الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما هي الخطابة
؟
إن الخطابة وإن كانت فنًّا من فنون الإنشاء، وكانت القواعدُ المتقدمة والشروط المقررةُ مطردةً فيها لا محالة، غيرَ أنَّ صاحبها لما كان أشدَّ اعتمادًا على البَداهة والارتجال منه على الكتابة، تعيَّن أن يُذكَر لها من الضوابط والشروط ما لا يجري مثله في عموم صناعة الإنشاء، كما كان للشعر من الضوابط ما يختصُّ به عن الإنشاء، وإن كان هو في الأصل فنًّا من أفانينه.
ولقد رأينا من المتقدِّمين ممن ألَّف في صناعة الإنشاء لم يُعَرِّجوا على ذكر ما هو من خصائص الخطابة؛ حتى إنك لتجد شيئًا من قواعدها في خلال مطوَّلات كتب المنطق، ولا تجد ذلك في كتب الأدب، غيرَ أنَّ المناطقة خَصَّوها بضَرْبٍ من ضروب الحُجَّة، وهو ما يتركَّب من قياسات مظنونةٍ أو محمولَةٍ على الصِّدق، وأما المعنيُّ بها عند علماء الأدب فهو شامل لجميع أقسام الحجة؛ إذ الخطيب قد يأتي بجميعها وإن كان الغالبُ عليه بيانَ القياسات المظنونة؛ إذ هو لا يتعرض للقطعيَّات إلا عند الاحتجاج بها، ولا يتعرض للشعر والسَّفْسَطَة إلا نادرًا؛ لئلا يعرِّضَ نفسه للتكذيب أو الاستخفاف.
فيمكن أن نعرِّفها بأنها: كلامٌ يحاوَلُ به إقناعُ أصناف السامعين بصحَّة غَرَضٍ يقصِدُه المتكلِّم لفِعْلِه أو الانفعالِ به.
فقولنا: (كلام) خرجت به الرسائلُ العامة، والمكاتيب، والتقاليد الموجَّهة للبلدان، وشمل ذلك الكلام المنظوم والمنثور؛ إذ يجوز أن تشتمل الخطبةُ على نَظْم، أو يكون جلُّها نظمًا _كما سيأتي _.
وقولنا: (يحاول به إقناع أصناف السامعين) يخرجُ التدريس؛ فإنه كلامٌ يحاول به إقناع صِنْفٍ واحد من السامعين، وهم طلبة فنٍّ خاص في موضع خاص، ولا يُسمَّى ذلك في العرف خطابةً ولا صاحبُه خطيبًا، وإن كان له عونٌ كبيرٌ على مَلَكَة الخطابة، وتعلُّقٌ شديدٌ بأصولها. ويخرج ما يخاطَب به شخصٌ واحدٌ، كالمناظرات العلميَّة، ومُرَافعات الخصوم والوكلاء لدى القضاة؛ فإنها لا تُسمَّى خطابةً عرفًا، وإن كانت شديدةَ التعلُّقِ بقواعدها، وفي الحديث:"ولعلَّ بعضَكم يكون ألحنَ بحجَّتِه من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع".
وقولنا: (بصحة غَرَضٍ يقصده المتكلم) نريد منه التعميمَ ليشمل كلَّ غرض تصَدَّى الخطيب لترويجه، سواء كان المراد حَمْلَ الناس على فعله، كالحثِّ على طلب العلم والجهاد، أم اعتقادَهم صوابَه كالخطبة في إرضاء الناس بأمر واقع، ويشمل ذلك الخطبَ التي يَرُدُّ بها الخطيبُ على الغير، أو يعتذرُ بها عن فعله أو فعل غيره، أم الكفَّ عن فِعْلٍ كالمواعظ وتسكين الثورات، أم تحصيلَ عِلْمِهم به كالخطب التي تُقَال على ألسنة الملوك والرؤساء لإعلامٍ بقانون أو فَتْحٍ أو نحو ذلك، ويشملُ ذلك
التعليمَ الذي يتعرَّضُ له الخطيب، مثل الخطب الدينية التي يُتعرَّضُ فيها لتعليم بعضِ الواجبات، فإنَّها لا تُتَلَقَّى بوصف قواعدَ علميَّة، ولكن بوصف تعليماتٍ عامَّةٍ تستوي فيها الناس، أو بوصف التنبيه على تركها وإهمالِها، وبهذا الاعتبار تصيرُ غرضًا للمتكلِّم يحاولُ الإقناعَ بصحته.
ويخرجُ بها ما يُقرأ على المنابر من عقود البيعات السُّلطانية ونحوها، كالتقاليد فلا تُسمَّى خُطبًا، وإنما القصد من ذلك إشهارُها وإعلانُها.
وقولنا: (لفِعْلِه أو الانفعالِ به) إشارةٌ إلى غاية الخطيب من الخَطابة، وهي إما فعل المخاطبين شيئًا يريده أو اعتقادهم شيئًا يُعلِمُهم إيَّاه. وقد انطبق التعريف على المعرَّف.