الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطيب؛ إذ ليس يخلو من سامعٍ يدافع عن هواه، أو عدوٍّ يترصَّدُ سَقَطات الخطيب ليُري الحاضرين أنه ليس على حقٍّ فيما قال، أو مُجيبٌ يُجيبُ عن تَقْريع الموعظة.
فإن لم يكن الخطيبُ قويَّ البَداهَة أَسْكَتَه المعترِضُ أو المجيبُ، وقد كان عمرُ رضي الله عنه مرَّةً يخطُب يوم الجمعة فدخل عثمان رضي الله عنه فقال له عمر:"أيَّةُ سَاعةٍ هذه؟ ! ما بالُ أقوامٍ يسمعون الأذان ويتأخرون. فقال عثمان: ما زِدْتُ على أن سمعتُ الأذان فانقلبتُ فتوضَّأت. فقال له عمر: والوضوءَ أيضًا! وقد علمتَ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرُ بالغُسْل". ويُعين على ذلك تنبُّهُه لِمَا في كلام المجيب من مَجَاري الخَلَل ومواضع النَّقْد.
وأما
شروطُ الخطيب في ذاتِه:
فمنها: جَوْدَةُ القَرِيحة، وهي أمرٌ غيرُ مُكتسَب، وقد قال موسى عليه السلام:{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)} [طه]، وسيأتي
لذكر اكتسابها كلامٌ في عيوب الخطباء. قال أبو هلال: "مِن الناس مَن إذا خلا بنفسه وأَعْمَل فِكْرَه أتى بالبيان العجيب، واستخرجَ المعنى الرَّائق، وجاء باللفظ الفائق، فإذا حاوَر أو ناظَر قَصَّر وتأخَّر، فخَلِيقٌ بهذا ألا يتعرَّض لارتجال الخُطَب. ومنهم مَن هو بالعكس.
ومنها: أن يكون رابط الجَأْش، أي غير مُضطَرِبٍ في فَهْمِه ولا مندَهِش؛ لأنَّ الحَيْرة والدَّهَشَ يصرِفان الذِّهْنَ عن المعاني فتجيءُ الحُبْسَة ويُرتَج على الخطيب".
ومنها: أن يكون مرموقًا من السَّامعين بعين الإجلال؛ لِتُمْتَثَلَ أوامرُه، ويحصلُ ذلك بأمور كثيرة:
منها: شَرَفُ المَحْتِد، قال الشاعر:
لَقَدْ ضَجَّتِ الأرْضُونَ إِذْ قَامَ مِنْ بِني بني
…
سَدُوسٍ خَطِيبٌ فوقَ أَعْوَاد مِنْبَر
وكذلك: حفظ العِرْض؛ بحيث لا تُحفَظ له هَنَةٌ أو زَلَّةٌ، وقد رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال:"احذر من فَلَتاتِ الشَّباب، كُلَّ ما أَوْرَثَكَ النَّبَز وأَعْلَقَك اللَّقَب، فإنه إن يعظُمْ بعدها شَأْنُك يَشتدَّ على ذلك نَدَمُك". وفي متابعة آداب الإسلام والوقوف عند شرائعه مِلاك ذلك كلِّه.
ومثل ذلك: رَجَاحَة الرأي وقوُّة العِلْم والحكمة، قال أبو واثلة يهجو عبد الملك بن المهلب:
لقد صَبَرَتْ للذُّلِّ أعوادُ مِنْبَرٍ
…
تقومُ عليها في يديك قَضِيبُ
بكى المِنْبَرُ الغَرْبِيُّ إذ قُمْتَ فوقَه
…
فكادت مَساميرُ الحديدِ تذوبُ
رأيتُك لمَّا شِبْتَ أَدْرَكَكَ الذي
…
يُصِيبُ سَرَاةَ الأَزْدِ حين تَشيبُ
سَفاهَةُ أحلامٍ وبُخْلٌ بِنَائلٍ
…
وفيك لِمَنْ عَابَ المَزُونَ عُيوبُ
فهذه أهمُّ الشروط الذاتية.
ويَعُدُّ علماء الأدب تارةً صفاتٍ أخرى هي بالمحاسن أشبه، مثل سكون البَدَن وقت الكلام؛ لأنه دليلٌ على سكون النَّفْس، ولا يوجد هذا في كل خطيب.
ومثل ما سماه أرسطو بـ (السَّمْت) وهو أن يكون على هيئة مُعْتبَرَةٍ في نفوس الجمهور من لُبْسِه وحَرَكتِه ونحو ذلك، وقد أشار الحريريُّ إلى هذا في المقامة (28) فقال:"برَزَ الخطيبُ في أُهْبَتِه، مُتَهَادِيًا خَلْفَ عُصْبَتِه". فأشار إلى تصنُّعِه في لباسه ومشيه.
ومثل مناسبة طَبَقَةِ الصَّوْت لموضوع الخطبة وغير ذلك.