الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التَّمَرُّنُ على الإِجَادَةِ
معالجةُ المتكلِّم أداءَ ما قَرَّرَه وهَذَّبَه من المعاني بما يُنَاسِبُها من اللفظ، وما يناسب غَرَضَ الكلام ومَقَامَه هو غايةُ علم الإنشاء؛ لأنَّ تلك المعالجةَ تصير دُرْبَةً وبيانًا، ويحصل ذلك بمطالعة كلامِ البلغاء، وتتبُّع اختيارهم، وسَبْر أذواقهم في انتقاء الألفاظ وابتكار المعاني، لتنطبع في الذهن صُوَرٌ مناسبةٌ -كما تقدم في أساليب الإنشاء- فيحصل من ذلك ما لا يحصل من دراسة قواعد الفصاحة والبلاغة، وقد قالوا:"إنَّ السَّمْعَ أبو الملكات اللِّسَانية".
ولهذه المعالجة طرائق:
إحداها: المطالعة.
ثانيها: الحفظ.
ثالثها: حَلُّ الشعر وعَقْدُ النثر، بمعنى تصيير الشعر نثرًا والنثر نظمًا، مع المحافظة على أصل المعنى، سواء كان بتغييرٍ قليلٍ في اللفظ وفي المعنى، أم بدونه، ومن أحسن حَلِّ الشعر قول صاحب (قلائد العقيان):"فإنَّه لَمَّا قَبُحت فَعَلاتُه، وحَنْظَلَتْ نَخَلاته، لم يزل سوءُ الظَّنِّ يقتادُه، ويصدِّق تَوهُّمَه الذي يعتاده" حَلَّ به قولَ المتنبي:
إذا سَاءَ فِعْلُ المَرْءِ ساءَتْ ظنونُه
…
وصَدَّقَ ما يعتَادُه مِنْ تَوَهُّم
وقول الخُوَارَزْميِّ في بعض مكاتيبه: "إذا أحسَّ من لسانه بَسْطَةً، ووجد في خاطرِه فَضْلةً، وأصاب من القول جَرَيَانًا، قال: ما وَجَد بيانًا" فحَلَّ بذلك قولَ الشاعر:
وقد وجدتَ مكان القولِ ذا سَعَةٍ
…
فإن وَجَدْتَ لسانًا قائلاً فَقُل
مع تغيير في اللفظ والمعنى.
وأما عَقْدُ النثر فكثيرٌ، ومنه قولُ أبي تمام:
أتصبِرُ للبَلْوَى عَزَاءً وحِسْبَةً
…
فَتُؤْجَرَ أم تَسْلُو سُلُوَّ البَهَائِم
عقد قول علي رضي الله عنه للأشعث بن قيس: "إمَّا صَبَرْتَ صَبْرَ الأحرار، وإلا سَلَوْتَ سُلُوَّ البهائم".
حكى القاضي الفاضل قال: أرسلني أبي إلى يوسف بن أبي الخلال رئيس ديوان الإنشاء بمصر في الدولة الصلاحية لتعلُّم فَنِّ الكتابة، فرَحَّبَ بي ثم سألني: ما الذي أعددتَ من الآلات؟ فقلت: القرآن، وكتاب الحماسة. فقال: إن في هذا لبلاغًا. فلمَّا تَردَّدْتُ إليه، وتدَرَّبْتُ بين يديه، أمرني أن أَحلَّ شعر الحماسة فحللتُه من أوله إلى آخره، ثم أمرني أن أحلَّه مرةً ثانيةً ففعلت، فقال لي: اشتغل بمثل هذا وأنت إذًا تُحسِنُ الإنشاء.
ومما يجب التنبُّه إليه أنَّ المرجع في كلِّ صِنْفٍ إلى اختيارِ جَيِّدِ إنشاءِ فُحُولِه، ففي الكتابة يجب تتبع أساليب مجيديها من كتابة ديوانية
أو أدبية أو علمية أو صحافية، وفي الشِّعْر كذلك، وفي الشروط والتوثيق كذلك، وفي الخطابة كذلك، وفي المحادَثات يجب التمرُّن بمطالعة محادثات العرب، وقِصَارِ الجُمَل، والأجوبة البديعة، فإنَّ معرفة المُرَاسَلة والخطابة لا يُغنِي عن معرفة كيفية المحادَثة؛ ألا ترى أنه لو عَمَد إنسانٌ إلى أن يكتب كما يتكلَّم لجاءت كتابتُه مقطَّعة، وكذا لو تكلَّم كما يكتب لكان كمن يسرُد شيئًا محفوظًا، وهكذا تجدُ لكلِّ فَنٍّ لهجةً تُشبِه أن تكون لغةً خاصةً، فمن الغلط الكبير أن يلتزم المتمرِّنُ أسلوبًا واحدًا أو طريقةً منفردةً لا يعدو ذلك إلى غيره، وقد تَنبَّهْتَ إلى أنموذج ذلك، وفي استقرائه كثرةٌ، وليس الرِّيُّ عن التَّشَافِّ. والله أعلم.
انتهى القسم اللفظي، وفي منتهاه بِلْغُ ما أردناه من أصول فَنِّ الإنشاء، وسنقفِّيه إن شاء الله تعالى بخُلاصةٍ تتعلق بفنِّ الخطابة وآداب الخطباء، لتكون له كالتَّكملة، وعسى إذا حَظِي ذلك بإعمالِ بصيرةٍ نَقَّادَة، وأُورِيَ له زِنَادُ فِكْرةٍ وَقَّادة، أن يكون كافيًا للمتعلِّم القاصدِ، سِيَّمَا إذا نَفَحَها المدرِّس النِّحْرِيرُ بما تجود به هِمَّتُه من الزَّوائد.
- انتهى -
- يتلوه الكلام على فن الخطابة -