المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: أثرة في السياسة - الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في مباحث العقيدة

[آمنة محمد نصير]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: حيَاتهُ وَمؤلفَاتهُ وَعصرُه وبيئتهُ

- ‌الفصل الأول: حياته ومؤلفاته

- ‌الفَصْل الثَاني: عصره وبيئته

- ‌الباب الثاني: المعالم الرئيسية لفكره ومنهجه

- ‌الفصل الأول: موقفه بين الاجتهاد والتقليد

- ‌الفصل الثاني: اهتمامه بالربط بين العلم والعمل

- ‌البَابُ الثَّالِث: مَوقفهُ مِنَ الغَيبيَّات

- ‌الفصل الأول: الذات والصفات

- ‌الفصل الثاني: النبوات

- ‌الفصل الثالث: البعث والجزاء

- ‌الباب الرابع: التصوف وصلته بالعقيدة

- ‌الفصل الأول: موقفه من التصوف

- ‌الفصل الثاني: التفرقة بين جوهر التصوف وأشكاله

- ‌الفصل الثالث: موقفه من التوسل

- ‌الباب الخامس: نظرته إلى دور العقيدة في بناء الفرد من خلال الجماعة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: مفهوم الجماعة المسلمة وكيف تتكون، ومدى ارتباط الإيمان بالتزام الجماعة

- ‌الفصل الثاني: التكفير وما يخرج عن الإسلام

- ‌الفصل الثالث: الجهاد في سبيل الله كركن من أركان العقيدة

- ‌الباب السادس: آثاره في الفكر والسياسة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: أثره في الفكر الإسلامي

- ‌الفصل الثاني: أثرة في السياسة

- ‌خاتمة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌الفصل الثاني: أثرة في السياسة

‌الفصل الثاني: أثرة في السياسة

تتفق معظم المصادر التي تناولت حياة محمد بن عبد الوهاب وحركته على أنه عاد من رحلاته في طلب العلم ليستقر في نجد بعام 1139هدون تحديد لسنة عودته على وجه اليقين 1.

ورجع بعض الباحثين "أن تاريخ العودة يقع بين عام1143 وعام 11502 كما تتفق هذه المصادر على أن بعد، استقراره بنجد كان في بلدة حريملاء التي كان أبوه قد انتقل إليها من العيينة ليواصل بها القضاء والإفتاء ولم يلبث أن استفزه ما يراه من البدع والمنكرات فأخذ "ينكر ما بفعل الجهال من البدع والشرك في الأقوال والأفعال وكثر منه الإنكار لذلك ولجميع المحظورات حتى وقع بينه وبين أبيه كلام3 فلما توفى أبوه عام 1153هـ "أعلن بالدعوه والإنكار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "4 ولم يلبث أن أثارت الدعوة أهل الفسوق والعصيان فهبوا أن يفتكوا به ويقتلوه

(1) ابن غنام. تاريخ نجد. ص 77

ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد ج1 ص 21

(2)

د / منير العجلاني. تاريخ البلاد العربية السعودية. ص 208

(3)

ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد. ج1 ص 21، د محمد عبد الله ماضي النهضة الحديثة في جزيرة العرب ص 45.

وأيضا: عبد الله قلبي: تاريخ نجد ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية. ص: 23

(4)

المرجع السابق: ص 22 ابن غنام. تارخ تاريخ نجد ص 77

ص: 236

فأضطر أن ينتقل إلى بلد العيينة ورئيسها يومئذ عثمان بن حمد بن معمر 1

لجأ ابن عبد الوهاب إلى العيينة لجوء صاحب دعوة يؤمن بها ويصر عليها وينشد القوة التي تؤازره في نشر دعوته والتمكين لها، بعد أتيقن في تجربته في حريملاء أنه لا بقاء لحل أعزل من قوة تحميه. ولم يكن في لجوئه إلى العيينة والتماسه قوة تحميه حتى يبلغ دعوته مبتدعاً فله في ذلك أسوة حسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روت كتب السيرة الصحاح أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على القبائل في كل موسم مناشدا أهل النخوة من شيوخ القبائل أن يبذلوا له الحماية من اضطهاد قريش حتى يبلغ عن ربه. وتروي كتب السيرة أن بني عامر بن صعصعة وكانوا من أكبر قبائل نجد آنذاك عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبذلوا له الحمايه شريطة أن يكون لهم الأمر من بعده فأجابهم:" إن الأمر لله يضعه حيث يشاء "2فأنصرفا عنه كارهين أن يهدفوا صدورهم لسهام العرب دفاعا عنه ثم لا يكون الأمر لهم وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم على موقفه من عدم جعل الأمر من بعده ثمناً لنصرته حتى أكرمه الله بالأنصار فبايعوه على الإسلام والسمع والطاعة دون رجاء في مغنم دنيوي اكتفاء برضوان الله تعالى والجنة. لكن ابن عبد الوهاب إذ لجأ إلي العيينة التماسا لنصرة أميرها عثمان بن معمر " حاول على نصرته وقال له: إني أرجو إن أنت قمت بنصر لا إله إلا الله أن يظهرك الله وتملك نجداً وإعرابها3"وعلى هذا ناصر عثمان بن معمر وفي ظل هذه المناصرة أزال البدع التي كانت في العيينة مطبق الحدود بأن رجم امرأة أقرت عنده بالزنا"وكان أول من رجمها عثمان نفسه فلما ماتت أمر الشيخ أن يغسلوها وأن تكفن ويصلى عليها"4.

وما أن أصبح للدعوة منهج تدعوا الناس إلية وسلطان تزع المخالفين به

(1) المرجع السابق. ص 78 وكذلك ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد. ص 22

(2)

سيرة ابن هشام ج 2 ص 289 وأيضا ابن جرير الطبري تاريخ الأمم والملوك ز ج2 ص 232.

(3)

ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد/ج1 ص 22

(4)

ابن غنام. تاريخ نجد ص 80 وايضا ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1ص 23

ص: 237

حتى تنبه إليها النفوذ والرياسة في أطراف الجزيرة العربية وكان أقوالهم نفوذا في شرقي نجد سليمان آل محمد رئيس الاحساء وبني خالد وقد أحاط به معارضو محمد بن عبد الوهاب "فأغروه به وصاحوا عنده وقالوا:"إن هذا يريد أن يخرجكم من ملككم ويسعى في قطع ما أنتم عليه من الأمور ويبطل العشور والمكوس1 وبأمر من أمير الإحساء سليمان آل محمد أمر عثمان بن معمر بحمل بن عبد الوهاب بمبارحة العيينة متخليا عن نصرته حرصا على بقاء نفوذه الذي بات مهددا بغضب أمير الاحساء.

وإلى الدرعية كانت هجرة بن عبد الوهاب للمرة الثانية وكان لقاؤه مع أميرها محمد بن سعود عام 1157هـ حيث دعا الشيخ إلى نصرة دعوة التوحيد مرغباً إياه بقوله "أنت ترى نجد كلها وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل. والفرقة والاختلاف والقتال لبعضهم بعض فأرجو أن تكون إماما يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك2فبايعه محمد بن سعود بن مقرن على ذلك"وعلى أن الشيخ لا يرغب عنه أن أظهره الله وأن لا يتعرضه فيما يأخذه من أهل الدرعية مثل الذي كان يأخذه رؤساء البلدان على رعاياهم.3

كان محمد بن سعود بن مقرن العنزي أميرا على الدرعية كسائر الأمراء من حوله. وكان في كل قرية من قرى نجد أمير، والحروب لا تنقطع بين هؤلاء الأمراء على نحو ما أوضحناه في الفصل الثاني من الباب الأول لدي ذكر أحوال نجد والجزيرة العربية.

وبتمام بيعة محمد بن سعود لمحمد بن عبد الوهاب بدأ الصراع على أرض نجد والجزيرة العربية يكتسب بعداً آخر. لقد أصبح عقائديا دون أن تتغير ماهية القوى المشتركة في الصراع فغزوات بن سعود لجيرانه وغزوات جيرانه له قبل ظهور محمد بن عبد الوهاب كانت متلاحقة لا تنقطع وظلت كذلك بعد ظهور دعوة ابن عبد الوهاب مع أهل الدرعية لشعار التوحيد عنوانا لهم وبالتالي رمي خصومهم بوصف الشرك والكفر ومعاداة أهل

(1) ابن غنام. تاريخ نجد ص 80

(2)

ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد. ج 1 ص 24

(3)

المرجع السابق: ص 25

ص: 238

الإسلام1وظل أثر الدعوة الوهابية السياسي محدودا في هذا الصراع إذلم يستطع بن سعود طوال ثلاثين سنة من الحروب أن يتجاوز نطاق الدرعية وبعض القرى حولها حتى بلدة الرياض المتاخمه لها ظلت تقاوم ابن سعود قرابة ثلاثين سنة دون أن يجد أهلها في شعار الدعوة الوهابية ما يحملهم على الانحياز لها والخروج على طاعة أميرهم دهام بن دواس. بل أن دهام بن دواس أمير الرياض كان قد ارتضي دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبايع عليها عام 1167هـ2 إلا أنه لما وجد نفسه حيال إقرار بالزعامة لابن سعود وإلا فهو مرتد من أهل النار استنكر ذلك قائلاً: ومن هو ابن مقرن ليحمل مفاتيح الجنة وينذر الناس بالنار3. ودلالة ذلك: أن حركة محمد بن عبد الوهاب أدخلت على موازين الصراع المحتدم على أرض نجد عنصر العقيدة، فأصبح هناك أفراد يهاجرون إلى الدرعية مخلفين قبائلهم ليكونوا جنودا للدعوة تحت راية ابن سعود وقد كان كل من الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد سعود بن مقرن عونا لصاحبة وعبئا عليه في نفس الوقت. فمحمد بن سعود كان عونا لابن عبد الوهاب بما أتاح له من مأمن الإقامة وحرية الدعوة إلى فكره ومنهجه وفى نفس الوقت كان ابن سعود بما اشترطه من الإمارة لنفسه ولذريته من بعده عبئا على الدعوه وصاحبها تمثل في شدة المقاومة التي واجه بها أمراء سائر البلاد هذه الدعوة استكبارا منهم عن الدخول في طاعة ابن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب كان عونا لابن سعود في بسط نفوذه على قبائل وأماكن لم يكن ليحلم ببسط نفوذه عليها إذا لم تكن إمارة الدرعية إلا إحدى صغريات الإمارات في نجد4وفي نفس الوقت كان الشيخ عبئا علي ابن سعود من مهمة التصدي لسائر العرب المنكرين لهذه الدعوة من أول يوم.

(1) ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1 ص 73 وقد عنون المؤلف هذه الصفحة بعنوان الغزوات التي يكرر فيها المؤلف وصف أهل الدرعية بالمسلمين ورمي أهل القرى المجاورة بالكفار.

(2)

المرجع السابق. ص 43

(3)

أمين الريحاني، تاريخ نجد الحديث وملحقاته. ص:44

(4)

د. محمد ضياء الدين. تاريخ الشرق والخلافة العثمانية. ص 101

ص: 239

وبوضع هذه الدلالة موضع التقدير تبين لنا حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دعا إلى الله على بصيرة من ربه، وكان من أبلغ وجوه حكمته وبصيرته صلى الله عليه وسلم رفضه تحديد ثمن دنيوي لمن يناصر دعوته ويمكنه من تبليغ رسالته، وهو الثمن الذي طالب به بنو عامر بن صعصعة لما قالوا له بلسان بيحرة بن فراس:"أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك. قال: الأمر لله يضعه حيث يشاء. قال ابن فراس "أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك"1

هل كان ابن عبد الوهاب في ظروف تمكنه من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فيرفض ما اشترط علية ابن سعود من أن يكون الأمر له ولذريته مثلما رفض رسول الله طلب بني عامر بن صعصعة وعندئذ يفقد النصير القوي وفي نفس الوقت يتجنب الدخول في صراع مادي مرير، كان في جملته تعبيرا عن رفض القبائل المتنافسة للقبول بسلطة ابن سعود عليهم.

لقد ألمح بعض الباحثين إلى أنه كان في إمكان محمد بن عبد الوهاب يسير بالدعوة في إطار سلمي بالتزام قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} 2وأنه لو التزم بهذا المنهج لأجتمع له تلاميذ يبلغون عنه وينشرون دعوته بهذا الأسلوب الهادئ أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة. ثم عاد هؤلاء الباحثون فنفوا هذا الإمكان بقولهم:"ولكن البيئة التي نبتت فيها هذه الدعوة، والثقافة التي تلقاها صاحب الدعوة جعلت الصراع المادي والاحتكام إلى القوه أمرا لا مفر منه"3 فبيئة نجد غير بيئة الحجاز والأنصار أهل المدينة غير الأعراب سكان الدرعية ففي الحجاز على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت زعامة قريش غير منازعة ولا منكورة، كما كان الأنصار رضوان الله عليهم قد آووا ونصروا دون أن يرقبوا شيئا من غنيمة الدنيا. أما في نجد فصراع قبلي لا تدين فيه قبلية لقبيلة إلا تحت

(1) سيرة ابن هشام. ج2 ص 389 وأيضا الطبري. تاريخ الأمم والملوك. ج2 ص 232

(2)

النحل:125

(3)

عبد الكريم الخطيب. الدعوة الوهابية. ص 73.

ص: 240

سنابك خيلها وصوارم سيوفها1.فلم يكن أمام محمد بن عبد الوهاب مجال للاختيار فما دام هو لا عصبية له بين القبائل بنجد على ما ذكرنا في نسبه ونشأته وما دام قد حيل بينه وبين دعوته التى بدأها في حريملاء بالحكمة والموعظة الحسنة واضطر للهجرة منها إلى العيينة ثم اضطر للهجرة مره أخرى إلي الدرعية فلم يكن أمامه من سبيل إلا سبيله الذي هدى إليه بمبايعة ابن سعود ليكون نصيرا له في دعوته لقاء إمامة بشر بها ابن سعود وذريته.

ولكن إدخال العقيدة كعنصر في الصراع الدائر على أرض نجد تجاوز في آثارة نطاق نجد سائر الجزيرة العربية ثم تجاوز نطاق الجزيرة العربية إلى العالم الإسلامي بل شد أنظار القوى المتربة بالعالم الإسلامي من خارجه على نحو يقتضي تفصيل البيان.

كانت نجد قد انفصمت علاقتها بالخلافة منذ عهد الخليفة العباسي الراضي باستيلاء القرامطة عليها. وبعد زوال القرامطة لم تعد نجد إلى سلطة الخلافة أبدا2 ولما قامت الخلافة العثمانية لم يكن لها أي نفوذ في الإحساء وما جاورها وفي الأجزاء الغربية على مكة والمدينة والطرق الموصلة بينهما. وكانت الخلافة العثمانية تعهد بامر الحرمين الشريفين إلى أشراف مكة أما بأمر سلطاني مباشر أو عن طريق واليها على مصر3كما كانت تعهد إلى والي العراق بتولية من يراه على الإحساء، وقد ظهرت الدولة السعودية القائمة على فكر محمد بن عبد الوهاب خلال هذه الظروف السياسية التي يمكن إيجازها فيما يلي:

فراغ سياسي كامل في نجد بعدم وجود سلطة سياسية مستقرة لا على نحو موحد ولا حتى على نحو متفرق، إذ كانت الإمارات والمشيخات

(1) أمين الريحاني تاريخ نجد الحديث وملحقاته. ص 61 ومن عباراته فى وصف ضراوة الصراع في نجد قوله:" أنا صاحب الرياض وأنت صاحب الدرعية، فإما أن أقتلك أو أغلبك ثم أجلوك عن البلاد واستولي عليها وإما أن تفعل أنت فيكون لك في ما أريده فيك"

(2)

د. منير العجلاني. تاريخ البلاد العربية السعودية. ص 450

(3)

د. منير العجلاني. تاريخ البلاد العربية السعودية. ج1 ص 31

ص: 241

المتعددة فيها تقتصر تماما إلى الاستقرار وتعيش على صراع مستمر.

(2)

سلطة سياسة شبه مستقره في الإحساء يقوم عليها أمير من بني خالد.

(3)

سلطة سياسية شبه مستقرة في الحجاز يقوم عليها أشراف مكة وكانت نجد تتعرض بين الحين والحين لغزوات من أمير الإحساء تارة أو من شريف مكة تارة أخرى. وبظهور القوة السياسية الجديدة في الدرعية عرفت نجد معني السلطة وعرف سكان المنطقة معنى الولاء للحاكم ولاء يقوم على الطاعة لولي الأمر الذي يحمي حمي التوحيد والموحدين.

وتنبه أمير الإحساء للقوه الجديدة فبادأها بالصراع من أول يوم فقد سبق له أن أمر أمير العيينة بإخراج محمد بن عبد الوهاب منها فلما وجده يستقر في الدرعية ليكون سندا لابن سعود في توسيع دائرة ملكه شن على الدرعية عدة غزوات واتصلت الحروب بينهما حتى تم استيلاء ابن سعود على الإحساء وبالمثل أحس أشراف مكة بخطر الدعوة الجديدة على سلطانهم وامتيازاتهم فتصدوا لها بكل الأساليب، فضيقوا على أهل الدرعية في أداء الحج والمناسك ثم منعوهم من أداء الفريضة وكانوا يسجنون من يقع في أيديهم منهم ثم شنوا عدة غزوات على نجد كانت كلها تبؤ بالخسران التام 1 إلى أن تمكنت الدولة الناشئة المؤيدة بسلاح العقيدة أن تستولي على الحرمين الشرفيين فتكتمل لها السيطرة على معظم شبه الجزيرة العربية عام 12202هـ. وباكتمال سيطرة الدعوة الوهابية على معظم شبة الجزيرة العربية قامت في جزيرة العرب أول سلطة موحدة منذ قرون، وكان ذلك في حد ذاته حدثا فريدا جذب انتباه سائر القوى خارج الجزيرة العربية وعلى امتداد العالم الإسلامي بل وخارج العالم الإسلامي. وكان أول المتأثرين بهذا الحدث الخليفة العثماني بطبيعة الحال وإذا كان الخليفة قد تجاهل الدعوة الوهابية وهي بعد كيان ناشئ

(1) الشوكاني. البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع. ج 2 ص: 4 وفيه يسجل المؤلف أن الشريف غالب بن مساعد كثيرا ما يجمع الجيوش ويغزو صاحب نجد الذي استولى على بلاد الحسا والقطيف والدواسر وغالب بلاد الحجاز.

(2)

ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد. ج 1 ص 184

ص: 242

يعاني ألام المخاض والنشأة في بيداء نجد، فإنه باستيلاء الحركة الوهابية على الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة بات أمرها يهدد أساس الخلافة القائمة على عقيدة وحدة الإسلام وحماية الحرمين الشريفين.1

ومع أن الخليفة العثماني لم يكن يفتقر إلى المبرر الذي يستند إليه فى تدبير حملات حربية علي الوهابيين لإخراجهم من بلاد الحرمين الشريفين، فقد قدم له الوهابيون هذا المبرر. وتمثل ذلك في منعهم حجاج بيت الله الحرام الوفدين من خارج الجزيرة العربية وإصرارهم على هذا المنع وردهم الحجاج على أعقابهم طوال سنوات 1223هـ وما بعدها 2فضلا عن إخراجهم سائر من كان يقيم بمكة والمدينة من الأتراك الذين دأب الوهابيون علي تسميتهم بعسكر الروم3بمفهوم أنهم غير مسلمين. ومما ضاعف من صدمة الدولة العثمانية أن الحركة الوهابية جاءت في إخراج فترات التاريخ بالنسبة لها. فقد كانت عوامل ضعفها قد استشرت تحت وطأة الحروب المتوالية التي كانت تشنها عليها روسيا القيصرية وتفكك أوصال الدولة بتغلب المماليك على الكثير من ولاياتها وعجز السلاطين عن تنفيذ أية إجراءات إصلاحية أمام تعنت بعض العلماء المدعمين بتأييد الجند الإنكشارية4أضف إلى ذلك أن دول أوربا كانت تتربص بدولة الخلافة وتنعتها بالرجل المريض تطلعا إلى الإجهاز عليها واقتسام بلاد الشرق الإسلامي ثم إذا بها أمام حركة قوية تنتزع منها قلب العالم الإسلامي ومهوى أفئدة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

وقد أوردت المصادر النجدية ما يقطع بأن دولة الخلافة العثمانية عملت على تحاشى الصدام المسلح مع دولة الدعوة الوهابية فأرسلت الرسول بعد الرسول إلى الإمام سعود بن عبد العزيز تطلب منه المهادنة والمسابلة فرجع كل من الرسل بعدم القبول5 ووجدت الدولة العثمانية نفسها مرغمة علي الدخول

(1) د ضياء الدين الريس، تاريخ الشرق العربي والخلافة العثمانية. ص 7

(2)

المرجع السابق ج 1 ص 190 ص 191

(3)

المرجع السابق. ص 188

(4)

د. محمد ضياء الدين عنوان المجد في تاريخ الشرق العربي والخلافة العثمانية. ص 105 وما بعدها

(5)

ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1. ص:207 وما بعدها وبهامشة دون المحقق ما =

ص: 243

في حرب ضد الوهابيين، وهي أحوج ما تكون إلي ادخار قواها المتبقية للتصدي للزحف الأوربي الصليبي الذي كان قد أخذ يعد العدة للإجهاز عليها وأخذ يتطلع إلى فصم عرى اتحاد المسلمين لتحقيق أغراضه في امتلاك بلادهم1.

وهكذا كان من أبرز دعوة محمد بن عبد الوهاب السياسية أنها أجبرت دولة الخلافة العثمانية على فتح جبهة جديدة في مسلسل الحروب التي تخوضها وعهد السلطان العثماني إلى والي مصر محمد علي باشا القيام بمحاربة الإمام سعود بن عبد العزيز وإخراجه من الحجاز، وبدأت الحملات المصرية على الوهابيين عام 1226هـ واتصل أوار الحرب بين الفريقين إلى عام 1233.

وقد انتهت بسقوط الدرعية آخر معاقل الوهابيين وبنقل الإمام عبد الله بن سعود إلى الأستانة حيث نفذ فيه حكم الإعدام مع عدد من رؤوس الدعوة والبيت السعودي ودمر إبراهيم باشا الدرعية تدميرا تاما وهرب من بقي علي قيد الحياة

=يلي: وفي هذه الأثناء كان الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود قد استولى على الحجاز وعلى الحرمين الشريفين فاقلق توليه الدولة العثمانية لأنها تدعي حق الخلافة على المسلمين بعد سقوطها من العباسيين. وخلافتها إنما كانت تعتمد على الحرمين الشريفين لأن فخرها وحرمتها في النفوس إنما هي بدعوى حمايتها للحرمين الشريفين وخدمتهما فرأت استيلاء الإمام سعود على الحرمين فيه القضاء التام على سلطانها ونفوذها وتخوفت من أن هذه الدعوة السلفية التي تهدف إلى الإصلاح.. ينبسط نفوذها فتوحد كلمة العرب فينضوون تحت لوائها فتقضي بهم على الخلافة العثمانية المزعومة فيتقلص ظلها وينمحي أثرها. كيف لا تخشى الدولة العثمانية ذلك وقد وصل سعود بجيوشه بعد فتحه الحجاز إلى مشارق الشام وقراها واكتسح ما أمامه.. وهدد الطرق وهزم الجيوش التي أرسلها ولاة الشام والعراق لمحاربته حتى اضطرت الدولة أن تطلب منه المهادنة والمسابلة وتبذل له مقابل ذلك كل سنة ثلاثين ألفا مثقال ذهبا، وأوفدت الدولة لهذا الغرض رجلا يسمى عبد العزيز القديمى وأوفدت بعدة رجلا أخر يسمى عبد العزيز بيك فرجع كما رجع الأول بعدم القبول ورسالة طويلة تبلغ سبع صفحات ملأها سعود وعيدا وهذا الرسالة مذكورة في ج 7 من الدرر السنية والأجوبة النجدية ص 261 قال فيها سعود بالحرف الواحد ما نصه: وأما طلبتموه منا مرة بعد مرة أرسلتم لنا عبد العزيز القديمي ثم أرسلتم عبد العزيز بيك فلم نقبل ذلك منكم ولم نجبكم بالمهادنة "" واستطرد المحقق "لذا أصبحت الدولة العثمانية عاجزة عن مهادنة الإمام سعود بن عبد العزيز بن سعود فضلا عن محاربته".

(1)

محمد فريد بك. الدولة العثمانية. ص 202

ص: 244

من آل سعود وذريته الشيخ محمد بن عبد الوهاب1وكان لتكليف السلطان العثماني لمحمد علي باشا بإخراج الوهابيين من الحجاز أثره في تقوية سلطة محمد علي الذي عمل على انتهاز الفرصة للقضاء على خصومه السياسيين في مصر وهم المماليك فجعل من حفل توديع ابنه طوسون على رأس الحملة المتجهة إلى بلاد العرب مناسبة دعا فيها أمراء المماليك إلى حفل الوداع فى القلعة ليجعل من وليمة استضافتهم مذبحة عامة استأصل فيها سائر أمراء المماليك وقضى نهائيا على شوكتهم.2

ولو حاولنا تقصي الآثار السياسية غير المباشرة التي جلبتها دعوة محمد بن عبد الوهاب لطال بنا المقام، إذ لا يتسع نطاق بحثنا لهذا الاستقصاء، فإنا نكتفي بالإشارة إلية مؤملين أن تلقى هذه الناحية اهتماما أكبر من الباحثين في هذا المجال.

وبحسبنا أن نشير في إجمال إلى أن من جملة الآثار غير المباشرة لهذه الدعوه أن نما في العرب الإحساس بالقومية العربية حيال القومية التركية المتسلطة عليهم حتى قيل"إن القومية العربية هي الدافع الوحيد لكثيرين من مؤيدي آل سعود

ومنهم من كان على غير دين ابن سعود 3.

ولعل إزكاء نعرة القومية العربية ومحاولة ربطها بالحركة الوهابية كان من أثر كتابات المستشرقين الذين أولوا الحركة الوهابية اهتماما بالغا يعود في الأساس إلى رغبة الكثيرين منهم اتخاذ هذه الحركة أداة لهدم وحدة الدولة العثمانية.

ولا يفوتنا في ختام الحديث عن الأثر السياسي لدعوة محمد بن عبد الوهاب أن نلفت النظر إلى أن فكر الشيخ ومنهجه كان أبعد ما يكون عن

(1) ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد ج1 ص 287.

(2)

محمد فريد بك. تاريخ الدولة العلية العثمانية. ص 304، وقد أشاد المؤلف بمذبحة المماليك التي ارتكبها محمد على باشا وعبر عن ذلك بقولة:"ولو لم يكن لمحمد علي باشا من الأيدي البيضاء على مصر سوى تخليصها من شر المماليك لكفى لتخليد ذكره وتمجيد اسمه"

(3)

عبد الكريم أبا الخيل. العربية السعودية. ص 14

ص: 245

الدعوة للقومية والشعوبية فالجماعة الإسلامية في مفهومه لا ترتبط بغير رباط العقيدة الصحيحة على ما حصلناه لدى بحث موضوعات الباب الخامس. ولكن هذه الآثار السياسية فيما يتعلق بإزكاء القومية العربية نتجت بصورة غير مباشرة لتداعي حوادث الصراع بين أنصاره ودولة الخلافة العثمانية. وهذا من جملة ردود الأفعال وتدافع الحوادث بحيث ينتج عن الفعل من الأثر ما هو مضاد لقص الفاعل عند مباشرة الفعل. وتاريخ الإنسانية يدين في الكثير من تحولاته لردود الأفعال أكثر من الأفعال ذاتها.

ص: 246