الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما
شروط الخطيب في نفسه
فأهمها:
اعتقادُه أنه على صواب وحقٍّ؛ لأنَّ ذلك يودِع كلامَه تأثيرًا في نفوس السامعين، وأقوى له في الدعوة إليه والدفاع عنه، ويحصُلُ ذلك بالتزامه متابعةَ الحقِّ، وبكونه على نحو ما يطلبُه من الناس. وانظر ما حكاه الله تعالى عن شعيب عليه السلام:{قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود].
ومنها: عِفَّتُه ونزاهتُه.
ومنها: الوَقَار والصَّون عن الابتذال في معاشرة القوم، وعدم الإكثار من الهَزْل والسُّخْف والفُحْش والخِفَّة والطَّيْش.
ومنها: النَّزَاهة عن الطَّمَع في جَرِّ نَفْعٍ من كلامه؛ فإنَّ في ذلك نُفْرَةً عن اتِّعَاظ الناس بقوله، وظِنَّةً في صِدْق دَعْوتِه، وقد قال السَّروجيُّ بعد أن قام خطيبًا:
لَبِسْتُ الخَمِيصَةَ أبغي الخَبيصَهْ
…
وأَنْشَبْتُ شِصِّيَ في كُلِّ شِيصَهْ
ولقد يجدرُ بنا إذ بَلَغْنَا هذا الموضعَ أن نختِمَه بذِكْر بعض عيوبٍ يكثُر عُروضُها للخُطَباء ليتنبَّه المُطَالِعُ إلى تجنُّبِها.
واعلم أنها تنقسم إلى فطري وإلى مكتسب:
فأما الفِطْريُّ فمنه ما يمكن تجنُّبُه بكثرة الممارسة، نحو: الحُبْسَة عند التكلُّم، فقد كان عمرو بن سعد بن أبي العاص -البليغ الخطيبِ- في أول أمره لا يتكلَّم إلا اعْتَرَتْه حُبْسَةٌ في مَنْطِقِه، فلم يزل يَتَشَادقُ ويُعَالِجُ إخراج الكلام حتى مال شِدْقُه مِنْ كثرة ذلك، ولُقِّب لذلك بـ (الأشدق) فقال فيه الشاعر:
تَشَادَقَ حتى مَالَ بالقَوْلِ شِدْقُهُ
…
وكلُّ خطيبٍ لا أبا لكَ أَشْدَقُ
وقد اعتقد الناس فيه حين انتقل من الحُبْسَة إلى الفصاحة أن الجِنَّ لطَمَتْهُ على وجهِه ليتعلَّم الفصاحة، وكذلك كان اعتقادهم في الشُّعراء أن الجن تَتَراءى لهم وتُمْلِي عليهم، فقال في ذلك الشاعر:
وعمرٌو لَطِيمُ الجِنِّ وابنُ محمَّدٍ
…
بأسوأ هذا الرأيِ مُلْتَبِسَان
وسبَّه رجلٌ يومًا فقال له: "يا لَطِيم الشيطان، ويا عاصي الرحمن".
ومِنْ قَبْلُ حُكِي مثل هذا التدرُّب عن ديموستين خطيبِ اليونان في عهد الإسكندر الأكبر، وقد تقدم ذلك في مقدمة قسم الإنشاء.
ونحو سقوط الأسنان، وكان عبد الملك بن مروان رحمه الله قد شَدَّ أسنانه بالذهب لما كبِرت سِنُّه وقال:"لولا المنابرُ ما باليتُ متى سَقَطَتْ".
ومن العيب الفِطْري ما لا يمكن تجنُّبُه كبُحَّةِ الصوت، والفَهَاهَةِ، واللُّثْغَةِ ببعض الحروف وضِيق النَّفَس فجديرٌ بصاحبها أن يتجنَّب هذه الصِّنَاعة.
وأما العيب المكتسب فهو أشياء تعرِض للخطباء في أول اشتغالهم بالخطابة من أفعالٍ تصدُر عن غير اختيار، فإن هم غفلوا عن مراقبة أنفسهم لإزالتها صارت لهم عوائدَ سيئةً، وقد نَهى الأدباءُ عن أمورٍ من ذلك، كالتَّنَحْنُح، ومَسْح اللِّحْية في أثناء الخطبة لا عند الشروع -على أنه يُغتفَر منه ما لا يَكثرُ، إذا طال الكلامُ جدًّا- وحكُّ الجِلْد، وفَتْلُ الأصابع، وكثرةُ حَرَكة الأيدي والبَدَن، والتمخُّط، وغيرُه. قال مَنْ ذمَّ خطيبًا:
مليءٌ بِبُهْرٍ والتفاتٍ وسَعْلَةٍ
…
ومَسْحَةِ عُثْنُونٍ وفَتْلِ الأصابع