الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طرق أخذ المعنى
هي ثلاثة: الابتكار، والبَدَاهَة، والشُّهْرَة.
أما الابتكار: فهو استنباط المعنى بفِكْرٍ ونَظَرٍ، وهذا الاستنباط إما أن يَعرِضَ للمعنى من أَصْلِه، نحو تشبيه ابنِ نُبَاتَةَ اجتماع الفَرَح والأَسَفِ، وجَرَيان دَمْعٍ مع ابتسَامٍ، بِوَابِلِ غَيْثٍ في وقت الضُّحَى. وإما أن يكون بالأَخْذِ من الغير مع حُسْن التَّصَرُّف، نحو قوله:
النَّاسُ لِلْمَوْتِ كَخَيْلِ الطِّرَادْ
…
فَالسَّابِقُ السَّابِقُ منها الجَوَادْ
أَخْذًا من حديث: "إنما يُعَجِّلُ الله بِخِيَارِكُم".
أو بتركيبِ شيئين معروفين والجَمْعِ بينهما، مثل قول مَنْ قال:
لا أدخلُ البَحْر إنِّي
…
أخافُ منه المعاطِبْ
طِينٌ أنا وهو مَاءٌ
…
والطِّينُ في الماء ذائِبْ
فقد أَخَذَهُ من كَوْنِ الإنسان طينًا والبَحْرِ ماءً، وذلك واضحٌ مشهور، ولكنَّه تنبَّه إلى الجمع بينهما، وذَكَر أَثَر اجتماعِهما فأحسن الاعتذار.
ويسمَّى المعنى الحاصل بالابتكار: عزيزًا وغريبًا.
وأما البَدَاهَة: فهي أَخْذُ المعنى الواضح للعقل من وِجْدَانٍ ومشاهدَة، ولا فضل فيه إلا لحُسْن التعبير، ونَبَاهَة المعنى في إحاطته بملاحظةِ مَا تَجِبُ ملاحظتُه. وقد يبلُغ المعنى من دِقَّةِ الوجدان ما يُلحِقُه بالمعاني المبتكَرة، وكلُّ هذا يظهر في الشِّعْر الغَرَاميِّ والتَّوصِيفيِّ وحكايات الأحوال، ومثالُه قَوْلُ من اعتذر عن فِرَاره من الزَّحْف:
ألا لا تَلُمْنِي إِنْ فَرَرْتُ فإنني
…
أخافُ على فَخَّارَتِي أن تُحَطَّمَا
فلو أنني في السُّوقِ أَبْتَاعُ مثلَها
…
وَحَقِّكَ ما بَاليتُ أَنْ أتقَدَّمَا
وقول الصاحب بن عباد من رسالةٍ في وَصْفِ مُنهَزِمين: "طَارُوا وَاقِينَ بظهورِهم صدورَهم، وبأصلابِهم نُحُورَهم". فإنَّه لم يزد على حُسْن التعبير عن الحالة المشاهَدة.
وقولُ أبي نواس في وَصْف كؤوسِ ذهبٍ بها تَصَاويرٌ:
تُدَارُ علينا الرَّاحُ في عَسْجَدِيَّةٍ
…
حَبَتْهَا بأنواع التَّصَاويرِ فَارِسُ
قَرارَتُها كِسْرى وفي جَنَبَاتِهَا
…
مَهًا ثَوَّرَتْهَا بالقِسِيِّ الفَوَارِسُ
ويسمَّى المعنى الحاصل بذلك بسيطًا؛ إذ الفضل كما قلنا للتعبير.
وأمَّا الشُّهْرَة: فهي عِبَارةٌ عن شُيُوع المعنى، حتى لا يكاد يتكلَّف المتكلِّمُ في استحضاره شيئًا من عَمَل الفِكْر، ويسمَّى المعنى بـ (المبتذَل)، ويدعو البليغَ إليه إما تَعيُّنُه، وإما لِكَوْنِ المقامِ مقامَه، كخطاب العَوامِّ والصِّغَار، وينبغي أن تُجَنَّبَ عنه مقاماتُ الإبداع والصَّنْعَة، ولذلك نعيب على ابن الخطيب رحمه الله قولَه في وصَيَّتِه البديعة:"والطَّهَارةُ التي هي في تحصيلها سببٌ مُوَصِّل، وشَرْطٌ من شروطِها مُحَصِّل، فاستوفوها، والأعضاءَ نظِّفُوها، ومياهَها بغير أوصافها الحميدة فلا تَصِفُوهَا، والحُجُولَ والغُرَّ فأطيلوها .. إلخ".
فإنَّه ما كان مترقَّبًا من مثل ذلك الوزير العالِم أن يضمِّن وصيَّةَ أبنائه الغُرِّ الأنجاب، ما يتعلَّمُه الصِّبيان في أيام الكُتَّاب، خصوصًا في أضيق أوقات الكلام، وأحوجِه إلى الملأ بالمَهَام.
ومن العجائب أنَّ ابن الأثير ذكر في (المثل السائر) فصلاً لنفسه من رسالةٍ قال فيها: "وأَقْبَلَتْ ربائِبُ الكِنَاس، في مُخْضَرِّ اللباس، فقيل: إنَّما اخترنَ الخُضْرَة من الألوان، ليَصِحَّ تشبيهُهُنَّ بالأغصان". فَعَدَّ هذا معنًى مبتدَعًا وأُعْجِبَ به مع أنَّه معنًى مبتذَلٌ شائعٌ.