المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السابع: خاتمة الخطبة: - أصول الإنشاء والخطابة

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌كيفية الإنشاء للمعنى

- ‌تمرين:

- ‌أساليبُ الإنشاء

- ‌ أنواع الإنشاء

- ‌القسم الأول: المعنوي

- ‌ المعاني

- ‌تعريف المعنى وتقسيمُه

- ‌صِفَاتُ المعنى

- ‌طرق أخذ المعنى

- ‌ترتيبُ المعاني وتنسيقُها وتهذيبُها

- ‌(المعاظلة)

- ‌ الموازنة بين المعاني

- ‌ تنسيق المعاني وتهذيبها:

- ‌أخذ النتائج من المعاني

- ‌مقامات الكلام

- ‌ الجَزَالةُ والسُّهُولَة والرِّقَّةُ

- ‌القسم الثاني: اللفظي

- ‌أحوال الألفاظ المفردة

- ‌أحوال الألفاظ المركبة

- ‌السَّجْعُ والتَّرَسُّلُ

- ‌التَّمَرُّنُ على الإِجَادَةِ

- ‌فنُّ الخَطابَة

- ‌ما هي الخطابة

- ‌منافع الخطابة

- ‌أصول الخطابة

- ‌الخطيب

- ‌ شروط الخطيب الراجعة إلى ذِهْنِه

- ‌ شروطُ الخطيب في ذاتِه:

- ‌ شروط الخطيب في نفسه

- ‌الخُطْبَة

- ‌الركن الأول: الدِّيبَاجة:

- ‌الثاني: التَّخَلُّصُ:

- ‌الثالث: المقدِّمة:

- ‌الرابع من أركان الخطبة: الغَرَضُ

- ‌الخامس: البيان

- ‌السادس: الغاية:

- ‌السابع: خاتمة الخطبة:

- ‌التدرُّب بالخَطَابة

الفصل: ‌السابع: خاتمة الخطبة:

العراق فإنه صعد المنبر ثم قال: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ

} إلى قوله: {الْمُفْسِدِينَ (4)} وأشار بيده نحو الشام. {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ

} إلى قوله: {الْوَارِثِينَ (5)} وأشار بيده نحو الحجاز. {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ

} إلى قوله: {يَحْذَرُونَ (6)} [القصص: 1 - 6] وأشار بيده نحو العراق. يريد بالأولى عبد الملك، وبالثانية أنصار أخيه بمكة، وبالثالثة الحجاج وأنصاره.

‌السادس: الغاية:

وهي التَّحريضُ أو التحذير، وشأنُها أن تقع آخر الخطبة بعد ما تقدم، وقد يقدِّمُها الخطيب ثم يأتي بعدها بغيرها فتصير المقدمةُ دليلاً إذا تَأَخَّرَتْ، وتَعْرَى الخطبةُ عن المقدمة حينئذٍ.

‌السابع: خاتمة الخطبة:

ويحسن فيها أن تكون كلامًا جامعًا لِمَا تَقَدَّمه، أو إشارةً إلى أنه قد أتى على المقصود وانتهى منه، أو أَمْرًا بالتثبيت أو دعاءً أو نحو ذلك، وإنما يكون ذلك عند إتيان الكلام المتقدِّم على الغَرَض المقصود واستيفائِه. وقد يكون ذِكْرُ الشِّعْر في الخطبة إشارةً إلى نهايتها كما سيأتي.

وللبحث عن كيفية تنسيق الخطبة ونَسْجِها مزيدُ تعلُّقٍ بهذا الفن حسبما أشرنا إليه عند الكلام على أصول الخطابة، ولا يكاد يستطيع أحدٌ حَصْرَ الضوابط في هذا الغرض؛ لأنه يأتي على جميع فنون البلاغة والأدب، فيوكَل ذلك إلى حُسْنِ اختيار الألمعي، ورَشِيقِ توقيف المُدَرِّس النِّحْرِير، إلا أنَّ جُمْلَة القول أنه لا يعدو المطابقة لمقتضى أحوال السامعين، واختلاف الأذواق باختلاف مراتب الأذهان والعصور

ص: 149

والبلدان، فيكون على مِنْوَال كلِّ ذلك نسيجُ معاني الخطب، وتنسيق ألفاظها، وهو ما يُعبَّر عنه بـ (اختلاف المقامات وخطاب كلِّ قوم بما يفهمون). وقد تقدم الإلمام بذلك في قسم الإنشاء، وفي ذكر الانفعالات في هذا القسم الخطابي.

فإذا خطب الخطيب في العامَّة فعليه بِسَهْلِ المعاني؛ لأن تركيبَ المعنى ودِقَّتَه لا يَتَوَصَّل لفهمه الذِّهْنُ البسيط، وبالضَّرورة يستدعي ذلك سهولة دِلالة الألفاظ؛ إذ هي قوالبُ المعاني، مع انتخاب سَهْلِهَا ومُتَعَارَفِهَا بدون ابتذال -كما تقدم في الإنشاء-. وإذا خَطَب في الخاصَّة فليأت بالمعاني الرَّائقة، والحِكَم العالية، والألفاظ العَزِيزة المُعَبَّر عنها بـ (السَّهْل الممتنع)؛ لأنه إذا أتى بما دون ذلك لا يُثير انفعالهم، ولا يَرُوقُ كلامُه في أسماعهم فلا يحفلون به، ولقد سمعت خطيبًا يخطب يوم الجمعة بخطبة من الخطب العتيقة في الحَضِّ على شكر النِّعْمة، فكان مما قاله:"ومِن النِّعَم نعمةٌ خاصَّةٌ كالمال، وقد كاد أن لا يكونَ شُكْرُها إلا عندها لا بها". فانظر كيف خاطب العامة بلفظ معقَّدٍ لا يُسرِع الذهنُ المتوسِّط لاستخلاص معناه؛ إذ جَمَع بين سِتِّ أدوات في جملة واحدة، وهي: كاد، وإن، ولا، ويكون، وإلا، ولا، ثم جمع بين نَفْيٍ مستفاد من (لا) وإثباتين مستفادٌ أحدُهما من (كاد) والآخر من (إلا) متوجه جميعها إلى جِهَةٍ واحدة،

ص: 150

وأما من جهة المعنى فقد أتاهم بمعنى غريبٍ دقيقٍ مقتبَسٍ مما يُقَرِّرُه المتكلمون في الكَسْب، وهو قولهم:"إنَّ الفعلَ يحصل عند المقدرة لا بها".

وقد روي أن عمر رضي الله عنه كان هَمَّ أن يخطب الناس في الحج في أمر الخلافة لَمَّا بلغه أن امرأً قال: لئن مات عمر لأبايعنَّ فلانًا، فما كانت بيعة أبي بكرٍ إلا فَلْتَةً فتمَّت. فقال له ابن عباس رضي الله عنهما:"يا أمير المؤمنين: إنَّ الموسم يجمع رَعَاع الناس، فربما سمعوا منك الكلمةَ فيُطَيِّرُوها عنك كلَّ مَطِير، فتربَّصْ إلى أن ترجع إلى المدينة فتخلُصَ إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل العلم". فرأيُ حَبْر الأمَّة وموافقة عمر رضي الله عنهما أَدَلُّ دليلٍ على أنَّ من الأغراض ما يُضَنُّ به عن غير أهله، وفي الحديث:"لا تؤتوا الحِكْمَة غيرَ أهلِها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتُضيعوها" فبذلك فلتقتدوا.

ص: 151

ومثل ذلك يقال في أساليب تنسيق الخطب على حسب الأغراض، فلكلِّ غَرَضٍ لهجةٌ ونَسَقٌ، فليست خطبةُ الجمعة كخطبةٍ في حفلةٍ سياسيةٍ أو أدبيةٍ، ولذلك يحسُن التأنُّق في بعضها والبَسَاطة في بعض، كما أنَّه يحسن الإرسال في بعضها ويحسن السجع في بعض. وقد تتبعت ما استطعت مواقع السجع في الخطب النبوية، وخطب فصحاء العرب في الجاهلية والإسلام، فرأيت مواقع السجع عندهم في حيث يُراد الحفظ للقول، كالوصايا والآداب والخطب الأدبية والعلمية، ويُرشِد إلى هذا ما روى الجاحظ عن عبد الصَّمد بن الفضل بن عيسى الرّقاشي أنه قيل له: لِمَ تؤثر السجع على المنثور؟ فقال: "لو كنتُ لا آمُلُ إلا إسماع الشَّاهد لَقَلَّ خلافي عليك، ولكني أريدُ الغائب والحاضر، والرَّاهن (الحال) والغَابِر (المستقبل)، فالحفظ إليه (أي السجع) أسرع، والآذان لسماعه أنشط، وهو أحقُّ بالتَّقييد وبقلة التفلُّت". وعندي أنَّ هذا هو مراد الشيخ عبد القاهر بقوله في مقدمة كتابه (أسرار البلاغة) حيث قال: "إنَّ الخطب من شأنها أن تُعتمَد فيها الأوزانُ والأسجاعُ، فإنها تُروى وتُتَنَاقل تَنَاقُلَ الأشعار". وليس مراده أنَّ تناقل ذلك شأن الخطب كلِّها، لِمَا هو معلومٌ لا يفوتُه من أساليب خطب العرب وخطب الصَّدر الأول، ولذلك كان مقام السَّجع كل مقام يحضر للقول من قبل، فقد رأينا العَرَب لم تكن تحفل بالسجع إلا هنالك، كما في خطبة قُسِّ بن ساعدة التي خطبها في سوق عكاظ وهي مشهورة.

وكلُّ مقام يظهر فيه الارتجال لا يتأتَّى فيه السَّجع، فيحسُن حتى بالمولدين أن يتجنَّبوه هنالك، وإن كانوا لا يتكلمون إلا بِتَرَوٍّ سابقٍ، ولذلك لا تُعَدُّ خطبةَ منذر بن سعيد البلوطي التي ارتجلها في مجلس

ص: 152

الأمير الناصر بقرطبة -حين وَفَد رُسُل مَلِك الروم، وحين أُرتِج على أبي علي القالي- إلا من حُسْن استعداده للحوادث، وعِلْمِه بأنَّ من عُيِّن للخطابة لا يُحسِنُها. وقد قدمنا في فن الإنشاء طرفا من هذا.

هذا ومما يلتحق بالكلام على نَسْج الخطب: اشتمالُها على شيء من الشِّعْر، وكان ذلك قليلاً عند العرب، كما في خطبة قُسِّ بن ساعدة؛ إذ ختمها بأبيات، وكما في خطبتين لسيدنا علي رضي الله عنه تمثَّل في إحداهما ببيت للأعشى، وفي الأخرى ببيت لدريد بن الصِّمَّة، وكذا خطبة عبد الملك المتقدِّمة، فإنه ذكر في آخرها بيت النابغة.

وقد أكثر صاحب المقامات في خُطَبه المذكورةِ فيها من ذِكْر الشِّعْر، ولا شَكَّ أن غرضَه منه إدخال طريقة جديدة في الخطابة، إلا أنه لم يُتَابَع عليها مِنْ أحد، فلم يزل ذِكْرُ الشِّعر في الخُطَب قليلاً جاريًا مجرى التَّمَثُّل.

ص: 153