الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
…
الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في مباحث العقيدة
تأليف: آمنة محمد نصير
تقْديم
لقد بدأت تجربتي في دراسة أعلام السلف منذ خمسة عشر عاماً عندما بدأت التفكير في إعداد الماجستير عقب الدراسات التمهيدية التي تسبق هذه الدرجة العلمية، ويومها أشار علي أستاذي الدكتور محمد رشاد سالم أستاذ الفلسفة الإسلامية بدراسة المتكلم والفقيه والواعظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي] 510هـ ـ 597 هـ م [وهو عقلية موسوعية تراني على حقول المعرفة الإسلامية بجدارة، استغرقت دراستي لابن الجوزي بضع سنوات كانت مثمرة والحمد لله.
ثم بدأت التفكير في دراسة الدكتوراه وعشت في حيرة اختيار موضوع البحث كأي دارس ودراسة في هذه المرحلة ويومها فكرت في دراسة ابن عقيل الحنبلي وهو من أبرز شيوخ ابن الجوزي وقد تأثر به تأثرا كبيرا في كثير من آرائه. وفي هذه الآونة عرض علي العمل بالمملكة العربية السعودية لكي أحاضر في المواد الإسلامية في كلية التربية بالرياض ومن خلال تجربتي في التدريس واحتكاكي بالمناهج أحسست بأهمية الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب كصاحب منهج عملي وفكر سلفي عالج بهما كثيراً من الأمراض التي كانت منتشرة في الجزيرة العربية ـ بل وفي معظم العالم الإسلامي وأول هذه الأمراض التي قام بعلاجها تنزيه مفهوم التوحيد من جميع ألوان الشرك في عقائد الناس وسلوكهم.
قطعت إعارتي وعدت إلى القاهرة لكي أتفرغ تماماً لدراسة الشيخ
محمد بن عبد الوهاب في قالب علمي بعيد عن اتجاه الغالين أو القالين لدعوة الشيخ.
وعرضت الموضوع على الأستاذ الدكتور أبو الوفا التفتازاني أستاذ الفلسفة الإسلامية ووكيل كلية الآداب/جامعة القاهرة فرحب به وحثني على المضي فيه وذلل الصعوبات التي اعترضت طريقي في وقتها. وكذلك كان تشجيع أستاذ الجيل الدكتور عبد العزيز السيد. وكان التشجيع الكبير من زوجي المستشار الدمرداش العقالي الذي حول تشجيعه إلى عمل متواصل في جمع كل ما يمكن جمعه من مادة ومراجع من مكتبات الرياض.
وبدأت مشواري مع الشيخ الذي استغرق حوالي ثلاثة أعوام، كان لأستاذي المشرف الدكتور محمد عاطف العراقي أستاذ الفلسفة الإسلامية بآداب القاهرة عظيم الأثر في إنارة الطريق أمامي وحثني على إخراج هذه الدراسة في زمن وجيز.
وتمت الدراسة بخير أحمد الله عليه وجاء دور طباعتها ومن منطلق شعوري بما أعطيت لهذه الدراسة من وقت وجهد جعلني أشعر بأهمية إخراجها للقارئ العربي في ثوبها العلمي الموضوعي المحايد والذي انتهيت فيه إلى أن الإمام الشيخ، في عالم المصلحين، عملاق ذو منهج فريد، وفي عالم البشر حسب قوله رحمه الله:" فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا نبينا "صلى الله عليه وسلم".
وأقول إن كنت أصبت فهذا الذي أردت وهو من توفيق الله تعالى وتيسيره وإن تكن الأخرى فسوف أحظى بأجر إن شاء الله وحسبي خلوص النية لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
د. آمنَة محمَّد نصْير
تمهيد
اكتمل تكريم الله للإنسان بالقران الكريم.
وتمثل هذا التكرم في أنه جاء كتاباً يتلى، ليستخرج العقل الإنساني من عبودية التقليد إلى حرية التفكير. وليضع لهذه الحرية العقلية معالم تهدي المفكرين إلى سواء السبيل.
معالم تهدي ركب الحياة في سيره الحثيث.
ولكنها ليست قيوداً تشل الحياة وتورث الجمود.
واهتدى السلف الصالح إلى منزلة التفكير كفريضة فأدوها، وإلى ضرورة المعالم والحدود التي وضعها العليم الخبير فانتهوا إليها ولم يضيعوها.
فقدّموا للإنسانية حضارة فريدة تقدّر المقول وتحفظ المنقول. ثم خلف من بعدهم من توزعتهم أهواء الإفراط والتفريط حتى أضاعوا التوازن المعجز الذي جاء به الإسلام صيانة للعقل والنقل على السواء، فأخذوا عرض الكتاب وأهدروا غاياته!
فريق استهواه بريق الفلسفة الأرسطية ذات الأقيسة الجدلية فآثر استخدام منطقها للدفاع عن عقيدة الإسلام، وفاته أن للعقيدة منطقها المستقل في البحث والاستدلال. فكان كمن قاتل معركة بغير سلاحها فأرهق نفسه وأرهق المثل التي يدافع عنها، وانتهى إلى أن أفرط في العقل حتى فرط في النقل.
وفريق استفزه منهج المسرفين في العقل على حساب النقل، فانقلب على عقبيه يرى صيانة المنقول في حجب العقل عن محاولة فهمه، وهو بهذا حرم نفسه نعمة التفكير الذي كرر القرآن التنويه به والحث عليه، كما حرم النصوص من التجدد على الأيام بسلامة التفكير وسداد التطبيق.
وبفعل الفريقين بدأ الظلام يزحف على العالم الإسلامي رويداً رويداً حتى إذا ذهبت الحضارة الإسلامية بالغزو التتري البربري الذي أسقط بغداد عام 656 هـ توقفت المعارف واستحكم الجمود وساد التقليد.
وتعاقبت القرون بالمسلمين ابتداء من القرن السابع الهجري في تخلف فكري متزايد. ولم تفلح الشموع التي أضاءها بعض العلماء المصلحين في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي في تبديد ظلامه. حتى إذا حل القرن الثاني عشر الهجري كان المسلمون قد هبطوا فكرياً إلى حد الإحتجاب الكامل عن حقائق الإسلام، وكلياته الأساسية في شتى مجالات العقدية بما ينبثق عنها من عبادات ومعاملات. وأصبح معوّل الناس في سائر هذه الأمور على تقليد آراء السابقين.
ووصل جمود التقليد إلى حد تقديس المذاهب، كما لو كان المذهب ديناً مستقلا لا يجوز للمنتسب إليه الخروج عنه أو تقليد غيره في قليل أو كثير. وساد بين الخاصة والعامة وهم مفاده: غلق باب الاجتهاد.
وبسيادة هذا الوهم فسدت العقائد وتلبس التوحيد بالشرك الخفي والجلي وكسدت بضاعة العلم والمعرفة لتروج الأساطير والخرافة، وتحلل الناس من تكاليف الشرع بشتى الحيل وتلاشت سنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولم يكن من سبيل إلى الإصلاح إلا بعلاج الداء من جذوره، دون الوقوف عند عرض من أعراضه.
كان العلاج في تصحيح العقيدة بإعادة التوازن بين دور العقل وحجية النقل. ولا سبيل إلى ذلك إلا بفتح باب الاجتهاد. ولم يستطع أحد من رواد الفكر ـولم يخل منهم قرنـ أن ينهض بهذا العبء، حتى ظهر الشيخ "محمد بن عبد الوهاب" المولود عام 1115هـ.
كان تحديده لعلة الفكر الإسلامي تحديداً دقيقاً ومبكراً: إنه فساد العقيدة بغلبة الشرك على التوحيد.
وجاء تعليله للعلة شاملاً: إنه قلة العلم بما كان عليه السلف والاستسلام للحواشي والأساطير التي رسخت مع الجمود والتقليد. وإن سبيل الخلاص من هذه الغاشية: تصحيح الاعتقاد وفق الكتاب والسنة، وتحرير العقل من خرافة التقليد لآراء الأولين. وأتبع العلم الذي يدعو إليه بالعمل الجاد الموافق لهذا العلم، فلم تلبث الدعوة أن أصبحت حركة، واستطاعت الحركة أن تقيم دولة ومن ثم وضعت منهج الشيخ موضع التطبيق.
كان محمد بن عبد الوهاب أول داعية في القرون المتأخرة يتحقق لدعوته اجتياز سائر المراحل من الفكر النظري إلى التطبيق العملي.
ومن أبرز المشاكل التي تعرض لها الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكانت موضع هجوم خصومه ورميه بأنه مبتدع وأحدث مذهباً خامساً وخالف إجماع المذاهب الأربعة وضعه مسألة التوسل والكرامة في ميزانها الشرعي الدقيق وعدم تركها لكل مدّعٍ ومبتدع. كما لعبت قضية التفكير دوراً بارزاً في حياة الدعوة ومسارها. ولكن رغم الخلافات الحادة التي ظهرت في حياة الدعوة ظهر فريق أنصف الدعوة واعتبرها بداية يقظة العالم الإسلامي في العصر الحديث.
وقد استلفتت حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنظار عدد من الباحثين الذين توفروا على دراسة آثارها من وجهة نظر التاريخ والحكم والسياسة، ولكن قل من الباحثين من توفر على دراسة جانب العقيدة في حركة الشيخ وهو الأساس فاستعنت الله تعالى أن يهيئ لي أسباب هذه الدراسة لما بدا لي من حاجة الفكر الفلسفي الإسلامي إلى استيعاب هذا الجانب من فكر محمد بن عبد الوهاب.
موضوع الكتاب:
وهو على ما يقرأ من عنوانه:"منهج ابن عبد الوهاب في مباحث العقيدة". بما يستلزمه من دراسة لمكونات هذا المنهج ومصادره ثم معالمه
وخصائصه للتأدي من ذلك إلى كيفية أعماله لهذا المنهج في مباحث العقيدة وأثره.
خطة البحث:
عالجت هذا الموضوع في ستة أبواب:
* تناولت في الباب الأول بحث المكونات الأساسية لفكره ومنهجه من خلال دراسة حياته ومؤلفاته وعصره وبيئته.
* وفي الباب الثاني تعرفت على المعالم الرئيسية التي تبين لي أنها طابع فكره ومنهجه.
* وفي الباب الثالث: عرضت لموقفه من الغيبيات.
* وفي الباب الرابع: عرضت لصلة التصوف بالعقيدة بياناً لموقفه من المسألة في أهم جوانبها.
* وفي الباب الخامس: درست نظرته إلى دورة العقدية في بناء الفرد من خلال الجماعة.
* لأخلص في الباب السادس إلى دراسة أثره.
* ثم خاتمة تضمنت أهم نتائج البحث.
الباب الأول: حياته ومؤلفاته وعصره وبيئيته:
وقد تناولت موضوعات هذا الباب في فصلين. خصصنا الفصل الأول لدراسة حياته ومؤلفاته.
فعرضنا أولاً لحياته بياناً لنسبه ومولده ونشأته ورحلاته وشيوخه فحققنا خلال هذه الدراسة أنه ولد عام 1115 هـ ببلدة العينية من قرى نجد لأب عربي ينتسب إلى قبيلة تميم المعروفة في الجاهلية والإسلام وكان جده ثم أبوه وعمه من علماء نجد وقضاتها فنشأ في بيئة علم ودين أتاحت له تلقي العلم
مبكراً فعرف بسرعة الحفظ والإتقان. حفظ القرآن الكريم قبل بلوغ العاشرة، وتلقى عن أبيه وعمه وغيرهما من شيوخ نجد شيئاً من علوم اللغة والحديث والتفسير والأصول والفقه على مذهب واحد، وقدمه أبوه للصلاة بالناس وهو دون الثانية عشرة ثم أذن له بالحج والزيارة فمكث في المدينة المنورة مدة يتلقى على علمائها ثم تكررت رحلاته إلى الاحساء وإلى البصرة والزبير بالعراق وتلقى عن علماء هذه الجهات وناظرهم ثم عاد إلى نجد فاستقر بها حتى وفاته عام 1206 هـ.
وخلال دراسة حياته دفعت شبهات متعددة تناقلتها أقلام الباحثين حول نسبته ومحل وتاريخ مولده ورحلاته والمذهب الذي بدأ التفقه عليه وشيوخه إذ ذهبت معظم المصادر العربية بعد الأجنبية إلى أنه رحل وزار أقطار العالم الإسلامي وتلقى سائر العلوم والفنون حتى صنع الأسلحة، وقد ثبت من الدارسة أن مسرح رحلات الشيخ لم يتجاوز مكة المكرمة والمدينة المنورة والبصرة والزبير والاحساء وأنه مع تلقيه عن بعض شيوخ وعلماء هذه الجهات فقد اعتمد في تحصيل معارفه على قراءة كتب السابقين وعلى الأخص شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وأن ثقافته تأسست على هذه المعارف التي جمع إليها التأمل العميق في واقع الحياة والناس وقياس هذا الواقع على ما لديه من علم، وأن هذا التأمل هو الذي اوزعه أن ينهض بالدعوة إلى تغيير ما رآه منكراً.
ولدى دراسة مصنفاته التي ألفها تبين أنه مقل بالقياس إلى غيره ممن لم يتركوا مثل أثره، وبان لي أن معظم مصنفاته رسائل عالج فيها موضوعات أملتها المناسبات المتعلقة بحركة الدعوة إلى جانب عدد من الكتب التي ألفها شرحاً لما يدعو الناس إليه. وكان اعتماده في رسائله وكتبه على النصوص وسيرة السلف. إلا أن هذه المؤلفات على قلتها تمكن الباحث من استيعاب فكره ومنهجه والحكم عليه والإنطباع العام الذي يستفاد من مؤلفاته أنه كان يعالج العلم في إطار حركة الحياة بما يمكن معه القول أنه رائد في مدرسة "العلم للحياة".
وعرضت في الفصل الثاني: لدراسة عصره وبيئته فأوضحت الحالة العامة للعالم الإسلامي في القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي)
وهي الفترة التي بلغ فيها العالم الإسلامي غاية التدني والإنحطاط الفكري والعقائدي والسياسي على ما هو مدون بسائر المصادر والتي تعرضت لهذه الفترة وأن حالة نجد والجزيرة العربية كانت تزيد سوءاً عن حالة العالم الإسلامي من حولها حتى ذكر بعض الباحثين أن نجد أو الجزيرة العربية كانت قد عادت إلى جاهلية شر من جاهليتها الأولى ففسدت العقائد ونجمت البدع وتسلطت الأوهام فأصبح حبل الناس على غاربهم فتحللوا من عروة الدين وقوامها نقاء العقيدة كما تحللوا من عروة الدنيا وقوامها السلطان العادل.
الباب الثاني: المعالم الرئيسية لفكره ومنهجه:
وقد سلكتها في فصلين:
عالجت في الفصل الأول موقفه بين الإجتهاد والتقليد، لما تبين لي أن هذا الموقف يعتبر حجر الزاوية في بناء فكره ومنهجه، عرضت أولا للإجتهاد موضحة موقفه منه خلال أربع نقاط:
النقطة الأولى:
مبدأ الإجتهاد من حيث مشروعيته ولزومه واستمراره فصح لدينا أن الشيخ يرى ثبوت الإجتهاد واجباً متعيناً على الأمة ماضياً إلى يوم القيامة وأنه منهج السلف في استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها الظنية.
النقطة الثانية:
تعرفت على مجال الاجتهاد عنده فصح لديّ أنه يرى الإجتهاد وارداً في كل مسألة ليس فيها نص قطعي الورود قطعي الدلالة، ولا يصح ترك الإجتهاد لقولة قائل مهما كان فكل يؤخذ منه ويرد عليه إلا الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم. ولا يتوقف الإجتهاد في مسألة خلافية إلا بالإجماع من سائر علماء الأمة.
النقطة الثالثة:
درست الشروط التي يرى لزوم توافرها في المجتهد فبان لي أنه ينفرد عن
سائر علماء الحنابلة بتيسير هذه الشروط على نحو لم يسبق إليه.
النقطة الرابعة:
لما يراه بشأن علاقة المجتهد بالمجتهد فبان لي أنه يؤكد على كل مجتهد أن يحتفظ بصفة الإستقلال في اجتهاده حتى عندما يأخذ باجتهاد غيره فليس معنى ذلك قبول رأي الغير في ذاته بل قبول الدليل المنبني عليه حيث لا يعرف الحق بالرجال بل يعرف الرجال بالحق.
وعرضت ثانيا لموقفه من التقليد فشدد في إنكاره والنهي عنه بان أنه سبب توارث الكفر عن الآباء في كل عصر كما قص القرآن الكريم فالقاعدة المقررة لدى بن عبد الوهاب ذم التقليد وأنه طريق أهل الضلال الذين يصفهم بقوله: (إن دينهم مبني على أصول أعظمها التقليد فهو القاعدة الكبرى لجميع الكفار أولهم وأخرهم) . ولا يبيح التقليد إلا في حالات الضرورة القصوى عند استحالة معرفة الحكم اجتهادا، وحتى في هذه الحالة يوجب على المقلد أن يجتهد في اختيار من يقلده وألا يكتفي يما يشاع عنه من علم ودين وفي ذلك يقول:
" وأما إن قلد شخصا دون نظيره بمجرد هواء من غير علم أن الحق معه فهذا من أهل الباطل ".
وانبنى على موقفه من الاجتهاد والتقليد حسبما ذكرنا أن عاب على العالم أن يتخذ من المذهب الذي ينتسب إليه دينا يهاب التحول عنه وخلاف إمامه. ويمكن تلخيص موقفه من الاجتهاد والتقليد في القواعد الآتية:
(1)
كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هما المصدران الوحيدان لكل أمر ونهي وتقرير.
(2)
وإن الحكم إن عرف من النص لزم اتباعه وعدم تركه لقول كائن ما يكون.
(3)
فإذا لم يعرف الحكم من النص وجب الاجتهاد لمعرفته والاجتهاد فرض كفاية على الأمة ماض إلى يوم القيامة.
(1)
وإن كل مسألة خلافية هي محل للاجتهاد، ولا ينتهي الخلاف فيها إلا بالإجماع.
(2)
وإن الإجماع المعتبر عنده هو إجماع سائر علماء الأمة وليس مجرد إجماع علماء المذاهب الأربعة.
(3)
وإن التقليد مذموم ما لم تدع إليه ضرورة تقدر بقدرها.
(4)
وإن علم أصول الدين فرض على كل مكلف فلا يجوز التقليد فيها لعامي أو عالم.
(5)
وإنه على العالم إذا قلد غيره في مسألة يجهل حكمها أن يلتزم في تقليده بما يعتقد أنه الحق.
وفي الفصل الثاني:
عرضت لموقفه في الربط بين العلم والعمل لما تحقق لي انه المعلم الثاني من معالم فكره ومنهجه، فكما أمر الله تعالى بالعلم أمر بالعمل وكان من هدى الرسول صلى الله عليه وسلم في تعليم أصحابه أن يعلم أحدهم بضع آيات فلا يعدوها حتى يعمل بها. ويذهب محمد بن عبد الوهاب إلى اعتبار ربط العلم بالعمل المميز الأهم لأمة الإسلام عمن سبقها فهي سمة المنعم عليهم} غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ {الذين يعرفهم الشيخ بأنهم:" أهل علم بلا عمل". وغير الضالين ويعرفهم الشيخ بأنهم:" أهل عبادة ليس معها علم".
ومن هذا التصور كان منهج الشيخ في تحصيل العلم بالجمع بين التلقي عن الشيخ والتأمل في واقع الحياة والكون فكان تحصيله للعلم وحضه عليه مقرونا بالقضايا التي كانت طابع عصره إذ أنه جعل مدار علمه على ما يعالج هذه القضايا وفق ما أشرنا إليه في صدد مؤلفاته. ثم إنه جعل صحة العمل مقرونة مرهونة بما يوافق الشرع ومن خلال اهتمامه بالربط بين العلم والعمل أحيا قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأبرز دور العقيدة في بناء الفرد من خلال الجماعة.
الباب الثالث: موقفه من الغيبيات:
ويشمل على ثلاثة فصول درست في الفصل الأول موقف محمد بن عبد
الوهاب من مسألة: الذات والصفات، وقد لخص عقيدته بأنها عقدية الفرقة الناجية القائمة على تلقي الصفات من النصوص دون تحريف لمعناها بتأويل لم يؤثر عن السلف مع الإيمان بها دون تشبيه أو تعطيل أو تكييف أو تمثيل، وهو يجعل الإيمان بالصفات فرعا من الإيمان بالذات فكما أن الله ذاتا لا تشبهها الذوات فله صفات لا تشبهها الصفات. وقد شدد ابن عبد الوهاب حملته على علماء الكلام فيما نحى إليه بعضهم من تأويل الصفات أو القول بأن الصفات هي عين الذات أو أنها زائدة عن الذات.
وفي الفصل الثاني: تناولت موقفه من النبوات واهتمامه بتلقين المسلم دلالة إرسال الأنبياء والرسل على عناية الله تعالى بخلقه ورحمته بهم وتيسيره أسباب هدايتهم. ثم عنايته تعالى بأنبيائه ورسله وتأييده لهم بالمعجزات مع إثبات بشريتهم والتأكيد على ذلك. وأوضحنا نظرته إلى القرآن الكريم باعتباره المعجزة الكبرى للرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم بما يؤكد بقاء هذه المعجزة إلى يوم القيامة عل امتداد الزمان والمكان وأن القرآن كلام الله المنزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأنه تكلم به حقيقة وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عبادة. وإن كمال الإتباع للأنبياء باتباع أمرهم وينهيهم لا بالغلو فيهم وإخراجهم عن بشريتهم.
وفي الفصل الثالث: تناولت موقفه من البعث والجزاء، فتبين أن ابن عبد الوهاب يرى في البعث أنه ثابت بالنصوص فضلا عن أنه دال على منتهى عدل الله وإحقاق الحق بين عباده، وبعد أن عرضنا للأقوال المختلفة في ماهية البعث أوردنا مذهبه في إثبات أن البعث يكون بالجسد والروح..وأن الإيمان بالبعث لاينفك عن الإيمان بسائر مشاهد القيامة التي وردت بها النصوص كالميزان والصراط والحوض وأن منكر البعث كافر.
وفي بيان موقفه من الجزاء تبين لي أن موقفه: إثبات الجزاء كما دلت عليه النصوص فضلا عن أنه من دواعي إرسال الرسل. ثم انتقلنا إلى مسألة الشفاعة وقد كانت مثار هجوم خصوم ابن عبد الوهاب عليه بدعوى أنه ينكر الشفاعة والثابت من أقواله أنه يثبتها وفق ما دلت عليه النصوص وعرضنا لأنواع الشفاعة المختلفة ومن يأذن الله لهم بالشفاعة، وتبين من خلاصة أقواله
ردا على خصومه أن جوهر موقفه في مسألة الشفاعة: أنها ثابتة مقررة لمن يأذن الله له بأن يشفع فيمن يأذن الله بأن يشفع فيهم ولذلك فلا تطلب الشفاعة من الشفعاء بل يكون الطلب من الله بقولك: اللهم شفع في رسولك.
الباب الرابع: التصوف وصلته بالعقيدة:
فقد علاجنا هذا الموضوع في ثلاثة فصول: في الفصل الأول:
تعرضنا لبيان موقف ابن عبد الوهاب من التصوف وقد تبين لنا أنه نسج على منوال الفقهاء في معاداتهم لأهل التصوف فيما يتعلق بالقول بأن للشريعة ظاهرا وباطنا وما يتفرع عنه من مشاكل ومسائل.
والفصل الثاني:
عالجنا فيه التفريق بين جوهر التصوف وأشكاله، وبان لنا أن ابن عبد الوهاب قبل جوهر التصوف المتفق مع الشرع ورد كل ما يخالف الشرع ففيما يتعلق بإثبات الكرامة للأولياء قال بإثباتها شريطة ألا يكون من شأن إثبات الكرامة لولي اعفاؤه من تكاليف الشرع أو التوجيه إليه بالطلب والقصد لأن ذلك عبادة لا يجوز لغير الله ولئن كان للأولياء في عرف الصوفية أحوال ومقامات فإن مرد كل مقام عند ابن عبد الوهاب إلى الالتزام بنصوص الشريعة وتكاليفها. وفي الفصل الثالث عرضنا للتوسل وأوضحنا جملة من الأقوال التي وردت لبيان مدلوله ومعناه وانتهينا إلى بيان موقف ابن عبد الوهاب منه الذي يقول بمشروعية التوسل شريطة ألا يصحبه التوجيه بالطلب إلى الأولياء واصحاب الكرامات بل يكون الطلب والقصد إلى الله تعالى، مع وجوب استشعار العبد على الدوام أنه لا نفع ولا ضرر ولا تأثير ولا خلق ولا إيجاد إلا من الله تعالى. ولا شك أن موقف ابن عبد الوهاب كان هو صوت الشرع في مواجهة ما انغمس فيه العامة والخاصة من أهل زمانه في التوسل بالأولياء والصالحين على سبيل الطلب منهم والقصد إليهم واتخاذهم وسطاء إلى الله لقضاء الحوائج.
الباب الخامس: نظرته إلى دور العقيدة في بناء الفرد من خلال الجماعة:
ويقع في ثلاثة فصول: عالجت في الفصل الأول مفهوم الجماعة المسلمة وكيف تكون وتميزها عن سائر الجماعات الإنسانية في أساس تكوينها المبني على العقيدة وتبين أن ابن عبد الوهاب إذا انتقل من دور الدعوة إلى دور الحركة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تبين له أن نجاح حركته مرهون بوجود الجماعة التي تنتظم فيها فعمل على تكوين هذه الجماعة معتمدا على الأساس العقائدي خلافا لما كان عليه الحال في أرض نجد والجزيرة العربية في عصره من عودة الناس إلى التجمع القلي.
فبين أن الجماعة التي يدعو إليها هي جماعة التوحيد وأن سائر الموحدين على اختلاف أنسابهم وألوانهم إخوان في العقيدة وكل من خالف التوحيد عدو لهم. وفي الفصل الثاني: عالجنا قضية التكفير وما يخرج عن الإسلام وهي إحدى القضايا التي تعرض فيها ابن عبد الوهاب للهجوم الشديد من خصومه وناقديه مدعين عليه أن يكفر الناس بالجملة وتبين من دراسة موقفه أنه لم يصف قوما بذواتهم بأنهم كفار بل تحدث عن أعمال رآها تؤدي إلى الكفر ومنها موادة أهل الشرك على أهل التوحيد، وتبين لي أن هذه القضية تعرضت لردود أفعال ناجمة عن الصراع الحزبي بين أهل الدرعية من اتباع الشيخ وبين خصومهم الكثيرين من حولهم. وفي الفصل الثالث بحثت موضوع الجهاد في سبيل الله كركن في العقيدة: فتبين لي أن جوهر موقف الشيخ في المسألة قائم على أن أهل الحق هم على الدوام محل العدوان عليهم من أهل الباطل سواء كان عدوانا حالا أن عدوانا متوقعا وأن سبيل أهل الحق لدفع هذا العدوان الحال أو التوقي من هذا العدوان المحتمل هو الجهاد في سبيل الله. وأوضحنا أن ماهية الجهاد عنده كما كان عند السلف تمكين المؤمن من الدعوة إلى الله وإزالة العقبات من أمام الدعوة وأنه ليس حربا للاستعلاء في الأرض واسترقاق البشر بدليل أنه فور قبول العدو للإسلام يصبح فورا أخا في العقيدة له ما للمسلمين وعليه ما عليهم دون تفريق بين جنس أو لون.
الباب السادس: أثره في الفكر والسياسة.
ويفع في فصلين، عالجت في الفصل الأول أثره في الفكر الإسلامي، وتبين من الدراسة أن دعوته إلى استمرار الاجتهاد إلى يوم القيامة وتنديده بالوهم القائل: يغلق باب الاجتهاد كان له أثره الفذ في تنوير العقول وشحذ الأذهان وكسر الجمود الذي كان طابع الفكر الإسلامي في عصره بما عده معه بعض الباحثين زعيما مجددا من زعماء الإصلاح ومصلحا عقائديا بدأت يقظة العالم الإسلامي بدعوته، كما كان لإحيائه شريفة الجهاد في سبيل الله دفعا للعدوان الواقع والمحتمل ولأخذه بسنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دفعا لانحراف الجماعة الإسلامية عن منهج الإسلام، كان لذلك أثره في لفت أنظار الجماعات الإسلامية في شتى بقاع العالم الإسلامي إليه وكان لموسم الحج أثره في إتاحة الفرصة لرجال الفكر الإسلامي وزعماء الحركات الإسلامية للالتقاء بدعاة فكره ومنهجه والتأثر بهم، كما امتد هذا التأثير بفعل المدرسة المنتسبة إليه وعديد التلاميذ الذين تلقوا عنه وتأثروا به.
وفي الفصل الثاني: تدارست أثره في السياسة وتحقق لي أن دعوته القائمة على الإسلام بوصفه الشمولي لأغرا ض الدين والدنيا قد كان لهما أثرها في الجزيرة العربية بإقامة أول دولة تجمع شمل العرب في الجزيرة منذ عهد الصدر الأول وما ترتب على ذلك من دخول هذه الدولة في صراع مع دولة الخلافة العثمانية كان من آثاره غير المباشرة إزكاء روح القومية العربية في مواجهة القومية التركية وهو أثر لردود أفعال الصراع لم يكن من أهداف محمد بن عبد الوهاب ولا مما يتفق مع الأساس العقائدي لدعوته حسبما قدمنا.
وقد خلصت من هذه الدارسة إلى النتائج التي أعددتها في الخاتمة وأهمها في تقديري.
ثبوت قدرة المنهج التربوي الإسلامي المستقى من الكتاب والسنة على صناعة الرجال وإبداع الأفكار وشحذ العزائم عبر كل مراحل التاريخ.
وإنه مهما بدا للناس أن الفكر الإسلامي النقي قد حجبته الغواشي
واكتنفته شبهات بعض المستشرقين ومن نقل عنهم عاد صافيا متجددا عبر أحد مفكريه على امتداد الزمان والمكان. تصديقا لقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون}
ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله يبعث لأمتي على رأس كل قرن من يجدد لها أمر دينها".
وإني إذ أقدم هذا البحث لأهيب بالسائرين قدما على درب البحث والفكر أن يولوا عنايتهم للجوانب المتعددة التي يثيرها فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب وفكر تلاميذه من بعده والتي تستحق كل جانب منها على حدة أن يكون موضوعا لبحث مستقل كجانب الاجتهاد. ومشروعية الجهاد وارتباط العلم بالعلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقضية التكفير وما يتصل بها إلى غير ذلك من الموضوعات التي تحتاج من الباحثين العناية والاهتمام.
والله ولي التوفيق.