الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد أجاد الحريريُّ ما شاء حين تخيَّل أبا زيدٍ خطيبًا إِثْرَ دفن الجَنازة في المقامة الحادية عشرة إذ قال: "فلما ألحدوا المَيْت، وفات قولُ لَيْت، أشرف شيخٌ مِن رِبَاوَهْ، مُتخَصِّرًا بِهِرَاوه، فقال: "لمثل هذا فليعمل العاملون، فادَّكِروا أيها الغافلون، وشَمِّروا أيُّها المقصِّرون، وأحسنوا أيُّها المتبصِّرون، ما لكم لا يحزنُكم دَفْنُ الأتراب، ولا يَهُولُكم هَيْلُ التُّراب .. إلخ".
فأنت تراه كيف جعَلَه مُستغنِيًا بذلك على مقدمة الخُطْبة.
ولَمَّا أَفْلَسَ الأُسَيفِع الجهني في زَمَن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم خَطَب عمرُ فقال: "أما بعد، فإنَّ الأُسَيْفِعَ أُسَيْفِعَ جُهَينة قد رضي لدينه وأمانته أن يقال: إنه سَبَقَ الحَاجَّ، ألا وإنه قد تَدَاينَ مُعْرِضًا فأصبح وقد رِينَ به، فمن كان له عليه شيءٌ فليأتنا غدًا نقسِم ماله بالمسجد، وإياكم والدَّينَ فإنَّ أولَه هَمٌّ وآخره حَرَبٌ". فتراه قد استغنى بالواقعة المُشَاهَدة عن تقديم المقدمة.
الرابع من أركان الخطبة: الغَرَضُ
، وهو الذي من أجله انتصب الخطيبُ ليخطب، فَوِزَانُه وِزَان المطلوبِ في القياس المنطقي، ويعبر عنه بالنتيجة عند حصوله.
الخامس: البيان
، أعني بيانَ الغرض وإيضاحَه، وذلك إما بالاستدلال، أو التمثيل، أو الاستطراد، أو الإشارة:
فالبيان بالاستدلال كثيرٌ بإقامة الدليل على صِحَّة الغَرَض والنِّضَال عنه.
وأما التمثيل فبابٌ واسعٌ من البيان للعامة؛ لأنه أخصر من الدليل، والأذهانُ إلى إدراكه أسرع. قال صاحب الكشاف:"ولِضَرْبِ العَرَبِ الأمثالَ، واستحضار العلماء المُثُل والنظائر شأنٌ ليس بالخفيِّ في إبراز خَفِيَّات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تُريك المُتَخَيَّلَ في صورة المُحَقَّق، والغائبَ كالشاهد، وفيها تبكيتٌ للخَصْم الألدِّ، وقمعٌ لسَوْرَةِ الجامح الأبيِّ، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت] ".
والتمثيلُ يكون بذِكْر الأمثال، ويكون بالبناء على اعتقادٍ أو قصَّة، وقد خطب عبد الملك بن مروان بالمدينة خطبةً اقتصر فيها على ذِكْر المَثَل، روى شارح ديوان النابغة عن أبي عبيدة قال: لما حجَّ عبد الملك أوَّل حجَّة حجَّها في خلافته، قدم المدينة فخطب فقال:"يا أهلَ المدينة: والله لا تحبوننا، ولا نحبُّكم أبدًا وأنتم أصحاب عثمان، إذ نَفَيْتُمُونَا عن المدينة ونحن أصحابُكم يوم الحَرَّة، فإنما مَثَلُنَا ومَثَلكم كما قالوا: إنه كانت حيَّةٌ مُجَاورةٌ رجلاً فوَكَعَتْه فقتلَتْه، ثم إنها دعت أخاه إلى أن يصالحها على أن تَدِي له أخاه فعاهدها، ثم كانت تعطيه يومًا ولا تعطيه يومًا، فلما تنجَّزَ عامَّةَ دِيَتِه قالت له نفسه: لو قَتَلْتَها وقد أَخَذْتَ عامَّة الدِّيَة، فأخذ فَأْسًا فلمَّا خَرَجَت لتعطيه ضَرَبَها على رأسها فسَبَقَتْهُ يدُه فأخطأ مقاتِلَها، فنَدِم وقال لها: تعالي نتعاقد أن لا نغدر، فقالت: أبى الصُّلْحَ القَبْرُ الذي بين عينيك، والضَّرْبَةُ التي فوق رأسي، فلن تحبَّني أبدًا ما رأيتَ قبر أخيك، ولن أحبَّك ما كانت الضَّرْبَة برأسي".
وروي أنَّ عليًّا رضي الله عنه لَمَّا رأى اختلاف جُنْدِه قال: "ألا إنما أُكِلتُ يوم أُكِل الثَّورُ الأبيض" يريد أنَّ الاختلاف ابتدأ ظهورُه من يوم اختلاف الأمة على عثمان رضي الله عنه، وأشار بهذا إلى قصَّة عند العرب، وذلك أنهم زعموا أنَّ أسدًا وثَوْرًا أحمر وثَوْرًا أسود وثَوْرًا أبيض اصطحبوا في أَجَمَةٍ، فقال الأسد يومًا للثَّوْرَين الأحمر والأسود: هذا الثور الأبيض يفضحُنا بلونِه فلو تَرَكْتُمَاني آكلُه أَمْنًا، فأَذِنَا له في أَكْلِه فأكَلَه، ثم قال للأحمر: هذا الأسود يخالفُ لوننا فدَعْني آكلُه فأذن له فأكله، ثم قال للأحمر: لم يبق إلا أنا وأنت وأريد أن آكلك. فقال: إن كنتَ فاعلاً فدعني أصعدْ تلك الهَضَبة وأصيح ثلاثة أصوات، قال: افعل، فصعد وصاح:"ألا إنما أُكِلتُ يوم أُكِل الثَّوْرُ الأبيض" ثلاثًا.
وأما الاستطراد فيكون بمدحٍ أو ذَمٍّ أو ثوابٍ، وأحسنُه ما اشتدَّت فيه المشابَهةُ كقول أبي حمزة الخارجيِّ في خطبة له خَطَبَها بالمدينة: "يا أهل مكة: أُتَعَيِّرُونني بأصحابي وتزعمون أنهم شباب؟ ! ويحكم! وهل كان أصحابُ رسول الله المذكورون في الخير إلا أحداثًا شبابًا، مكتهلون في شبابهم، غَضِيضَةٌ عن الشَّرِّ أعينُهم، ثقيلةٌ عن الباطل أرجلهم، أَنْضَاءُ عبادةٍ، قد نظر الله لهم في جَوْف الليل منحنيةً أصلابُهم على أجزاء القرآن
…
إلخ".
وقد يكون البيان بالإشارة كما خطب مصعب بن الزبير حين قدم