…
تُدِلُّ فَأَحْمِلُ إِدْلالَهَا
ولو جيء به في مقامٍ آخر لَقَبُحَ. وقد عيب على جميلٍ قولُه:
ألا أيُّها النُّوّامُ ويْحَكُمُ هُبُّوا
…
أُسَائِلْكُمُ هَلْ يَقتُل الرَّجُلَ الحُبُّ؟
كما تقدم في آخر القسم المعنوي.