الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السَّجْعُ والتَّرَسُّلُ
لما جرى الكلام على السَّجْع والتَّرَسُّل، وكان السَّجْعُ من أشهر طرق الإنشاء، حتى ظنَّه كثيرٌ من الناس الإنشاءَ كلَّه، وجب أن نُشير إلى حقيقته، وشيءٍ من أقسامه ومحامده ومعايبه، والمفاضلة بينه وبين التَّرَسُّل، قال ابن الأثير في (المثل السائر):"السَّجْعُ: تواطؤ الفواصل في الكلام المنثور على حَرْفٍ واحد، والأصلُ فيه الاعتدال في مقاطع الكلام، ولكن لا يكمُل السَّجْع إلا إذا كانت ألفاظُه غيرَ غَثَّةٍ ولا باردة، والمعنيُّ بـ (الغَثَّة الباردة) أنَّ صاحبَها يصرِف نظرَه إلى السَّجْع من غيرِ نظرٍ إلى المفردات وما يُشترَط لها، وإلا لكان كلُّ أديبٍ سَجَّاعًا، بل هناك مطلوبٌ آخر وهو أن يكون اللفظُ فيه تابعًا للمعنى، فإنك إذا صَوَّرْتَ في نفسك معنى، ثم أردت أن تَصُوغَه بلفظٍ مسجوعٍ ولم يُوَاتِكَ إلا بزيادة في اللفظٍ أو نقصانٍ منه، فإذا فعلتَ ذلك فهو الذي يُذَمُّ من السَّجْع، لِمَا فيه من التكلُّف، وأما إذا كان محمولاً على الطَّبْع غير متكلَّف فإنه يجيءُ في غاية الحُسْن".
وأحسنُه ما تساوت فواصِلُه أو تقاربت في طُولٍ لا يَقْطَعُ النَّفَس، ولا يقصر عن أربع كلمات، أو يقاربها كثلاثٍ طِوال، ويُغتفَر أن تكون الفاصلةُ الثانية أطولَ من الأولى، والقبيحُ ما طالت فاصلتُه الأولى وقَصُرت الثانية، والمتوسِّط ما تقَاصَرَتْ فواصلُه جِدًّا، وإن كان مُحتاجًا
إلى قوةٍ في اللغة، وقد أكثر منه بديع الزمان الهمذاني.
وإذا لم يلتزم الكاتبُ السَّجْعَ، وكان كلامُه تَرَسُّلاً، حَسُنَ أن يأتيَ في أثنائه بهاته الكيفيَّات كلِّها بلا قيد. وأقسامُه وتفاريعها كثيرةٌ تَكفَّلَتْ ببيانها كتب البديع، وهو يدلُّ على مقدرةِ الكاتب إذا جاء في غاية الحُسْن غير متكلَّف؛ لأنه يُؤْذِن بسَعَة صاحبه في استحضار ما يريد من المفردات اللغوية، وبجودة قريحتِه في تطبيق المعاني على الأسجاع، ولكنه لا يحسُن إلا في مواقعه من الرَّسَائل، والدِّيبَاجات، والأشياء المقروءَة، والأمثال، والحِكَم التي يُرَاد تناقلُها وتعلُّقها بالأذهان، ولذلك يحسُن في بعضِ الجُمَل من الخُطَب، وهو ما كان مَوْضِعَ حكمةٍ أو موعظة، وليس قولُ الشيخ عبد القاهر في مقدمة (أسرار البلاغة):"إن الخُطَب من شأنها أن تُعتمَد فيها الأوزان والأسجاع، فإنَّها تُروَى وتُتَنَاقَلُ تناقلَ الأشعار" =إلا ناظرًا لذلك كما يُلَوِّح إليه تعليلُه، وإلا فهو لا يَجْهَلُ أنَّ جُلَّ الخطب النبوية وخطب السلف والعرب كانت غيرَ مشتملةٍ على الأسجاع إلا قليلاً.
ولا يحسُن السَّجْعُ في البَدَائِه والارتجالات؛ لأنَّه يصرِف الذِّهْنَ عن المحافظة على المعنى، بخلاف الكاتب فإنه في سَعَةٍ من أمره، ولهذا لا نَجِدُ السَّجْعَ كثيرًا في كلام العرب ومَنْ يليهم ممن كانوا لا يُزَوِّرُونَ الكلامَ مِنْ قبل، وما يُرَى في (نهج البلاغة) من الخطب المنسوبة لسيِّدنا علي رضي الله عنه من هذا النوع فهو من موضوعات أدباء الشيعة كما هو مشهور.
ولا يَرتَجِلُ أحدٌ خِطَابًا مسجوعًا إلا وقد دَلَّ على أنه محفوظٌ لديه مِنْ قبل.
والسَّجْعُ يكسو الكلامَ الخَلِيَّ عن المعاني الفائقةِ وعن المحاسنِ اللفظيَّةِ جمالاً، ولذلك يأوي إليه ضُعَفَاء الكُتَّاب -كما قال ابن خَلْدون- بخلاف التَّرَسُّل، فلا يَظْهَرُ رَوْنَقُه إلا إذا صَحَّ معناه وجادت ألفاظُه.