الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صِفَاتُ المعنى
للمعنى ثلاث صفات لِحُسْنِه يجب توخِّيها، وهي: الوضوح، والسَّدَاد، والشَّرَف.
أما الوضوح: فهو سُهُولة مَأْخَذِه من قول صاحبِه، بأن يخلو عن اللَّبْس، وعن التَّعقيد المعنوي، وعن الكنايات الخَفِيَّة. وقد تَكَفَّل ببيانها علمُ البلاغة، إلا إذا كان في مَقَامٍ يُرَادُ فيه الإخفاءُ أو التَّشكيك، فيجوز من اللَّبْسِ والكناية ما هو خَفِيفٌ.
والأحسنُ أن يكون المعنى المطلوب أظهرَ من الآخر، فمن هذا قول المتنبي في كافور:
وَمَا طَرَبي لَمَّا رأيتُكَ بِدْعَةً
…
لقد كنتُ أرجو أن أَرَاك فَأَطْرَبُ
قال أبو الفتح ابن جني: "قرأتُ على أبي الطيِّب ديوانَه إلى أن وصلتُ إلى هذا البيت، فقلت له: يا أبا الطيب: ما زِدْتَ على أن جَعَلْتَه (أبا زَنَّة) فضَحِك لقولي".
وكذلك في مقام المَزْح أو الاستخفاف، مثل ما ذُكِر عن إياس القاضي مع الذي قال له: أين القاضي؟ فقال: بينَك وبين الحَائِط.
إلى أن قال له: اقضِ بَيْنَنَا. قال: قد فعلتُ. قال: على من؟ قال: على ابنِ أخت خالتك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي تأوَّل الخيطَ الأبيض والأسود على حقيقتِهما: "إنَّك لَعَريضُ القَفَا".
ومن هذا القبيل: الإلغاز؛ لاختبار تنبُّه السامع، أو للإخفاء عن الغير، كما حُكِيَ أنَّ أعرابيًّا أوصى إلى قومه ينذرُهم عُدوَّهم -وكان أسيرًا بِيَدِ العدو-:"إنَّ العَوْسَجَ قد أَوْرَقَ، واشتكت النِّسَاء. واتركوا ناقتي الحَمْرَاء فلطَالَما رَكِبْتُمُوها، واركبوا جَمَلي الأسود، واسألوا الحارث عن خبري".
قال ابن الأثير في المثل: "إنَّ الكاتب أو الشاعر ينظرُ إلى الحال الحاضِرَة، ثم يستنبِطُ لها ما يُنَاسِبُها من المعاني".
وأما السَّدَاد: فهو الموافَقَة للواقع، والمطابقة لمقتضى الحال من غير زيادة، كقول لبيد:
ألا كلُّ شيءٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ
…
وكلُّ نعيمٍ لا مَحَالةَ زَائِلُ
وقول الآخر:
إذا امتحنَ الدُّنيا لبيبٌ تكشَّفَتْ
…
له عن عَدُوٍّ في ثياب صَدِيق
وقد يخرج عن ذلك إلى المبالغة إذا اقتضاها الحال، فيُقبَلُ منها ما اقتُصِدَ فيه. كما تقرَّر في البيان.
وأما الشَّرَف: فهو أن لا يكون المعنى سخيفًا، ولا مشتملاً على فُضُول، سواء كان سابقًا للذهن أم مبتكَرًا، وكلاهما يُجتنَبُ إذا كان سخيفًا مُبتذَلاً، ومن المبتكَر السَّخيف قولُ المعرِّي:
فَيَا وطَنِي إن فاتَنِي بكَ سَابقٌ
…
مِنَ الدَّهْرِ فَلْيَنْعَمْ لِسَاكنِكَ البَالُ
فإن أَسْتَطِعْ في الحَشْرِ آتِكَ زَائِرًا
…
وهيهاتَ لي يومَ القيامةِ أشغالُ
وقوله في مرثيَّةٍ لوالد الشَّريف الرَّضي:
إن زارَه الموتى كَسَاهُمْ في البِلَى
…
أَكْفَانَ أَبْلَجَ مُكْرِمِ الأضياف
واللهُ إِنْ يَخْلَعْ عليهم حُلَّةً
…
يَبْعَثْ إليه بمثلِها أَضْعَاف
ومن غير المبتكر وهو سخيفٌ ما خَطَب به والي من ولاة اليَمَامة
يَعِظُ الناس فقال: "إنَّ الله لا يَقَارُّ عبادَه على المعاصي، وقد أهلك الله أُمَّةً عظيمةً في نَاقةٍ ما كانت تساوي مئتي درهم". وفي رواية: "قيمتها مئتا درهم". فلقَّبوه: مُقَوِّمُ النَّاقة. وقد رأيتُ نسبة هذه الخطبة لعبيدالله بن الزبير حين كان والي المدينة، وأنَّ ذلك لَمَّا بَلَغ أخاه عبدَالله عَزَلَه، وأَوْلَى عِوَضَه مصعبًا.
وقد يعرِض للمعنى الشريف سَخَافَةٌ إذا وقع في غير موقعه، كما قال أبو فِرَاس:
ولكنَّنِي والحمدُ للهِ حَازِمٌ
…
أُعَزُّ إذا ذَلَّتْ لَهُنَّ رِقَابُ
فإنَّ ذِكْرَ حَمْدِ اللهِ على حقيقته في مقامِ غَرامٍ وفَخْرٍ لا يخلو من سَمَاجة. فأين هو من قول الآخر:
وقد زَعَمَتْ أنِّي نَذَرْتُ لَهَا دَمِي
…
وَمَا لِيْ بِحَمْدِ الله لَحْمٌ ولا دَمُ
حيث ورد في مقام الشِّكَايَةِ، وحَسُنَ بكونِه مستعمَلاً مجازًا على طريقة التَّمليح.